الشرعية الدستورية لنقل السلطة وفقا للوثيقة الدستورية
ربما يكون من المناسب أن أعود إلى صنعة القانون التي أخالني أدرى بدقائقها من درايتي بخبايا السياسة التي أخذت قلمي في الأسابيع الماضية. رغم أن ما أثارته الوثيقة الدستورية التي قدمهتا قوى التغيير للمجلس العسكري من نقاش كان جله سياسي، إلا أن البعض من فقهاء القانون وممن يتبعهم من الغاوون، شكك بعضهم في شرعية المجلس العسكري، وبعضهم في شرعية تمثيل قوى إعلان الحرية والتغيير للشعب، وقلة منهم في الإثنين فقالوا أن الإتفاق بين الطرفين إذا تم سيكون تجسيدا للمقولة من لا يملك أعطى من لا يستحق. ضد هذه الآراء رأينا أن الوثيقة الدستورية هي المخرج الوحيد الذي تدعمه الشرعية الدستورية لوضع إستثنائي يتعذر بقاؤه.
الإطاحة بالدستور بواسطة رئيسه
أول ما يلاحظه المراقب هو أن ما وقع في 11 أبريل هو إنقلاب عسكري لا ريب فيه (ها أنا قد نجحت في تفادي جملة كامل الدسم المبتذلة). وأي إنقلاب عسكري هو عملية غير شرعية بالنسبة للدستور القائم، لا يمنع ذلك أن الإنقلاب العسكري لم تنفذه مجموعة متآمرة من العسكريين بغرض إستلام السلطة، ولكنه نُفذ بواسطة مجموعة من القادة العسكريين وُضعوا أمام خيارين، فإختاروا أحدهما بإعتباره الأصح مهنيا وأخلاقيا.
شهد العام الماضي منذ بدايته أزمة حكم متصاعدة وهو الأمر الذي أدى في نهاية العام لظهور حركة من الإحتجاجات الواسعة التي إستمرت أربعة أشهر، في سابقة لم يشهدها النظام من قبل، ولم يعرف كيف يتعامل معها، خاصة حين بلغت ذروتها في الإعتصام بشكل دائم في أعداد مهولة أمام مبنى قيادة القوات المسلحة، وهو الأمر الذي جعل إستمرار أجهزة النظام في تأدية مهامها، في حكم المستحيل. بدلاً من الإستجابة لمطلب الشعب، قرر رئيس الجمهورية المخلوع أن يوجه الأجهزة العسكرية التي كان يضعها الدستور تحت إمرته، ضد الشعب، فأمرها بفض الإعتصام بالقوة.
كان أمام تلك القوى خياران إما أن تنفذ أمر الرئيس أو أن تقوم بواجبها الدستوري. لقد كان جوهر الأمر الصادر من الرئيس المخلوع يخرق أساس الدستور بغض النظر عن نصوصه، لأنه يقوم على إستغلال السلطة في تحقيق هدف مضاد لما شُرِّعت السلطة لتحقيقه. أساس ممارسة السلطة الدستورية، هو حماية الشعب لا الإضرار به. كان واجب القوات المسلحة والذي يتمثل في حماية الشعب الذي هو مصدر كل السلطات في الدولة، لا يقف عند عصيان الأمر، بل يمتد إلى منع تنفيذه. وهو أمر لا يمكن الوصول إليه إلا بالإطاحة بالرئيس.
هذا الخيارالذي هو في جوهره إنتصار للمبادئ الدستورية، ترك السلطة كلها في يد المجلس العسكري، لم يكن ذلك خياراً إختارته القوات المسلحة بقدر ما هو أمر فرضه أداؤها لواجباتها الدستورية عليها. فمن حيث الواقع لم يكن ممكنا رفض تنفيذ أوامر الرئيس دون الإطاحة به، و من حيث الشكل لم يكن في الإمكان الإطاحة بالرئيس دون إسقاط الدستور، بالإضافة لأن ما قام به الرئيس السابق، حين أمر القوات المسلحة بفض الإعتصام بالقوة، أدى من حيث الواقع إلى الإطاحة بالدستور، لأن رئيس الجمهورية وفقا للدستور يمثل الإرادة الشعبية ويمارس الإختصاصات التي يمنحها له الدستور (م 58) وليس من بينها سلطة منع الإحتجاج السلمي، ولا قتل المتظاهرين، وهو قتل خارج إطار القانون معاقب عليه داخليا ودوليا ويهدر أساس الحريات الدستورية للشعب. وفقا لذلك فإن أمر الرئيس المخلوع كان نقضا للعهد بين الحكومة وأهل السودان. وكان أيضا إخلال بواجب الدولة في حماية مواطنيها.
واجب حماية الشعب
أن مبدأ السيادة في القانون الدولي لم يمنح فقط الدولة السلطة الحصرية على شؤونها الداخلية، ولكنه أيضا وضع عليها إبتداءً مسؤولية حماية الشعب داخل حدودها. لذلك رأت اللجنة الدولية المعنية بالتدخل وسيادة الدول (ICISS) في تقريرها المعنون "مسؤولية الحماية" أنه عندما تفشل دولة ما في حماية شعبها - سواء بسبب عدم القدرة أو عدم الرغبة - تتحول المسؤولية إلى المجتمع الدولي الأوسع.
أشار مجلس الأمن لمسؤولية الحماية للمرة الأولى في أبريل 2006، في القرار 1674 بشأن حماية المدنيين في الصراعات المسلحة. أشار مجلس الأمن لهذا القرار في أغسطس 2006، عندما اصدر القرار رقم 1706 الذي يسمح بنشر قوات حفظ سلام دولية في دارفور. وتكررت الإشارة بعد ذلك لمسؤولية الحماية في عدد من القرارات التي اتخذها مجلس الأمن.
أصدر مجلس الأمن القرار 1973، في 17 مارس 2011والذي أذن فيه المجلس للدول الأعضاء أن تتخذ "جميع التدابير الضرورية" لحماية المدنيين المعرضين لخطر الهجوم في ليبيا ، مع استبعاد الاحتلال الأجنبي بأي شكل لأي جزء من الأراضي الليبية. وبعد بضعة أيام، بدأت طائرات الناتو ضرب قوات القذافي، إستناداً على ذلك القرار.
وفقا لكل ذلك فإن أمر الرئيس المخلوع بإستعمال العنف لإخلاء الميدان حتى ولو ولو أدى لقتلهم جميعا بالإضافة لأنه كان يعرض البلاد للتدخل المسلح لو تم تنفيذه كان في حد ذاته إسقاطا للدستور لما ينطوي عليه من مخالف جسيمة له من قبل الشخص المكلف بحمايته، ولأنه وضع على أجهزة الدولة الأخرى واجب التدخل لحماية الشعب، وهو أمر يؤدي لإسقاط الدستور.
لما كان الرئيس في واقع الأمر قد أساء إستغلال سلطته الدستورية، وأحال هياكل الحكم الدستورية، إلى هياكل تابعة له، تأتمر بأمره، فلم يعد أمام المجلس العسكري حتى يحمي البلاد إلا أن يطيح بالرئيس الذي كان قد أطاح بالدستور نفسه.
حدود شرعية سلطة المجلس العسكري
هذه المسألة وضعت السلطات التي تمارسها الدولة على الشعب والإقليم بكاملها في يد المجلس العسكري نتيجة للفراغ الدستوري الذي أحدثته الإطاحة بالرئيس وما تتطلبته من وقف العمل بالدستور.
هذا الوضع لا يريده ولا يقبله الشعب، الذي ما ثار إلا نتيجة لوضع الرئيس المخلوع لكل السلطات في يده، ولكنه أيضاً وضع لا يريده المجلس العسكري أولاً لأنه لم يسعى إليه وثانياً لأنه حتى لو أراده لما أمكنه التوصل له، إلا عن طريق فض الإعتصام. ورفضه لذلك هو الذي قاد لتركيز السلطات في يده.
إذاً المجلس العسكري لا يريد الإنفراد بالسلطة وهو غير راغب في سداد كلفة ذلك. ولكن الأهم من ذلك أن حدود شرعية سلطة المجلس تتمثل في أن واجب الحماية الذي قاد إلى وضع السلطة في يد المجلس لا يتيح الإحتفاظ بها إلا كأمانة يتوجب عليه ردها للشعب الذي تحرك لحمايته.
السلطة في المجتمع الديمقراطي تقوم على تفويض صادر من الشعب. والشكل المعتاد لذلك التفويض هو الإنتخابات التي يتم عبرها تفويض الذين يختارهم الشعب لفترة محددة. الثابت هو أن هنالك إجماع على أن إجراء إنتخابات قبل تنفيذ مهام الفترة الإنتقالية، يعني تسليم السلطة للمؤتمر الوطني المهيمن على مفاصل السلطة والذي كون ثروات ضخمة عن طريق سيطرته على الموارد العامة. ضرورة قيام فترة إنتقالية قبل إجراء الإنتخابات أمر في الأساس محل إجماع من القوى السياسية التي شاركت في التغيير كما وأن تم تضمينه في إعلان الحرية والتغيير الذي تجمع الثوار تحت رايته حتى تم لهم ما أرادوا. الخيار الوحيد المتاح أما المجلس العسكري هو أن يحول السلطة إلى قوى الثورة التي قادت الإعتصام والذي أدى لتسلسل الأحداث التي وضعت السلطة في يده.
تفويض قوى إعلان الحرية والتغيير
عتقد أن قيادة قوى إعلان الحرية والتغيير للثورة أثبت تمثيلها للشعب، ووضع في يدها تفويضاً محدداً بتنفيذ البرنامج الذي طرحته على الشعب في 1/1/2019م، والذي قبله الشعب حين نزل إلى الشوارع مقدماً أغلى ما يملك، وهو حياته وحريته، من أجل تحقيقه.
إذاً فقوى الحرية والتغيير مفوضة من الشعب وهو تفويض بالسلوك كما يقول أهل القانون، حين يسلك شخص ما سلوكاً تتضح معه إرادته بشكل لا يحتاج لتأكيد بقول أو كتابة.
لذلك فإنه يتوجب على المجلس العسكري أن يقتصر تفاوضه من أجل نقل السلطة مع قوى إعلان الحرية والتغيير، وذلك لأنها هي المفوضة من قبل الشعب بإقامة الحكم الإنتقالي الذي يؤدي في نهايته إلى إستعادة الشعب لتفويضه بعد تحرير إرادته نتيجة للإصلاحات التي ستقوم بها أجهزة الحكم في الفترة الإنتقالية، ومن ثم يُطرح الأمر لتفويض جديد يمنحه الشعب لمن يريد، عن طريق إنتخابات حرة ونزيهة.
القوى الأخرى
هذا لا يعني أن الحراك لم يضم قوى خلاف قوى الحرية والتغيير، فهو بالتأكيد ضم عدداً من الشباب غير المنضوين تحت لواء أي من التنظيمات، وهؤلاء لا يجوز إقصاءهم عن دائرة القرار في الفترة الإنتقالية. وقد ألزمت الوثيقة الدستورية قوى إعلان الحرية والتغيير أن تأخذ برغباتهم في الإعتبار في إختيار أعضاء السلطة التنفيذية وتعيين نسبة مقدرة منهم في المجلس التشريعي.
كذلك فإن هنالك عدداً من التنظيمات التي شاركت في الحوار بغرض إصلاح النظام من الداخل، وليس لإقتطاف الثمار التي كانت تتيحها السلطة. وهؤلاء ليس من الصعب التعرف عليهم، وهم يضمون عدد من حملة السلاح الذين تربطهم بالنظام إتفاقات سعوا فيها لتحسين أوضاع المناطق التي جاءوا منها، وهي إتفاقات يستحسن المحافظة عليهم رصيداً لعملية بناء السلام التي لابد أن تبدأ.
ما نراه في شأن مجموع الذين كان إنضمامهم للحوار من اجل الإصلاح، هو أنه بغض النظر عن صحة أو خطأ مسعاهم، فإن الجماهير تنظر إليهم بريبة، وهو أمر يتطلب منهم أن يطرحوا أنفسهم على قوى إعلان الحرية والتغيير، وليس على المجلس العسكري، لأن المطلوب هو أن يبدأوا عملية إعادة إستيعاب لهم في القوى الشعبية التي تشكل جزء من الإصلاح الواسع الذي سيتم تحت مظلة الحكم الإنتقالي والمسؤولة عنه بشكل أساسي قوى إعلان الحرية والتغيير. ولا صعوبة في ذلك لأن أغلبهم في واقع الأمر لم يدخلوا في عداءات مع القوى المعارضة التي ضمها إعلان الحرية والتغيير، وكانوا دائمي الإتصال بها بغرض تنسيق المواقف معهم. هؤلاء يجب أن يطرحوا أنفسهم على قوى الحرية والتغيير ليلعبوا دورهم في الفترة الإنتقالية، أما مطالبتهم للمجلس العسكري بإستيعابهم في تلك الفترة فهي مطالبة تفترض واقعاً غير موجود. فالمجلس العسكري ليس وصياً على السلطة التي إنتزعها كما يقول هو بنفسه، بل هو أمين عليها وهي أمانة تلزمه بتسليمها للثوار. لذلك فهو ليس في موقع يمكنه من أن يقرر من هم الثوار. من يقرر ذلك هو الشارع أو الشعب الذي أسلفنا أنه منح تفويضه لقوى إعلان الحرية والتغيير لتقود الفترة الإنتقالية، وهذا يجعل التأهيل للعمل ضمن الفاعلين في هياكل الحكم الإنتقالي يمر عبر قوى إعلان الحرية والتغيير.
هل في هذا خروج عن الحكم الديمقراطي؟
الإجابة عندي بالنفي. فالديمقراطية لا تعني وجود الجميع في الحكومة، ولكنها تعني أن تتكون الحكومة ممن يفوضه الشعب بتشكيلها، ويختار الباقون مواقعهم منها إما بالتأييد أو المعارضة. دون أن يفقدوا بسبب تلك المواقع حقوقهم في التعبير عن آرائهم، وفي التنظيم، وفي المشاركة في هذه الحدود في الحكم. لما كان يستحيل الآن إجراء إنتخابات كما أسلفنا لأن ذلك يتطلب فترة إنتقالية تحرر إرادة الناخب بحيث يكون له صوتاً مدركا،ً فإنه لابد من قبول التفويض الذي منحه الشعب بسلوكه لقوى الحرية والتغيير، حتى تختار من يملأ هياكل الحكم من المدنيين. إلا أن هذا التفويض ليس مطلقاً من حيث السلطة في الإختيار، لأنه لا يجوز لها أن تملأ المراكز المشكلة للسلطة التنفيذية بعضويتها الحزبية، بل عليها أن تختار من ضمن القوى التي شاركت في التغيير كفاءات لديها القدرات المعرفية والخبرات اللازمة لتصريف أعباء المنصب الذي تم إختياره لشغله، ليقوم بدوره بتنفيذ البرنامج المتوافق عليه في وثيقة الحرية والتغيير. إذاً فإن القوى التي يجب أن تتوافق حول هياكل الحكم الذي ستنتقل إليه السلطة هي قوى إعلان الحرية والتغيير بصفتها القوى التي قادت التغيير بتفويض من الشعب تجلى بسلوكه، والمجلس العسكري الإنتقالي بإعتباره القوى التي نفذت التغيير لصالح الشعب، فتركزت سلطات الدولة في يده كأمانة لصالح قوى التغيير.
السلطتان التشريعية والسيادية
بقي أن نقول كلمة وهي أنه، وإن كان من حيث المبدأ يجب أن تختار قوى الحرية والتغيير من يشغلون المناصب في السلطة التنفيذية، وأعضاء المجلس التشريعي وفق المعايير المذكورة سابقا، لقيادة الفترة الإنتقالية وتنفيذ برنامجها المقبول من الشعب على الوجه السابق بيانه، فإن معيارا إضافيا لا بد من إضافته بالنسبة لإختيارها لعضوية السلطة التشريعية فإنه يتوجب عليها في إختيارها أن تراعي إشراك الشباب في عضويتها بدرجة مقدرة وكذلك تمثيل القوى الأخرى من خارج الحرية والتغيير والتي ساهمت في التغيير تحقيقا لخلق سلطة تشريعية تلعب دورا مطلوبا في الرقابة على السلطة التنفيذية . بالنسبة للعسكريين فإنهم لا بد أن يبقوا شركاء لقوى الثورة، لإكمال تنفيذ مهامهم في الحماية، ويتحقق ذلك بمشاركتهم بشكل مقدر في السلطة السيادية بإعتبار أن مشاركتهم ضرورية لحماية الثورة وهذه الشراكة نبعت من دور العسكريين في الإطاحة بالنظام السابق وواجبهم في حماية النظام الجديد.
نبيل أديب عبدالله
المحامي
nabiladib@hotmail.com