تورونتو 26 أغسطس 2018 أبدع وتجلى محمد محمد خير في رائعته الموسومة "ذكرى الأشياء المنسية" (موقع سودارس). فهي حقا قطعة فنية رائعة وتحفة أدبية رفيعة المستوى التعببري، بل وقصيدة كاملة الدسم في النوستالجيا والحنين إلى الماضى. يطرب القاريء، وينتشي، بميلودي له طابع خاص ولو بدون موسيقى أو إيقاع صاخب. المعضلة أنها تحتاج لملحنين مقتدرين، من رحم ذلك الزمن الجميل الذي يهفو له قلب محمد المجروح، وربما قلوب كل أبناء جيله.
ولكن، من سيلحن له هذه القصيدة ومن يقوم بأدائها؟ فعلى سبيل المثال فقط، لم يعد هناك من هم في ثقل سرور وكرومة وأبو صلاح والجاغريو وود الرضي، ولا من هم في ثقل عبد الرحمن الريح وعبد الحميد يسوف والكاشف، ولا قامات مثل وردي وعثمان حسين وإبراهيم عوض وزيدان.
فقد تبدلت الأحوال واختلفت المزاجات، وهذا ليس حصرا على السودان، بل يحدث في كل البلدان المجاورة والبعيدة عنا، على حد سواء! افافتخار السودانيين بأنهم *فريد عصرهم*، وأن الجمال في كل مكان لكن *الجمال الاصلي في السودان* لا سند له في الواقع، فلكل شعب خصوصيته وتميزه عن الآخرين. وليتنا نقول *اننا نختلف عن الآخرين وكفى*!
حقيقة، فإن محمد خير يخاطب من جايله عمريا، ومن عاش معه الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن المنصرم، ومن يفهم مفردات كلماته ويدرك معانيها. فهو يحن إلى زمن لا يعني في شيء تلك الشرائح العمرية دون الخامسة والخمسين عاما، والتي لها نوستالجيا، لكن من جنس آخر ومفردات مختلفة في الطعم والمذاق والرائحة! فيبدو لهم أوصاف محمد للماضي وكأنه *كلام الطير في الباقير*.
فهولاء أصلا لا يعرفون *حلاوة ريا* ولا يابهون ب *مسيرتها*، ولا عربة الجاز، ولا ريحة السيد علي. وحتى أنا، وقد بلغت السابعة والستين من العمر، لا أميز بين الكوليت والجروسية والسلة! ولا أحن إلى الشلوخ، وبوصفي من الخرطوميين الصرف، لا نذهب خارج العاصمة في مناسبات الأعياد، (هذا تعريف مختصر لاهل الخرطوم) فأنا أحن إلى الترام وإلى الموظف في إدارة الكهرباء الذي يمر على الشوارع يوميا يضيء أعمدة الشوارع ويعود ليطفئها يدويا، وإلى صالة غوردون الموسيقية GMH وإلى ميدان عبد المنعم وإلى "الانادي" في ديم حجر، وحديقة الحيوان التي كنا نسميها جنينة "النزهة" وإلى النادي الكاثليوكي نفرح بأعياد الميلاد. خوفي على محمد خير أن يفضي تواجده حاليا في تورونتو الى مضاعفة حنينه للماضي ويزيده تعقيدا شديدا!
الأهم من ذلك كله، تطرح نوستالجيا محمد خير سؤالا جوهريا جدير بالبحث له عن إجابات: هل الحنين إلى الماضي يرتبط وجدانيا ب *وطن* في *دولة* اسمها السودان، تقوم على حقوق المواطنة؟ ام ان هو وطن *ذاتي* مستقر وجدانيا في سياق شبكة علاقات اجتماعية، من أسرة ممتدة وعشيرة أو قبيلة إلى قرية او منطقة نشأ فيها، وثقافة لها خصوصيتها؟