الإخوة الثوّار، قادة الحركات المسلحة (واسمحوا لي مخاطبتكم دون ألقاب).. وأخصّ هنا : عبد العزيز آدم الحلو- عبد الواحد محمد احمد النور- مالك عقار أير – ياسر سعيد عرمان - جبريل ابراهيم محمد – منّي أركو منّاوي.
هذه رسالة من مواطن سوداني ، لا يدّعي أثارة على أحدٍ منكم في حظوة علم أو جاه. ولا يزاود على أحدٍ منكم في الحس الوطني . وقطعاً لا يخطر بباله أنه أكثر ثورية من أي واحد منكم. لكنه يكتب إليكم مدفوعاً بسببين: أولهما الشراكة والإنتماء معكم إلى تراب هذا الوطن ، مما يعطيه الحق في أن يرفع إليكم ما يحسب أنه النصح في هذا المنعطف الحاد الذي تمر به بلادنا. أما ثانيهما ، فهو العشم بأنّ حسكم الإنساني - والذي رأيت أن أخاطبه قبل أن أخاطب وعيكم الثوري- ربما يعطي هذه الرسالة تقدير محتواها في أعماق كل منكم.
لست أدري لماذا خطر ببالي - وأنا أجلس لأخط إليكم هذه الرسالة - مقطع من قصيدة شاعرنا العظيم محمد مفتاح الفيتوري (إبتسمي حتّى تمرَّ الخيل) إذ يقول:
أحسبُ أنّ ما استدعى هذا المقطع الشعري لذاكرتي ، هو أننا ظللنا نعيش منذ الإنفجار الكبير للثورة السودانية في ديسمبر 2018 حالة أشبه بالجذب الصوفي ونحن نرى شعبنا يصنع واحدة من أضخم الثورات وأكثرها وعياً في عصرنا الحديث. عفواً .. أعرف أنّ قطار الثورة ما زال يعاظل المطبات صعوداً وهبوطاً كي يصل محطته الأخيرة. هل قلت "محطته الأخيرة"؟ سامحوني ، فأنتم وجنودكم - يا من منحتم حصة من أعماركم بانتظار النصر الكبير- تؤمنون مثلي بأنه ليس لأية ثورة محطة نهائية، ذلك لأن الثورة حلم ،كلما أنجزناه في دنيا الواقع أطلّ وجهه الآخر من بين سدف دخان الثورة المنفلت، ليهيب بنا أن نعمل لتحقيقه. والثائر الحق باعتقادي هو من يقبض ناصية حلم أنجزه ، وعينه على الضفة الأخرى التي يلوح من ورائها حلم آخر من أحلام عالمه الذي من أجله حمل القلم أو الفكرة أو حمل الفكرة والبندقية معاً كما هو حالكم أنتم في الحركات الثورية المسلحة.
إخوتي قادة الثورة المسلحة: تجمع كاتب هذه السطور بكم أكثر من آصرة. يكفي أنّ حب الوطن وأمنياتنا لشعبنا بحياة حرة كريمة وصراعنا مع من ساموا شعبنا الذل والمهانة - كل هذه الهموم تجمعنا وإن اختلفت الوسيلة في تحقيق الهدف..فكل منا ينظر لتحقيق الحلم (الثورة) من زاوية ليس بالضرورة أنها ذات النظرة التي لدى غيره. ولأنّ الثورة جهد تراكمي، فإنّ من يؤرّخ للثورة السودانية طوال الثلاثين سنة المنصرمة ، وما حفلت به من تضحيات جسام، لابد أن يبدأ بجهدكم الذي دونه المسغبة والنوم في العراء ورائحة البارود والشهادة والحزن على من احتسبتم عند الله من الأهل والرفاق. لا ينكر نضالكم وجهدكم أيها الرفاق في قيام هذه الثورة الضخمة إلا مكابر أو عدو لشعبنا. فالثورة بدأت حيث رفض شعبنا الإنقلاب العسكري المشئوم لحزب الإخوان المسلمين في 30 يونيو 1989م. رفض شعبنا نظام الإنقاذ ، وقاومته فئات شعبنا في كل منعطف. دفع الكل الثمن- وذاك جزء من التاريخ! فالثورة إذن لم تبدأ بالأمس ولا قبل سبعة أشهر. عمر ثورة شعبنا الباسل بعمر حقبة نظام الإنقاذ الهالك. وما أنجزه شعبنا اليوم يعتبر مرحلة متقدمة من حلمنا بالغد المشرق. ولأننا نعيش في عالم تقوم شرعته على "عدالة القوة" وليس "قوة العدالة". إن ما تمّ إنجازه ليس غاية المبتغى ، بل هو أقصى ما يمكن حيازته في الواقع الملموس. وأنتم بلا شك تعلمون ذلك حق العلم. ولهذا فإن مساهمتكم في دفع قطار الثورة مع أبناء وبنات شعبكم في المرحلة المقبلة من الضرورة بحيث أحسبه ويحسبه غيري فرض عين.
أنتم من خاض المعارك من أجل إنسان هذا الوطن - أقول هذا وأعرف أن محاولة انصافي لنضالكم كلفتني الكثير رغم موقفي المبدئي الرافض لحل أية مشكلة عبر فوهة البندقية. لكن من قال إنكم حملتم البندقية شهوة في الإحتراب والقتل؟ لقد كانت البندقية هي الخيار الذي لم تجدوا سواه.
أما الآن فقد لاح في الأفق القريب طيف معركة لا تشبه معركة البارود. إنّ بناء السلام والعمل من أجل تحقيق حلم شعبنا بدولة المواطنة- الدولة المدنية الديموقراطية – يتطلب مساهمة مناضلين بحجم أحلامكم الهائلة والمشروعة ببناء وطن يسعنا جميعاً. إنّ شعبنا يتطلع أن يراكم بيننا حتى نقتسم عبء واحدة من أكثر المراحل صعوبة: مرحلة بناء دولة المواطنة والمساواة على أنقاض وطن لم يترك له الزنادقة الملتحون من شكل الدولة ومؤسساتها إلا الحطام. لم تزل أبيات شيخي محمد مفتاح الفيتوري ترنُّ في ذهني وأنا أختم رسالتي هذه إليكم: