الأحزمة الاقتصادية المتحدة بدلا عن الولايات المتحدة السودانية
سعدت أيما سعادة بمطالعة مقال البروفيسور مهدي أمين التوم بعنوان "الولايات المتحدة السودانية: مشروع وطني مقترح"، المنشور بتاريخ30/07/2020م، والذي طرح من خلاله تقسيم السودان إلى ولايات متحدة ودعم رأيه عبر أحدى عشرة هدف. مصدر سعادتي هو جدية طرحه وبعد نظرته بجانب اقتراحه لجهة علمية للقيام بإعادة التقسيم الجغرافي للسودان على شكل ولايات أي كلية علوم الجغرافيا والبيئة بجامعة الخرطوم. واني لأرجو أن تجد مشاركة البروفيسور مهدي التوم نقاش ومثاقفة حولها من الأساتذة والمختصين وبعض السياسيين على سبيل المثال د. البطحاني شيخ الدين من الله، عمر عوض الله قسم السيد، فاروق عبدالرحمن، عبدالوهاب الصاوي، د.محمد الزين، وآخرين.
رغم سعادتي، فإنني أجد نفسي أختلف مع مقترح سعادة البروفيسور جملة وتفصيلا ولذلك لعدة أسباب لعلي ألخصها ألان في عجالة ولربما أعود اليها مستقبلا في تفصيل أكثر.
اعتقد أن الكاتب رغم خبرته العلمية والسياسية الطويلة لكنه فضل علاج المشكل السوداني بصورة نظرية سياسية بحتة دون الأخذ في الحسبان للواقع السوداني على الأرض، وكمثال بسيط لذلك الواقع فأن مدينة الخرطوم وضواحيها اليوم تضم حوالي ال 10 مليون ساكن من مختلف أنحاء وقبائل السودان المختلفة، أي أن الخرطوم تضم بين دفتيها ما يقارب ثلث سكان السودان!!! وهو واقع على الأرض ينسف أهم هدف يمكن من خلاله تحقيق بقية الأهداف من التقسيم الجغرافي الذي ذهب إليه البروفيسور مهدي التوم، وهو الهدف العاشر والذي لخصه الكاتب في "تشجيع أبناء الولايات على الهجرة العكسية لولاياتهم لتطويرها والاستفادة القصوى من خيراتها وإمكاناتها".
الكل يعلم بان كل نواحي السودان المختلفة من حلفا القديمة إلى ابيي ومن بورتسودان إلى الجنينة تضم تنوع سكاني من كل القبائل بسبب الهجرة الداخلية. فكثير من سكان الخرطوم أو المدن الأخرى ينطبق عليهم المثال التالي ، قد يكون جد وأب الفرد من حلفا ولكنه ولد وعاش في ابيي أو تزوج وولد أطفاله في الجنينة أو مدني مثلا!!! أي تقريبا أغلب السودانيين اليوم مرتبطين بالخرطوم وبمدن أو قرى أخرى ارتباطات متنوعة ومتشابكة قبلية واجتماعية واقتصادية بل حتى الملكية للأرض زراعية كانت أو رعوية أو سكنية في أي مدينة /أصبحت واقع لكثير من السودانيين من مدن أخرى.
سبق أن طرحت في مقال سابق بأن وجود ثلث سكان السودان في الخرطوم وثلث ثاني في المدن الكبرى كبورتسودان والأبيض ومدني وعطبرة يمكن أن يشكل للحكومة والمسئولين فرصة ذهبية لإعادة بناء اللحمة الوطنية وتشجيع الانصهار الوطني وتغليب الانتماء للسودان الدولة أكثر من الانتماء للإقليم أو القبيلة وهو أمر مبشر بالنجاح كما حدث أثناء الاعتصام أمام القيادة العامة فلقد اختفت الانتماءات الضيقة وتوحد الهدف في أن السودان للسودانيين وارتفعت شعارات مثل " يا عسكري ومغرور كل السودان دارفور" وغيرها من الشعارات.
إن مقترح تقسيم السودان جغرافيا في ولايات تغلب عليها الجهوية أو القبلية، وهو أمر أثبت فشله سابقا حين اضطرت حكومة الإنقاذ المخلوعة لتقسيم دارفور إلى شمالها وغربها وجنوبها ورغم ذلك هناك من طالب بولاية في شرقها أيضا!!! كذلك هو أمر أثبت فشله أيضا خلال الأيام الماضية عند اختيار و تعيين الولاة، لبروز ظاهرة المحاصصات الحزبية والقبلية، وهو أمر يوضح أن محاولة الإرضاء الجهوي والقبلي عبر تقسيمات للسلطة ، ستؤدي دوما لوجود من يطالب بضرورة زيادة تقسيم السلطة في محاصصات داخلية قبلية بل عشائرية ولربما أسرية وشخصية.
يبقى أن إيماني باللامركزية منفك تماما عن القبلية والجهوية وبالمقابل عن فكرة الولايات المتحدة السودانية أو لنسمها الفدرالية الأوربية، إيماني هو بلا مركزية سودانوية بمعنى تقسيم السودان "خياليا" من حلفا شمالا ويصل إلى سوبا جنوب الخرطوم وغرب من جبل أولياء إلى الجنينة وشرق من شرق النيل إلى بور تسودان وجنوب من الباقير إلى ابيي، وان حاكم أي إقليم أو ولاية يجب أن يكون من احد الثلاث أرباع الأخرى من السودان، ونسبة المسئول للربع المعني تكون مرتبطة بالغالبية من أخر عشر سنوات وتقضيته لها في أي ربع. هذه الفكرة تقضي على المزايدات القبلية، و تزهد كل قبيلة أو عشيرة في أن يكون احد أبنائها حاكم في منطقتها وتزهد كل مسئول في استغلال منصبه لمناصرة قبيلته أو عشيرته.
لعلي أكثر ميلا لدمج السودانيين في "ولايات" متحدة اقتصادية وليس جغرافية، أي إيجاد مشاريع اقتصادية قومية ووطنية غير جهوية ولا قبلية و لقد وجدت أن مقترح رئيس الوزراء حمدوك المسمى خمسة أحزمة تساعد في التنمية الاقتصادية بصورة أكثر قومية لأنها تجمع داخل كل حزام جماعات مختلفة من السودانيين من كل الجهات وكل المناطق دون أن تكون هناك مقاطعة مع الحزام السابق أو التالي، بل هناك تكامل اقتصادي بين الأحزمة، "الأحزمة بامتداداتها الأفقية والطولية والعابرة للحدود الإدارية والحواجز الاثنية واللغوية والثقافية مرشحة لان تسهم وبصورة عملية وأكثر نجاعة فى بناء الوحدة الوطنية". وإني لعلى قناعة بأن مجرد مؤشرات على تحسن الوضع الاقتصادي سيؤدي لتنشيط التنمية وتسارع عجلتها وتزايد ارتباطات السودانيين اقتصاديا ووطنيا أكثر من حميتهم القبلية والجهوية.
كذلك، من المؤكد أن الحكم المدني لم يتاح له الزمن الكافي لينضج، ونتج عن ذلك أن ضعف الممارسة أدي لضعف التجربة والخبرة للسياسيين من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن ضعف الممارسة الديمقراطية داخل الأحزاب وضعف نسبة المواطنين المنتمين للأحزاب وفقا لبرامج سياسية محددة يؤدي لقوة الولاء القبلي والجهوي.
إذن أتاحت الزمن الكافي للحكم المدني ممثل الآن في حكومة حمدوك ومناصرة مقترح الأحزمة فعليا يقود لبداية نضج الحكم المدني وإعطاء الزمن الكافي لنضج برامج الأحزاب السياسية استعدادا لما بعد الفترة الانتقالية وهو كذلك يتيح الفرصة لانحياز كل مواطن لبرنامج سياسي بدلا عن انحيازه الجهوي والقبلي. مما يقوى الوحدة الوطنية.
مرة ثانية أعتقد أن مشاركة البرفسور مهدي التوم مشاركة قيمة وتستدعي التفاكر حولها واجدها جيدة فيما عدا الهدف العاشر الذي رددته في هذا المقال.
أنشد أحد شعراء الثورة
دقوا النحاس من ضي..
صوب الشواع حي..
مافيش تخاذل تب..
مافينا زولا ني..
مترس وجودك جد..
عبي الهتاف يا جني..
لا ترجى آخر الصف..
قدامو إنت الضي..
----------
قدامو عزة هواك.
قالت يمين جيد لي..
حاشاهو فاشي الضيم..
عارفاهو ولدا لي..
أبدا بشيل همي..
وبمسح عذابي البي..
راجياهو من زمنا.
طول غيابو علي..".
wadrawda@hotmail.fr