بوار إدمان النخبة السودانية الرهان على الخارج

 


 

 

 

صحيفة إيلاف

24 سبتمبر 2020

(1)
تبقت بضعة أشهر على الذكرى المائتين لسقوط سلطنة سنار باحتلال حملة محمد علي باشا لعاصمتها في 21 يونيو 1821، تعددت أسباب الغزو التركي، إلا أن حصيلة ستة عقود لحكمه كانت تشكيل القواعد المؤسسة للدولة السودانية الحديثة، وإن كانت ثمة معطى أساسي لتلك الحقبة فهي أن السودان بتركيبته الحالية صنعته في واقع الأمر إرادة أجنبية بامتياز، وظلت تهيمن على مسارات مفصلية في تحديد مصيره حتى اليوم باستثناء فترة الثورة المهدية ودولتها التي أنهت احتلالاً أجنبياً، قبل أن عليها موجة احتلال أجنبي ثانية تحت التاج البريطاني أسهمت بالمزيد من التأثير في ترسيخ البعد الخارجي في صناعة مصير البلاد، ومن هناك بذرت جذور الاختلالات الهيكلية في بنية الدولة السودانية ونظامها السياسي المعتل التي لا تزال حاضرة بقوة حتى اليوم.

(2)
واللافت في هذه الخصوص أن النخبة السودانية، المدنية والعسكرية، منذ تأسيس الحركة السياسية نهاية العقد الثاني من القرن العشرين، ولحقتها بسنوات قليلة بعد ذلك تأسيس النخبة العسكرية بإنشاء قوات دفاع السودان، ظلت على تعاقب الحقب مشدودة بعقيدة صماء شديدة الإيمان بمحورية الدور الخارجي في الشأن السوداني، ويرافق ذلك عجز مستدام عن القدرة على التصدي الذاتي لتحديات الأجندة الوطنية واستحقاقات بناء الدولة السودانية بهوية معبرة عن أمة سودانية متماسكة، ومشروع وطني مستقل جامع، ويفاقم من قلة المروءة الوطنية إدمان النخبة على الهروب من مواجهة القصور الذاتي إلى استجداء الحلول الأجنبية والدوران في فلكها، ومهما بدت مبرراتها ملّحة في ظاهرها فقد ثبت أنها لا تخدم في خاتمة المطاف إلا أجندة الخارج على حساب المصالح الوطنية.

(3)
ولا يحتاج الأمر إلى كثير اجتهاد لإثبات تعلق النخب المدنية والعسكرية على السواء بالحلول الخارجية، ووقائع التاريخ تقف شاخصة، فالحركة السياسية نشأت على انقسام في صراع مستميت حول تفضيل حلول للقضية السودانية لا تنفك عن ارتباطها بالخارج كما كان عليه الحال في عهد الحكم الثنائي، وعلى ذلك تأسست العلاقات السياسية، والنظام السياسي نفسه لدولة ما بعد الاستقلال، وليسهم تقاطع المصالح الأجنبية في إذكاء نيران الصراع بالأدوات المحلية، وأصبحت قضية الاستقلال نفسها دائرة في هذا الفلك لا تكاد تغادره.
ولم يقتصر الأمر على الأحزاب التقليدية، بل امتد ليشمل حتى الأحزاب التي نشأت تحت لافتة التحرر والتحديث، فالأحزاب الأيدولوجية جميعها لم تولد في تربة سودانية أصيلة، بل زادت الطين بلة وهي تتكئ على أيدولوجيات مستوردة أيضاً، صحيح أن بعض هذه القوى "الحديثة" اجتهد لتوطين دعواته، ولكن غلبة الأسر الأيدولوجي المستورد جعلها وفية لأجندة ومصالح تنظيمات خارج الحدود، صحيح أن هناك محاولات محدودة لبناء قوى سياسية ذات منشأ وطني، لكنها ظلت خارج التأثير الذي سيطر عليه التيار العام للحركة السياسية المشدودة للخارج.

(4)
ولعل ضعف النوازع الوطنية عند غالب الحركة السياسية ذات الارتباطات بالأجندة الأجنبية جعلها تتورط جميعاً من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار في اللجوء للخارج والاستعانة بأنظمة وأجهزة مخابرات أجنبية لممارسة المعارضة السياسية، تحت مزاعم أن ذلك سبيل مشروع لمناهضة الأنظمة العسكرية الشمولية، التي تورطت نفسها في مراحل مختلفة في التأمر معها لحسم صراعاتها في فترات الحكم المدني على قصرها. ولم يكن ذلك أبداً حتمياً فقد كان بوسعها أن تناضل وتدفع التضحيات مهما كانت غالية الثمن لهزيمة الديكتاتورية طالما آمنت حقاً بقضيتها، وهناك الكثير من نماذج الصمود لمعارضات في كثير من البلدان صبرت على هويتها الوطنية حتى انتصرت، ولكنها لم تخضع أبداً لإملاءات الخارج ولم ترتم في أحضانه، والأنكى أن غالب القوى السياسية السودانية لم تكن ترى في ذلك على الإطلاق حرجاً ولا مذمة وطنية، ومن السذاجة بمكان أن يتخيل أحد أن تمويل العمل المعارض من دول أجنبية بالمال والسلاح يتم تقديمه لأجل تحقيق الديمقراطية في السودان، وللمفارقة من أنظمة هي نفسها غارقة في الشمولية، وبالطبع لا شئ مجاني فالفواتير واجبة الدفع والسداد في كل الأحوال، ومن يقع عليه دفع الثمن الحقيقي في نهاية الأمر هو المواطن السوداني المختطفة مصالح بلاده لصالح أجندة حزبية ضيقة.

(5)
واستمرار وطأة التاثير الخارجي في تشكيل كيان الدولة السودانية الحديثة على مدار القرنين الماضيين الذي وتجلي في إدمان النخبة السودانية على البحث عن حلول خارجية للأزمة الوطنية، لم يقتصر على النخبة المدنية، بل تشاركها أيضاً النخبة العسكرية، وهي أيضاً وليدة هندسة الاستعمار البريطاني، فهي كحال النخبة المدنية ليست براءاً من داء العجز عن مواجهة استحقاقات تحديات بناء الأمة السودانية والمشروع الوطني الجامع بالهروب إلى الأمام متدثرة بأوهام أن هناك "فرصاً" تستدعي بها التدخلات الأجنبية لتقديم حلول سحرية لن تكون ممكنة ولا مجانية على الإطلاق.

(6)
ولا شك أن المؤسسة العسكرية تتحمل المسؤولية الأكبر بحكم هيمنتها الكاملة على السلطة لأكثر من نصف قرن، هي غالب سني الاستقلال، ولم تكن هذه النخبة العسكرية تجد حرجاً في عقد صفقات سياسية بروافع أجنبية من أجل ضمان الاستمرار في احتكار السلطة، كانت في الغالب خصماً على اعتبارات للسيادة الوطنية، وعلى المصالح السودانية في المحصلة، كما أنها تتحمل جزءاً من المسؤولية في تجريف العمل المعارض ودفع القوى السياسية لالتماس دعم العمل المعارض من الخارج، وإن كان ذلك ليس مبرراً كافياً لأن تستسلم بسهولة لغواية الاستنصار بقوى أجنبية التي لن تكون حسنة النية بأي حال من الأحوال.
تحرص المؤسسة العسكرية دائماً على تكريس صورتها كحامية للمصالح الوطنية بامتياز، وتقديم التضحيات في سبيل ذلك، ولكن الممارسة العملية للنخبة العسكرية التي تعاقبت على دست الحكم خلال أكثر من خمسين عاماً تحتاج إلى فحص دقيق لأغثباتها، كما لا يستطيع الجيش كمؤسسة أن يتنصل عن تحمل تبعات الأنظمة الشمولية ظلت تستند على شرعية احتكاره للقوة، وتوظيفها لصالح ترجيح مواقف نخبته القيادية في لعبة السلطة، والقبول بهذا الدور لا يعفي المؤسسة العسكرية من تحمل المسؤولية عن دورها في توفير غطاء سيطرة سيطرة نخبته على السلطة، وتوظيفها لتمرير هذه الصفقات على حساب الصالح العام، وللمفارقة أن هذا لم يحدث في عهد عسكري واحد، بل كان ديدن تكرر خلال كل الأنظمة الشمولية التي تسلطت على حكم السودان.

(7)
حدث ذلك في عهد كل الحكام الجنرالت ابلا استثناء، ففي عهد الجنرال عبود تمت اتفاقية مياه النيل في 1959، وفي عهد الجنرال نميري تم تدشّن التعامل مع إسرائيل باعترافه باتفاقية كامب ديفيد، ثم في مطلع الثمانينات بلقاء شارون ولحقها بعملية تهريب اليهود ب الفلاشا، وحدث كذلك في عهد الجنرال البشير الذي انخرط في الحرب الأمريكية على الإرهاب منذ العام 2000، وأيضاً باتفاقية نيفاشا 2005 التي أدت إلى فقدان البلاد لوحدتها الترابية وتقسيم السودان تحت سمع وبصر ومباركة المؤسسة العسكرية التي تتحمل بالدرجة الأولى مسؤوؤلية الحفاظ على وحدة البلاد وهي مهمتها الأساسية، والخيط الناظم بين كل هذه الصفقات أنها تمت تحت قيادة حكام عسكريين. ولم تحقق أياً من هده المقامرات أية مصلحة وطنية معلومة للسودان، وذهبت كل الوعود البرّاقة التي تم تبرير كل هذه "الفرص المتوهمة" تحت لافتتها إدراج الرياح، والآن يتم إعادة تسويق هذه السيناريوهات نفسها تحت عنوان فضفاض باسم المصالح السودانية، التي لو كان تحقق منها شيئاً واحداً في المرات السابقة لما كان هذا حال البلاد اليوم التي لا تزال تتسول المساعدات، وتقدم التنازلات تلو التنازلات بلا مقابل، جرياً وراء سراب حلول خارجية ثبت بوارها تحت ظل ثلاث أنظمة عسكرية سابقة.

(8)
وبهذه الخلفية فإن أي محاولة للمضي قدماً في هذا الطريق الذي ثبت بواره باستمرار، لا يعني سوى أن النخبة السودانية، بجناحيها العسكري والمدني المؤيد لهذا النهج، لم تنس شيئاً ولم تتعلم شيئاً، وتصر على تجريب المجرب، وتتوهم أنها ستأتي بما لم يأت به الأوائل. وعوار هذا الدرب المعوج لا يحتاج إلى إقامة دليل عليه، وليس سراً أن السودان يُقاد في طريق التتبيع، وليس التطبيع فحسب، وقيادته تضطر نفسها إلى أضيق الطريق دون أن يكون هناك ما يضطرها إلى تقيم تنازلات مجانية، هذا إذا تحدثنا بلغة المصالح المادية المحضة، دعك من الاعتبارات الأخلاقية التي لا يمكن القفز فوقها بحجة أن مصلحتنا فوق ك شئ، نعم هذا المنطقة يصلح في ظل الأنظمة الشمولية التي لا ترى سوى مصلحة نخبتها المتلهفة للاحتفاظ بالسلطة بأي ثمن، لكن لا يمكن تسويقها مطلقاً في أعقاب ثورة رفعت شعارات الحرية والسلام والعدالة، وهي قيم لا تقبل القسمة على اثنين ولا تعدد مفاهيمها، ولطالما سعد السودانيون بالعالم وهي يحتفى بثورة ديسمبر المجيدة ونضالاتها وتضحياتها في سبيل إزالة الظلم والقمع وتحقيق السلام والعدالة، فكيف تنكفئ هكذا ضد هذه القيم بزعم أن مصالح، مشكوك في تحقيقها، هي الحكم، وإلا فما الذي كان يدعو العالم للاحتفاء بالثورة السودانية، وما هي مصلحته في ذلك إن لم يكن البعد القيمي والأخلاقي لشعاراتها.

(9)
ومن عجب أننا لا ننسى تجاربنا القديمة الخائبة، ولا نتعظ منها، بل نتجاهل حتى واقعنا المرير الماثل، ألم ينبري قادة الدول الغربية الكبرى ليتباروا في بذل الوعود في دعم الحكم المدني الانتقالي، فما هي النتيجة مر عام كامل واقتصاد السودان تحت هذا الحكم يتردى من أسوأ إلى أسوأ تحت سمع وبصر المجتمع الدولي وهو يتفرج على انهيار السودان اقتصادياً، وحتى عندما فرضوا على البلاد مسار الإصلاح الاقتصادي الهيكلي لصندوق النقد الدولي المعروف بعواقبه الكارثية المجربة، لم يسارعوا إلى نجدة الحكم المدني، جاءت تعهدات مؤتمر شركاء برلين متواضعة خيبت توقعات قادة الحكم المدني الذي راهن على الحل الخارجي للأزمة الاقتصادية الخانقة، أنا المفارقة المؤلمة فإنه حتى بعد مرور ثلاثة أشهر على مؤتمر برلين فإنه لم يتم الوفاء حتى الآن بأي دعم ذو قيمة، ولا يزال المانحون يتلكأوون في دفع تعهداتهم والاقتصاد السوداني يتهاوى نحو القاع بوتيرة صاروخية مخلّفاً تهديداً جدياً لاستمرار وصمود الحكومة المدنية، والسؤال فإذا كانت هذه التجربة ماثلة أمام أنظارنا فمن أين للمهرولون نحو التطبيع هذه الثقة أن الأمر سيكون مختلفاً هذه المرة؟! كما لم تتحق أياً من الوعود الفارغة فيما سبقها من تجارب.

(10)
من الواضح أن هذا الضغوط الدولية بقيادة الولايات المتحدة لم تكن صدفة ولا برئية، بل كانت مقصودة لذاتها أن يتم تركيع السودان اقتصادياً إلى درجة تجعل منه صيداً سهلاً يستخدم عند الحاجة لتمرير أجندتها ومصالحها، استخدم هذا الطعم لنجدة نتنياهو انتخابياً في فبراير الماضي، والأن يتم استخدامه مجدداً كطعم أيضاً لدفع حملة ترمب الانتخابية، ولاأن العقلية الغربية كما نسبت مقولة مشهورة لهنري كيسنجر أنها لا تدفع لما تحصل عليه مجاناً، فلن يتغير مسار التاريخ لمجرد أن الساعين للتطبيع في التحالف العسكري المدني كرافعة لتغيير المعادلة السياسية الراهنة لصالحهم يظنون أن واشنطن وتل أبيب أمنتا فجأة بأن الوفاء للوعود سيكون من شيمتهم في هذه المرة بالذات.

(10)
إن السودان اليوم أمام تحدي وجود مصيري، فإما أن يتحرر وإلى الأبد من وهم التعلّق بالوعود الخارجية المفخخة، وليس ذلك بالشعارات بل بالتوافق على مشروع وطني جامع، وتقديم حلول جذرية وطنية ممكنة للمشكلات الاقتصادية في بلد لا تنقصه الموارد، وإن قعد به فقر خيال القادة، وغياب الرؤية، والعجز عن اجتراح السياسات الصحيحة، وتوفر الإرادة والعزيمة والعمل الجاد الصبور، وما أكثر الشعوب والأمم التي قدمت مثل هذه النماذج التي تفتخر بها.
وإما ان تواصل الطبقة نخبة العسكريتاريا والمدنيين المستلبين الإصرار على المضي في طريق مسدود، في انتظار أن تمطر الوعود الأجنبية حلولاً لن تأتي أبداً. وحينها لات ساعة مندم.


khalidtigani@gmail.com

 

آراء