التطبيع واستقلالية القرار السوداني

 


 

د. النور حمد
24 September, 2020

 

 

(1)

صحيفة التيار 19 سبتمبر 2020
أحاول في هذه المقالة أن أناقش قضية التطبيع مع دولة إسرائيل من زاوية مغايرة. محور هذه الزاوية هو كسر الحاجز العقلي والنفسي، الذي ظل يحول بين السودان وبين التعاطي الواقعي مع دولة إسرائيل، شأنه شأن سائر دول الجوار. بل وشأن كل الدول المنضوية تحت مظلة الأمم المتحدة التي لها علاقات طبيعية مع إسرائيل. ولا ننسى أن نذكر هنا أن جمهورية مصر العربية، زعيمة كل العرب منذ خمسينات القرن الماضي وحتى سبعيناته، قد طبعت علاقتها بإسرائيل منذ أربعة عقود، تقريبًا. طبعت مصر رغم أنها أول من رفع راية معاداة إسرائيل، وأول من خلق حالة اصطفاف عربية شاملة ضدها. غير أن مصر كانت أول من خرج على هذ الاصطفاف. فقاطعها العرب سنينًا ثم ما لبثوا أن قبلوا خيارها ولم يعودوا يدمغونها بخطيئة التطبيع المزعومة.
كانت لمصر وللأردن أسبابهما في الخروج من ذلك الاصطفاف. فقد غلَّبتا خيار مصلحتيهما، على خيار العمل لهدف جماعي، عابر للدولة القطرية، يفتقر إلى التحديد الدقيق والآليات الواضحة. والآن تنضم إلى ركب الخروج من الاصطفاف العربي الهلامي، الذي لم يكسب معركة واحدة مع إسرائيل، دولتا الإمارات والبحرين. وبهذا، خرجت إلى العلن أربعة دول عربية، من مظلة مقاطعة إسرائيل. ونعلم جميعًا أن مجموعة أخرى من الدول العربية ظلت تتعامل مع إسرائيل من تحت الطاولة، منذ تسعينات القرن الماضي. بل زار كبار قادة هذه الدول إسرائيل، كما زارها قادة إسرائيليون. كل من يقرأ مسار التراجع في مسيرة العداء المطلق لإسرائيل يتضح له ازدياد حالة تفكك حالة القطيعة وسيرها، باضطراد، نحو التلاشي والزوال.
يتمسك تيار الإسلام السياسي في السودان بالإبقاء على مقاطعة إسرائيل، في حين أن زعيمتيه تركيا وقطر تتعاملان مع إسرائيل. كما يتمسك بالمقاطعة السيد الصادق المهدي، الذي هرولت زعامة حزبه إلى إسرائيل منذ خمسينات القرن الماضي. أما القبيل الثالث فهم الشيوعيون وغيرهم من فصائل اليسار، الذين يتناسون أن الاتحاد السوفيتي كان من أول الدول التي اعترفت بدولة إسرائيل. ولم يجرؤ الحزب الشيوعي ولا غيره من الأحزاب اليسارية على مطالبة الدولة الشيوعية السوفيتية سحب اعترافها بإسرائيل، حتى بعد الهزيمة العربية في عام 1967، التي احتلت على أثرها إسرائيل كلا من هضبة الجولان السورية، وسيناء المصرية، والقدس الغربية. الشاهد في كل ما تقدم أن مقاطعة إسرائيل بقيت على الدوام حالةً مهتزة ومتناقصة. بل لقد أصبحت بلا معنى، منذ أن تفاوض الفلسطينيون مع إسرائيل وقبلوا باتفاق أوسلو الذي انقسموا بسببه إلى فصيلين رئيسين؛ اختار أحدهما أن يرسل صواريخ بدائية إلى إسرائيل، أما الآخر فلا يتأخر في الذهاب لتقديم واجب العزاء في وفيات أقارب القادة الإسرائيليين.
لا تنحصر أهمية التطبيع مع إسرائيل فيما يخصنا نحن السودانيين، فيما أرى، في رفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ولا في التعاون التجاري والزراعي والتقني مع إسرائيل، رغم ما في كل ذلك من منافع مؤكدة. يمثل التطبيع في نظري نقلة تاريخية تتمثل في الجرأة على الخروج على الهيمنة العربية التاريخية على القرار السياسي السوداني. بعبارة أخرى، يعني التطبيع بالنسبة لي، بداية نهاية الاحتلال العربي للعقل السوداني، والقضاء على التشوه النفسي التاريخي الذي جعل السودانيين يضحون بمصالحهم مرارًا وتكرارًا لنصرة حقٍّ لا يقف معه أهله أنفسهم. وتمثل خطوة التطبيع، بالنسبة لي ضربة بداية فارقة في مسيرتنا نحو، استعادة الهوية السودانية المضيعة.

(2)
ما من شك أن لإسرائيل تجاوزاتها اللاانسانية، غير أن لبعض الدول العربية تجاوزاتها التي لا تقل منها فظاعة. ولو أننا نعادي الدول بسبب تجاوزاتها ومواقفها من حقوق الإنسان، لوجب علينا قطع علاقاتنا مع دول كثيرة عربية، وغير عربية، بسبب التجاوزات. من بين تلك الدول مصر، التي احتلت حلايب وعملت على تمصيرها. وهو عمل لم يستنكره أي قطرٍ عربي. الحقيقة الثابتة أن كل دول العالم معترفة بإسرائيل باستثناء أكثرية الدول العربية. وهناك دولٌ لا تقع تحت هيمنة المنظومة الغربية، كالهند والصين معترفةٌ بإسرائيل، ولها معها علاقات تتفاوت في الكيفية وفي المقدار. بل للهند، على سبيل المثال، تعاونٌ مع إسرائيل فيما يتعلق بتكنولوجيا السلاح، وغير ذلك من صور التعاون. فعدم الاعتراف بإسرائيل ليس موقفا كوكبيًا ينبغي أن نتَّبعه، ولا هو شأنٌ ينبغي أن يحمل السودان عبئه بأكثر مما تحمله دولٌ جارةٌ مثال: إثيوبيا وتشاد ومصر. الإصرار على عدم الاعتراف بإسرائيل ومقاطعتها بدعوى الحقوق يضعنا في سلة نفاق النخب العربية والمستعربة. وهي سلةٌ لا يعرف العالم سجلاً في حقوق الإنسان، أسوأ من سجلها. فقتل اليمنيين بالقصف الجوي على مدى سنوات، وتجويعهم وتعريضهم للإصابة بالكوليرا لا يقل فظاعةً عما جرى للفلسطينيين، وما جرى للدارفوريين في السودان، من قتلٍ وتشريد بأسلوب الأرض المحروقة. فكل الفظائع الجارية حاليًا في المنطقة العربية؛ كما في سوريا وليبيا واليمن والعراق أبطالها العرب، وليس إسرائيل.
تتهاوى المقاطعة لإسرائيل حاليا باطراد، وربما يأتي يومٌ نجد فيه أنفسنا الوحيدين المتمسكين بها، الدافعين لفاتورتها على صُعُدٍ مختلفة. يقول البعض أن ثورتنا ثورة حقوق وينبغي أن تقف ضد الظلم أينما كان، غير أن هذا تصور يتسم بالكثير من المثالية. فثورتنا لم تأت لتغير العالم وإنما لتغير بلادنا. كما أن إسرائيل دولةٌ معترفٌ بها من قبل النظام الدولي، ولا معنى لأن نكون غير معترفين بها، اللهم إلا إذا كنا نريد أن نغير النظام الدولي نفسه. إن الإصرار على عدم الاعتراف بإسرائيل لا يختلف، من حيث تطرفه، وتأثيراته السالبة، من التمسك بالشعار العروبي المنقرض، القاضي بإلقائها في البحر. الاعتراف بإسرائيل أو المضي لدرجة تبادل البعثات الدبلوماسية معها لا يجلب بالضرورة إلى بلادنا المن والسلوى. ولكنه يجلب الانفلات من التبعية ويتيح مجالاً لرسم سياستنا الخارجية على نحو جديد، ويفتح الباب لإعادة تشكيل السردية التاريخية والمعرفية التي ينبغي أن تتأسس عليها سياساتنا لإدارة السودان الديموقراطي المتسم بالتنوع الواسع.
يتناسى قطاعٌ من نخبنا السياسية في المركز أن ما يقارب نصف السودانيين لا يرون في القضية الفلسطينية شأنًا يخص السودان، بأكثر مما يخص المجتمع الدولي. ويجب ألا ننسى أن السودانيين المقهورين في أطراف القطر لم يستطيعوا أن يدفعوا عن أنفسهم غوائل النخب المركزية المستعربة التي أذاقتهم الويل. هذا في حين تُنصِّب هذه النخب نفسها مدافعةً عن حقوق الفلسطينيين. ختامًا، من الخطأ أن إعترافنا بدولة إسرائيل، حين يحدث، سيكون بالضرورة مماثلا لما قامت به دولتا الإمارات والبحرين، أو ما قامت به قبلها دولتا مصر والأردن. فمنطلقنا كسودانيين مختلف، وتسبيبنا مختلف، وأهدافنا مختلفة. كل ما في الأمر أن من الحصافة أن نغتنم اللحظة السيكلوجية الراهنة، لنفك هذا القيد. وهو قيد قيدتنا به حساباتٌ خاطئةٌ أجراها سياسيونا في الماضي، تسبب فيها الاحتلال القومي العربي، والإسلاموي الأممي، لعقولهم. المهم هو الاعتراف والخروج من دائرة العداء. أما أي شروطٍ أخرى نضعها للتطببع و أي اختيارٍ نختاره لمدى مسافة الابتعاد، أو الاقتراب من اسرائيل، فينبغي أن يجري داخل إطار الاعتراف، ويجري تأسييه على دراسات جدوى واضحة.
/////////////////////

عبد الخالق محجوب: من البركل إلي حي العرب غضبة أخرى (٢-٢) .. بقلم: د. عبد الله علي إبراهيم
فصل من رواية عن سيرته في ذكرى ميلاده الثالث والتسعين
(نشرت أمس جزء من الفصل الأول من روايتي "الرجل الوسيم" فيها سيرة أستاذنا عبد الخالق محجوب. وجاءت في الفصل واقعة من طفولته احتج فيها على حبوبته آمنة بت علي فور في حي العرب وغادر دارها مغاضباً إلي بيت أسرته في السيد المكي. وفي هذا الجزء نعرض لغضبة من حبوبته ذاتها كانت السبب في انتقالهم من بلدة البركل من دار الشايقية إلى حي العرب بأم درمان في نحو ١٩٢٠. ولأن هـذه السيرة رواية تجدني أطلقت عنان خيالي من فوق مادة عن حياة أستاذنا توافرت لي من بحث عنها لعقود ثلاثة. وكنت نشرت من قبل فصلاً عن زواجه على هذا الغرار)
تركنا الحبوبة آمنة بت علي فور معانقة ابنها محجوب. وكان محجوب جاء من السيد المكي إلى حي العرب ليطمئن أمه بأن عبد الخالق، الذي كان هرب من بيتها مغاضباً، قد وصلهم سالماً.
كانت آمنة بت علي فور كلما احتضنت ابنها محجوب وجدت يدها تمتد إلى عينه اليسرى. كان ذلك منها لا إرادياً. وبدا لها بمثابة طلب خفي حثيث للعفو منه. فلم ينفطر قلبها عليه إلا يوم جاءها طفلاً والدم قد نبع من عينه اليسرى على سائر وجهه. والأطفال من حوله يقولون لها: "يمه آمنة. فلعتو التور فسا." وعرفت أنه كان في روتين أطفال القرية يلاحقون مجنونة القرية يستفزونها صائحين: "التور فسا" فتقذفهم بالحجارة. وأصابت فلذة كبدها. فكتمت وجعها وأسرعت إلى الخس وعادت بحبات فلفل أسود مضغتها ووضعتها على عينه. وأرقدته على حجرها تراقب نزول الألم عنه، وتجفف الدم من نبع عينه، وهدأته. وعرفت أن نظر الولد الأمانة اليتيم لن تسلم. وليس بوسعها عمل المزيد. وطاف بها في ضعفها وقلة حيلتها طائف والده الذي رحل عنه وهو ابن سنتين بعد. فأجهشت بالبكاء بعد أن اطمأنت لنومه في حجرها. ونظرت من خلال الدموع إلى المستقبل كأن فيه العزاء. ودعت:"يتيم يا ربي تغطيهو وتسلمو من كل شر".
وظلت يد آمنة من يومها تمتد دائما إلى عينه اليسرى بحركة غير إرادية تستعيد وحشتها مع ملمس الدمع الذي انبثق منها في طفولته. دموع محجوب. ولم تكن تلك مرتها الأول التي تستنطق بأصابعها بصمة الدم القديمة على عينه. وكان هذا منها بمثابة ميثاق مع محجوب صار فيها طبيعة ثانية. فقد أرخت تلك الدموع لـتأريخ هجرتها من البركل إلى أم درمان. لقد استنشقت بتلك الدموع، وهي في البركل ما زالت، عبير النجاة من مهانة القرى. فكان محجوب حصل على وظيفة بالري المصري بعد تخرجه من مدرسة عبري الابتدائية. وأعانه على ذلك ابن عمته عبد الحميد علي خيري المحسي سائق القاطرة بالسكة الحديد الذي سكن معه بدلقو طوال سنوات الدراسة. وجاء البركل لتحتفل به الأسرة. زغردت آمنة ووزعت الشاي واللقيمات على الحضور. ولكنه عاد يوماً من الشغل ليجدها ترجف غضباً وتستعبر. قال لها:
-يمه مالك؟
-ما عندي قعدة في البيت دا تاني يا محجوب يا ولدي.
وما انصرف الناس حتى اختلت آمنة بمحجوب. فنظر إليها ووجد الوجه الذي بح بالزغاريد قد اكتسى حزناً عميقاً كاد يحفر نفسه على صفحته. فأسرع محجوب قائلاً:
-يمه مالك؟ ما كنا أسع في زغاريد.
-يا ولدي وكت الحمد لله استوظفته دايراك تمرقني من البركل الليلة قبل باكر.
-يمه حصل شنو؟
-ما عندي مقام فيها. ختيتلها الختة. لو بقت جنة دا طرفي منها.
-يمه مالك؟ دا كلام شنو يا يمه؟ الغلط عليك منو؟
-منو بلا جدك علي فور.
-عمل شنو؟ قال شنو؟ سوا شنو؟
-بقيت أنا يا محجوب أغسل لي تمانية (تمانية وهي غطاء ثقيل من الدمور في حجم اللحاف) بت أم رشوم مرتو؟
-وام رشوم مالها ما بتغسل تمانيته؟
-معززها. مالها شديدة ومانعة وتغسل مية تمانية.
-صدقتي.
-لكين معجنها فوق الخادم الجايبنها من الجبال دي.
وانفعلت. ونهنهت. ثم بكت.
-يمه لا تبكي. القاسي يهون.
-ووكت قت لا ما بغسل تمانية أم رشوم. مالها ما بتغسلها هي المانعة الشديدة اللضيضة. رفع عكازو وضربني فوق راسي كع كع نامن عيوني شافن طشاش طشاش.
-يمه يمه
-سماحة قال لي كمان دايري تسحريها. وخلاني دمي يجدول من راسي وما هماهو. عاد يا ولدي فرد جريه للخس. ربطت شقي الفي الراس بطرحتي ودقت لي أمي بن سويتو في الجرح.
-لا حولا يا يمه. دا جدي. دا انحنا أمانة عندو؟
-وحلفته من يومي داك ونضرته تاني كباية موية ما اشربه في بيتو. وخادم أم رشوم دي القدامك دي بقت من يوما داك في شغل الطواقي وأبيعهن في كريمة ومروي مستورة أحمد يا ربي.
ثم التفتت إليه:
-أنا أمك يا محجوب. جدك يسويني عول لام رشوم. أها أنا من اليوم داك حلفت مقسمة بالله البركل دي سايباها ليهو ولأم رشوم. هو رحمه الله مات لكن يا ولدي نفسي كجنت البركل دي ضمه.
وأجهشت بالبكاء. ولم تشعر إلا ويدي محجوب يطوقانه من الجهتين:
-من باكر أكلم عبد الحميد ينقلني الخرطوم. ولما تلمست عينه اليسرى لا إردياً كانت تقطر دمعاً. لا. بل دماً.
ويذكر محجوب تلك النقلة من القرية للمدينة كأنها حدثت أمس. جاءت معه أمه وجدته بشرية بت الشيخ والأم آمنة سليم، وخالته ستونة وزوجها الفقير حسين ويونس والزلال وآدم. وصحبتهم حتي زوجة جده بت ام رشوم صاحبة القضية التي تركوا لها البلد. وهي أم درمانية من ناس السماسرة بحب المسالمة. ونزلت الأسرة حي العرب في أم درمان الذي سكنه عرب الحسانية تجار الجمال، ومنهم عمال معاصر الزيوت، وجماعة كبيرة من الحلب مثل ود الجحمانة وزوجته كلوت، وزينب بت على جابر وابنها أنبوبة وود قِليم. وارتحل منه ٌلى حي السيد المكي بعد زواجه في ١٩٢٤ بينما بقت آمنة بت فور مع بقية أهلها بحي العرب.

IbrahimA@missouri.edu

 

آراء