لا مجال لإنعاش الاقتصاد بلا إصلاح سياسي جذري
صحيفة إيلاف 17 سبتمبر 2020
(1)
إن كانت ثمة مفاجأة واحدة في "السقوط الحر" للاقتصاد السوداني الذي تسارعت وتيرة تدهورمؤشراته الكلية على نحو غير مسبوق في الأشهر القليلة الماضية، فهي أن الكثيرين ليس فقط من سواد السودانيين، بل كذلك من يتولون إدارته في الحكومة الانتقالية، فوجئوا بما يحدث من تراجع مريع في الأداء الاقتصادي بات يضع البلاد على شفا الانهيار التام وكأنهم أخذوا على حين غرة، ولئن وجد العذر لغير أهل الاختصاص والمهتمين بالاقتصاد السياسي، فليس للمسؤولين أي عذر أن يبدوا كعامة الناس مأخوذين بالمفاجأة فحسب، بل يبالغون في تسويق أسباب مثيرة للشفقة لا تمت للاقتصاد كعلم بصلة يحاولون بها عبثاً تبرير القصور المريع في إدارة هذا الملف البالغ الأهمية ، كما أن التحجّج بوراثة وضع اقتصادي متداع من النظام السابق لا يصلح حجة، فقد كان هذا معلوماً بالضرورة عند الجميع بقدر معيّن، وكان أحد الأسباب المباشرة لإندلاع الحراك الثوري الذي أطاح بسلطته، ولا يحتاج الناس لمن يذكرهم به، كما لا يصلح تبريراً لإعفاء النفس من تحمّل مسؤولية، ليس استمرار ذلك الوضع فحسب، بل بصب المزيد من الزيت على نيرانه المشتعلة.
(2)
لقد كفلت الوثيقة الدستورية، والاتفاق السياسي الذي بُني عليها، لقادة الحكم الانتقالي، بمكونيه العسكري والمدني، كل المشروعية اللازمة والسلطة الكاملة لإدارة شؤون البلاد في مجالات الحكم كافة، وعرّفت هياكل الحكم بدقة، وبصلاحيات محدّدة، واتخاذ كل الإجراءات القانونية لتفكيك كل مراكز تمكين النظام السابق ، فإذا عجزت ترويكا الانتقال، القوى النظامية والحكومة المدنية وقوى الحرية والتغيير، عن القيام بواجبها كما ينبغي لها، بعد كل هذه التفويض الدستوري والصلاحيات فليس لها أن تلوم إلا نفسها على العجز في أخذ أمانة إدارة الفتلاة الانتفالية بغير حقها، كما أن غرقها في لجة التشاكس والصراعات فيما بينها وانصرافها عن القيام بما تمليه عليها المسؤولية لا يعني إلا أن أسباب فشلها ذاتي بامتياز، ومن المشين أن تهرب بعد أكثر من عام من ولاية السلطة إلى البحث عن مشجب النظام القديم لتعليق هذا العجز عليه، بدلاً من مواجهة الذات بأسباب قصورها المريع، أو أن تعترف بأنها فشلت في مهمتها لتفسح المجال لغيرها.
(3)
نسوق هذه التذكرة بالوقائع كما تحدث فعلاً على أرض الواقع، وليس بالتمنيات والتصورات غير الموضوعية، بين يدي البحث عن الاسباب الحقيقية وراء تفاقم أزمة الاقتصاد السوداني الذي تشهد هذه الأيام تداعيات بالغة الخطورة انتبه الناس لها من الوقع المفزع لانهيار سعر صرف الجنيه السوداني في سوق العملات الأجنبية على نحو متسارع في خلال ساعات، وليس أياماً، يستسهل كثير من الناس، وللمفارقة حتى مسؤولين كبار، تفسير هذه التطورات المثيرة للقلق بسبب انهيار القيمة الشرائية للعملة الوطنية بإلقاء اللوم على مضاربات المتعاملين في سوق النقد الأجنبي، أو مؤامرات من منسوبي النظام القديم لإفشال الحكومة الانتقالية، وحتى إذا سلمنا جدلاً بحدوث هذه الممارسات، فهي في واقع الأمر لم تكن سبباً في خلق هذه المشكلة من عدم، ولكنها تبقى مجرد نتيجة منطقية في إطار ما هو معلوم من تأثير حاسم لانفلات معدلات التضخم بفعل السياسات والممارسات الحكومية على مؤشرات الاقتصاد الكلي كافة بما في ذلك سعر الصرف.
(4)
لا شئ يحدث صدفة، أو اعتباطاً، لا في الاقتصاد كعلم أو غيره من العلوم، ومع تعدد مدارس الاقتصاد السياسي التي تتحكم في تحديد مسار التوجه الاقتصادي والاجتماعي للدولة وخيارات السياسات المالية والنقدية والتجارية، إلا أن إداء الاقتصاد في كل الأحوال يُقاس في نهاية الأمر بمعايير مؤشرات الاقتصاد الكلي المعلومة، معدلات التضخم، سعر الصرف، عجز الموازنة والميزان الحساب الجاري "الخارجي"، ومعدل نمو الناتج القومي الإجمالي.وما يستتبع ذلك من عوامل، داخلية وخارجية، تؤثر على العرض والطلب الكليين، وانعكاس كل هذه التفاعلات على الاستقرار الاقتصادي، ولا شك أن الاقتصاد لا يعمل في فراغ بل يظل محكوماً بمدى سلامة الإطار السياسي وخياراته المحفزّة أو المهددة للنهوض الاقتصادي
(5)
ولذلك فإن أي محاولة لتقييم أداء أي اقتصاد لا يمكن أن تتم إلا عبر هذه توظيف هذه الأدوات العلمية المجربة في تشخيص حالة الاقتصاد، وهنا يبرز السؤال المهم لماذا يشهد الاقتصاد السوداني هذا التدهور المريع بهذه الوتيرة المتسارعة غير المسبوقة خلال الأشهر المنصرمة من العام الجاري، هل يكفي اتهام ميراث النظام السابق كسبب وحيد في ذلك، وهو بلا شك يشكل جزءأ معتبراً من ناحية أن الاختلالات الهيكلية في الاقتصاد السوداني لم تبدأ خلال هذا العام، ولا حتى في سنوات حكم الحكم السابق الذي كان للطرافة يشكو في بداية عهده أيضاً من وراثة حمل ثقيل من الفشل الاقتصادي، وإن كان تحمل قسطاً وافراً فيه بحكم طول فترة عهده وما توفرت له من فرص، بل تعود نشأة اختلالات الاقتصاد السوداني إلى عقود مضت وظلت تتراكم، لا تكفي هذه المساحة لتتبعها، لكن نشير هنا إلى أن العام 1978 شهد أول بوادر دخول الاقتصاد السوداني في حالة أزمة من واقع انعكاسها على تدهور سعر صرف العملة الوطنية في طريق رحلة لا عودة أصبحت مستدامة والجنيه السودان يفقد قيمته باستمرار وينتقل من سئ إلى أسوأ، كما دشّن ذلك العام دخول سياسات صندوق النقد الدولي كلاعب أساسي في التعاطي مع قضايا الاقتصادي السوداني المأزوم، واستمر في لعب هذا الدور حتى يوم الناس هذه على تعاقب أنظمة الحكم المختلفة.
(6)
إذاً ما هي حدود مسؤولية الحكومة الانتقالية ونصيبها في هذا الخضم، صحيح أنها لم تتول السلطة إلا قبل عام واحد، وبالتالي ليس من المنطق في شئ تحميلها كل أوزار اختلالات الاقتصاد السوداني الهيكلية المتراكمة منذ نحو خمسة عقود، ولكن ما يمكن أن تؤخذ به هو قسطها في إضفاء المزيد من التعقيدات على هذه الاختلالات بدلاً من الإسهام في التخفيف من غلوائها على الأقل، لا سيما وقد توفرت لديها عوامل إيجابية لم تحظى بمثلها الحكومات المتعاقبة السابقة، فقد جاءت في أعقاب ثورة شعبية مجيدة، واستندت على دعم شعبي واسع قل نظيره في تاريخ السودان السياسي الحديث، وهو ما كان من شانه إذا توفرت لها الرؤية السديدة المبصرة نحو المستقبل، والقيادة الحكيمة الملهمة، والإرادة القوية الحاسمة، والقدرة على تحريك قوى المجتمع الحيّة وجمعها حول مشروع وطني محل توافق، لكانت اهتبلت هذه السانحة المواتية لتنفيذ أنجح مشروع إصلاح جذري للاقتصاد السوداني، من خلال إلهام المجتمع السوداني بكامله الحس بمهمة جليلة، والشوق لدور وعمل كبير يفجّر طاقات السودان الكامنة.
(7)
ولكن للأسف الشديد لم يتحقق شئ من هذه الأفاق المفتوحة على اتساعها أمام فضاءات أرحب للانطلاق نحو المستقبل، لا سيما وأن السودان تتوفر له موارد طبيعية متجددة وإمكانات لا يحدها إلا ضيق الأفق، وفقر الخيال، وغياب الإرادة السياسية وتواضع القدرات القيادية، كانت ثورة الجيل الجديد في ديمسبر فيما تحمل من معاني التغيير العميقة أبعد من مجرد إنهاء حقبة نظام حكم شمولي آخرإلى إحداث قطيعة مع النظام السياسي السوداني القديم بكل حمولاته المتراكمة، وصراعاته التاريخية الموروثة، وشق طريق جديد نحو المستقبل بتطلعات وطموحات مفتوحة على عصر جديد، ولكن سهم الثورة ومطلب التغيير ضل طريقه إللانطلاق إلى الأمام، ليعود مشدوداً إلى الماضي بفعل استئثار الطبقة السياسية القديمة ذاتها، مع اختلاف تمثلاتها، بقيادة هذه الحقبة الانتقالية دون أن تكون على وعي ولا على مقدرة ولا على إرادة للوفاء باستحقاقات هذه الفترة المفصلية بحق في تاريخ السودان، التي يواجه فيها سؤال البقاء متماسكاً كما لم يحدث في أي مرحلة سابقة في تاريخه الحديث.
(8)
ولكن الطبقة السياسية القديمة، بكونيها العسكري والمدني معاً، للمفارقة تعاملت مع استحقاقات فرصة التغيير الذهبية هذه بعقلية بوربونية بامتياز، لم تنس شيئاً ولم تتعلم شيئاً، ولو كانت هذه هي المرة الأولى التي يجابه فيها دهاقنة هذه الطبقة تحديات وضع انتقالي بعد تغيير نظام بفعل حراك شعبي ثوري لالتمس الناس لها بعض العذر، وكان الظن أنه بعد تجربة فترتين انتقاليتين مماثلتين بعد ثورتي أكتوبر 64، وأبريل 85، عايشتهما هذه الطبقة ذاتها ستكون وافية للتعلم وأخذ العبرة وعدم تكرار أخطاء الماضي، إذ لم يكن صدفة أن يعيد التاريخ نفسه في المرتين السابقتين بالوتيرة ذاتها، ولتعاد إنتاج الإنظمة الشمولية من داخل هذه الطبقة ذاتها، ولكن أن تبدو نذر إعادة إنتاجها مرة أخرى واردة حتى قبل مغادرة الفترة الانتقالية، فهذا أعظم تجلٍ لفشل التاريخي لهذه النخبة، ما لا يمكن أن يوجد له أي تبرير من أي نوع، وما لا يمكن إلقاء اللوم فيه سوى على العجز الذاتي المستدام.
(9)
في أول خطاب له للرأي العام قال رئيس الوزراء د. عبد الله حمدوك أن إمكانية معالجة المشكلة الاقتصادية متوفرة على الرغم من كل مظاهر الأزمة، مستدلاً بأن الاقتصاد السوداني على علّاته هو سادس أكبر اقتصاد في القارة الأفريقية، بعد نيجيريا، جنوب أفريقيا، مصر، الجزائر والمغرب، واعتبر أن توفر شرطين هما الرؤية الصحيحة، والسياسات الصحيحة من شأنهما أن يجعلا عملية الإصلاح الاقتصادية ممكنة.
ولكن ما حدث فعلياً خلال العام المنصرم أن الأوضاع الاقتصادية إزدادت سوءاً، ولكن ذلك لم يحدث نتيجة لأسباب اقتصادية محضة فقط، وإن كانت حاضرة بالضرورة في سياق الاشتراطات الموضوعية لذلك، غير أن الاقتصاد لا يعمل في فراغ، إذ أن الرؤية الصحيحة، والسياسات الصحيحة، المتوافق عليها سياسياً، هما شرطا نجاح أية عملية إصلاح اقتصادي ويرتكزان بالأساس على توفر اعتبارات سياسية مواتية بامتياز، وفي ظل حالة الفشل السياسي التي تحيط بإدارة الفترة الانتقالية التي تتحمل مسؤولياتها بالكامل مكوناتها العسكرية والمدنية كافة، تجعل من توقع حدوث أي إصلاح اقتصادي في ظل هذا التشرذم والعجز ضرباً من الخيال.
khalidtigani@gmail.com