أكتوبر ثورة مستأنفة

 


 

 

تتجلى هذه الأيام تحديات وصراعات غير مسبوقة في تاريخ السودان السياسي من مواجهة تلوح نذرها في الأفق بين مجموعتين في الصراع بين أن تكون لثورات وهبات السودانيين ضد الاستبداد معنى يجسده واقع جديد الذي تقوده مجموعة ثورة ديسمبر التي ثارت على من اجله وبين مجموعة تستميت في محاولة بائسة لاسترداد الوجه الآخر من النظم الديكتاتوريات العسكرية عبر واجهات مدنية. وبينما تستلهم مجموعة الانحياز للخيار الديمقراطي بكل مكوناتها السياسية والاجتماعية قوتها من رصيد ثورات السودان التاريخية، تلجأ القوى المناوئة الى منطق القوة والقوة وحدها التي تظن أن وجودها لصالح الطرف الآخر سيرجح كفة الموازين وإن لم تدعم هذه القوة أي مشروعية سياسية أو قيم إنسانية في حدها الأدنى.
تجيء ذكرى ثورة الحادي والعشرين من أكتوبر في عامها السابع والخمسين كأول ثورة شعبية تقتلع نظاماً ديكتاتوريا لم في سابقة لم يشهدها العالم حتى ذلك التاريخ، ولا زالت جذوتها متقدة. وعليه تبقى ثورة تمثل تاريخاً نضاليا من نضالات الشعب السوداني الذي كرر المحاولة في هبته الثانية 1985م انتفاضة ابريل وثم ثورة 19 ديسمبر 2019 وما شكلته من ميراث سياسي ونضالي فشلت كل النظم العسكرية التي انقضت على حكومات الثورات السابقة وتلك التي تحاول الانقضاض الآن على محوه من ذاكرة نضالات الشعب السوداني. وكثيراً ما تنسى النظم القمعية تجارب الشعوب وتستهين بقواها الكامنة في خوض التجربة مجددا، وتظن أن بإنهاكها للشعوب باستخدام أدوات القهر مثل تلك التي استخدمت أيدولوجيا دينية قاهرة في أبشع صور استغلال الدين وتوظيفه لتحقيق مآرب سياسية.
وتعد ثورة أكتوبر مشروع الثورة السودانية بكل ما عبرت عنه من زخم سياسي وثقافي وفني وأدبي في التحول الى دولة الديمقراطية المستدامة ليست كأطروحة نظرية ولكن بما تحدثه الثورات -تاريخيا- من تغيير عميق في بنية الدولة. فالثورات لا تقف عند رفع الشعارات وما يرافقها من حماس طموح، بل تفترض الثورات إنجازات شاخصة متحققة في قيم الحرية والعدالة والسلام وما يقابلها من بناء يمس حياة الانسان في الاقتصاد والتنمية وغيرها مما يعين على تنفيذ هذه القيم التي لن تحقق دون دولة مؤسسات قوية لها من سلطه القانون قوته وروحه. وما التصميم الذي تبيديه جماهير الشعب السوداني في التمسك بالخيار الديمقراطي إلا نتاج لما أرسته ثورة أكتوبر وأصبح بالتالي نهجاً تنتهجه لاقتلاع النظم الديكتاتورية مهما تطاول بها العهود. وقد اشاعت ثورة الحادي والعشرين من أكتوبر في تاريخ المشهد السياسي معاني الفعل الثوري في التغيير وأصبحت الانتفاضات والهبات الشعبية مفردات دارجة في ادبيات النضال السياسي. وما اضافته في التنظيم السياسي والتحول المجتمعي بدخول امرأة للبرلمان وتمثيل الخريجين في الانتخابات ما بات يعرف بدوائر الخريجين ودور النقابات في القضايا الوطنية. وحتى النظم الانقلابية اتخذت لحركاتها مسمى ثورة بل ومنها من أدعى بأنه يمثل امتداداً لثورة أكتوبر. وكل هذا يكشف ماذا كانت ولا زالت تعنيه ثورة أكتوبر في العقل السياسي السوداني على الرغم من تفاوت توظيف مفهوم الثورة حكما واداءً.
ولكن هل فشلت ثورة أكتوبر؟ كما يروج الذين عملوا على انتهاكات دستورية جريئة شكلت سابقة في الممارسة اللاديمقراطية داخل نظام ديمقراطي بطرد نواب الحزب الشيوعي المنتخبين -ديمقراطيا- من البرلمان. كوان فحوى السؤال الذي شكل الفشل -بظنهم- ثم ماذا بعد أكتوبر في السودان؟ وهو سؤال جاء من خارج سياق قراءة الثورة ولكنه أصبح مدخلاً لتقييمها لدرجة أن شكك البعض بوحي من التساؤل المستريب بين أن تكون ثورة أو هبة شعبية عفوية. فالثورة في تبريرهم تكون لها تغييرات هائلة على صعيد الاجتماعي ونظام الحكم أي إعادة بناء الدولة وعلاقات الحكم. وللتذكير بأن السؤال المشار اليه اثاره الصحافي المصري الراحل محمد حسنين هيكل في مقاله بصحيفة الأهرام (ثم ماذا بعد أكتوبر في السودان)؟ ودائماً ما كانت للتحولات الديمقراطية في السودان وجهة نظر مغايرة، ومما قاله هيكل "إن موضوع السودان أحاطت به، ولا تزال، من وجهة النظر المصرية شحنة من الانفعالات العاطفية المتشابكة والمعقدة، ولقد آن الأوان لكي تتبدد هذه الشحنة برواسبها الداكنة وأن تشرق على العلاقات بين البلدين شمس جديدة بغير ضباب من رواسب الماضي وبقاياه". وكانت ردة فعل الشارع السوداني السخط مما عدوه انتقاصا من ديمقراطيتهم التي تخشى منها مصر!
دائماً ما واجعت الثورات السودانية الثلاث تحديات تكاد تتشابه في تفاصليها وإن اختلفت مستويات تصاعدها، فإذا كانت المرحلة التي أعقبت ثورة أكتوبر وما شهدته من صراع حزبي أضعف من العملية السياسية المدنية وقد كان الصراع على أشده بين اليسار واليمين. وكذلك التهاون في حكومة الديمقراطية الثالثة حكومة الصادق المهدي قد مهد الطريق لجماعات الإسلام السياسي من تقويض النظام الديمقراطي. والآن تحاول القوى المناوئة للثورات السودانية إعادة التاريخ وتسعي الى تفويض صريح للمكون العسكري باستلام السلطة على طريقة اجهاض الثورات. ولكن هذه المرة ترتفع حدة الدفاع بصورة غير مسبوقة من جميع مكونات الثورة ولجان مقاومتها ضد محاولات تخطي المرحلة الانتقالية بمختلف سيناريوهاتها المحتملة من حل للحكومة أو انقلاب عسكري على السلطة الانتقالية. وإن كان درس قدمته ثورة أكتوبر يبقى في تمدد الأفق المدني والوعي السياسي الذي أصبح يعيد صياغة التوجهات السياسية بالبلاد في المقاومة المستمرة والانحياز إلى الديمقراطية كنمط للحكم يعبر عن واقع أحوج ما يكون الى حكم راشد لا توفره النظم غير الديمقراطية وغير المنتخبة.
نشر عدد اليوم صحيفة_الديمقراطي# الخميس 21 |أكتوبر 2021م

anassira@msn.com

 

آراء