الانتفاضة: كيف، ولمن تنتقل السلطة؟

 


 

د. الواثق كمير
31 December, 2018

 

 

kameir@yahoo.com

تورونتو، 29 ديسمبر 2018

لا شك أن الست سنوات الأخيرة هي الأشد اضطرابا في حكم الرئيس البشير، إذ ظلت الأزمات السياسية المتلاحقة هي السمة الرئيس والمميِّزة والتي تمظهرت في إنشقاقات الحزب الحاكم التي بدأت تطفو على السطح، بعد انتفاضة سبتمر 2013، ومع بداية التحضيرات لانتخابات 2015. فالبلاد تشهد مآزق مستمرَّة ومتتابعة على نطاقٍ غير مسبوق، ومناخ سياسي محتقن ومتوتِّر، واحتجاجات شعبية مطلبية متلاحقة ظلت تتعاظم منذ عام 2012 وبلغت ذروتها في الهبّة الشعبية الحاليّة في مناطق عديدة من ولايات السودان. وبعد أن أصبح هناك استقطاب “رأسي” حاد وملحوظ بين الحكومة والحركات مسلحة في دارفور، وجنوب كُردُفان والنيل الأزرق، من جهة، والمعارضة السلمية وبعض منظمات المجتمع المدني والتكتلات الشبابية ومنابر الأسافير من جهة أخرى. فضلاً عن الانشقاقات والانقسامات “الأفقية” داخل الأحزاب السياسية، وعلى رأسها الحزب الحاكم والحركة الإسلامية (بمرافيتها)، والذي أفرز صراعاً حاداً بين مؤيدي الرئيس ومعارضيه، تجلّت آثاره على الوضعين السياسي والاقتصادي، بإسقاط حكومة الوفاق الأولى برئاسة الفريق بكري والمحاولات الملحوظة لوضع العصي في دواليب حكومة معتز. هذا كله، مع تنامي الولاء القبلي والعرقي، وظهور الجهاديين، وسطوة السلفيين، والجماعات الإسلامية المتطرِّفة وتصاعُد تصريحاتهم العنيفة. وفوق ذلك كله، تردِّي الأوضاع الاقتصادية، التي وصلت حداً غير مسبوق وأمسكت بخناق الشعب المخنوق أصلا، مقرونة بتفشي الفساد الذي ذاع وعم القرى والحضر. إن الواقع الماثل - دون مكابرة وبلا إنكار - يجسد لعبة صفرية بين أطراف المعارضة المدنية والعسكرية والحكومة، من جهة، وبين اطراف تحالف المعارضة، يمكن أن تصل إلى نقطة اللاعودة، مما ينذر بشر مستطير.

في ضوء هذه الخلفية، وفي أتون هبة ديسمبر الشعبية دعت قوى سياسية معارضة، مدنية ومسلحة، وقطاعات أخري من السودانيين، إلى تصعيد هذه الهبة لانتفاضة تصل نهايتها المنطقية إلي إسقاط النظام ورحيل رئيسه. أقول في هذا المقال أنه إذ تم تحديد الهدف بدقة خيار "الرحيل" فقط لا غير، ففي المقابل هذا بدوره يستوجب تعريف آلية/آليات التنفيذ، بمعنى آخر كيف يتم هذا الرحيل؟ محاولة الإجابة على هذا السؤال هي التي ستكشف الأمر بجلاء، وهنا استدعي تجربتي في العمل النقابي، 1982-1989، التي أودت بي من "النقابة إلى الغابة"، لأبيِّن، من منظوري لهذه التجربة، كيف تتم عملية انتقال السلطة في حالة سقوط النظام.


إبتداء، في رأيي، أن هذا الرحيل قد تدعو له الجموع في الشارع، ولكن ليست هذه الجموع هي من ستقوم بتنفيذ إنتقال السلطة بنفسها، سواء كان ذلك بالتوافق مع من يدعون لرحيله ، أو إن تم إجباره على ذلك. صحيح للنظام معركة مع الجماهير في الشارع، لكن المعركة الأكبر ليست بين الشارع والمعارضة الرسمية، وبين السلطة الحاكمة، إنما بين من يريدون تغييب الرئيس من المشهد، وهم أبناء المؤتمر الوطني والإسلاميين في كافة تشكيلاتهم من جهة، ومن يقفون الي جانب الرئيس من ذات التشكيلات من جهة أخرى. بمعنى أن المعركة إما أن تدور في ردهات القصر المقابل للنيل الأزرق وفق تفاهمات وضمانات ومساهمات، واما أن تكون ساحتها في القيادة العامة والمنشآت العسكرية الأخرى لتحسمها المدرعات والبنادق. وفي الحالتين، سوف تضيع المعارضة الرسمية والقوى المدعية قيادة التغيير.


في انتفاضة مارس/أبريل لم يكن الشارع الذي فجر الانتفاضة (بشماسته) وشكّل وقودها وضحاياها حاضراً في حسابات السلطة ومعادلات تقاسم انصبتها حيث تُركت المفاوضات حولها حصريا للمجلس العسكري الذي آلت إليه السلطة إلى جانب ممثلي الشارع من الأحزاب والنقابات. فقد خرج التجمع النقابي مبكراً من معركة السلطة، وكان سهمه الوحيد هو المشاركة في تشكيل حكومة الفترة الانتقالية، ودان الأمر للاحزاب التي جنت الثمار، وعلى رأسها الجبهة الإسلامية القومية. اذن، كيف يتم الرحيل للرئيس أو النظام، وهل سيحقق ذلك الانتقال والتحول المنشودين، بنفس الطريقة وعلى ذات النهج، بعد أن تمكن الإسلاميون من السلطة والحكم لثلاثة عقود؟


كنت شاهداً عن قرب على مجريات أحداث مارس/أبريل 1985 بحكم موقعي النقابي آنذاك في الهيئة النقابية لأساتذة جامعة الخرطوم. وواقع الحال أن الإنتفاضة بدأت كهبّة عفوية من الشارع، أشعل فتيلها "الشماسة" مبكرا في منتصف مارس 85. ولكن، لما تسارعت خطى الشارع كانت القوى النقابية المنظمة وعلى رأسها النقابات العامة والهيئات النقابية، على أهبة الاستعداد والتماسك، ومن بعدها الأحزاب السياسية الموحدة التي كانت قليلة العدد في ذلك الزمان. وقد ساهمت ثورة نميري الغاضبة على الإخوان المسلمون وايداع قياداتهم السجون والمعتقلات قبل شهر من اندلاع الانتفاضة في تحفيزهم على المشاركة في الإنتفاض عليه. آنذاك، كان د. نافع علي نافع مجرد عضو في الجمعية العمومية للهيئة النقابة لأساتذة جامعة الخرطوم (المكونة من 80 عضوا منتخبين من جميع فرعيات كليات الجامعة) وكان على رأس عدد القليل من الإخوان بالجمعية، ودوما كان الإخوان المسلمون يقفون ضد أي مقترح من اللجنة التنفيذية فيه مواجهة مع النظام برغم أنه لم يكن لهم تمثيل في اللجنة. ولكن، ما أن حان وقت التدوال حول قرار الخروج في موكب 3 أبريل ( وهو قرار يختلف في الشكل والمضمون مع الموكب الذي دعى إليه "تجمع المهنيين" في 25 يناير 2018) فوجئت الجمعية العمومية بتأييد وموافقة د. نافع على القرار، وبالفعل، شارك هو وكافة الإخوان المسلمون في صناعة الانتفاضة.


وبالرغم من قبول المجلس العسكري، الذى تم تكوينه بعد إعلان المشير سوار الدهب استلام القوات المسلحة السلطة وتنحية الرئيس نميري، بإستبعاد الإخوان من المشاركة في مفاوضات تكوين الحكومة الانتقالية، غير أنهم كانوا حضورا بقوة في عملية ترتيب أوضاع الانتقال. وعليه، ترك أمر المشاورات لتشكيل مجلس الوزراء بيد التجمع الأحزاب السياسية والتجمع النقابي، الموقعون على ميثاق الانتفاضة، تحت لافتة "التجمع الوطني لإنقاذ الوطن". اقترح التجمع النقابي، بعد ماراثون مطول من الاجتماعات في دار أطباء السودان، واجتماعات أخرى مماثلة لكل نقابة أو هيئه نقابية ممثلة في التجمع، أسماء الوزراء، طبعا بعد شد وجذب مع احزاب الميثاق، وموافقتها في نهاية الأمر. بمكر ودهاء نجحت هذه الأحزاب في توريط التجمع النقابي في لجة عملية الانتقال بينما كان الإخوان المسلمون يكيدون لهم كيدا. فاخلوا لهم المسرح ليسعد التجمع النقابي بمشاركته في تشكيل الحكومة الانتقالية، بينما الإخوان كانوا هم من يديرون مسرح العرائس من وراء الستار مع المجلس العسكري الانتقالي، وفتحوا خط ساخن بين الشيخ ورئيس المجلس، أيضا الإسلامي كامل الدسم، مباشرة.

وبذلك فإن "الموضوع بقى واضح"، كما كان يقول المرحوم د. عوض دكام، بعد أن أصبحت الجبهة الإسلامية القوة الانتخابية الثالثة، نتيجة لقانون الانتخابات المفصل بالمقاس لصالحها، بل قطعت شوطا طويلا في طريق الطموح الذي شقه شيخ حسن رحمه الله المفضي للوصول إلى السلطة، فاستلموها ليوم الدين، التى ترى قوى سياسية معارضة، وناقمين سودانيين منتشرين في كل بقاع الاسافير، أن ذلك اليوم قد دنا، بهبة ديسمبر الشعبية، وإن السلطة ستنتقل لتحقيق أهداف التغيير المنشودة، والتي أنا ايضا انشدها واحلم بتحقيقها.


وقد كان قد إنتهي الأمر بتشكيل مجلس وزراء الانتفاضة من مرشحي التجمع النقابي وبرئاسة د. الجزولي دفع الله رئيس النقابة العامة لأطباء السودان. لم ينتبه - ولعله لم يكترث - تجمع النقابات لهوية مرشحه لرئاسة الوزارة، الذي يحسب من عتاة الاسلاميين، سواء كان منظما أو فقط بقلبه يميل إلى التنظيم. وهنا تجدر الإشارة إلى ملاحظتين هامتين كان لهما أثر كبير في تهميش دور التجمع النقابي: أولاهما، لم يكتشف النقابيون إلا متأخراً أن الإنتماء النقابي قد أخفى الأجندة السياسية التي تستبطنها بعض العضوية وثانيهما، هو الخلط بين مفهومي "النقابة" و "الحزب السياسي"، أي بين الترشح لموقع نقابي وبين الدخول في تنافس انتخابي سياسي، خاصة في الدوائر الجغرافية. ملاحظة هامة أخرى، أنه لم يكن هناك صوت أو تمثيل لمنظمات المجتمع المدني في ذلك الحين.


من المهم ذكره، أن ما أتاح النجاح (المؤقت) لانتفاضة مارس/أبريل هو توافق كافة القوى السياسية بجميع طوائفها من الإسلاميين والعلمانيين واليساريين. ومن ناحية اخرى، كانت الحركة النقابية حرة نسبيا وتقيم نشاطاتها وتحركها في المجال العام علانية، تحت قيادة منتخبة بديمقراطية وشفافية. وخلافا لذلك، الأمر اليوم يختلف تماما على الصعيدين السياسي والنقابي. لم يعد هناك إجماع سياسي على الانتفاضة، فعدد من الكيانات السياسية التي شاركت في انتفاضة مارس/أبريل انقسمت على نفسها إلى قبائل وبطون، بعضها مشارك في النظام وبعضها الآخر في المعارضة. وبعد ذلك كله، تمت إزاحة التجمع النقابي، الذي تولى قيادة التحرك الجماهيري غير المسبوق، من المشهد السياسي إلى أن أضحى كائن يعيش فقط في ذكري تلك الأيام. كنا صادقون، وفي لحظة هنيّة سعيدة كنا بنحلم بالمستقبل، وعاد أغلب من عاصر تلك الفترة، بعد اكثر من ثلاثة عقود، ليجعل من الماضي مستقبلا.


تلك كانت أيام انتقال السلطة في وقت كانت فيه للحركة النقابية المهنية، المحكومة بالقانون وليس بالسياسة، فلم تحصد إلا العشم فأتت برئيس وزراء إسلامي حتى النخاع، وآخرين نقابيين تغلب عليهم الميول الحزبية. تم ذلك بذريعة الإنتماء للحركة النقابية المهنية، مفجرة الانتفاضة وحاديها وراعيها، كما كنا ننظر إلى الأمور آنذاك، وكأنما النقابة حزب سياسي، دون الوضع في الاعتبار أن العضوية في النقابة تنتهي صلاحيتها بمجرد انتهاء عقد العمل مع المخدم، إن كان قطاع عام أم عمل خاص.


مفارقات بين الأمس واليوم!
أما الآن، ليس هناك نقابات مستقلة أو إتحاد نقابات وفقا لقانون سمح بقدر معقول من الحراك النقابي، جعل التجمع النقابي أحد اضلاع عملية انتقال السلطة. فلم اسمع ب "تجمع المهنيين" من قبل ولا أدري كنهه، إن كان تجمعا لنقابات "موازية"، أم مظلة سياسية، وانا أبدا لم أخذ كلمة القيادة الشرعية، سواء العسكرية أو النقابية، مأخذ الجد، بل كنت أعدها مجرد حيلة سياسية لم تحقق كسبا أو تضع بصمة على دفتر التغيير.
وعلى ضفة التجمع السياسي، كانت الأحزاب متماسكة نسبيا، والقيادات الحزبية معروفة بالاسم، وفي سن الشباب، ولها إتباع وقواعد مقدرة، فلم يجدوا صعوبة في التوصل إلى توافق مع التجمع النقابي ترجم في ميثاق الانتفاضة، وليد لحظة وبرهة قصيرة. أما في الوقت الراهن، تقزم حزب الأمة لكم "هته" والاتحادي الديمقراطي "تدشدش حتة حتة"، والحزب الشيوعي يقيل قياداته المؤثرة نتيجة للصراع حول سلطة القيادة. ثم دخلت إلى المشهد السياسي، وتحالفت مع الحزب الحاكم قوات مسلحة من دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، ومن شرق البلاد، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر في سياق التسابق على مقاعد السلطة الوثيرة.


ومن جانب النظام الحاكم، لم يكن لنميري حزب سياسي أتى به للسلطة بل هو من صنع الاتحاد الاشتراكي وعين موظفيه بنفسه. ذلك، بينما نظام الإنقاذ حمله تنظيم الإخوان المسلمون المدني إلى الحكم، فتمكن وتكبر، فتمدد في كل مؤسسات الدولة العسكرية، وعلى راسها الخدمة المدنية، بقضائها ونيابتها. فالنظام القائم كان اصلا صناعة لتنظيم سياسي كامل الدسم ظل يسعي لسلطة الدولة منذ منتصف القرن الماضي، حتى أفلح في الإجهاز عليها في فجر الثلاثين من يونيو 1989، وظل قابضا عليها حتى يومنا هذا.


ذلك، اضافة لدور المجتمع الإقليمي، بقيادة نظام حسني مبارك في مصر الذي اعترض طريق الرئيس واستضافه في مصر لسنوات طويلة، وكذلك المجتمع الدولي الذي اعطى الضوء الأخضر لمباركة الانتقال وتأييده الخطوات المفضية إلى صياغة الدستور وإجراء الانتخابات العامة. أما في الظرف الماثل، فإن المجتمعين الإقليمي والدولي، نظرا لتوازن القوى الماثل أمامها، يفضلان إنتقالا لا يخلف صراعا دمويا داخل الحزب الحاكم على السلطة، قد يتسبب في زعزعة الأوضاع الهشة أصلا في البلاد، وهم في حاجة لخدمات النظام. ذلك، خاصة في غياب بديل مقنع من قوى المعارضة. فليس من مصلحة هذه القوى سقوط النظام بل هي تسعى لترميمه لعله يطاق. ينبغي الوضع في الحسبان تقاطعات المصالح الإقليمية والدولية بحكم موقعه الجيواستراتيجي مما قد يدفع بتدخلات أجنبية، أمثلتها مبذولة في المحيطين العربي والأفريقي.


ففي ظل هذا الظروف المختلفة تماما، ما هي اليات المعارضة الرسمية، المدنية منها والمسلحة، لتغيير السلطة ودورهم في عملية الانتقال المنشودة، متى ما تم؟ وهل ل "تجمع المهنيين" مكان من الإعراب في هذه العملية؟ وربما الأهم، ما موقع الحركات المسلحة، المتفاوضة مع الحكومة في عدة مسارات، في عملية انتقال السلطة وموقفها من أي تغيير قد يطرأ على نظام الحكم؟ فهل من سبيل لمشاركة هذه الحركات في ادارة الانتقال، أم ستضطر هذه المرة أيضا لوصف هذا التغيير ب "يونيو تو"؟


الأحزاب التي بادرت بالتوقيع على ميثاق الانتفاضة في 1985، ثلاثة احزاب فقط، مع التجمع النقابي، المشكل من سته تكوينات نقابية فقط، هي التي تولت كبر التفاوض مع المجلس العسكري المسيطر على صناعة القرار والتشريع. فما هي الأحزاب السياسية التي ستوجه لها سلطة الانتقال، الممثلة في القوات المسلحة، الدعوة للمشاورات وتشكيل الحكومة الانتقالية؟ فإن أتت القوات المسلحة برئيس إسلامي الهوى، بينما حمل النقابيون المهنيون إسلامي آخر إلى رئاسة الوزراء، وذلك في وقت لم يتمكن فيه الإسلاميون بعد من سلطة الدولة، فماذا تتوقع قوى التغيير أن تكون هوية الرئيس الجديد (في حالة نجاح سيناريو تغييب الرئيس) بعد مكوث الإسلاميين ثلاثين عاما على سدة الحكم؟ ما هو يا ترى نصيب نداء السودان وقوى الإجماع الوطني في ظل وجود أكثر من مائة حزب وحركة؟ أم هل ستطالب المعارضة الرسمية بإقصاء كل القوى المشاركة في حكومة الوفاق، ومن بينها الحزب الاتحادي الديمقراطي، وقد يمتد الطلب لإبعاد كل التنظيمات المشاركة في الحوار الوطني! وهل سيكون "تجمع المهنيين" من المدعوين إلى القيادة العامة للتفاوض حول تشكيل الحكومة الانتقالية؟ مكان من الإعراب في عملية انتقال السلطة، أسوة بالتجمع النقابي سابقا؟


ففي رأيي، أن هذه الهبة هي بمثابة هبة من الجماهير المنتفضة ورسالة إلى القيادات لبث الروح في أحزابها، التي تفتقد النفوذ الفعلي وسط هذه الجماهير، وتوحيد صفوفها لهذا الغرض.وذلك كله، بشرط أن تحسن المعارضة الرسمية، والقوى الداعية للتغيير، الاستخدام الواقعي والموضوعي لهذه الهبة، بهدف استعادة نفوذها وتأثيرها على الناس، مستغلة المناخ الذي خلقه هذا الحراك الجماهيري بل وتطويره على طريق استعادة كافة الحريات. فقد أضحى لهذه القوى المعارضة كرت ضغط اهدته لها الجماهير التي خرجت إلى الشوارع. لن يستديم التحول الديمقراطي، أيا كانت درجته ومداه، بدون قوى سياسية منظمة ومتماسكة. فقد اعترفت قيادات الحزب الحاكم على كل المستويات بشرعية، وأقرت بمشروعية التعبير عن الرأي، وهو الذي هو اصلا حق مكفول بالدستور كبلته السلطة الحاكمة بقوانين ولوائح جائرة مقيده لحرية التعبير والتنظيم.


خلاصة الأمر، أنه في حالة تغلب الرئيس على خصومه، أو في حالة نجاح معارضيه في تغييبه، طوعا أو قسرا، أو في سيناربو اكتمال عقد الانتفاضة والوصول إلى قمتها، ففي نهاية المطاف، لا بد من تسوية سياسية شاملة، وقد تختلف شروطها في أعقاب الهبة الشعبية!
التوصل لهذه التسوية الشاملة، بتوافق كافة القوى السياسية المدنية على مشروع للتغيير يفضي إلى الانتقال من هيمنة الحزب الواحد إلى التعددية السياسية، تظل هي الوصفة الوحيدة، قليلة التكلفة، التي من شأنها أن تنقذ البلاد من الانزلاق إلى الفوضى، وتحول دون تفكك الدولة. وإن كنتُ أزعم بأن هذا هو السيناريو الأكثر تفضيلاً لمعظم القوى السياسية وأطياف واسعة من السودانيين، بما في ذلك الحركات المسلَّحة، فإن مثل هذه التسوية لن يحالفها النجاح طالما ظلَّ المؤتمر الوطني يحتكر السلطة ويسيطر بالكامل على مؤسسات الدولة ويقمع حرية التنظيم والتعبير. كما أن تحقيقها مرهون بقدرة الحزب الحاكم لتغيير سياساته ومواقفه، وذلك، إما نتيجة للحراك والديناميات الداخلية في صفوفه، أو للصراع المحتدم بين الرئيس وبين خصومه من الإسلاميين، أو بفعل الشارع والضغط الشعبي، إضافة إلى العوامل الخارجية. ولذلك، فإن الانتقال السلمي لن يتحقق إلا إذا اعترف الحزب الحاكم بعُمق الأزمة وأنه من المستحيل بمكان، في ظلِّ هذا الاستقطاب والمناخ السياسي المحتقن، أن يواجه ويعالج التحديات الجسام، التي تواجهها البلاد الآن، بمفرده ولوحده، أو حتى مع الموالين له. إن المؤتمر الوطني مطالبٌ بأن يُقِرَّ بكينونة القوى السياسية والمدنية السودانية، وصعود قوى جديدة في مناطق النزاع المسلح (دارفور وجنوب كُردُفان والنيل الأزرق)، مما يجعل التوصل إلى سلام عادل مستدام أولوية لا يعلى عليها.


أتمني وأدعو الله أن لا يصبح الوطن كله في أي سيناريوهات التغيير الثلاثة، التي عددتها أعلاه، هو الضائع!

 

آراء