بعيداً عن السلام … قريباً من خلط أوراق لعبة الانتقال

 


 

 

 

2 سبتمبر 2020 

(1)
ما ضرّ أطراف مفاوضات جوبا لو انصرفوا عن إهدار وقت ثمين في مظاهر احتفالية مصطنعة سئم السودانيون من كثرتها، وقد شهدوا على مدار العقدين الماضيين ما لا يُحصى من أمثالها احتفاءأ بسلام لم يتحقق أبداً، إلى التعامل مع الحدث بالجدية اللازمة في مخاطبة الرأي العام بمنطق وموضوعية لشرح ما اتفقوا عليه، وما استدعى كل هذا الوقت من التأخير، والطرفان يزعمان أنها كانت حواراً بين شركاء وليس تفاوضاً بين طرفين، وما هو وجه اختلاف بينها وما سبق من اتفاقات مماثلة لم يصمد أياً منها، وللمفارقة أن جلّ الأطراف الموقعة في جوبا كانت صاحبة سابقة، إذ لا يكفي إلقاء اللوم على النظام السابق والتهرب عن مسؤوليتهم في ذلك الفشل، وكان يتعين عليهم أن يشرحوا تأثير هذه التسوية المنقوصة في غياب أطراف أساسية أخرى، وما يعنيه ذلك على مستقبل الأوضاع في السودان، في ظل اضطراب عظيم وزعازع متكاثرة تأخذ بتلاليبه، إذن لكانوا أثبتوا دليلاً ساطعاً وهم يقدمون بين يدي الشعب السوداني ما يكشف عن نهج جديد مختلف أكثر جدية ممسؤولية في مقاربة الأزمة الوطنية الخانقة والحالة المأزقية التي تمسك بخناق البلاد.

(2)
قضيت سحابة يومي أمس في الإطلاع على الوثائق العديدة الموقعة في جوبا بين أطراف التفاوض، واسترعى انتباهي الكثير من الأمور بشأنها ابتداء باختلالات منهجية التفاوض، وأجندتها وما انتهت إليه، وقد تخلل ذلك الكثير من المفارقات إن لم نقل التناقضات في وثائق يبدو أنها أعدت على عجل، أو تولى أمرها غير محترفين، على الرغم من تطاول مدة عملية جوبا التي استغرقت قرابة العام، سنتعرض لجانب منها بما تسمح به مساحة هذه الزاوية، وهناك الكثير من التفاصيل في تعهدّات هذه الاتفاقيات لا يعلم الرأي العام عنها شيئاً ولم تتح له إلا الاستماع لشذرات هنا وهناك، إذ لم يبد الجانبان الحكومي وفي الحركات اهتماماً بإشراك المجتمع في نقاش هذه الأمور البالغة الحيوية في تحديد مصير ومستقبل البلاد، وكشأن النظام السابق لم سيتشر في أي يوم الشعب فيما أبرمه من اتفاقات مع هذه الجماعات، وها هو السلوك نفسه يستمر في ظل عهد يفترض أنه يمثل ثورة شعبية في حين تغيب الشفافية والوضوح، فما الذي سيجنيه المواطنون من إصرار نخبة محدودة على احتكار الحديث باسمه وفرض تسويات بينها في لعبة اقتسام السلطة والثروة، ثم تكتفي بنقل احتفال صاخب بالأغنيات والابتسامات بين فرقاء الأمس، وهو يحمل أسفاراً لا يعرف ما الذي يجري خلف ظهره.

(3)
من يقرأ وثائق مفاوضات جوبا، خاصة من كانت له خلفية متابعة دقيقة لاتفاقية السلام الشامل 2005 المعروفة اختصاراً ب "نيفاشا"، لن يجد صعوبة في اكتشاف محاولتها مجاراة نسق تجربة تلك المفاوضات الماراثونية، سواء من ناحية مضمون الأجندة المطروحة للتفاوض والشكل الذي يدار به التفاوض، والنتائج التي خلصت إليها، فقد أخذت بنهج نيفاشا في احتكار تفاوض لفئة محدودة دون سائر السودانييين أهل المصلحة، وفي مركزية ضمان الحصول على أكبر قدر من المكاسب في اقتسام السلطة والثروة، وسارت بدربها في مسألة الترتيبات الأمنية بكامل مظاهرها، وفي فرض اشتراطات جزائية على الطرف الحاكم دون مسوغات موضوعية، يقبل بها ل"حاجة في نفس يعقوب" لتمكين ذاته بأمل عقد تحالفات على حساب المصالح العامة.

(4)
وهنا يبرز أهم خلل منهجي في عملية جوبا، فمحاولة تمثل تلك الحالة النيفاشية توهمّاً لا يعدو أن يكون تعسّفاً خارج كل السياقات التي أنتجت تلك التجربة في ظل ظروف وملابسات مختلفة تماماً بكل حمولتها الثقيلة التاريخية والسياسية والاجتماعية والنفسية، وفي ظل معادلات سياسية متغيرة وتحولّات في توازنات القوة، وتدخلات أجندة خارجية، كما كانت في بؤرة الاهتمام الدولي الذي ساقها في إتجاه معيّن بغرض يفضي في نهاية الأمر إلى تقسيم السودان، على الرغم من أن الإطار العام لاتفاقية نيفاشا قام على تقديم خيار الوحدة الجاذبة وفق اشتراطات جديدة تضمنتها، كأساس لمستقبل الحفاظ على وحدة البلاد، ولكن صيغة تسوية نيفاشاً فشلت في ان تتحول إلى تسوية تاريخية تعيد تأسيس السودان وفق معطيات جامعة جديدة داعمة للوحدة الوطنية، لأن الأطراف المختلفة، المؤتمر الوطني والحركة الشعبية والمجتمع الدولي، تواطأت على الخيار المفضّل المعلن، ودفعت الأمور دفعاً باتجاه إفشالها لتعبيد الطريق أمام التقسيم كهدف مشترك بينها لخدمة أجندة الأطراف الثلاثة معاً كل في الوجهة التي يبتغيها.

(5)
وليس فشل، أو بالأحرى إفشال تسوية نيفاشا، كانت تجربة كافية وحدها لعدم إعادة إنتاجها على نحو آخر، مع اختلاف طفيف في بعض تفاصيلها، فلم تحقق نموذجاً يٌحتذى به، كما أن سياقها لا يتسق على الإطلاق مع طبيعة الأزمة الوطنية الراهنة وجذورها، فضلاً عن أن متطلبات تحقيق السلام فيما بقي من السودان القديم تستدعي التمسّك بالحكمة التقليدية أن المشكلة الحقيقة هي ذات طابع مركزي، التي تجلّت في صراعات متعددة في أطراف البلاد المختلفة، وبالتالي فإن جذر الحل يبدأ بمقاربة قومية لتسوية تاريخية في إطار وطني شامل، وعملية إصلاح كلي متناسقة ومتوازنة ومتماسكة، وعلى نقيضها تماماً محاولة تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ على النحو الذي انتهت إليها مفاوضات جوبا، فقد أنتجت نموذجاً يرّوج لها باسم السلام، ولكنه في الواقع يجعل إدارة البلد كمن يحاول رتق جبة درويش مرقعة في حال مزرية يرثى لها من كثرة قدودها.

(6)
ومن عجب أنه كانت لبعض الحركات المسلحة منطق متماسك في رفضها إبان عهد النظام السابق لنهج المفاوضات الجزئية وعقد الصفقات الثنائية، بحجة قوية صحيحة وهي أن جذور مشكلات السودان المتفرقة في هوامشه إنما هي نتاج اختلالات عميقة في مركز السلطة، وبالتالي فإن السبيل الوحيد لمعالجة حقيقية يكمن في معالجة الأصل وليس الفروع، وفي مقاربة مسبّبات المرض وليس أعراضه، وهو ما يعني أنه لا مجال ولا معنى للدخول في مفاوضات ثنائية جزئية مهما حاولت أن تمنح بعداً قومياً شكلياً فإنها في جوهر مقاربتها معنية أكثر بتحقيق أكبر المكاسب على أساس جهوي، ظاهره انصاف ضحايا التهميش، ولكن واقعه سيقود في خاتمة المطاف إلى تكريس أزمتهم، عندما يتم انتاج حلول مشوهة، تزيد من تعقيدات أزمة الحكم على المستوى الوطني بفعل هذه الصفقات الثنائية التي تجعله متنازعاً بين نماذج متناقضة، وانظمة متعارضة، وهو ما يجعل أمر إدارة البلد وخدمة أجندة السلام مستحيلاً.

(7)
لقد بدا مثيراً للإنزعاج أن يتم تبديل المواقف بهذه السرعة في اتجاه ما كانوا يتجنبوا الوقوع فيه بالأمس، تحت إغراء قلة حيلة من بات بيدهم الأمر وضعف خبرتهم وتواضع تجربتهم ومحدودية أفق أجندتهم في شأن السلام دعك من غياب الرؤية بما يتجاوز لعبة السلطة ، في مقابل مفاوضين متمرسين خبروا بحكم التجربة الطويلة دهاليز وفنون التفاوض، لذلك يحار المرء إن كان مفاوضو الحكومة من العسكريين والمدنيين على حد سواء مدركون لتبعات ما أبرموه من اتفاقات، وعواقب تنفيذها على النحو الذي تحمله هذه الوثائق التي تشبه "قنابل موقوتة" لن تلبث أن تنفجر، فهي ببساطة غير قابلة للتنفيذ في الكثير من بنودها، ليس لسوء الطوية، بل لأن منطق الأشياء السليم سيجعل ذلك مستحيلاً.

(8)
على أن اكثر ما وقعت فيه احتفالية جوبا بهذه التوقيعات من خطأ جسيم، ذلك الخطاب السياسي الذي رافقها بغير وعي، أو على الأقل ربما بقصد من البعض، التعاطي معها باعتبارها سدرة منتهى عملية السلام التي وصعت السطر الأخير في هذا السفر، صحيح أن بعض الاستدراكات حاولت معالجة ذلك بالتصريح بأنها خطوات مهمة في طريق السلام، بيد أن نداء القادة الذي دعوا الطرفين غير الموقعين على اللحاق بها سيجعلها تقيم جدراً لا يمكن اختراقه، ولا شئ اسوأ في عملية صناعة وبناء السلام من احتكر بضعة أطراف للمرجعية ودعوة أطراف أساسية لأن تكون رديفة في هذه العملية، وهو ما يمكن القول بدون تردد أنه سيكون أمراً مستحيلاً سيزيد الأمور ضغثاً على إبالة، والأمر هنا لا يتعلق فقط بالخطاب السياسي بل في صلب نصوص هذه الاتفاقيات التي خاطت الحلول المطروحة على قياسها، متناسية تماماً أن هذه عملية لا يمكن احتكارها، وإلا سيكون البديل الدخول في عملية تفاوض شبه مستحيلة لإعادة تفصيل أية تسوية على مقاسها.

(9)
على أي حال مهما يكن من أمر فإنه يصعب قراءة مردود مفاوضات جوبا في سياق عملية صناعة وبناء سلام شامل، في ظل الملابسات التي جرت بها، ولكن أيضاً لا يمكن التقليل من جانب تأثيرها السياسي في إعادة رسم وتشكيل المشهد السياسي في مركز السلطة في الخرطوم الذي شكله الاتفاق السياسي والوثيقة الدستورية التي تشير كل الدلائل إلى أنها وصلت إلى طريق مسدود، وان الساحة السياسية باتت مهيئة لإعادة تركيب المشهد للخروج من مأزق الصراعات الحالية والانقسامات سواء ين قوى الحرية والتغيير، أو بين مكونات ترويكا الانتقال المختلفة، ولعل الحدث الذي لا يقل أهمية الذي جرى في جوبا قبل بضعة أيام من توقيع الاتفاقيات، ذلك التطور الذي حدث بإعلان وفد قوى الحرية والتغيير، أو بالأحرى أحد جناحيها، التوقيع مع الجبهة الثورية على استعادة عضويتها في التحالف باتجاه بناء قاعدة جديدة لهذا التحالف ليس بعيداً عن عوة السيد الإمام الصادق المهدي بضرورة تبني عقد اجتماع جديد، وقاعدة سياسية جديدة للفترة الانتقالية، لا شك أن دخول عدد من القادة ذوي الوزن و القدرة على الفعل السياسي من هذه الحركات على الخط سيضيف زخماً كبيراً للعملية السياسية في الخرطوم، وسيسهم بالفعل في تغيير قواعد لعبتها.


tigani60@hotmail.com

 

آراء