إمبراطوريات الورق وسياستنا الخارجية (2 من 2)

 


 

 

 

صحيفة التيار 29 يوليو 2020

بسبب من التعليم المصري، الإلحاقي، الاستتباعي، الذي جرى تعليم السودانيين وفقه منذ عهد محمد علي باشا واسماعيل باشا، مرورً بالملك فؤاد والملك فاروق، استبطنت طلائع المتعلمين السودانيين مقاصد الخطة المصرية المحكمة لإلحاق السودان بمصر، وتحويله الى هامش ثانوي ملحق بها وبعموم المشرق العربي. مناهج اللغة العربية والتربية الإسلامية والتاريخ الإسلامي التي جرى تدريسها للسودانيين لم تكن لتخرج سوى متعلِّمٍ مُمَصْرنِ الوعي. تحت تأثير الاحتلال العقلي والوجداني أصبح طلائع المتعلمين السودانيين يعون المصالح الوطنية المصرية، ويعملون لخدمتها، بأكثر مما يعون ويخدمون المصالح الوطنية للسودان. وعلى سبيل المثال، ضحت حكومة عبود بالأرض وبآثارنا التاريخية وبملايين من أشجار النخيل، ورضيت أن يجري إغراق ثغرها الشمالي (مدينة وادي حلفا) ومعها عشرات القرى، خدمة لنهضة مصر. أجبرت حكومتنا أهالي حلفا على الهجرة إلى وسط السودان لتخزن مصر مياهها في أراضينا. وعمومًا، قاد الانسحاق أمام المصريين والانجرار وراء سياساتهم وخياراتهم إلى أن ينخرط السودان في كل حروب الشرق الأوسط، التي لا ناقة له فيها ولا جمل. ومؤخرًا، بلغ بنا انمحاق الكرامة الوطنية، حدَّ إرسال مرتزقة ليحاربوا في اليمن خدمة لأجندة غيرنا.

في الأسبوعين الماضيين قدمت لنا إثيوبيا درسًا بليغًا في العزة والكرامة الوطنية. فرغم تعثر مفاوضات سد النهضة وتصاعد الأزمة، واصلت إثيوبيا تنفيذ ما تريد وفقا لجدولها المرسوم. آمنت إثيوبيا بحقها في استغلال مياه النيل الأزرق لإنتاج الكهرباء، ومضت في هذا السبيل، ولم تغير في خطتها، شيئا. والآن، لم تعد المفاوضات بالنسبة لها سوى تقديم بعض التطمينات في بعض الأمورٍ الفنية التشغيلية، التي تحفظ ماء وجه مصر، ولا تمس شيئًا من خطتها الأصلية. أما نحن، الذين احتلت منا مصر إقليم حلايب، واحتلت منا إثيوبيا منطقة الفشقة، فإننا لم نستخدم، في كلتا الحالتين، أيًا من هاتين الورقتين للضغط على مصر أو على إثيوبيا. ويبدو أن سكوت حكوماتنا عن ضم حلايب قد جعل ضم إثيوبيا لمنطقة الفشقة في وعينا أمرًا عاديا.

لم يطمع أي محور عربي، أو غير عربي، في إخضاع إثيوبيا أو جعلها تحيد عن أجندتها الوطنية؛ لا بالترغيب ولا بالترهيب. ومع ذلك بقي العرب، وغير العرب، يخطبون ود إثيوبيا. ويستثمرون فيها بنفس القدر الذي يستثمرون به في بلادنا، بل وأكثر. مع فارق كبير في شروط الاستثمار التي تحرص الحكومات الإثيوبية على أن تكون خادمة لمصلحة بلادها. فنحن نحط من قدر أنفسنا وقدر بلادنا، بصورة جعلت المحاور العربية لا تتوقف عن حشر أنفها في شؤوننا. والآن، فقد وضعت ثورة ديسمبر المجيدة السودان في موقع جديد. وقد حدث شيء من التحسن في سياستنا الخارجية، لكنه لا يزال دون المطلوب بكثير.

خلاصة القول: لكي تنهض بلادنا، لا مناص لنا من تحرير عقولنا من تأثيرات الاستتباع، ومن وضع أجندتنا الوطنية في موقع الأولوية التي لا تعلو عليها أولوية أخرى. نحن بلدٌ غني ماديًا وروحيًا وبشريا ويميزنا نزوعٌ قويٌّ نحو الديموقراطية. هذه ميزات تدفع الأنظمة الشمولية إلى محاولة تكبيلنا وتعويق نهوضنا. باختصار نحن بحاجة إلى وعي هويَّوي جديد، ومنظور جيواستراتيجي وجيوسياسي جديد أيضا. لقد جعلنا الإلحاق والاستتباع نتراجع عن دورنا المحوري في منطقة القرن الإفريقي، وهو دور كنا الأكثر تأهيلاً له. أخليناه، فاحتلته إثيوبيا. غير أن استرجاعه ممكن، إذا حررنا عقولنا من الاحتلال ووعينا إلى إي مدى نحن مستتبعين.

 

آراء