أثار اتفاق إعلان المبادئ، الذي وقَّع عليه الفريق أول عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة الانتقالي، والفريق عبد العزيز آدم الحلو، رئيس فصيل حركة تحرير السودان-شمال، بجوبا عاصمة دولة جنوب السودان، في يوم الأحد الموافق 28 مارس 2021، جدلاً أيديولوجياً وإجرائياً كثيفاً في الساحة السياسية السودانية، حيث تصاعدت نبرة الخطاب الحزبي-العلماني المشايعة للاتفاق، بحجة أنه قد يطوي "صحائف النعرات العنصرية والتهميش البغيض الذي أجاد استخدامها الإخوان المسلمين لثلاثة عقود"؛ وعلى الضفة الأخرى صيحات الخطاب الحزبي-الإسلامي المعارضة للاتفاق، والتي وصفته بأنه خطوة تجاه سلخ "البلاد من هويتها، ودينها، وانتمائها الحضاري". وبرز بين الخطابين المتعارضين بعض القراءات الهادفة التي تبحث عن مخرجٍ موضوعيٍ، يتجاوز ثنائية الدين والعلمانية غير المنتجة، كما أشار إلى ذلك الواثق كمير في مقاله الموسوم بـ "نقاط على الحروف: إعلان المبادئ، العودة إلى منصة التأسيس"، وحوارات المحبوب عبد السلام عن "العلمانية والإسلام والتحول الديمقراطي في السودان". يؤكد هذا التباين في الرؤى الفكرية أنَّ القضية في جوهرها تحتاج إلى ضبطٍ مفاهيمي للمصطلحات المستخدمة، وتحليل أعمق من رهانات الخصومات الحزبية؛ تكون غايته تحقيق الأمن والسلام في السودان، وتعبيد الطريق لتحول ديمقراطي مستدام، يتماهى مع شعار ثورة ديسمبر 2018م، القائم الحرية والسلام والعدالة. والدليل على ذلك، أن مصطلح العلمانية نفسه قد مرَّ بمرحلتين رئيستين في منابته الأصلية، ولاحقاً أُعيد تعديله وتوطينه في سياقات سياسية واجتماعية وثقافية مختلفة عن التركيبة البنيوية لحواضن المنشأ. إذ تشكلت المرحلة التأسيسية الأولى للمصطلح في أحضان الفكر التنويري الأوروبي (القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين)، الذي أقرَّ ضرورة الفصل بين الكنيسة والدولة؛ لاستقامة أداء المؤسسات الحكومية آنذاك؛ دون تجاوز كلّ القيم الدينيّة المسيحيّة الناظمة لحركة المجتمع. وفي المرحلة الثانية، أو مرحلة ما بعد التنوير (القرن التاسع عشر وما بعده) نادى منظرو الفكر السياسي الأوروبي بضرورة الفصل بين الدين والدولة، لتسيطر الدولة على الفضاء العام ويُحصر الدين في الممارسات الشخصية والاجتماعية. وخارج دائرة الفكري الأوروبي التنويري، نلحظ أن الرئيس التركي رجب الطيب أردوغان قد أعلن انعتاقه من الرؤى الفكرية الواصفة للعلمانية "بمعاداة الدين أو اللادينية"، وأمَّن على ضرورة علمانية الجمهورية التركية، بحجة أن العلمانية "تعني التسامح مع كافة المعتقدات من قِبَل الدولة"، بمعنى أن تقف الدولة على مسافة واحدة "تجاه كافة الأديان والمعتقدات".
إذاً هذا التباين المفاهيمي في استخدام المصطلح يدفعنا إلى طرح سؤال المحوري: ما المعطيات التي تقتضي ضرورة إعادة النظر في علاقة الدين والدولة في سياقها السوداني المعاصر، بعيداً عن صياغاتها الفلسفية غير المنتجة، التي تستند إلى رؤى سياسية ضيقة، منفعلةً بالكسب الحزبي على حساب المصلحة العليا الضامنة لوحدة السودان. وقبل الإجابة عن هذا السؤال، نلقي الضوء على بنود اتفاق إعلان المبادئ الرئيسة، وموقف الرأي والرأي الآخر منها.
بنود اتفاق إعلان المبادئ الرئيسة 1. نلحظ أن اتفاق إعلان المبادئ له قواسمة مشتركة مع بعض الاتفاقيات السابقة التي أقرَّت "بأن السودان بلد متعدد الثقافات، ومتعدد الجنسيات، ومتعدد الأعراق، ومتعدد الديانات، ومتعدد اللغات". ولتجاوز مشكلات التنوع الديني والثقافي والعرقي نصَّ اتفاق إعلان المبادئ على ضرورة "تأسيس دولة مدنية ديمقراطية فيدرالية ... تضمن حرية الدين، وحرية الممارسات الدينية والعبادات لكل الشعب السوداني، وذلك بفصل الهويات الثقافية والإثنية والدينية والجهوية عن الدولة، وأن لا تفرض الدولة ديناً على أي شخص، ولا تتبنى ديناً رسمياً، وتكون الدولة غير منحازة فيما يخص الشؤون الدينية وشؤون المعتقد والضمير، كما تكفل الدولة وتحمي حرية الدين والممارسات الدينية، على أن تُضمن هذه المبادئ في الدستور." 2. استثنى الاتفاق قضية الأحوال الشخصية من الفقرة أعلاه، بمعنى أنه قد نصَّ على اسناد "قوانين الأحوال الشخصية إلى الدين والعرف والمعتقدات بطريقة لا تتعارض مع الحقوق الأساسية." ونلحظ أن عبارة "الحقوق الأساسية" غير واضحة، وتضيف بعداً آخر لغموض بعض نصوص الاتفاق. 3. نص الاتفاق على تأسيس "جيش قومي-مهني واحد، يعمل وفق عقيدة عسكرية موحدة جديدة؛ يلتزم بحماية الأمن الوطني وفقاً للدستور، على أن تعكس المؤسسات الأمنية التنوع والتعدد السوداني، وأن يكون ولاؤها للوطن وليس لحزب أو جماعة... يجب أن تكون عملية دمج وتوحيد القوات عملية متدرجة ويجب أن تكتمل بنهاية الفترة الانتقالية." 4. احتوى الاتفاق على بعض المسائل الاشتراطية والإجرائية، التي تقضي بتضمين المبادئ المنصوص عليها في الفقرة (1) في الدستور المزمع صوغه، وربط ذلك بإكمال عملية دمج وتوحيد القوات المسلحة وقوات حركات الكفاح المسلح في جيش قومي-مهني.
المؤيدون لاتفاق إعلان المبادئ رحبت باتفاق إعلان المبادئ قوى سياسية علمانية وإسلامية، بحجة أنه يمثل خطوة إيجابية مهمة لاستكمال مطلوبات السلام، ووقف الحرب، وتحقيق الأمن والاستقرار. ونذكر منها الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل، الذي وقَّع ممثله السيد جعفر الميرغني اتفاقاً مع الفريق عبد العزيز الحلو، يدعم "اتفاق إعلان المبادئ الموقَّع بين الحركة الشعبية لتحرير السُّودان – شمال وحكومة الفترة الانتقالية لجمهورية السُّودان بتاريخ 28 مارس 2021"، بما في ذلك البند الذي ينص على تأسيس "دولة مدنية ديمقراطية في السُّودان، تضمن حرية الدِّين والمُمارسات الدِّينية والعبادة لكل الشعب السُّوداني، وذلك بفصل الهويات الثقافية والإثنية والجهوية والدِّين عن الدَّولة، وأن لا تفرض الدولة ديناً على أي شخص ولا تتبنى ديناً رسمياً. وتكون الدَّولة غير مُنحازة فيما يخص الشئون الدِّينية وشئون المعتقد والضمير. كما تكفل الدَّولة وتحمي حرية الدِّين والمُمارسات الدينية، على أن تضمن هذه المبادئ في الدَّستور الدائم." وتضمين هذا النص تحديداً في الاتفاق الذي وقعه الميرغني بخلفيته الدينية، دفع الأستاذ زين العابدين صالح إلى طرح سؤال محوري: "هل توقيع الميرغني يُعدُّ بمثابة تصحيح لمسار الحزب الذي تبناه عام 1968م عندما أيَّد مشروع الدستور الإسلامي؛ أم نتيجة لتحول ديمقراطي في البيت الميرغني، [ربما تكون] له تبعات أخرى تسمح بتفشي الحرية في الحزب، وتوسع مواعين [الممارسة] الديمقراطية" داخل أروقته السياسية؟ ليس لدينا إجابة عن هذا السؤال، ولكن نعتقد الأيام القادمة كفيلة بأن تفصح عن مكنوناته الحقيقية. أصدر الحزب الشيوعي السوداني بياناً مؤيداً لبنود الاتفاق، نصت فقرته الافتتاحية على ترحيب" المكتب السياسي بالقضايا التي طرحت في إعلان المبادئ، فيما يخص دولة المواطنة المدنية الديمقراطية التي تسع الجميع، والتوزيع العادل للثروة والسلطة، والقضاء على التهميش التنموي والثقافي والديني، وبناء الجيش المهني القومي الواحد، والذي يعكس التنوع والتعدد السوداني والولاء للوطن لا لحزب أو جماعة." لكن البيان اعترض على العملية الإجرائية، بحجة أن توقيع رئيس المجلس السيادي على الاتفاق يؤكد "من جديد اختطاف المكون العسكري لملف السلام الذي هو من صميم مسؤوليات مجلس الوزراء." بعض القوى السياسية وحركات الكفاح المسلحة أيدت اتفاق إعلان المبادئ، واعتبرته خطوةً جريئةً تجاه انجاز السلام الشامل، وتمهيد الطريق لتحقيق تحول ديمقراطي مستدام في السودان. ونذكر على سبيل المثال الجبهة الثورية، التي وصف رئيسها الدكتور الهادي إدريس يحيى الاتفاق بأنه "خطوة في الاتجاه الصحيح، ويأتي استكمالاً لمسيرة السلام ولاتفاق جوبا لسلام السودان." وأكد أن بنوده تؤسس "لتفاوض بناءٍ ومنتجٍ بين الطرفين، وستمهد للوصول لاتفاق يعزز السلام، ويضع حداً للاحترابات، ويضمن الأمن والاستقرار، ويُسهم في نجاح الفترة الانتقالية". رحبت حركة تضامن من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، التي يتزعمها المحبوب عبد السلام، بتوقيع اتفاق إعلان المبادئ بين الحكومة والحركة الشعبية - شمال، وطالبت بالإسراع في تكوين المجلس التشريعي الانتقالي. كما أنَّ الحركة ثمنت "الجهود المبذولة في التفاوض بين السودانيين من أجل سلام عادل ودائم في وطن حر وديمقراطي". ووصفت اتفاق إعلان المبادئ بأنه خطوة مهمة لوقف الحرب وإقرار السلام، فضلاً عن أنه "اجتهاد مقدر لتحرير المفاوضات من مأزق الثنائية العقيمة بين وحدة السودان وشريعة الإسلام".
المؤيدون لاتفاق إعلان المبادئ بتحفُّظ أيَّد حزب الأمة القومي الاتفاق بصفة عامة، حسبما جاء على لسان أمينه العام، الواثق البرير، "أنهم لا يدعون إلى دولة دينية، بل دولة المواطنة التي يتساوى فيها الجميع"، وأشار البرير إلى "أن توقيع اتفاق مبادئ يقر مبدأ علمانية الدولة أمر يجد منهم تحفظ"، بحجة أن "القوى السياسية المختلفة اتفقت على ارجاء مثل تلك القضايا إلى المؤتمر الدستوري، أو يتم مناقشتها عبر مجلس تشريعي منتخب، مؤكدًا عدم سكوتهم على اتفاق تُضمن فيه العلمانية دون إشراك السودانيين." وفي الاتجاه ذاته، أصدرت هيئة شؤون الأنصار، الذراع الديني للحزب بيان مفصلاً، جاء فيه "إن إعلان المبادئ الموقع بين السيد رئيس مجلس السيادة ورئيس الحركة الشعبية بقيادة عبد العزيز الحلو جاء متضمناً مبادئ لا خلاف حولها، وهي: سيادة السودان واستقلاله ووحدة أراضيه، وأن الحل العسكري لا يقود إلى سلام واستقرار دائمين"؛ لكن البيان تحفَّظ على "ما جاء في الإعلان حول علاقة الدين بالدولة"؛ محتجاً بأن الجهة المخولة بمناقشة علاقة الدين والدولة والبت فيها "المؤتمر القومي الدستوري"، لأن "ضبط علاقة الدين بالدولة قضية تهم كل السودانيين ولا يقرر فيها فصيل واحد دون الآخرين،" كما أن "الدين الإسلامي لا يقر الإكراه، ولا يفرض شعائره وأحكامه على غير المؤمنين به، وبنفس القدر لا يقبل أن تُفْرَضَ على المؤمنين به مفاهيم وأحكام تتصادم مع عقيدتهم وقيمهم وتسلبهم حقهم الديني والثقافي والتشريعي. كما أن شعار الثورة الخالد (حرية سلام وعدالة) يقتضي إدارة التنوع بالعدل والانصاف، واحترام حقوق الإنسان، ومنها حق الاعتقاد والتشريع وتحديد الهوية دون وصاية أو إكراه". بعض قيادات الحزب الجمهوري وقيادات الحركة النسائية وأقلام الرأي ذات النزعة العلمانية أيدت ما جاء في الاتفاق، ونستشهد في هذا المضمار بما كتبه الدكتور محمد محمود، قائلاً: "إن العودة للاعتراف بعَلْمانية الدولة بعد الانقطاع الكارثي الذي فرضه الإسلاميون هو الإنجاز الأكبر لهذا الإعلان وصحوة الوعي التي كان لابد منها. ونقول هذا بالطبع من غير تقليل من أهمية باقي عناصر الإعلان، والتي تمثّل في مجموعها رؤية واقعية وناضجة وحكيمة للخروج من أزمتنا التي ظللنا نكتوي بها منذ الاستقلال. وهذا التأكيد على ضرورة العَلْمانية ... هو الأساس الحقيقي الذي سيتيح لنا إعادة بناء ديمقراطية معافاة." لكن محمود وآخرين انتقدوا الاتفاق بحجة أنه قد نصَّ على فقرة تقضي بإسناد قوانين الأحوال الشخصية "إلى الدين والعرف والمعتقدات بطريقة لا تتعارض مع الحقوق الأساسية." ولذلك يقترح محمود أن تتساوى مرجعية حقوق المرأة مع "مع مرجعية حقوق الإنسان"، المنصوص عليها في "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" الذي يناهض جميع أشكال التمييز ضد المرأة. ومن وجهة نظره أن قوانين الأحوال السودانية القائمة على الدين والعرف فيها تمييز سلبي، لأنها "تستند إلى قَوَامة الرجل وأفضليته"، ولا معنى للحديث عن عدم تعارضها مع الحقوق الأساسية؛ لأنها تتعارض مع حقّ المساواة، وهو الحقّ الأساسي الذي ظلت النساء في كلّ العالم يناضلن من أجله. "إن المرأة السودانية التي نالت أعلى الدرجات العلمية، واقتحمت كل المجالات، وخرجت في ثورة ديسمبر المجيدة ثائرة للشارع، وواجهت الرصاص والقمع كتفاً بكتفٍ مع الرجل، قد حقّقت أهليتها الكاملة ولا يمكن ولا يصحّ إخضاعها لأي شكل من أشكال التمييز ضد أهليتها وإنسانيتها. إنَّ السودان الديمقراطي العلماني المنفتح على قيم الحرية والمساواة والعدل هو سودان يتساوى سائر رجاله ونسائه بلا تمييز بدعوى الدين، أو الأعراف الموروثة، أو أي دعوى أخرى."
المعارضون لاتفاق إعلان المبادئ عارضت الاتفاق معظم الأحزاب والقوى السياسية التي تعتبر العلمانية معادة صريحة للإسلام ودوره في الحياة العامة. ونستشهد بموفق حزب الإصلاح الآن، الذي أعلن "بالصوت العالي وبكل قوة أن أي اتفاق يمس ثوابت الأمة وقيمها يعتبر لاغياً، لمَّا يجزه برلمان منتخب انتخاباً حراً، ويتم الاستفتاء عليه من قبل الشعب، وبذلك فإن هذه الاتفاقية لا تستوفي أقل قدر من معايير الاستحقاق، وينبغي أن ترفض جملة، كما ينبغي عمل مراجعة شاملة لمطلوبات الفترة الانتقالية والمضي لإنجاز مطلوبات الانتقال في مواقيتها." إذاً حزب الإصلاح الآن يعترض على الاتفاق من حيث الإجراء والموضوع، ويعتبره بمثابة "قائمة أجندة سياسية" يمكن التحاور فيها عبر برلمان منتخب. وفي نسق مشابهٍ رفض حزب المؤتمر الشعبي الاتفاق، محتجاً بأن أي قرار "يتعلق بهوية وقيم ومعتقد الناس لا يمكن الفصل فيه بقرارات فوقية، دون اعتبار لرأيهم انتخاباً أو استفتاء، كما تقتضي قواعد الحكم المدني الديمقراطي وعبر مؤسسات منتخبة، وإنّ أي تجاوز لهذه الخطوات مرفوض ولا يمكن قبوله". أما حزب التحرير في ولاية السودان فقد نحا منحًى آخر، عندما وصف الاتفاق بأنه أحد "مشاريع الغرب الكافر"، التي يجب الوقوف ضدها؛ لأنها "تجعل بلادنا علمانية سافرة، وتمزيقها عبر ما يسمى بالفيدرالية، والحكم الذاتي لا يكون إلا بالعمل الجاد مع حزب التحرير؛ لتحرير الأمة من أنظمة الكفر، ومؤامرات المستعمرين وأذنابهم في الداخل، بإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، التي تقطع يد العابثين بهوية الأمة، بل تغزوهم في عقر دارهم، تحمل إليهم الخير، وتخرجهم من ظلمات الرأسمالية وجشعها، إلى نور الإسلام وعدله."
الاستدراكات الإجرائية على اتفاق إعلان المبادئ اعترض الدكتور عبد الله علي إبراهيم على الاتفاق اعتراضاً إجرائياً؛ لأنه يعتقد أن الأولوية في التفاوض مع حركات الكفاح المسلحة وغيرها يجب أن توكل إلى الجهاز التنفيذي المدني (مجلس الوزراء)، وذلك عملاً بمقتضى الوثيقة الدستورية، وابتعاداً عن هيمنة المكون العسكري-السيادي، الذي يصعب أن يؤتمن على استدامة مثل هذه الاتفاقيات، معتبراً في ذلك بموقف الرئيس جعفر محمد نميري (1969-1985) الذي أطاح باتفاقية أديس أبابا لسنة 1972م "في توقيته الخاص"، دون النظر في المصلحة العامة خارج نطاق استدامة بقائه على كرسي السلطة-السيادية. ولذلك يرى عبد الله أن إشراك الجهاز التنفيذي المدني في التفاوض فيه إحسان للثورة، لأن الجهاز التنفيذي أضحى يمثل جذوتها المتقدة الباقية "من ومض الثورة الذابل." ومن ثم عتب عبد الله على الدكتور محمد يوسف أحمد المصطفى والدكتور محمد جلال هاشم؛ لأنهما دائماً ينتقدا عدم التزام المكون العسكري في الحكومة الانتقالية بالوثيقة الدستورية، ولذلك لا يجوز لهما أن يثمنان توقيع الفريق الأول عبد الفتاح البرهان على اتفاق إعلان المبادئ مع الفريق عبد العزيز الحلو، تعللاً بأن التوقيع السيادي قد منح الاتفاق مقاماً أسمى من مقامات اتفاقيات مشاكوس والدوحة وأبوجا. وفي الاتجاه ذاته يأتي رأي الحزب الشيوعي السوداني، الذي وصف توقيع رئيس مجلس السيادة على الاتفاق بأنه "اختطاف جديد لملف السلام، الذي هو من صميم مسؤوليات مجلس الوزراء"، ولذلك يحث الحزب الشيوعي الحكومة الانتقالية على ضرورة تشكيل "مفوضية السلام التابعة لمجلس الوزراء"، لقطع الطريق أمام تغول المكون العسكري-السيادي.
خاتمة زبدة القول إنَّ المواقف والآراء المشار إليها تعكس تباين الرؤى السياسية الحزبية وأقلام الرأي العام من اتفاق إعلان المبادئ، كما أنها تقودنا إلى نتيجة مفادها أن المواقف السياسية من الاتفاق ليست على قلبٍ سياسيٍ واحدٍ، بل أنها تؤكد أن الأمر يحتاج إلى مزيدٍ من الحوارات الجادة، التي تستند معطياتها إلى واقع السودان المتفق عليه من كل القوى السياسية، بأنه "بلد متعدد الثقافات، ومتعدد الجنسيات، ومتعدد الأعراق، ومتعدد الديانات، ومتعدد اللغات"، وإنَّ القوى السياسية التي حكمت السودان ما بعد الاستقلال لم تفلح في توظيف هذا التنوع توظيفاً إيجابياً يصب في مصلحة الإنسان السوداني. إذاً المخرج الآمن يكمن في إبعاد البلاد عن "مأزق الثنائية العقيمة بين وحدة السودان وشريعة الإسلام"، كما يرى الأستاذ المحبوب عبد السلام، بل يحتم على الفاعلين السياسيين والعلماء وأصحاب المصلحة الحقيقية في المجتمع أن ينخرطوا في حوار جادٍ وهادفٍ، يمكن أن يؤسس لنمط جديد من التفكير السياسي-الاستراتيجي، غايته صوغ نظام حكم جديد وحديث يتسق مع تطلعات الثورة السودانية، مستنداً إلى المواطنة معياراً في تحديد الحقوق والواجبات، وإلى الديمقراطية ممارسةً في دفع المسار السياسي-الحزبي إلى الأمام، وتمكين الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات من إدارة الشأن العام والتنوع الثقافي والعرقي والديني بكفاية عالية.