تقدم نائب رئيس الحركة الشعبية/شمال، الفريق عبد العزيز آدم الحلو، باستقالته إلى مجلس تحرير إقليم جبال النوبة، فى 6 مارس 2017. حفزني نشر الاستقالة على الملأ للشروع في كتابة مسودة لمقال أتناول فيه المواضيع الهامة التي تطرق لها الفريق الحلو، وذلك بغرض توضيح بعض الحقائق، التي اختلط بعضها بالظنون، لقيادات وقواعد وجمهور الحركة الشعبية/شمال، ومن ثم تمليكها للرأي العام، وأيضا لطرح تساؤلات تبحث عن إجابات، حتى تصبح الصورة مكتملة لكل الأطراف. فلاشك، أن خطاب الاستقالة أثار، وفتح أبواب الحوار على مصراعيه حول قضايا داخلية جوهرية، ملازمة لنشأة وتطور الحركة الشعبية، ظلت مؤجلة، خاصة منذ انفصال الجنوب واندلاع الحرب مجددا في 2011. ولكن، ترددت في إكمال المسودة ونشر المقال في ذلك الوقت، خاصة وجراح الانشقاق بين الرفاق ما زالت نازفة، إضافة إلى أنه ربما خضعت ارآئي إلى تفسيرات تصنفني، خطأ، في خانة المنحاز إلى أحد الطرفين المتنازعين. فتركت موضوع التعليق على الاستقالة جانبا، إلى حين أن ينجلي غبار الصراع المحتدم بينهنا، ومع ذلك، استعضت عنه بمقال تحليلي لتحرير الخلاف بين الفريقين بإستعراض حُجج ودفوعات طرفي النزاع، وتحري الخيارات المتوفرة لتجاوز الخلاف، وإستشراف آفاق مستقبل الحركة ووحدتها (الواثق كمير، "تحرير الخلاف في الحركة الشعبية شمال: قُضي الأمر الذي فيه تستفتَيان"!، سودان تربيون.نت، 28 أغسطس 2017).
على هذه الخلفية، اكتفي في هذا المقال بالتطرق إلي موضوعين خلافيين، أثارهما الفريق عبد العزيز في خطاب استقالته بهدف تجلية الحقيقة وابعاد الظنون، وطرح التساؤلات الصحيحة التي تدفع الاجابات الشافية عليها بعملية التغيير إلى الأمام، أولهما: مانيفستو الحركة، وثانيهما: طبيعة التحالفات السياسية للحركة. وأنا لا أتعرض فى هذا المقال نهائيا لقضية تعطيل وتأخر عملية مناقشة المانفيستو والأسباب التي قادت إلى ذلك، فيما يتصل بمؤسسات وهياكل الحركة التنظيمية، فهذا ليس منشأني. بل ينصب اهتمامي على مضمون الوثيقة وما تحمله من أفكار، خاصة قضيتي الكفاح المسلح وحق تقرير المصير. وما دفعني إلى كتابة هذا المقال هو ما لحظته من تفاقم لحالة الاستقطاب والإصطفاف وسط قواعد الحركة، انعكاسا للإنقسام على مستوي القيادة، حول هذين الموضوعين، والاستغراق فى تبادل الحجج والإتهامات، فى مجموعات الواتساب وسوق الأسافير الكبير، بما يوضح إكتمال عقد، ومدى عمق الإنشقاق. ولو أن الملاسنات بين مناصري كل فريق لم تهدأ منذ مارس 2017، إلا أنها زادت اشتعالا خلال الأشهر القليلة الماضية بعد تواتر الأخبار والبيانات التي صاحبت محاولات إعادة إحياء العملية السلمية والاعداد لعملية الشروع في التفاوض والحوار، أي "الهبوط الناعم" بلغة البعض، بين الحكومة وقوى المعارضة المسلحة والسلمية، على حد سواء.
في البدء، يلزمني أن أقول بصدق وصراحة أنني لا أقف أبدا مع طرف، أو اناصره، في صراعه مع الطرف الآخر، ولا أقلل من شأن أي منهما، وليس بعضو في أي من الحركتين، وأبذل آرائي وأفكاري لكليهما، عسى ولعل أن يلتقيان يوما في درب التغيير. بل، في المقال المشار إليه أعلاه، طلبت من القيادتين أن تضعا تداعيات هذا النزاع المحتدم ومآلات المستقبل، نصب أعينها، لعل سيرورة ودينامية التطور السياسي، قد تدفعهم إلى فهم مشترك وتفهم أعمق لكثير من القضايا الخلافية، ولو على مدي بعيد، عسى ولعل أن يلتقوا يوما على طول الطريق.
ومن ناحية أخرى، لي علاقة عملية مع الفريق عبد العزيز ترجع إلى منتصف التسعينات من القرن الماضي. فقد تعرفنا على بعضنا البعض في مارس 1995، في مدينة أسمرا بأريتريا، بهدف التفاكر حول مبادرة "لواء السودان الجديد" والالتقاء ببعض القيادات السياسية الراغبة في المشاركة في المبادرة، وبحضور الزعيم الراحل جون قرنق. ومنذ ذلك الوقت لم ينقطع اتصالنا حتى التقينا في ورشة العمل الخاصة ب"وفد المقدمة" في نيوسايت، شرق الاستوائية، ومن ثم عدنا ضمن الوفد إلى الخرطوم، عن طريق طرابلس بليبيا، في 3 أبريل 2005. وفي ختام تقرير من ثمان صفحات قدمته لرئيس الحركة، الزعيم الراحل جون قرنق، في 23 مايو 2005، بصفتي رئيسا ل"مجموعة الشمال" في "وفد المقدمة، عرضت فيه نشاطات المجموعة وتصوراتها، وبعد مشاورات موسعة، أوصيت بتشكيل لجنة تسيير برئاسة شخصية قيادية مخضرمة ومحنكة سياسياً وتألف العمل السياسي في الشمال، وبالتحديد القائد عبد العزيز آدم الحلو، لقيادة عملية بناء قطاع الشمال. وفعلا، لم يمض شهران حتى أصدر الزعيم الراحل مذكرة داخلية، رقم م. 002، في 20 يوليو 2005، قضت بتشكيل لجنة من 24 عضوا لقطاع الشمال تحت قيادة عبد العزيز الحلو، على أن تعكف على عملها مباشرة بفتح مركزها الرئيس في الخرطوم، إضافة الى الولايات الثلاث عشر، للقيام بالتعبئة السياسية وتأسيس الحركة الشعبية على امتداد قطاع الشمال. ويجدر الذكر أن هذه المذكرة كانت بمثابة آخر قرار يصدره الزعيم الراحل قبل مصرعه في الثلاثين من الشهر نفسه. وقفت بجانب الفريق عبد العزيز في تنفيذ بعض المهام الموكلة له لتنظيم القطاع الشمال للحركة. فقمت بكتابة وثيقة مفهومية لبناء القدرات المؤسسية للقطاع وتناقشنا حولها سويا مع مديرة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي حينئذ، ولو أن المشروع لم ير النور بسبب ضعف المتابعة. غادر الفريق عبد العزيز إلى الولايات المتحدة في مطلع 2006 وعاد في آوائل عام 2008، وقد أسهمت في عودته بشكل مقدر اتصالا به ونقاشا معه لاقناعة بضرورة العودة وأن الظروف التي غادر بسببها قد تغيرت إلى حد كبير. ومن ثم تم تعيين الفريق عبد العزيز رئيسا للحركة الشعبية، ونائب الوالي في جنوب كردفان، في 2009، وحتى اندلاع الحرب في يونيو 2011. وبحكم تبعية جنوب كردفان إلي "قطاع الجنوب"، لم تكن لي علاقة عمليه معه، ولكن تواصل نقاشنا في الشأن العام كلما جاء إلى الخرطوم. ومع ذلك، وذهبت إلي كادوقلي مشاركا في تدشين حملته الانتخابية في 7 أبريل 2011. وكانت هذه آخر مرة التقي فيها مع الفريق عبد العزيز الحلو.
المانيفستو: نصف الحقيقة أو أقل!
ولتسهيل مهمة القارئ فى فهم موضوعي لما سأورده من حقائق، اقتبس مطولا من نص خطاب استقالة الفريق عبد العزيز الحلو "بعد فك الارتباط كان هناك منفستو كتبه د. الواثق كمير يدعو لتغيير اسم الحركة الشعبية لتحرير السودان إلى الحركة الشعبية للديموقراطية والمواطنة إضافة إلى تغيير الاهداف والوسائل. ولم اتفق مع الأمين العام على ذلك لان الحركة الشعبية والجيش الشعبى عندهم تاريخ امتد لثلاثين سنة من النضال و ملايين الشهداء والايتام والارامل وعندهم وثائق متطورة، فلا يمكن ان نقوم بالغاء ذلك كله و توليد حركة جديدة . ولذلك لا يوجد سبب للتخلى عن مبدأ وهدف التحرير وهو لانهائى فى اسم الحركة الشعبية وتبديله باهداف مؤقتة. ولذلك طلبت من د. أبكر آدم إسماعيل ومركز دراسات السودان الجديد بمراجعة مسودة د. الواثق والعمل لتقديم مسودة أخرى. وتم ذلك وقمنا بتكوين لجنة برئاسة ياسر جعفر للخروج بمسودة واحدة للمنفستو. ولم تظهر تلك المسودة المنتظرة حتى اليوم". (انتهي الاقتباس).
بهذا الحديث، يوحي الفريق عبد العزيز أن الأمين العام للحركة كلف شخصي، المذكور بغير صفة، ب "كتابة" مسودة المانيفستو، والتي دعت إلي تغيير اسم الحركة، وأهدافها ووسائلها لتحقيق هذه الأهداف. التقطت بعض قيادات الحركة من الموالين للفريق الحلو هذه الحجة وعملت على الترويج لها وسط القواعد، كتابة وتسجيلا بالصوت والصورة، كشهادة دامغة لاتهام رئيس الحركة وأمينها العام السابقين بالانحراف عن مسار ومقاصد الحركة ورؤيتها. لذلك، فإن مسودة المانيفستو هذه لا علاقة لها بمرجعيات الحركة الشعبية، المتمثلة في مانيفستو ودستور 2008، وقرارات الحركة السابقة، بل هو مانيفستو "حركة جديدة لا علاقة لهم بها"، بمعايير تغيير الاسم واغفال الكفاح المسلح وحق تقرير المصير.
ابتداء، تجدر الإشارة إلى أمرين هامين وثيقي الصلة. أولهما، ربما لجهلى بطريقة عمل القيادة "الثلاثية" الانتقالية للحركة، صراحة لم أفهم ما يعنية الفريق عبد العزيز بأنه لم يتفق مع الأمين العام على المسودة، وكأنما التداول حول مسودة الوثيقة هو أمر يدور على نحو ثنائي بين نائب رئيس الحركة وأمينها العام! وثانيهما، أنا لم "أكتب" مانيفستو، بما يرمي إليه اللفظ من معنى، كما ورد فى نص الاستقالة، بل كنت رئيسا للجنة كونتها قيادة الحركة، في سياق إجراءات مؤسسية ل"فك الارتباط" بين قطاعي الحركة في الشمال والجنوب، بهدف تحويل "قطاع الشمال" إلي حركة شعبية كاملة الدسم في السودان، بعد انفصال جنوبه.
فحقيقة الأمر، أنه في ختام اجتماعات المكتب السياسي للحركة الشعبية، جوبا 20 يناير2011، صدر قرار بتكوين لجنتين مكلفتين بإعادة تنظيم الحركة الشعبية وفك الارتباط شمالا وجنوبا وقيام حركتين مستقلتين عن بعضهما البعض سياسا وتنظيميا وماليا في كل من دولتي السودان وجنوب السودان. وبعد مشاورات بين قيادة الحركة والأجسام المكونة لها، في المنطقتين وقطاع الشمال، اتفق على أن يتولى الرفيق/مالك عقار مهام الرئيس، والرفيق/عبد العزيز الحلو مهام نائب الرئيس، والرفيق/ ياسر عرمان مهام الأمين العام، إلي حين عقد مؤتمر الحركة الشعبية بدولة السودان، الذي تنظمه هذه القيادة "الثلاثية" الانتقالية. وفي أول اجتماع لهذه القيادة، في 7-8 فبراير 2011، وضمن عدة قرارت تنظيمية ولجان مؤقتة، تقرر تكوين لجنة الرؤية والبرنامج وتكليفها بصياغة رؤية الحركة وبرنامجها. وفي 15 مارس 2011، بالرقم (1) لسنة 2011، صدر قرار من مالك عقار اير، رئيس اللجنة الانتقالية للحركة الشعبية/شمال، أنه "بموجب الصلاحيات والمهام الموكلة لي لاكمال بناء الحركة الشعبية في شمال السودان، وبعد تشاور مع أعضاء مجلس القيادة المكلف من المكتب السياسي أوجه بتكوين لجنة مؤقتة لإعادة صياغة رؤية وبرنامج الحركة الشعبية في شمال السودان، يتوافق مع المتغيرات والمستجدات والتي من بينها انفصال جنوب السودان". وتتكون اللجنة من الرفاق الآتية اسمائهم: الواثق كمير؛ رئيسا، أبكر آدم إسماعيل؛ نائبا للرئيس، محمد يوسف المصطفى؛ مقررا، ندى مصطفى؛ عضوا، سعدية عيسى؛ عضوا، أحمد الصافي؛ عضوا، محمد جلال هاشم؛ عضوا، سراج حامد على؛ عضوا. وتكونت سكرتارية اللجنة من: أنور الحاج، كمال كمبال، على عبد اللطيف، نزار يوسف. استجابت كل عضوية اللجنة وشاركت بفعالية في أعمال اللجنة، ما عدا د. أبكر آدم اسماعيل الذى لم نسمع منه، مما دفع باضافة د. عبد الله تيه الى اللجنة.
منذ البداية، حرصت أن تستهدي أعمال اللجنة بمنهج نجمع عليه في كيفية التدوال حول المواضيع المختلفة، والخروج بوثيقة تعبر عن رؤية الحركة الشعبية في السودان، وذلك بحسب موجهات قرار تكوين اللجنة وتحديد أهدافها وصلاحياتها. فخطاب التكليف من القيادة يطالب من اللجنة أن "تؤدي مهمتها برصانة علمية وانفتاح على كافة القوى الديمقراطية والمفكرين والمثقفين والمهمومين..وباحداث حراك فكري في الساحة السياسية...واللجنة ستتيح أكبر قدر من المشاركة والمساهمة". ابتدرت اجتماعات اللجنة ب"خطاب افتتاحي"، نحو صياغة برنامج ملهم ومقنع، تطرق إلى كل القضايا التي ستتضمنها مسودة المانيفستو والاسئلة التي ينبغي طرحها وإيجاد الإجابات عليها. تم نشر الخطاب على نطاق واسع، ولقي استجابة كبيرة انعكست في تعليقات العشرات، وبعضها منشور في الصحف، من عضوية الحركة، ومن عموم المناصرين لرؤية السودان الجديد، والمهتمين بقضية التغيير، ومن المهنيين والمختصين، مما لا يسمح المجال بذكر اسمائهم.
وفي أعقاب نقاشات ومداولات مطولة حول كافة الموضوعات، وتوافق أعضاء اللجنة على خطوط عريضة من الخلاصات الواجب تضمينها في الوثيقة، اتفقنا على لجنة مصغرة، برئاسة د. محمد يوسف المصطفى ود. محمد جلال هاشم، ود. مصطفى عوض الكريم، بغرض صياغة مسودة أولية نركز النقاش حولها حتى نتوصل إلى الوثيقة النهائية. وبعد مدولات أخيرة توصلنا إلي مسودة شبه متكاملة أسميتها "المسودة صفر"، ومعنونة باسم "الحركة الشعبية للديمقراطية والمواطنة". كان موضوع تغيير اسم الحركة حاضرا في مداولات اللجنة، وبعد نقاش مطول حوله توصلت اللجنة لاتفاق بوضع الاسم في "المسودة صفر" وتقديمه للقيادة كمقترح فقط، ننتظر رأيها حوله، طالما يظل أمر إجازة المانيفستو سيتم من خلال مؤسسات وأجهزة للحركة، في نهاية المطاف، وليس للجنتنا المكلفة أي يد في ذلك. وهذا ما حدث. ففي 15 مايو 2011، قمت بتكليف الرفيق عمر عثمان (علمانية)، مدير مكتب الأمين العام، بإرسال "المسودة صفر" إلي رئيس القيادة الانتقالية ونائب الرئيس والأمين العام. لم أتلق رد، أو أحظ بتعليق، من الرئيس أو نائب الرئيس. أما الأمين العام فقد استلمت منه، في 19 مايو 2011، رسالة مطولة، قاربت كلماتها ألف وخمسمائة، تضمنت العديد من الملاحظات حول المسودة.
إن إتهامي أنا، أو لجنة الرؤية، بتغيير اسم الحركة وأهدافها ووسائلها ليس بحقيقة، بأي حال من الأحوال، إنما يندرج في باب الظنون. فلا أنا ولا اللجنة نملك سلطة أو صلاحية لتغيير اسم الحركة، إنما تقدمنا بمجرد اقتراح بتغيير الإسم لينسجم مع ظروف الانتقال المترتبة على اتفاقية السلام الشامل. ذلك المقترح لا يشكل جرما ولا خروجا من، أو تعديا على صلاحيات لجنة الرؤية والبرنامج، بل يقع أمر تغيير اسم الحركة في صميم مهام اللجنة، ويشكل أحد أجندتها. حقا، فبحد كلمات قرار تكوين لجنة الرؤية من قبل القيادة الانتقالية "الثلاثية"، في 8 فبراير 2011، فإن اللجنة مكلفة أيضا بمناقشة "التعديلات في المسميات بما في ذلك أيهما أفيد الاحتفاظ أم عدم الاحتفاظ باسم الحركة الشعبية، كذلك الشعارات والرموز".
بنفس القدر، تقتضي الأمانة والأخلاق أن أقول إن إتهام الأمين العام السابق بتغيير اسم الحركة، من خلال مسودة المانيفستو، لا أجد له مكانا من الإعراب. فطوال فترة صياغة المسودة، التي فاقت الشهرين، وما تبنته من منهج أشرت إليه أعلاه، لم يتدخل الأمين العام، ولو بكلمة أو إشارة، في أعمال اللجنة، فيما عدا ملاحظاته التي أرسلها معنونة إلي وأعضاء اللجنة بعد أربعة أيام من استلامة للمسودة "صفر". ليس ذلك فحسب، بل الأمين العام لم يقبل باقتراح اللجنة لتغيير الاسم، وأقتبس من كلماته التي جاءت على صدر ملاحظاته، "اضافة الديمقراطية والمواطنة للاسم يمكن أن يطرح في اطار قضية الاحتفاظ بالاسم أم تغييره جزئيا أو كاملا كقضية تحسم لاحقا علي نحو ديمقراطي وايراد الحجج والأسانيد حول الفائدة وعدمها من الاحتفاظ بالاسم أو التغيير الكامل أو الجزئي وأخذ الاعتبارات الفكرية والسياسية والتاريخية والقانونية والدستورية في الحسبان بدلاً من طرحها فى المسودة الأن". وعلى إثر هذه الملاحظات، ببساطة قمت بالإستغناء عن الإسم المقترح وتركنا إسم الحركة الشعبية كم هو على صدر المسودة النهائية، ولا صلة للجنة، ولا رئيسها، بمصير هذه الوثيقة. فهذا يظل شأنا يخص الحركة الشعبية ومؤسساتها التنظيمية لصناعة القرار.
أما الاتهام بتغيير الأهداف والوسائل، ويقصد بها إغفال المسودة لهدف حق تقرير المصير والكفاح المسلح فهو، أيضا لا يقوم على ساقين ولا يسنده واقع. فقد وضحت سياق ظروف الانتقال بعد انفصال الجنوب، بحكم شروط اتفاقية السلام الشامل، التي تملي التحول إلي حركة سياسية جماهيرية واضحة القسمات، والدخول في مرحلة جديدة من التطور الدستوري السلمي والتحول الديمقراطي في كل من دولتي السودان وجنوب السودان. فلا المناخ السياسي السائد آنذاك، ولا الواقع الذي تمت فيه مداولات لجنة الرؤية والبرنامج، كان يسمح بالحديث عن تقرير المصير أو الإبقاء على وسيلة النضال المسلح لإحداث التغيير (وهي المصممة لإسقاط النظام). فأحكام الاتفاقية ونصوص الدستور الانتقالي لعام 2005، تنبذ العنف ولا تسمح إلا باستخدام أدوات التغيير السلمي. ولربما فات على بال الفريق عبد العزيز، وموجهي الاتهام الآخرين من القيادت الموالية له، أن الحركة الشعبية أصلا كانت مشاركة فى كل مستويات الحكم! حقا، فرئيس الحركة حينئذ، الفريق مالك عقار، كان واليا منتخبا في ولاية النيل الأزرق، بينما كان الفريق عبد العزيز نائبا لوالي جنوب كردفان، ومرشح الحركة لخوض الانتخابات على مقعد الوالي. بل كان الفريق الحلو آنذاك يعمل سويا مع شريكه في الحكم الوالي، أحمد هارون، في تناغم وانسجام وصفه المراقبون بالنموذج الذي يشار إليه بالبنان في تجربة الشراكة في الحكم. بل، في العاشر من أكتوبر 2010، كتب الثنائي مقالا مشتركا بعنوان "المشورة الشعبية: طريقنا إلى السلام المستدام" نشر على نطاق واسع في كل الصحف السودانية، احتفى به كافة محبي السلام. فماذا كان يتوقع الفريق عبد العزيز الحلو، وهيئة اتهامه، من لجنة الرؤية والبرنامج في ذلك الوقت؟ هل كان يرغب في أن نتحول إلى منجمين نؤسس صياغة مسودة المانيفستو على التكهن، ونحدد الأهداف والوسائل، على سيناريو خيالي نستدعي في طياته وقوع الحرب في المنطقتين قبل حدوثها على أرض الواقع؟
لدي تعليق آخر وأخير مهم. حقيقة، لم أفهم إشارة الفريق عبد العزيز الحلو إلى أنه "طلب من د. أبكر آدم إسماعيل ومركز دراسات السودان الجديد بمراجعة مسودة د. الواثق والعمل لتقديم مسودة أخرى. مراجعة مسودة د. الواثق و العمل لتقديم مسودة أخرى. وتم ذلك و قمنا بتكوين لجنة برئاسة ياسر جعفر للخروج بمسودة واحدة الشعبية/شمال. لم تظهر تلك المسودة المنتظرة حتى اليوم". من جانبي، لا أدري مصير هذه الوثيقة المنتظرة، ولكني أعلم أن مسودة المانيفستو المجازة من قبل المؤتمر العام الأول للحركة في كاودا، 8-12 أكتوبر 2017، تكاد أن تكون متطابقة مع تلك التي كلف بصياغتها د. ابكر آدم إسماعيل في مايو 2012. فقد اطلعت على الوثيقتين!
التحالفات السياسية للحركة: تبدل المواقف! موقف الحلو من التحالفات السياسية المطروح في خطاب استقالته قد فارق الموقف العام للحركة الشعبية، منذ مطلع التسعينات من القرن الماضي، ويتتاقض مع موقف الفريق الحلو نفسه في النصف الثاني من عام 2005 أبان توليه رئاسة قطاع الشمال للحركة الشعبية.
فمن جانب، ظلت الحركة الشعبية دوماً حريصة على التفاعل وخلق صلات مع مختلف القوى السياسية والإجتماعية في الشمال، منذ بداية النصف الثاني من الثمانيات. ولعبت الحركة دوراً محورياً في جمع هذه القوى في وقت مبكر في كوكادام (إثيوبيا)، وتحديدا في مارس 1986، ولم يمض عامان على تأسيسها. وهكذا، فقد أقامت الحركة الشعبية تحالفات مع جميع القوى السياسية الحديثة والتقليدية، بغرض المضي قدماً بعملية البناء الوطني. توجت الحركة هذه التحالفات بعضوية فاعلة في التجمع الوطني الديمقراطي، والذي تبوأ قائدها رئاسة قواته، كما أسهم رئيس الحركة الراحل بفعالية مشهودة فى توقيع قوى التجمع على إتفاقية القاهرة مع الحكومة السودانية، فى يونيو 2005. للمفارقة، كان الزعيم الراحل، جون قرنق، يفضل التحالف مع القوى السياسية "التقليدية"، على الإئتلاف مع القوى "الحديثة". فقد طرح على قوي التغيير فى الشمال، بعد فشل مبادرة "لواء السودان الجديد"، خيار العمل فى إطار التجمع كتحالف عريض ومفتوح، يوفر مكاناً لكل قوى السودان الجديد فى طريق بناء هذا السودان، خاصة وأن بعض أقسام هذه القوى كان يسعى لإقامة تحالف إستراتيجي مع الحركة وإقصاء وإستبعاد القوى "التقليدية"، وهو توجه وصفه الزعيم الراحل بأنه محفوف بالمخاطر. وفى رأيي أن حرص زعيم الحركة الشعبية الراحل على التحالف مع القوى السياسية الشمالية، خاصة القوي التقليدية، لم يكن فقط من أجل تحقيق هدف التجمع الرامي إلى إزالة النظام وتنصيب نفسه بديلاً، بل لحشد سند ودعم هذه القوى، كشرط لازم وضروري لممارسة حق تقرير المصير عن طريق الإستفتاء. وبالفعل، هذا هو ما وقع.
ومن ناحية أخرى، كان رئيس قطاع الشمال يحمل نفس التصور، حين توليه للمنصب. فقد كان رأييه أن تقيم عضوية الحركة في النقابات تحالفات مع كافة القوى الديمقراطية في الانتخابات النقابية. ففي أتون المعركة التنافسية في انتخابات الاتحاد العام للمحامين في نهاية النصف الثاني من عام 2005، كان الفريق عبد العزيز يساند موقف المحاميين المنتسبين للحركة الشعبية في تحالفهم مع، ودعمهم لقائمة التجمع الوطني الديمقراطي. قوبل موقفه هذا بهجوم عنيف من قبل القيادات المتنفذة في اللحركة الشعبية يومئذ. ففي اجتماع مشهود لقيادات الحركة الشعبية بالخرطوم، انتقد القيادان تيلار دينق، وزير الدولة برئاسة الجمهوريه، وأليو أيني، وزير الدولة بالداخلية، توجه رئيس قطاع الشمال انتقادا عنيفا وبأقسى العبارات. وفي أعقاب تلك الحادثة، غادر الفريق عبد العزيز الخرطوم مغاضبا إلي الولايات المتحدة الأمريكية.
أما الآن، فالفريق عبد العزيز يدعو إلى إعادة النظر فى خريطة تحالفات الحركة الشعبية/ شمال بما ينسجم مع تعريفه ووصفه لطبيعة الصراع الدائر بالبلاد. فالخلاف على الموقف من التحالفات يرجع إلى قراءة الفريق عبد العزيز وتصوره لطبيعة الصراع السياسي - الاجتماعي فى البلاد، والتي بدورها تستدعي مراجعة تحالفات الحركة مع القوي السياسية الأخري. فهو يري أن الحرب طال أمدها، منذ عام 1956، لسببين، أولهما، إنقسام الضمير السياسى السّوداني بين المستفيدين من "المركز العروبي الإسلامي"، من جهة، والمهمشين المتضررين من هذا المركز، من جهة أخري. وثانيهما، إنقسام الوجدان الجمعى القائم على أساس التباين الثقافى وصراع الهوية وهل هى عربية أم أفريقية؟ فبالنسبة له، لا مجال ل "محايد" فى هذه الحرب، فقد إنقسمت الشعوب السودانية إلى فريقين، "فريق مع رؤية السودان الجديد الذى يسع الجميع، وفريق آخر مع المشروع العروبي الإسلامي الإقصائي". وبذلك، فالفريق عبد العزيز يعد القوي السياسية المدنية، كما أسماهم "دعاة الجهاد المدني"، ولا يخفى أيا من القوي يقصد، جزءاً لا يتجزأ من قوى المركز والسودان القديم، ولو بدرجات متفاوتة. وبالتالي، خلص إلى أنه "إذا كان لا بد من تحالفات مع تلك القوى فليكن، ولكن لا بد أن ترتكز على أسس مشروع السودان الجديد".
ولكن، فقد علمتنا تجربة حق تقرير المصير لجنوب السودان وممارسته عبر الاستفتاء، أن ذلك لم يكن ليتم من غير أن يصبح الحق مطلبا مجمعا عليه من كافة الجنوبيين، في كل تكويناتهم الاجتماعية والقبلية وكافة تشكيلاتهم السياسية، وبدون دعم ومساندة جميع القوى السياسية السودانية، الحاكمة منها والمعارضة. هكذا، لم يكن للحركة الشعبية أن تصل لمحطة الإستفتاء بدون نجاح الزعيم الراحل في جمع كلمة كافة التكوينات السياسية، بما يشمل تلك التي كانت توصف بعبارة "القوى التقليدية". فإن كان الفريق عبد العزيز الحلو لا يرغب في التحالف إلا مع القوى المنتمية ل"فريق السودان الجديد"، بدون تعريفها سياسيا أو تحديدها تنظيميا، فكيف يتسنى للحركة الشعبية أن تنتزع حق تقرير المصير؟