لعنة الدماء التي حلت ببلادنا والثورة من أجل لقمة العيش!

 


 

 

أعترف ابتداء بأنني في بداية الانقلاب كنت أستبعد تماماً أن تكون الأزمات الاقتصادية سبباً في اسقاط سلطات الانقلاب، وقد بنيت رأيي على قدرة الكثيرين على استخدام (الحيل) فيحل كل منهم أزمته بأن يضع يده في (جيب) غيره!.
وكنت أضرب مثلاً على ذلك، بقصة ذلك المسافر في بص سياحي إلى بورتسودان، وكانت أجرة التوصيل إلى هناك الف جنيه، وبعد أسبوع تكرر السفر، وكانت قد بدأت موجة من الغلاء خلال ذلك الأسبوع، لم يكن بينها سعر البنزين. وهنا بدا السائق كما لو كان يصدر قراراً عسكرياً، فقال إن الأجرة ارتفعت إلى سبعة آلاف جنيها، وإذ احتج نفر قليل من المسافرين، فإن الجميع خضعوا في النهاية لهذا الفرمان. ومن المؤكد أن رد الفعل الطبيعي أن كل منهم سيرفع من سعر الخدمة التي يقوم عليها، بمن في ذلك من ينجزون مهامها في المؤسسات العامة لصالح المواطنين، وبمن في ذلك المعلمون ونحو ذلك!
وإن كان الرأي عندي أن أهل الحكم سيفقدون حتماً الظهير الشعبي، عندما تتفاقم الأزمات الاقتصادية، وتجعل أي انتفاضة بمطالب السياسة تجد تعاطفاً من الذين يجلسون على الرصيف. وقد عانينا كثيراً من هؤلاء الذين يحبطون الناس من فكرة التحول الديمقراطي، بما عرف عنهم من استكانة وقبولهم بالحد الأدنى، ودعوة غيرهم للتخاذل.
وحتى عام 2019، كان من الصعب أن تذكر الرئيس المعزول عمرالبشير في جمع من الناس بخطاب معارض له، لأن أصوات العامة ستحتج عليك، بضرورة شكر الرجل الذي يعمل في حدود قدراته، فمن أين سياتي لهذا الشعب بالمزيد؟!
وكان هذا العام قد شهد موجة غلاء، بدا نظام (الكيزان) عاجزاً عن مواجهتها، أو معنياً بهذه المواجهة. وأذكر أنني شاهدت فيديو لعجوز يلعنه في الشارع بالاسم، وأدركت يومئذ أن هذا النموذج تعبير عن ظاهرة ستنمو، وعندما بدأ الحراك السياسي بعد ذلك، لم يؤب معه سوى أهل السياسة والنشطاء، ولم تكن هناك حاضنة شعبية لهذا الحراك، فكان يتم التحايل على الأزمة الاقتصادية بشكل أو بآخر، وكان المستقر عند عموم السودانيين أن أحداً لا ينام جائعاً.
وقد استبشرت خيراً عندما لم تواجه حراك ديسمبر الأولى، باعتراض من المواطنين، فما جرى كان العكس تماماً، فقد وجد المتظاهرون تصفيقا من النوافذ ومن أمام أبواب المنازل، وتحيتهم بالزغاريد والوجبات والعصائر وقطع الحلوى وزجاجات المياه. وفي يوم جمعة الرحيل، كان من يسعف الثوار والثائرات بالخل والبصل هم بسطاء الشعب، ومن النساء على وجه التحديد، عندما كانوا يتساقطون من الإعياء من جراء القصف بالقنابل المسيلة للدموع!
ولا نستطيع أن نقول إن الأزمة الاقتصادية وحدها كانت سبباً في ذلك، فقد انتقل نظام البشير من الاستبداد إلى الاستفزاز السياسي، لأنه يحكم منذ ثلاثين عاماً، ولا يريد أن يتنازل عن الحكم ويرحل، ثم إنه أغلق منافذ التنفيس بتزوير أخر انتخابات برلمانية، الأمر الذي وصل للعامة فأزعجهم، وبدوا كما لو كانوا ينتظرون الفرصة، فلم يتصدوا له لإدراكهم أنهم لا يستطيعون تعبيراً عن أنفسهم أو ضرباً في الأرض.
ولم تسر الأمور على هذا المنوال، فقد بدت حركة اعتراض في محيطنا عندما بدأ البشير يؤثر فيهم بخطابه، وكان الناس يرددون السؤال: لماذا لم يتركوه يكمل مدته ويغادر في هدوء؟ لكن الأمر اختلف بعدها .
كانت القاعدة التي بدت مستقرة أن العامة لا يثورون، وأنه لا ثورات من أجل لقمة العيش، وهناك من استخفوا بفكرة ثورة الجياع، كما لو كانوا هم في رفضهم للانقلاب العسكري يريدون إقامة حياة ديمقراطية سليمة!!
الآن في ظني لقد سقطت نظرية أنه لا ثورة من أجل لقمة العيش، فالغلاء الفاحش تجاوز قدرة الناس على الاحتمال، فهم لم يمروا بيوم حلو منذ الانقلاب العسكري، فالغلاء بدأ مبكراً، لكن كانت هناك آمال عريضة لدى قطاع كبير من السودانيين بأنها (سحابة صيف وسترحل)، لكن الأوضاع انتقلت من السيئ إلى الأسوأ، مع عدم وجود أمل في تجاوز هذه الشدة!
وانتقل خطاب الجنرال من حديث فترة (الخطوبة)، حيث الإغراق في العواطف والوعود الكاذبة. ونستطيع القول إنه بعد اكتشافه على حقيقته، فقد بدأت حركة الرفض السياسي له من داخل دائرته المؤيدة له، لكن عدم وجود الأمل في نهاية السنوات العجاف مع تفاقم الأزمة الاقتصادية، غير مسار الأمور فدخل العامة وحزب الكنبة على الخط.
والذي زاد الطين بلة هو هذا الخطاب الأرعن لأبواقه الإعلامية، فظهر إعلاميوه كما لو كانوا يستهدفون الاستهانة بالناس وبأوضاعهم الاقتصادية، وهم يعيشون في كوكب آخر!
إنه خطاب بائس يمثل الامتداد الطبيعي، لخطة البرهان (إن كانت لديه فعلا خطة) في حل أزمة الغلاء، فالسلعة التي يزيد سعرها لا تشتريها(قاطعها) وتلك هي نظرية استاذه عبدالفتاح الشمالي، فما العمل إذا كان الغلاء شمل كل السلع والأخذ بهذه النظرية الاقتصادية (الفخيمة) يعني انتظار الموت!
إن البرهان يحكم بسلاح القوة، وبدونها لا يمكن أن يستمر يوماً واحداً في الحكم، وإذا كان قد نجح بها في إسكات الناس، فقد بدأت الأوضاع الاقتصادية ضاغطة عليهم، فبدأ التخلص من هذا الخوف. ويمكن أن نكتشف هذا من حجم الفيديوهات التي يعبر فيها مواطنون غير مسيسين بشجاعة غير مسبوقة عن هذه الأوضاع المزرية، وبدأت هيبة الجنرال التي أنتجتها الدبابة تتساقط، ووصل الرفض إلى مناطق بعيدة بطبيعتها عن الرفض والثورة مثل شرائح مؤثرة وذات ثقل كبير، بل وإلى شرائح من المجتمع محسوبة على الطبقات العليا، وهذه الأوضاع حركت من يطلق عليهم حزب (الكنبة)، أي هؤلاء الذين عُرفوا بعدم الاعتراض أو رفع الصوت بالشكوى، وهم ملح الأرض، وكانوا يمثلون لكل حاكم مستبد في السابق (عزوته) وظهيره الشعبي
لا أميل للتوقعات، فلم أتوقع ثورة ديسمبر المجيدة العظيمة، لكن أستطيع القول إن ما يحدث الآن له ما بعده، وأعمى من لا يرى من الغربال. ولا أقصد البرهان وزمرته بذلك، بل أقصد من أعيتهم المحن، وطال عليهم الأمد، فأصاب الوهن قلوبهم، فصاروا يستخفون بكل أمل قادم، حتى يصبح السؤال الملح: لماذا يعيش هؤلاء الناس؟!
لم يسأل أحدهم نفسه كيف لا يرصد التغير الذي جرى، ففي حين يصنعون هم صفحات بأسماء مستعارة على منصات التواصل الاجتماعي، فإن أصحاب الفيديوهات يظهرون بوجوههم أمام الكاميرا ويعلنون آراءهم بكل قوة، وفي الوقت الذي يأكلهم هم الإحباط ويفتك بهم كسرطان تمكن من الجسم، فإن هتافات خرجت من شرائح ذات تاثير كبير، وأن مذيعة ارتفع صوتها بالرفض، وأن صحفية بالمبنى تجاوزت في خطابها خطاب المعارضة التقليدي!
وهناك أمر لا يمكن إغفاله، فالذين يقتاتون على الإحباط لا يريدون حركة احتجاج سوى وفق أجندتهم هم، بأن يأتي الناس إليهم محلقين ومقصرين. فهم يتعالون على فكرة أن يكون الجوع سبباً في انتفاضة، وكما لو كانوا هم من دعاة الإصلاح السياسي، لم يقف أي منهم أمام المرآة ليسأل وما هي قضيته!
إن الجنرال مشغول بالتنكيل بمن شاركوا في ثورة ديسمبر وبمنعارضوا ولازالوا يعارضون الانقلاب، حتى وإن كانوا من حلفائه في الثورة المضادة في 2021، وهؤلاء لن يشاركوا في ثورتين، فقد شهدوا الهزيمة وأعيتهم المحنة وصاروا جزءا من التاريخ لا الحاضر!
والحاضر هو حزب الكنبة، وعدم المبادرة من سماته، وإن كان المتفق عليه بين أهل الرشد أن الأمور تقف على شعرة، وأن ثورة العوام لن تكون على قواعد ثورة ديسمبر وهذا هو المخيف، والبعض ربما يرى في هذه السطور تنبيهاً للبرهان لتعديل مساره وتصحيح انقلابه ورد الثورة المسروقة بقوة السلاح والبطش والقمع لاهلها الأصليين، وإصلاح ما أفسده في مجال الاقتصاد وهو ما يهم الناس(معاش الناس وأمنهم وأمانهم).
وهؤلاء لا يدركون أن البرهان لا يسمع لأحد، ولا يتمحور سوى حول ذاته، وربما يكون هذا من حسن صنيع الله.. ثم إنه لو انتبه فماذا يمكنه أن يفعل، وقد بدد الفرص تلو الفرص وقطع المساعدات في بحر الرمال المتحركة، في ما يسمى بوعوده الزائفة بتوسيع قاعدة المشاركة وتصحيح المسار، ويبدو الإقليم والمحورالذي ساعده كثيراً عازفاً عن استمرار تدفق المساعدات التي بددها في السابق تبديد من لا يخشى الفقر؟!
لقد تساءل معلم سوداني صاح صوته في فيديو بولاية نيالا وهو يضرب كالبهيمة : لماذا تفعل فينا هكذا؟ وهو لا يدرك أنه الجنرال البرهان ليس مؤهلاً إلا لأن يفعل ما يفعله، لأنها لعنة الدماء التي حلت ببلادنا !
لقد حصل البرهان على قروض ومنح ومساعدات خارجية، لم يمكن منها أي حاكم سوداني سابق، فماذا لو وجه هذا لما ينفع الناس ويمكث في الأرض؟!
إنهم حينئذ سيكونون دعماً لاستقرار حكمه وإن وجد من يعارضونه لأسباب سياسية، وقد يعيش عيشة راضية وحكما مستقراً لعشرين عاماً قادمة، لكنه (عدو نفسه)!
إن الظروف مهيأة لثورة الجياع.. ونسأل الله اللطف في ما جرت به المقادير.

أخر الـهدوووء:
غنانا جُلُّه لو ما كُلُّه (رُقاد) هذه حقيقة حقيقة، لكن (الرُّقاد) للمحبوب ليس عيبا ولا يحط من قدر الإنسان، فمن تواضع للحبِّ رفعه، هذا بمنطق اللحظة الحاضرة له، هذه النقطة قد لا يختلف معي كثيرون، الإختلاف يأتي في (الرُقاد) بعد الفُراق ..
طيب .. شعراء الأغنية الذين (رقدو) بعد الفراق هؤلاء لم يكونوا طيورا أو نعاج، لقد فكّروا فيما فكرت فيه انت، فكروا في عزة النفس والكرامة والكبرياء وإن الحب عطاء متبادل ولو كان العطاء من طرف واحد فيجب أن يحترم المرء نفسه ويحفظ ماء وجهه وووو...ألخ، وحاولوا أن ينسو أو يتناسو ويتجاوزوا تلك المرارات لأنه بديهيا لن تتوقف الحياة:

قلت ارحل
أسوق خطواتي من زولا نسى الإلفة
أهوم ليل واسافر ليل
أتوه مِن مرفى لي مرفى
أبدل ريد بعد ريدك
عشان يمكن ..
يكون أوفى
لكن حصل شنووو؟
رحلت وجيت
في بُعدِك لقيت كل الأرِض منفى
موضع آخر:
بهرب من خيال طيفك
لكن:
في عينَيْ بلاقيهو
أعيش أيامي بالذكرى
ألم وافراح أعيش بيهو
واقول الليل يصافيني
ونعود تاني من تاني
والقاك يا حبيب عمري وتلقاني
وتلقى الريد معايا
لحظة ما نسيتك ولا نساني
الخلاصة:
لا بنساك ولا بقدر ولا عايز
بعد حبك أحب تاني
وغيرها وغيرها .. لكن .. والكلام المهم بعد لكن، ..
الإحترام والمودة والإهتمام المتبادل التي تتحدث عنها تلك مشاعر تم استزراعها، ويمكن أن تكون نبيلة جدا وتكبر وتُفيد من يحملها ، لكنها ليست بحب وما ينبغي لها (يمكن أن تقود للحب طبعا)، لكن ذاك الحب الصافي قَدَر، الإمام الغزالي وصفه كالتالي:((نورٌ يَنْقَدِحُ في القلب))، المشاعر التي تستزرعها كالإحترام والمودة والرحمة تحتاج مقابل لتنمو، إذا ما توفر هذا المقابل ستموت، لكن الحب انت ليس لك قدرة السيطرة عليه، كما هو لا يستأذنك، يلقى باب القلب مفتوحا ويتسلل لواذاً بدون (إحم ولا دستور) ويتحكر، فمن تحبه ليس شرطاً أن يبادلك الحب، بل يمكن أن يكون يحمل لك مشاعرا على النقيض تماما، أقصى ما يُمكنك أن تفعله أن تبتعد عنه، لكن لن تقدر ألا تحبه، بمثل ما قرار إن شعلة حبه (تنقدح) في قلبك لم يكن في يدك، فقرار إنطفاء هذه الشمعة كذلك ليس في يدك، وهذا شعور أدركه ووصفه هؤلاء بدقة في أتون محرقة الحب، لذلك تجد الإستسلام له في قوالب كتيرة:

لو رضاكي هلاكنا
للهلاك نرتاح
___
في هواك يا جميل
العذاب سراني
___
هو يسوي الغلط
وأنا اسوي كتر خيرو
___
ونسأل عنو كان طول
وما هاميهو كان غبنا!

فالشاهد إن هذه المسألة معقدة جدا، هم كانوا أكثر تصالحاً مع مشاعرهم، لا أنكروها ولا تنكّروا لها، فيهم من تسامى على حظ النفس وأفسح المجال لمحبوبو ولشعوره مثل الطيب عبد الله لما قال:(برضي راضي في الغرام كم من ضحايا .. بس تأكد يا حبيبي إنو حبك في دمايا)، وفيهم من غفر وسامح في جاه الحب وليس المحبوب مثل بازرعة عندما قال:(حبي سامحتك لحبي ما لأجلك) وفي النهاية كان مصيره أن يمشي بالحسرة ويموت، وفيهم من كان حبه قنطرة ومعراج لفضاءات أكثر عمقا في سبر أغوار الغرام ولوعات الصبابة مثل التجاني سعيد ، وفيهم من استسلم لمشيئة الأقدار وكافأته بإيراق عود القلب الذي مات فبعثت فيه الحياة مثل فضل الله محمد، وهذا نتيجة للتصالح الجليل والصبر الجميل مع المشاعر:
ما هو باين في العيون
وين حنهرب منو وين
الهوى الباعث الليالي
العامرة بي زاد الشجون
يفتح قلوبنا ديار محبة
ديار حياة للعائدين
ما بنقاوم وكيف حنقدر
وين حنهرب منو وين !

والأقدار إنْ مددت لها يمينَ صبركَ راضايا لا تُرجِؤكَ نسيئة، فيكون عطاؤها بيمينها مرضي:

ما افتكرت الحظ بساعد
عمري يورق من جديد
من بعد فرقتنا ديك
مين كان بيفتكرك تعود !

mido34067@gmail.com
//////////////////////////

 

آراء