تاريخ كاتب الشُّونة مُحقَّقا: وقفات وخواطر مع المتن والتحقيق

 


 

 

 


Khaldoon90@hotmail.com

وأخيراً ، صدرتْ في غضون الربع الأخير من هذا العام الميلادي الحالي 2018م ، آخر نسخة مُحقَّقة تحقيقاً علمياً سديداً ومحكماً ، من مخطوطة كاتب الشونة في تاريخ السلطنة السناِّرية ، والإدارة التركية المصرية بالسودان ، لمؤلفها أحمد بن الحاج أبو علي ، المولود بقوز المسلمية بين مدني والحصاحيصا في عام 1199هـ الموافق لعام 1784م ، والشهير بلقبه " كاتب الشونة " ، نسبة لعمله كاتباً بصوامع أو مخازن الغلال الحكومية بالخرطوم بين عام 1824 و1834م.
أنجز هذه النسخة المحققة ، المؤرخ الكبير ، أستاذ الأجيال البروفيسور يوسف فضل حسن ، أستاذ التاريخ المرموق ، ومدير جامعتي الخرطوم وأم درمان الإسلامية سابقا ، وصاحب المؤلفات الجليلة في تاريخ السودان الوسيط والحديث ، وتاريخ إفريقيا والشرق الأوسط عامة ، والعالِم المرجعي بصفة خاصة في تاريخ العروبة والإسلام في السودان ، وأحد محرري كتاب " تاريخ إفريقيا العام " الذي أصدرته منظمة اليونسكو في ثمانينيات القرن الماضي.
صدرت هذه النسخة في 412 صفحة من قطع كبير مستطيل الشكل ، ذكَّرني بقطع الطبعة الأولى لديوان " نار المجاذيب " للشاعر الكبير " محمد المهدي المجذوب " رحمه الله. وقد تولَّت نشر هذه النسخة ، دار SUDT&TK المحدودة بالخرطوم ، بينما نفذت العمل دار " مدارك " بالخرطوم أيضا.
هذا ، وأنا أحمد الله تعالى إلى حضرات القراء الكرام ، أن جعلني أستاذنا الفاضل بروفيسور يوسف فضل ، من ضمن أولئك النفر المُصْطَفَيْن الذين خصهم بنسخ من هذه النسخة المحققة حديثاً بقلمه لهذا السفر القيم ، وعليها إهداؤه بيراعه وتوقيعه. وتلك لعمري مزية وإكرام منه لشخصي ، ليس فوقهما من مزيد ، فجزاه الله عني خير الجزاء.
لقد كنت في الواقع أيضاً ، أحد الذين كان قد عهِد إليهم هذا الأستاذ الكبير ، قبل نحو ثلاثة أعوام أو تزيد ، بنسخٍ من المخطوطة المحققة ، قبل أن يدفع بها إلى المطبعة ، طالباً منهم النظر فيها ، والإسهام بما قد يعنُّ لهم من ملاحظات على النص في مجمله. وما كان ذلك منه إلا لحُسْن ظنه بتلاميذه بصفة عامة ، وبمختلف أجيالهم ، ومن بينهم مجرد هُواة ، أو إن شئت " عنقالة متَّلْحِمين " في هذا الفن ، كحال كاتب هذه السطور.
أثار نبأ صدور تحقيق البروف يوسف فضل لمخطوطة كاتب الشونة فوراً ، بعض ردود الأفعال السريعة والناجزة التي وقفت على بعضها. ومن ضمن ذلك على سبيل المثال ، مقال للأكاديمي والصحافي النابه البروفيسور " عبد اللطيف البوني " ، الذي أفرد لهذا الحدث ، مقالاً بأكمله تحت عموده الشهير بعنوان: " حاطب ليل " ، كما وقفت كذلك على مقال آخر لمعالي السفير الدكتور " حسن عابدين " ، حول ذات الموضوع جاء تحت عنوان: " في صُحبة استاذي الدكتور يوسف فضل حسن: تهنئة بمناسة صدور سفره الجديد: تاريخ ملوك سنار ".
ولئن جاء مقالا الأستاذين المحترمين: البروفيسور عبد اللطيف البوني ، والدكتور حسن عابدين ، بمثابة البشرى أو " القيدومة " ، بله التنويه والترحيب بهذا العمل الأكاديمي والمعرفي الباذخ الذي أنجزه العلامة يوسف فضل مؤخراً ، ولفت أنظار الأساتذة والطلاب والباحثين وسائر القراء إليه ، والتأكيد على أهميته في بابه ، ثم تحية الأستاذ الكبير ، وتهنئته على إنجاز هذا التحقيق المُسدَّد لهذا السفر المهم ، الذي يُعتبر واحداً من أوثق المصادر التاريخية لفترة أواخر عهد سلطنة الفونج ، ومعظم عهد الإدارة التركية المصرية في السودان ، فإنَّ مسامهمتي التالية ، وإن صدَّرتُها أيضاً بما يستحقه هذا العمل الأكاديمي المبهر ، الذي أخذ من استاذنا البروف يوسف ما يربو على ربع القرن من الزمان ، قضاه في البحث والتنقيب الدائب والمضني في خزانات المكتبات والمتاحف ودور الكتب والوثائق داخل السودان وخارجه ، من الإشادة والتقدير والثناء ، إلا أنها سوف لن تخلو مع ذلك ، من شيء من مشاغبة ، بل قل بعض " تِشبِّرْ ومشاباة " ، جرَّأتني عليها ، وأغرتني بها بكل تأكيد ، أريحية المحقق ، وحرصه على أن يخصني بنسخة من هذا الكتاب المحقق بإهدائه كما أسلفت ، على الرغم من أنني خارج البلاد ، نسبة لظروف عملي.
ذلك ، وقد اسميتُ تلك المشاغبات: وقفات وخواطر مع نسخة تاريخ كاتب الشونة ، الصادرة حديثاً بتحقيق البروفيسور يوسف فضل حسن.
وعلى سبيل التعريف الموجز بمخطوطة تاريخ كاتب الشونة ، نقول إنها مخطوطة ظل مؤلفها يدون محتوياتها ابتداءً من خواتيم القرن الثامن عشر الميلادي ، إلى قريب من نهاية العقد الرابع من القرن التاسع عشر. وهي تشتمل على سجل لأبرز الأحداث السياسية بالأساس ، ثم لُمعَاً متفرقة من مختلف مظاهر الحياة الاقتصادية ، والاجتماعية ، والثقافية ، والدينية ، والبيئية ، والصحية ، والطبيعية تبعاً لذلك ، التي كان يمور بها مجمل فضاء السلطنة الزرقاء بصفة عامة. وذلك من بداية حكم السلطنة السنارية في مطلع القرن السادس عشر الميلادي ، مروراً بنهاية عهدها في عام 1821م ، على أيدي قوات اسماعيل باشا بن محمد علي باشا والي مصر ، ومن ثم استتباب الأمر للإدارة التركية المصرية للسيطرة على السودان وحكمه ، وصولاً إلى عام 1838م ، حيث يتوقف المؤلف الأصلي: الشيخ أحمد بن الحاج أبو علي نفسه عن تدوين حولياته.
ولكنَّ أربعة مشايخ سودانيين آخرين معاصرين للمؤلف تقريباً ، أو عاشوا من بعده بقليل ، سيتعاورون تلك المخطوطة بشئ من التنقيح والتعديل والإضافة ، فيمضون بتدوين الوقائع إلى حوالي عام 1871/1872م. وأولئك المشايخ هم: أحمد الحاج محمد جنقال ، والزبير عبد القادر ود الزين (الزبير ود ضوَّة) ، وإبراهيم عبد الدافع ، والأمين محمد الضرير.
ولم يقتصر الاهتمام بمخطوطة كاتب الشونة والعناية بها ، باعتبارها كنزاً ثميناً من المعلومات التاريخية النفيسة عن السودان ، تحت كلا عهدي الفونج والتركية ، على أولئك المشايخ السودانيين وحدهم ، الذين كانوا من رواد الوعي والثقافة والعلم والاستنارة في ذلك العهد بكل تأكيد ، بل تعداهم إلى نفرٍ من الباحثين والكُتاب في العصر الحديث من أجانب ووطنيين على حد سواء.
وفي هذا الجانب ، يُوقفنا البروفيسور يوسف فضل في مقدمته الضافية لتحقيقه هذا الجديد لمخطوطة كاتب الشونة ، على أنَّ كُلاًّ من اللبناني نعوم شُقير ، والبريطاني ولِيس بَدْج ، والبريطاني هربرت جاكسون ، قد استعانوا بمادة هذه المخطوطة في إعداد المؤلفات التي كتبوها عن السودان وتاريخه ، كما استعان به بصفة خاصة ، السير هارولد مكمايكل في إعداد كتابيه: قبائل شمال ووسط كردفان ، وتاريخ العرب في السودان ، بل إنه كان في الواقع ، أول من نشر في كتابه الثاني الذي صدر في عام 1922م ، ترجمة إلى الإنجليزية لتلك المخطوطة في ثمان وأربعين صفحة ، وعلَّق عليها بإسهاب في حواشٍ بلغ مقدارها خمساً وعشرين صفحة أخرى ، مما جعل مادة هذه المخطوطة متاحة للباحثين على نطاق واسع من شتى أنحاء العالم.
ثم جاء البروفيسور مكي الطيب شبيكة (1905 – 1981م ) ، فأصدر نسخة من تحقيقه لهذه المخطوطة ، طبعت بالخرطوم في عام 1947م ، وبدوره قام الأستاذ الشاطر بصيلي عبد الجليل ، بإصدار تحقيق آخر لذات المخطوطة بالقاهرة في عام 1961م.
وهكذا اجتمعت لدى البروفيسور يوسف فضل ، نحوٌ من عشرِ نسخ ما بين مخطوطة ومطبوعة من هذا المصنَّف ، مصوَّرةً من أماكن إيداعها بدور الوثائق والكتب بكل من الخرطوم ، والقاهرة ، واسطنبول ، ولندن ، وباريس ، وفينَّا ، ونوتينقهام بإنجلترا ، فعكف عليها جميعها ، درساً ، وتمحيصاً ، ونخلاً وغربلةً وتدقيقا ، فاصطفى من بينها في نهاية المطاف ، نسخة أحمد الحاج محمد جنقال ، التي كانت قد انتهت نسخة مستنسخة منها إلى يدي الرحالة الإنجليزي مانسفيلد باركينز Mansfield Parkyns ، فاحتملها معه إلى بلاده ، وأهداها من بعد إلى جامعة " نوتينقهام " ، حيث ظلت محفوظة هناك ، حتى كشف عنها اللثام البروفيسور بيتر مالكوم هولت P.M.Holt (1918 – 2006م) ، الذي هو أستاذ البروفيسور يوسف فضل نفسه. وقد كانت تلك النسخة غير معروفة أو مشهورة من قبل ، فأغرى هولت تلميذه يوسف فضل بها ، منوِّهاً بخصائصها ومزاياها على سائر النسخ الأخرى المخطوطة والمطبوعة ، بل اقترح عليه أن يقوم بتحقيقها. ثم ما عتَّم هولت نفسه أن سارع إلى ترجمة نسخة الشيخ جنقال من تاريخ كاتب الشونة إلى اللغة الإنجليزية ترجمة محكمة ، ومشفوعة بحواشٍ وشروحٍ مستفيضة تحت عنوان: The Sudan of the Three Niles: The Funj Chronicle أي: سودان الأنيال الثلاثة ، الذي صدرت الطبعة الأولى منه في عام 1999م ، عن دار نشر بريل بلايدن.
وقد جعل البروفيسور يوسف فضل بالفعل ، نسخة الشيخ أحمد الحاج محمد جنقال هي الأساس لتحقيقه كما نصحه أستاذه بيتر هولت ، وإن لم يغفل البتة عن احتقاب كل ما رآه مناسباً من أجل إحكام التحقيق ، فيما ورد في سائر النسخ الأخرى التي حازها جميعاً من هذا المصنَّف ، سواء المخطوطة منها أو المطبوعة.
ولعلَّ أول ما استوقفني في مستهل مُطالعتي لتحقيق البروفيسور يوسف فضل لمخطوطة تاريخ كاتب الشونة ، تلك الجرأة التعبيرية المُعْجِبة في ترجمته لكلمة Niles الإنجليزية الواردة في عنوان كتاب بيتر هولت الذي سبقت الإشارة إليه من قبل ، ب " أنيال " ، أي: جمع نِيل. فكأنَّ المحقق قد اجترح هذه الكلمة النادرة بجسارة صائبة ، فجعلها تجري مجرى جموع الأسماء التي من وزنها مثل قولنا: فِيلٌ وأفيال ، وقيْلٌ وأقيال ، أي الواحد من عواهل اليمن الأقدمين.
ولا غرو في ذلك ، فإنَّ المحقق ، وكذلك صنوه المؤرخ الكبير ، الراحل البروفيسور محمد إبراهيم أبو سليم ، هما من أفصح علماء الإنسانيات بالسودان عموما ، لغةً ، وأنصعهم أسلوباً في العربية ، ولذلك فلا عجب أيضاً ، أن اختارهما استاذهما الأكبر العلاَّمة عبد الله الطيب ، معه عضوين بمجمع اللغة العربية بالخرطوم ، منذ تأسيسه.
وكانت الأكاديمية الأمريكية السيدة هيذر شاركي Heather J. Sharkey ، قد نشرت في عام 2000م ، أي في العام التالي مباشرة لصدور كتاب " سودان الأنيال الثلاثة " لبيتر هولت ، استعراضاً نقدياً مقتضباً لهذا الكتاب ، ما يزال مبذولاً بالشبكة العنكبوتية. وعلى الرغم من أن شاركي قد أشارت إلى أن الترجمة الوحيدة إلى الإنجليزية للحوليات الفونجية ، أو مخطوطة كاتب الشونة قد نُشرت في عام 1922م ، إلاَّ أنَّ من المُلاحظ أنها لم تعزُ تلك الترجمة إلى صاحبها السير هارولد مكمايكل ، كما لم تذكر اسم الكتاب الذي نشرها فيه.
وفي تقديرنا أيضاً ، أنَّ البروفيسور يوسف فضل قد قدَّم في معرض تقديمه لسفره هذا ، درساً مجانياً بليغاً ، وعرضاً تطبيقاً مفيداً ، لفن تحقيق المخطوطات ، الذي ظل يمارسه بصورة عملية لصيقة ، منذ أكثر من أربعة عقود من عمره المديد بإذن الله ، على نحو ما رأينا ذلك في تحقيقه الباذخ لكتاب " طبقات ود ضيف الله " ، الذي صدرت طبعته الأولى في عام 1971م.
وهنا في هذا العمل ، يتوسع البروفيسور يوسف فضل ، وتهتز أعطاف أريحيته ، فينفح سائر الطلاب والباحثين من نواله العلمي ، بفوائد ومعلومات عملية ، غاية في الأهمية في مجال تحقيق المخطوطات ، هذا المجال الذي لم تتجرأ حتى الآن ، أية مؤسسة أكاديمية أو بحثية داخل السودان ، للنهوض به بصورة مؤسسية راتبة ، من أجل تأمين صيانة التراث الفكري للأمة ، وتحقيقه وطباعته ونشره ، بصورة مستدامة ، خدمة للموروث الثقافي ، وحفظاً له لمصلحة الأجيال القادمة ، وللإنسانية بصفة عامة.
وعلى ذكر اسم المؤلف الأصلي لهذا العمل ، ألا وهو: أحمد بن الحاج أبو علي ، الشهير على نحو أكثر بلقبه " كاتب الشونة " ، ثار في ذهني هذا التساؤل: هل سعى الأستاذ المُحقِّق يا تُرى ، من أجل معرفة المزيد عن الخلفية الاجتماعية لكاتب الشونة هذا ، وخصوصاً انتماءاته القبلية ، وامتداداته الأسرية الخ ؟ وعما إذا كان لديه أحفاد ينتمون إليه ، يعيشون بيننا إلى الآن ، سواء في منطقة " المسلميَّة " حيث وُلد ، أو في غيرها من مناطق السودان الأخرى ؟.. أم تُرى أنه قد فعل ؟ ( أعني المحقق ). يعني: هل كاتب الشونة مسلَّمي ، أو رفاعي ، أو فادني مثلاً ، أو شنبلي ، أي من جماعة الشيخ " شنبول " ، ذلك الزعيم القبلي الذي كان قد توسط له لدى الحكام الأتراك في الخرطوم ، فعينوه في وظيفة كاتب بشونة الغلال العمومية ؟.
ليت المحقق جلَّى لنا هذه النقطة ، على غرار ما فعل مع سيرة الشيخ أحمد الحاج محمد جنقال الشايقي ، صاحب النسخة التي وقع عليها اختياره ، واعتمد عليها في التحقيق ، والذي أوضح المحقق أن أحفاده ما يزالون يعيشون بمنطقة الشايقية بشمال السودان ، وأنَّ منهم أعلاماً مشهورين مثل مولانا خلف الله الرشيد رئيس القضاء الأسبق ،رحمه الله. وفي ذات السياق نمى إلى علم كاتب هذه السطور أيضاً ، أنَّ أحفاد الشيخ جنقال المذكور ، يعيشون إلى الآن ، في بلدتي " القُرير " و " الحِجير " بمحلية "مروِي ".
والشئ بالشئ يُذكر ، حدَّثني مرَّةً البحَّاثة القدير ، وأنسب السودانيين للسودانيين ، الأستاذ الراحل " الطيب محمد الطيب " ، أنَّ أسماء الأعلام السودانية التي تجئ على سبيل الكُنية بالذكور خاصةً مثل: أبو علي ، وأبو حسنين ، وأبو جبل الخ ، هو مذهبٌ شائعٌ عند قبائل عُربان صعيد مصر عموماً ، وخصوصاً بين الجعافرة ، من عاش منهم في مصر ، أو من نزح وأقام منهم في السودان. على أنَّ هذا لا ينفي أن قبائل سودانية أخرى ( قُحَّة ) ، قد تستخدم هذه الكُنى أسماءً لذكورها ، مثل إطلاق العركيين مثلاُ ، اسم " أبو إدريس " على ذكورهم على سبيل المثال. ولكن ذلك أشيع بين الجعافرة ، وعرب صعيد مصر عموماً. فيا تُرى ، من أين جاء كاتب الشونة ب " أبو علي " هذا ؟.
والآن ، فلندلف إلى تدوين تعليقات ، وملاحظات ، وخواطر محددة ، حول مسائل بعينها ، وردت في الكتاب ، سواء المتعلقة منها بالمتن نفسه ، أو بهذا الوجه أو ذاك من وجوه التحقيق ، التي عمد إليها الأستاذ المحقق.
• في صفحة 98 من الكتاب ، رسم المحقق اسم الموضع الذي دارت فيه معركة في شرق كردفان ، بين جيش فونجاوي في عهد السلطان بادى أبو شلوخ ، بقيادة الشيخ محمد أبو لكيلك ، وجيش من المسبعات حكام كردفان آنئذٍ ، هكذا " شَمَقَتْهَا " ، وشرح المحقق " شمقَتْهَا " المذكورة بالهامش السفلي بأنها قرية تقع شمال محطة سكة حديد أم روابة ، وعلى مقربة منها. وكان حقّه في تقديرنا أن يرسمها هكذا " إمّا " شَمَقَتَّا " ، أو " شَمَقَتَّهْ " ، أي بالتاء المشددة المفتوحة ، يليها إما ألف ، وإما هاء ساكنة. وذلك لكي تتسق مع الطريقة التي يُنطق بها اسم ذلك الموضع في المنطقة المعنية بواسطة أهلها أنفسهم. وشمقتَّا قرية ما تزال تحمل ذات الاسم ، وهي تقع في نفس الموقع الذي وضحه المحقق. وجل سكانها هم من قبيلة الجوامعة الطريفية وأولاد بيكا وغيرهم.
وهذه الطريقة في نطق " الهاء " أي الضمير المتصل الدال على التأنيث ، بحذف تلك الهاء ، وتشديد الحرف السابق لها وإتباعه بألف ، مع تحويل الحرف المشدَّد غالباً من حرف قوي و مجهور ، إلى حرف رخو ومهموس مثل ( بلدْها .. بلتَّا ، فوقها .. فوكَّا الخ ) ، هي من الخصائص الصوتية للهجة تلك المنطقة ، ومناطق أخرى غيرها في كردفان ، كما تشاركها فيها أيضاً بعض لهجات شرق الجزيرة ، وخصوصاً البطانة.
• صفحة 150 ، الحاشية رقم (19) جاء فيها بقلم المحقق ما نصه: " ومن سنار امتد نفوذ السواراب العلمي والديني إلى الأبيِّض ، وكانوا من استقبلوا السيد محمد عثمان الميرغني بعد نحو عقد من الزمان عند قدومه لكردفان. " أ.هـ. ولكن هنالك رواية أخرى أوردها الأمريكي " جون فول " في رسالته للدكتوراه عن تاريخ الطريقة الختمية ، والتي نشر لها ترجمة إلى العربية الراحل البروفيسور محمد سعيد القدال ، تنص على أنَّ صالح سوار الدهب كان يسكن في دنقلا ، في وقت زيارة محمد عثمان 1817/1818م ، وأصبح من مريدي محمد عثمان ، وصحبه في رحلته إلى بارا في كردفان ، ثم ارتحل صالح إلى الأبيض ، وتوفي بها عام 1875م بعد حياة عامرة. ( انظر ترجمة رسالة فول للقدال ، إصدار مركز الدراسات السودانية بالقاهرة ، 2002م ، صفحة 85 ).
على أنَّ صديقنا الدكتور مصطفى أحمد علي الخندقاوي ، له رواية أخرى مفادها أنَّ جَدَّهُ هوَ المُسمَّى: " محمد صالح شادول " من أهل الخندق ، هو أول خليفة للختم في تلك المنطقة ، وأنه هو الذي صحبه في رحلته إلى بارا. والله أعلم أي ذلك كان. هذا مع العلم بأنَّ العلاقة بين الخنادقة والسواراب ، قد كانت وما تزال إلى الأن ، متداخلة للغاية إلى درجة الإرباك.
• وفي صفحة 151 من الكتاب ، يُوقفنا كاتب الشونة على معلومة أو نكتة لغوية طريفة جداً اشتملت عليها الفقرة التالية: " ثم شاخ محمد ولد رجب في ثمانية عشر ، وأصبح رانفي للملك على محمد ولد ناصر ومعه دفع الله وزير أبيه وقرشي. وصار الملك بينهم الثلاثة ، فلم ينفع ولم يتم. وكلٌّ منهم حافر لصاحبه حفرة. وأما الشيخ رجب حافر إلى الجميع حُفرة ، ومرامُهُ أن يُهلِك ولد ناصير بالكماتير ، والكماتير بولد ناصر ، ويكون الأمر له.. " أ.هـ.
فمما تقدم في هذه الفقرة الماضية ، يتضح لنا أنَّ " الحَفِرْ " قديم في السياسة والحياة السودانية عموماً. ذلك بأنَّ هذه اللفظة بالتحديد ، مستخدمة باستفاضة حالياً في الاستعمال الدارج بالعامية السودانية المعاصرة ، للتعبير عن معاني الكيد والتدبير الخفي ، للإيقاع بالخصوم والمنافسين ، وخصوصاً المنافسين السياسيين والمهنيين ، فتأمَّلْ !.
• كذلك لاحظتُ بصفة عامة ، أنَّ المؤلف يُعبِّر عن الهوية الجامعة ، أو " التوصيف الدستوري " إذا - جاز التعبير - لمجمل سكان السلطنة السنارية ، بمصطلح " المسلمين " حصراً وباضطراد ، وفي كل المواضع التي تستدعي ذلك ، كمثل قوله في صفحة 154 مثلاً: " وأطلق الفريقان أيديهما بالخراب على المسلمين .. وقلعوا العيش .. الخ " ، أو قوله في صفحة 173: " وملك الملك بادى ، وصفا العيش للمسلمين بعد الكدر .. الخ " ، ولم يعبر عنهم مطلقاً بمصطلحات أخرى مثل: الشعب ، أو المواطنين ، أو الرعية ، أو حتى الأهالي.
• وملاحظة أخرى ترسَّختْ لديَّ على نحوٍ أوثق ، من خلال اطلاعي على هذا العمل ، وكانت قد ساورتني في الواقع كخاطرة عابرة منذ سنوات ، وأنا أهُمُّ بكتابة مقال لي نشرته لاحقاً عن الدلالات الاجتماعية والثقافية لأسماء السودانيين ، ألا وهي حقيقة وجود ما يمكن أن نطلق عليها " أسماء مُلوكية " سودانية معينة ، توجد بصفة خاصة في الأسر الحاكمة ، في سائر السلطنات والمشيخات التقليدية في السودان ، إما بالأصالة ، وإما بالتقليد والتأسي والمحاكاة ، يأخذ فيها الصغير والمهم ، عن الكبير والأهم. ومن ذلك على وجه التحديد ، أسماء مثل: عَمَارة ، ونايل ، وناصر ، وعدلان ، التي لا يكاد يوجد بيت زعامة في الفضاء السناري من لدن سلطنة تقلي غرباً ، إلى مشيخة الشكرية شرقاً ، ومملكتي العبدلاب والجعليين شمالاً ، إلا أسموا بها ذكورهم. ويأتي اسم " عمارة " ، وهو اسم السلطان الأكبر: " عمارة دُنْقُسْ " ، مؤسس السلطنة السنارية ، الأكثر تواتراً في سائر " البلاطات " بلا استثناء.
وهنالك بالطبع ، أسماء خاصة جداً أو حصرية ، توجد في كل سلطنة أو مشيخة مثل: جيلى وسابو وأبو جريدة في تقلي ، ودكين وبادى وأونسة عند الفونج ، وعجيب ومسمار والعجيل وشمَّام عند العبدلاب ، وحسان وأبو سن وعوض الكريم عند الشكرية ، وسعد وعبد السلام والفحل ودياب عند الجعليين السعداب وهكذا.
• في صفحة 198 ، يذكر كاتب الشونة في معرض حديثه عن دخول السيد محمد عثمان الميرغني الختم إلى سنار ما يلي: " في سنة اثنتين وثلاثين من بعد الألف والمائتين ، دخل العالِم الربَّاني ، أعجوبة أهل الزمان ، وختم أهل العرفان ، السيد محمد عثمان الميرغني الحسني.. الخ ".
فيُلاحظ هاهنا أنه نسبَ السيد الختم إلى الإمام الحسن بن علي رضي الله عنهما بقوله " الحَسَنِي " ، بينما أنَّ المشهور والمتواتر هو أنَّ الميرغني ينتسب إلى الإمام الحُسين وليس الحسن ، فهو " حُسيني " بإجماع سائر من ترجموا له ولأسرته ، سواء بالحجاز أو بالسودان ، وعلى رأسهم مؤلف كتاب: " الإبانة النورانية في شأن صاحب الطريقة الختمية " ، الذي حققه الدكتور محمد إبراهيم أبو سليم ، وأصدره منشوراً عن دار الجيل ببيروت في عام 1991م.
• وثمة ملاحظة أخرى ، هي أنَّ الفترة التي عاصرها المؤلف أحمد بن الحاج أبو علي ، وعايشها معايشة لصيقة ، إما كشاهد عيان ، ومتابع متابعة مباشرة لمجريات الأحداث في السودان ، أو حدَّثه عنها من عايشوها كوالده وغيره ، خصوصاً في أواخر القرن الثامن عشر ، قد كانت فترة عصيبة ، شهدت سلسلة جهنمية فظيعة من الفتن والملاحم والاقتتال وسفك الدماء ، حتى بين أبناء البيت الواحد ، على نحو ما حدث – على سبيل المثال – بين أبناء العمومة أحفاد الشيخ محمد أبو لكيلك. وحيَّا الله بهذه المناسبة ، أستاذنا " الدرديري " الذي درسنا في " خورطقت " أن من مظاهر ضعف السلطنة السنارية في خواتيم أيامها ، مما أغرى بها والي مصر محمد علي باشا ، أن حسن ود رجب قتل محمد ود عدلان. ورجب وعدلان هما أخوان ، ابنا الشيخ محمد أبو لكيلك.
وفي تقديري أن تلك الفترة الرهيبة من فترات تاريخ السودان الحديث ، تشبه إلى حدٍ كبير في اضطرابها وفظاعة أحداثها ، ذات الفترة المعاصرة والمقابلة لها في تاريخ مصر الحديث. أعني الفترة ما بين نهاية عهد المماليك ، إلى غزو نابليون بونابرت لمصر في عام 1798م. تلك هي لعمري فترة الصراعات السياسية المحتدمة ، والصدامات المسلحة الدامية ، في عهد علي بك الكبير ، ومحمد أبو الدهب وغيرهما ، على نحو ما صورها عبد الرحمن الجبرتي في تاريخه أصدق تصوير.
• على أنَّ من إشراقات تلك الفترة – على قتامتها إجمالاً - ، التي خلَّدها لنا كاتب الشونة في سِفْره هذا ، ما جاء فيه في صفحة 212 ، من أنَّ الوزير " محمد ود عدلان " ، كان مقيماً بحلة " مينا " الواقعة شرق سنجة ، فأتاه الخبر بقدوم ابن عزيز مصر ( يعني إسماعيل باشا ) : " فجمع الفُقرا الأعيان وغيرهم للسؤال ، وكاتَبَ ملوك جعَلْ وكُنجارة وغيرهم من القبائل ، وذلك للمحاربة. وأن يكون اجتماعهم بجزيرة الخرطوم. " أ.هـ
إن تلك الخطوة تدلُّ بصورة واضحة ، على أنَّ إحساس أهل السودان منذ قديم الزمان بأنهم " أمة واحدة " في مواجهة الغزاة الأجانب الذين يحاولون التربص بهم وببلادهم ، إحساس قديم. أو هي بالتعبير السياسي المعاصر ، عملية استنفار للجبهة الداخلية لأهل السلطنة السنارية ، ومعهم سلطنة دار فور " كُنجارة " ، وذلك على اعتبار أن الجميع هم أمة واحدة ، يتعين عليهم الوقوف معاً من أجل التصدي لقوات اسماعيل باشا الغازية لبلادهم.
ويعيد هذا الموقف " الوطني " الذي اتخذه الأمير محمد ود عدلان إلى الأذهان في الواقع ، أن أميراً فوراوياً شجاعاً اسمه " خميس " ، كان قد شارك من قبل بفعالية في الحرب التي وقعت في حوالي عام 1735م بحسب رواية نعوم شُقير ، بين الحبشة في عهد الإمبراطور " إياسو " ، ومملكة الفونج في عهد السلطان بادي الرابع " أبو شلوخ " ، والتي كُتب فيها النصر المؤزر للسودانيين ، بفضل وحدتهم وتضامنهم.
• وأخيراً ، ذكرت هيذر شاركي في معرض استعراضها لكتاب " سودان الأنيال الثلاثة " للبروفيسور هولت ، أنَّ هولت قد تعمد إغفال ترجمة ذلك الكم الهائل من الأشعار التي كان قد أثبتها كاتب الشونة في مخطوطته ، وذلك بحجَّة أن تلك الأشعار هي ذات قيمة أدبية في المقام الأول ، وأنها ليست ذات أهمية تاريخية بزعمه. ولكن هل هذا الزعم صحيح حقا ، خصوصاً من منظور التاريخ الاجتماعي والثقافي للسودان ومحيطه الحضاري ؟.
ولكنَّ محقق الكتاب البروفيسور يوسف فضل نفسه ، بحسه الوطني أولا ، ثم بفضل ذائقته الأدبية السليمة ، وحساسيته الثقافية المرهفة ، قد خالف نهج أستاذه هولت في هذه النقطة ، وأبقى على تلك القصائد والمقطَّعات الشعرية الفصيحة منها والعامية جميعا ، بل إنه عمد أحياناً على سبيل التحقيق أيضاً ، إلى إيراد ملابسات بعضها ، وشرح غوامض كلماتها بالاستعانة بالخبراء وأهل المعرفة بهذا الشأن ، بطبيعة الحال.
ومن ذلك مثلاً ، أبيات ذلك المقطع الغنائي الذي ألفته الأميرة العبدلابية " كلتوم بنت الأمين ود مسمار " في أبيها ، والذي رواه البروفيسور إبراهيم القرشي عثمان للمحقق ، فأثبته في موضعه بالحاشية رقم (6) بأسفل صفحة 111 وهو قولها:
الشيخ الأمين نُقَّارتو حربيةْ
من قومةْ الجهلْ مِعرِّبْ الدَيَّةْ
سوَّلُهُمْ كتال قّبّلْ الهلاليَّة
سبعطاشر حُصان .. سكَّنْ سبعميَّةْ
وهي أغنية حماسية ، ما تزال يؤديها المغنون إلى يوم الناس هذا ، رغم أن عمرها قد تجاوز القرنين من الزمان.
ولو كان بيتر هولت ذا بصر بالشعر العربي أيضاً ، لأدرك التشابه الكبير ، بل التناص البين بين قصيدة أبي البقاء الرَّندِي ( 601هـ/1204م – 684هـ/1285م ) في رثاء الأندلس ، والتي مطلعها:

لكلِّ شئٍ إذا ما تمَّ نُقصانُ فلا يُغرُّ بطيبِ العيشِ إنسانُ
هيّ الأمورُ كما شاهدتَّها دولٌ من سرَّهُ زمنٌ ساءتهُ أزمانُ

وقصيدة الشاعر السناري المجهول الذي رثا مدينة سنار القديمة ، وعهدها الزاهر ، بقصيدة طويلة من نفس بحر البسيط ، وبنفس الحالة الشعورية التي نُظمت فيها قصيدة أبي البقاء ، وهي تلك القصيدة التي مطلعها:

أرَى لدهريَ إقبالاً وإدبارا فكلُّ حينٍ يُرِي للمرءِ أخبارا
يوماً يُرِيهِ من الأفراحِ أكملَها يوماً يُريهِ من الأحزانِ أكدارا
وكلُّ شئٍ إذا ما تمَّ غايتَهُ أبصرتَ نقصاً بهِ في الحالِ إجهارا
فلا يُغرُّ يصفوِ العيْشِ مُرتشداً لأنَّ إحسانَهُ ما زالَ غرَّارا

( انظر النص الكامل لهذه القصيدة بالصفحات 214 – 219 من الكتاب )

وكما ترى ، فإنَّ حذو الكلام واحدٌ ، وقد نظر فيها الشاعر السوداني إلى قصيدة الشاعر الأندلسي نظراً شديدا بكل تأكيد.
وذلك من شأنه أن يسوقنا بدوره إلى خاطرة ذات دلالة و مضمون تاريخي صميم ، يتمثل في الصلة الواشجة بين الأندلس وسنار ، وهي صلة طالما أشار إليها نفر من الباحثين المعاصرين ، الذين كان في مقدمتهم الدكتور عبد العزيز أمين عبد المجيد ، والذي نحسب أنه أول من أشار في كتابه " التربية في السودان " الصادر عن دار " المطبعة الأميرية " بالقاهرة في سنة 1949م ، إلى أنَّ سنار هي وريثة الأندلس ، وأن الأقدار الإلهية قد شاءت أن تعوض العالم الإسلامي عن فقده الأندلس في خواتيم القرن الخامس عشر ، بقيام سلطنة سنار الإسلامية في مطلع القرن السادس عشر ، أي بعد مرور أقل من عقدين من الزمان.

 

آراء