“دعهم يجوعوا” لمجاهد خلف الله – في نقد نوم الضحى والخرافات المصاحبة
الوليد محمد الأمين
23 March, 2022
23 March, 2022
لا يتورع مجاهد خلف الله منذ بداية صفحات هذا الكتاب في الجهر بإيمانه القاطع أو قل يقينه الثابت بالرأسمالية ودورها في النهوض بالأمم والشعوب ، وهو في ذلك لا يخفي ، بل يعلن صراحة انحيازه الواضح والصريح لليبرالية كسبيل وحيد لرفاه الانسان . لا ينبغي أن تؤخذ كلمات مثل " لا يتورع " و " لا يخفي " و " يعلن صراحة " التي قدّمتُ بها في السطور الفائتة للكتاب أو ربما لنكون أكثر دقة لأفكار الكاتب ، لا ينبغي أن تؤخذ كإشارة إلى رفض الكتاب أو الأفكار الواردة فيه ، الحقيقة أن استعمال مثل هذه الكلمات إنما هو بمثابة إبداء الإعجاب بشجاعة الكاتب في طرح أفكاره ورؤاه التي تصدم أو تضاد بعض ما يمكن تسميته بثوابت الأمة السودانية ، هذا بالطبع مع التحفظ على مصطلحي الثوابت والأمة السودانية نفسيهما .
في نحو 240 صفحة من القطع المتوسط صدر للكاتب في العام 2015 كتابه الأول والموسوم " دعهم يجوعوا ... في الاقتصاد السياسي السوداني لرجل الشارع " . بدا لي أن الأوفق كان أن يكون العنوان الفرعي " في الاقتصاد السياسي لرجل الشارع السوداني " بدلا عن السوداني لرجل الشارع . وعلى كل حال فلن تشكل مثل هذه الملاحظة أمرا ذا بال لدى مؤلف الكتاب ، فالكتاب الصادر عن إحدى دور النشر المصرية غير المشهورة لم يهتم كاتبه بالإخراج أو بالتصميم بقدر ما اهتم بتوضيح أفكاره والسعي لاقناع القاريء بها . والكتاب في عمومه معد لمخاطبة رجل الشارع العادي أو غير المتخصص إن نظرنا لبساطة اللغة المستخدمة وبُعد الكاتب عن تعقيدات الكتابة ، وهو كذلك مناسب لمخاطبة المتخصصصين وذوى الاهتمام إن نظرنا لجرأة طرح الأفكار ومحاولة اجتراح الحلول لمأزق الدولة السودانية .
قسم المؤلف الكتاب إلى ثلاثة أجزاء ، سمى الأول : " لماذا الرأسمالية "، واحتوى هذا الجزء على فصلين ، الأول : " إحداثيات الواقع وخارطة المستقبل " ، وهذا الجزء نفسه احتوى على خمسة أبواب ( لم يسمها الكاتب بالأبواب أو أي اسم آخر ) جاءت على النحو التالي : إحداثيات البداية ، الطريق إلى استوكهولم ، نقاط بيضاء في القارة السوداء ، الطرق الأخرى التي ربما تؤدي إلى استوكهولم ، ثم أخيرا : ثقوب في رداء الليبرالية - ماركس وقطيع القطط . الفصل الثاني من الكتاب جاء بعنوان " الشرعية هي الغاية والديمقراطية إحدى الطرق " احتوى على خمسة " أبواب " هو الآخر. الجزء الثاني من الكتاب هو المسمى بدعهم يجوعوا ، وفيه فصلان ، الفصل الأول : " العمل " واحتوى على خمسة أبواب أو عناوين ، ثم الفصل الثاني تحت عنوان : " استعادة السودان من اليسار .. نحو مجتمع رأسمالي " . احتوى هذا الفصل أيضا على أربعة عناوين : هل نحن مجتمع شيوعي ؟ ( والإجابة عند الكاتب هي نعم كبيرة ! ) ، التعليم ... عندما يصبح الدواء سما ، الخروج من المأزق ... التعليم الفني ، ثم أخيرا : الهوية الاقتصادية .. الضرائب . الجزء الثالث والأخير جاء تحت عنوان " فصول متفرقة ... بحر واحد " ، وفيه فصلان : ملاريا العنصرية وكينين الرأسمالية ، ثم : انفصال الجنوب ... نصف الكوب الممتلىء .
من الواضح من طريقة اختيار الكاتب لعناوين الفصول والأجزاء تركيزه الواضح على القضية الأساسية للكتاب وكذلك حرصه على توصيل فكرته دونما مواربة . ينبغي ربما تقريظ العناوين التي هي ذاتها تبدو أحيانا كخلاصة لما يكتب تحتها في الفصل أو الباب المعين . كذلك من المهم ربما النظر إلى الكتاب ليس فقط ككتاب يتناول الأفكار الاقتصادية للكاتب ، بل إنه في الحقيقة يتناول مجمل أفكار الكاتب وتصوره لما ينبغي أن يكون عليه السودان انطلاقا من بوابة الاقتصاد .
يتبنى الكتاب فكرة أن الليبرالية هي النظام الأمثل لرفاه الشعوب ، وأن الرأسمالية ليست هدفا لذاتها بل هي محض وسيلة لزيادة رفاه الانسان وتحسين وضعه الاجتماعي ، وفيما خص السودان حيث المجتمع بعيد جدا عن مباديء الليبرالية فالكتاب يرى أن الرأسمالية واقتصاد السوق هي وحدها الكفيلة باجبار المجتمع وليس اقناعه فحسب بأن يتبنى مباديء الليبرالية ثم ينتخب حكومة ليبرالية ، إذ المجتمع نفسه حين يصبح ليبراليا فلن يقبل أبدا بدكتاتور متسلط بخلاف ما هو ماثل في المجتمع السوداني الذي لا يتمتع نصفه على الأقل بحقوقه الأساسية ، فحقوق النساء المنتقصة لم تنتزعها الحكومات في رأي الكاتب بل هو المجتمع نفسه من فعل ذلك ، بما في ذلك النساء اللواتي يراهن الكاتب ضحايا وجلادين في ذات الوقت ، وكذلك فالحقوق الدينية ليست متوفرة في هذا المجتمع رغم ما يبدو عليه من التسامح الظاهري . أما الحقوق السياسية فيرى الكاتب أنه ورغم أن المجتمع السوداني يبدو متسامحا فيها ، فهي لا تزال مرتبطة بالحقوق الدينية ، ففي حقيقة الأمر ، يقول الكاتب ، ليست هناك سياسة في السودان على الإطلاق ! بل هي حكاو وأقاصيص تدور حول تاريخنا وتاريخكم ! ولهذا السبب بالذات ، أي عدم ترسخ المفاهيم الليبرالية في المجتمع السوداني – يجد الكاتب أنه يصبح من الطبيعي ألا يكترث الشعب عند حدوث انقلاب عسكري إن لم يهلل له ، فقيم الحرية والحقوق المدنية هي المباديء التي إن تبناها المجتمع ( بعد انتقاله لمرحلة المجتمع الليبرالي ) ، فقطعا لن ينتخب فصيلا سيمنع هذه الحريات ! بدت لي هذه الملاحظة حصيفة في تفسير تكرار الدكتاتوريات في تاريخ الدولة الوطنية في السودان وتكرار وفرة مؤيديها على الدوام . الملاحظة الحصيفة كذلك بدت لي في مارآه الكاتب من أن المجتمع الليبرالي سيقف بالتأكيد وقفة منيعة أمام كل من تسول له نفسه انتزاع هذه الحقوق عبر انقلاب عسكري أو أي شكل آخر . بدت لي هذه الملاحظة حصيفة وربما مفيدة كذلك في تفسير الحراك المجتمعي السوداني – الشبابي في غالبه – في ثورة ديسمبر المجيدة وما بعدها ، فقيم الليبرالية ربما كانت أكثر ترسخا لدى فئات الشباب منها لدى الأجيال الأكبر سنا ، مرد ذلك بالتأكيد لأجواء العولمة التي نشأ فيها هؤلاء الشباب وانفتاح الأفكار والجرأة في مناقشتها ، وهو على كل حال مناخ ليس خاصا بالسودان ، إلا أن ما يميز المجتمع السوداني ربما هو توقه الدائم للتحرر وميله نحو قيم الحرية وإن بطريقته الخاصة التي لا تعني بالضرورة الحقوق اليبرالية .
يرى الكاتب أن الرأسمالية لم تطبق أبدا في السودان ويعتقد أن الرأي القائل بأن تطبيق الرأسمالية في عهد السيد عبد الرحيم حمدي وزير مالية السودان في بعض فترات حكومة الإسلاميين ، يرى بأن ذلك لا يعدو كونه خرافة سودانية أخرى وأن ما طُبق وقتها لم يكن أكثر من كونه نزعة للمتاجرة من غير اهتمام بأي شيء آخر ، فالدولة حينها كانت دولة بيروقراطية مترهلة بامتياز ، وكان إنجاز أمر عبرها يتطلب الدخول في متاهات قد لا تنتهي وذلك مقابل وجود طرق سرية قصيرة جدا ولكنها غير متاحة إلا للمسئولين الحكوميين أو ذويهم كما يرى الكاتب . ربما يمكننا كمثال هنا أن نذكر الاعفاءات الجمركية التي انتهجتها الحكومة وقتها لصالح بعض منسوبيها مقابل التشدد فيها ورفع الضرائب على الرأسمالية الوطنية غير الموالية لنظام الحكم . استشرت هذه الممارسة بالطبع إلى حد أن أدت إلى خروج بعض الأسماء المعروفة من الرأسمالية الوطنية من السوق وصعود أسماء أخرى لم يكن لها أن تتسيد المشهد لولا هذا التمييز الانتقائي . بالطبع نستطيع أن نرد ما يحدث الآن من تهريب للذهب ولثروات البلاد الأخرى باشراف بل وبتواطؤ بعض أجهزة الدولة نفسها إلى ما أعطته بعض مراكز القوى في سودان ما بعد اتفاقية سلام جوبا لنفسها من امتيازات تمثل رؤيتها لمفهوم الدولة . لم تكن هذه المسألة في أخذ جهاز الدولة كوسيلة للإغتناء حديثة عهد الاسلاميين وإن كانت أكثر ظهورا في عهدهم لتطاول فترة حكمهم ربما أو لتعدد مصادر كسب المال وكذلك التدخل الإقليمي والدولي في السودان مترافقا مع استعداد النظام الحاكم لبيع ما تيسر بيعه من البلاد مقابل البقاء في سدة الحكم أيا كان المقابل ، غير أن ما يحدث الآن يميزه غياب مركزية الدولة وتعدد مراكز اتخاذ القرار مما يزيد الوضع سوء .
لا يخلو الكتاب من الاحصائيات المهمة والمفيدة مثل نسبة السودانيين تحت خط الفقر ، نسبة السودانيين المحرومين من خدمات الكهرباء والمياه النقية الصالحة للشرب ، نسبة الأمية ، عدد المستشفيات مقابل المواطنين وكذلك نسبة الأسر التي لا تملك وبالتالي لا تستخدم دورات المياه . من نافلة القول بالطبع إن هذه المسائل بالذات وما يماثلها هي ما يراها السيد مجاهد من أبجديات السياسة وما ينبغي أن تكون من اهتمامات وفي برامج الأحزاب السياسية . وفي هذا الإطار ، أي إطار الاحصائيات والمقارنات يورد المؤلف دراسة معبرة دعمها بالرسومات والأشكال البيانية خلص منها إلى أن الدول الثلاثين الأعلى من حيث دخل الفرد ( ذكرها المؤلف بالاسم ) كلها حازت على مؤشرات ديمقراطية مرتفعة ( عدا أربع دول تمثل حالات خاصة في نظر المؤلف لتوفرها على ثروات طبيعية ضخمة من الغاز والنفط ) ، كذلك يخلص المؤلف إلى أن الدول الثلاثين الأعلى في تصنيف الديمقراطية جميعها عدا ست دول يصل متوسط دخل الفرد فيها إلى 25 ألف دولار سنويا ، وحتى هذه الدول الست يصل متوسط دخل الفرد في أقلها إلى ثلاثة أضعاف متوسط دخل الفرد في السودان ، هذه الخلاصات المبنية على الدراسة يخلص المؤلف منها إلى حقائق وقناعات قوية بأن الليبرالية ( تقرأ الرأسمالية ، الديمقراطية ) هي الحل . وفي سبيل ذلك يعرض الكاتب لمناقشة فكرة الطرح الاسلامي المتطرف ممثلا في أفكار سيد قطب الذي يرى في الليبرالية كفرا بواحا ، كما يعرض للفكرة الشيوعية الداعية إلى خلق مجتمع متجانس بالقوة والإكراه ، و يخلص الكاتب في النهاية إلى أن التنبيه إلى التجانس بين الفكر الإسلامي المتطرف والفكر الشيوعي .
الكاتب منتبه إلى أحابيل الرافضين لليبرالية وحيلهم في تغبيش وعي المجتمع في دول مثل السودان ، من مثل ربط الليبرالية بالتحرر الجنسي والشذووذ وغير ذلك مما يصفه الكاتب بالهراء ، وفي الحقيقة إذا تطرقنا لهذه المسألة فربما ينبغي الإشارة والانتباه إلى أن التحرر الجنسي الممارس في المجتمعات السودانية إنما المسكوت عنه لهو متقدم ربما حتى على المجتمعات الراسخة في الليبرالية ولكن المسكوت عنه في مجتمعاتنا أقوى من أكاديميات الاحصاء والتحليل ومحروس بحراس دولة الطهرانية المدعاة . على كل حال فموقف الكاتب هنا واضح بلا مواربة ، فهو يرى أنه إن كانت ثقافة الليبرالية والرأسمالية والديمقراطية تتعارض مع عاداتنا وتقاليدنا فلنتخل إذن عن عاداتنا وتقاليدنا ولنلق بها في سلة المهملات .
يتبنى المؤلف في الجانب الاقتصادي للدولة مسألة رفع الدعم عن السلع ولكن ذلك في رأيه مربوط بالشرعية الكافية للحكومة ، ولا يعني بالشرعية بالضرورة شرعية الديمقراطية وصناديق الاقتراع ، فالحكومة الصينية رغم عدم ديمقراطيتها تتمتع بقدر كبير من الشرعية منبعه إيمان قطاعات كبيرة من الشعب الصيني بأفكار وبرامج الحزب الحاكم وأحقيته بالحكم إلى الأبد – يمكن المجادلة هنا بالطبع بأن النظام الصيني هو نظام قمعي بامتياز إلى حد تصبح معه هذه الفرضية ذاتها مشكوكا فيها - ، وبالنظر إلى الحالة السودانية وقت طباعة الكتاب ( في زمن الرئيس عمر حسن البشير ) فيرى المؤلف أن حكومة الحركة الاسلامية القائمة لها أنصار كثر وسط الشعب نفسه فهي تملك الشرعية ، ولكن المعضلة بحسب الكاتب أنها تملك شرعية كافية لإبقائها في الحكم مدة أطول ولكنها غير كافية لتطبيق برامج اقتصادية حقيقية تدفع عجلة الاقتصاد إلى الأمان ، وبلا شرعية يصبح الفساد المالي وأكل المال العام ضرورة لابد منها . وإزاء ذلك يرى المؤلف أن هناك خياران : أن يتخذ الشعب قراره ويسقط الحكومة ( وهو ما قد حدث بعد ذلك بالطبع ) ، أو أن تستمر إلى فترة طويلة وهنا يقول الكاتب إنه سيبحث معها عن حلول لتحسين الوضع الاقتصادي ، براغماتية واضحة ولكن تلك هي السياسة ودور الأحزاب السياسية من وجهة نظر الكاتب . وفي استعراضه لأنواع الشرعية يورد الكاتب تفسيرا ذكيا يعارض التفسير اليميني كما سماه لخروج المظاهرات المؤيدة للرئيس الأسبق جعفر النميري ضد انقلاب الشيوعيين عليه في 1971 ، فالتفسير اليميني وقتها والمُتبنى إلى الآن في أدبيات اليمين السوداني أن الجماهير خرجت لأنها تُكِنٌّ بغضا للحزب الشيوعي ، ونقطة الضعف هنا يرى الكاتب أن انقلاب النميري نفسه قبل ذلك في العام 1969 كان في نظر الشعب انقلاب شيوعيين . ما أخرج الجماهير يومها بحسب الكاتب هي الشرعية التي أعطتها هذه الجماهير للشخصية الكارزمية للنميري ، فهو رغم إمكانياته الضعيفة في الخطابة وآرائه المضطربة ، كان بمثابة الفارس في المخيلة السودانية شجاعا حاسما وفقيرا من أسرة فقيرة . ويورد الكاتب مثالا آخر للشرعية المعززة بالكاريزما في الراحل الدكتور جون قرنق قائد الحركة الشعبية لتحرير السودان .
واحدة من الحلول أو خطوات الحلول التي يراها الكاتب لتعافي اقتصاد السودان هي في استعادة السودان من اليسار ، وفي هذه الحالة وإرضاء للرأسمالية يرى الكاتب بأن أولئك الذين يختارون ألا يعملوا فإن على وحش الرأسمالية أن يقتلهم جوعا وليس كما يحدث في المجتمع السوداني حيث تتم رعايتهم بلا مقابل . وقريبا من ذلك يرى الكاتب أن التعليم من وجهة النظر الاقتصادية هو سلعة خاصة ولكن القرار السياسي جعلها سلعة عامة . وبالمقارنة مع أهداف الانجليز من تعليم السودانيين التي كانت اقتصاية بحتة يرى الكاتب أن التعليم في عهد الحركة الاسلامية في نظام الانقاذ كان لأهداف أيديولوجية وسياسية تشبه أهداف الحكومات الفاشية عند هتلر وموسوليني ويورد الكاتب أدلته على ذلك من منشورات ومطبوعات الحكومة نفسها عن التعليم . لا أتفق إلى حد كبير مع هذه الخلاصة ولكن ليس هذا مكان مناقشة ذلك . على كل حال يرى الكاتب أن التعليم في السودان أصبح بلا غاية حقيقية بل أصبح هو الغاية الأسمى للجميع ، وكحل لمعضلة التعليم العالي وتبعاتها يرى الكاتب أن التعليم الجامعي يجب أن يصبح سلعة مرتفعة السعر . بالطبع سيجادل الكثيرون هنا عن حق المواطنين في التعليم الجامعي في دولة كالسودان وعن حرمان النابهين من دخول الجامعات وكذا ، ولكن هذه الحجج كلها ستسقط أذا أخذنا على سبيل المثال أن عدد المقاعد الخالية في الدور الأول للقبول في كل كليات الزراعة في السودان تجاوز نصف المقاعد المتاحة للمنافسة ( وصل إلى نحو 53% ) من جملة المقاعد المتاحة في قبول هذا العام 2022 ! هذا مع الإشارة إلى أن نسب القبول لكليات الزراعة جميعها توقفت عند حاجز ال 50% بينما ارتفعت في جامعة الخرطوم حيث كانت النسبة المؤهلة للقبول هي 65 % ! توجد أمثلة أخرى بالطبع لتوضيح العدد الكبير من المقاعد الشاغرة في كليات الدعوة والاعلام ، علوم البيئة وغيرها وغيرها من الكليات والتخصصات التي سيتم ملؤها كيفما اتفق بالطلاب المتقدمين للقبول في الدور الثاني . تصرف الدولة بالطبع على هذه الكليات وتدعمها ليُطرح السؤال : ما الجدوى من الدعم أو توفير التعليم الجامعي في هذه الحالات لطلاب سيتخرجون للعمل في مجالات أخرى لا تمت لتخصصاتهم بأي صلة . في جامعة الزعيم الأزهرى في دراسة أُعدت لتقدير التكلفة الحقيقة للطالب الجامعي في العام 2021 كان ما يدفعه الطلاب كرسوم دراسية يمثل أقل أو نحو 10 % من التكلفة الحقيقية . تجدر الإشارة هنا إلى أن طلاب السنة الرابعة أو الخامسة في الكليات الحكومية يدفعون رسوما لا تصل إلى الثلاثة آلاف من الجنيهات في العام كله وتتضاءل لتصل إلى الخمسمائة جنيه في بعض الكليات ( أقل من دولار واحد وربما أقل من نصف الدولار كرسوم للعام الدراسي كله ! ) .
في خواتيم الكتاب وعن العنصرية ومساهمة الليبرالية في القضاء عليها يقول الكاتب إن أولى حلقات العنصرية تتحطم في المجتمع الرأسمالي عندما يشعر العمال أنهم جميعا كتلة واحدة ضد الرأسمالي الذي يعملون عنده ، وفي مسألة الزواج والعنصرية يرى أن الفيصل في الزواج تحت ظل المجتمع الرأسمالي يصبح هو المال وليس العرق والقبيلة ، ويشير هنا إلى أنه في السودان يُنظر إلى العرق والقبيلة والأصل بحذر إن كان دخلك المالي متوسطا أو ضعيفا ، بينما يُغض الطرف عن ذلك في حالة الغنى ، في الحقيقة أظن أن هذه الفرضية غير صحيحة بالمرة وإن شابتها بعض الاستثناءات ، بل إنني أظن أن الكاتب بالغ في تأثير سطوة النظام الرأسمالي ومقدرته على محو الفوارق العرقية في السودان وفي الدول الأخرى كذلك .
الكتاب جدير بالقراءة ومحفز للتفكير ، لا يُتوقع من القاريء أن يتفق مع مجمل أو كل ما ورد فيه من أفكار ولكنه على كل حال لا يمكن للقاريء للكتاب تجاوز الطريقة المحفزة وقبل ذلك الشجاعة والواضحة للكاتب والباعثة على إعادة النظر في الكثير من المسلمات - تُقرأ الخرافات كذلك - التي اتبعها في طرح رؤيته وأفكاره .
wmelamin@hotmail.com
//////////////////////////
في نحو 240 صفحة من القطع المتوسط صدر للكاتب في العام 2015 كتابه الأول والموسوم " دعهم يجوعوا ... في الاقتصاد السياسي السوداني لرجل الشارع " . بدا لي أن الأوفق كان أن يكون العنوان الفرعي " في الاقتصاد السياسي لرجل الشارع السوداني " بدلا عن السوداني لرجل الشارع . وعلى كل حال فلن تشكل مثل هذه الملاحظة أمرا ذا بال لدى مؤلف الكتاب ، فالكتاب الصادر عن إحدى دور النشر المصرية غير المشهورة لم يهتم كاتبه بالإخراج أو بالتصميم بقدر ما اهتم بتوضيح أفكاره والسعي لاقناع القاريء بها . والكتاب في عمومه معد لمخاطبة رجل الشارع العادي أو غير المتخصص إن نظرنا لبساطة اللغة المستخدمة وبُعد الكاتب عن تعقيدات الكتابة ، وهو كذلك مناسب لمخاطبة المتخصصصين وذوى الاهتمام إن نظرنا لجرأة طرح الأفكار ومحاولة اجتراح الحلول لمأزق الدولة السودانية .
قسم المؤلف الكتاب إلى ثلاثة أجزاء ، سمى الأول : " لماذا الرأسمالية "، واحتوى هذا الجزء على فصلين ، الأول : " إحداثيات الواقع وخارطة المستقبل " ، وهذا الجزء نفسه احتوى على خمسة أبواب ( لم يسمها الكاتب بالأبواب أو أي اسم آخر ) جاءت على النحو التالي : إحداثيات البداية ، الطريق إلى استوكهولم ، نقاط بيضاء في القارة السوداء ، الطرق الأخرى التي ربما تؤدي إلى استوكهولم ، ثم أخيرا : ثقوب في رداء الليبرالية - ماركس وقطيع القطط . الفصل الثاني من الكتاب جاء بعنوان " الشرعية هي الغاية والديمقراطية إحدى الطرق " احتوى على خمسة " أبواب " هو الآخر. الجزء الثاني من الكتاب هو المسمى بدعهم يجوعوا ، وفيه فصلان ، الفصل الأول : " العمل " واحتوى على خمسة أبواب أو عناوين ، ثم الفصل الثاني تحت عنوان : " استعادة السودان من اليسار .. نحو مجتمع رأسمالي " . احتوى هذا الفصل أيضا على أربعة عناوين : هل نحن مجتمع شيوعي ؟ ( والإجابة عند الكاتب هي نعم كبيرة ! ) ، التعليم ... عندما يصبح الدواء سما ، الخروج من المأزق ... التعليم الفني ، ثم أخيرا : الهوية الاقتصادية .. الضرائب . الجزء الثالث والأخير جاء تحت عنوان " فصول متفرقة ... بحر واحد " ، وفيه فصلان : ملاريا العنصرية وكينين الرأسمالية ، ثم : انفصال الجنوب ... نصف الكوب الممتلىء .
من الواضح من طريقة اختيار الكاتب لعناوين الفصول والأجزاء تركيزه الواضح على القضية الأساسية للكتاب وكذلك حرصه على توصيل فكرته دونما مواربة . ينبغي ربما تقريظ العناوين التي هي ذاتها تبدو أحيانا كخلاصة لما يكتب تحتها في الفصل أو الباب المعين . كذلك من المهم ربما النظر إلى الكتاب ليس فقط ككتاب يتناول الأفكار الاقتصادية للكاتب ، بل إنه في الحقيقة يتناول مجمل أفكار الكاتب وتصوره لما ينبغي أن يكون عليه السودان انطلاقا من بوابة الاقتصاد .
يتبنى الكتاب فكرة أن الليبرالية هي النظام الأمثل لرفاه الشعوب ، وأن الرأسمالية ليست هدفا لذاتها بل هي محض وسيلة لزيادة رفاه الانسان وتحسين وضعه الاجتماعي ، وفيما خص السودان حيث المجتمع بعيد جدا عن مباديء الليبرالية فالكتاب يرى أن الرأسمالية واقتصاد السوق هي وحدها الكفيلة باجبار المجتمع وليس اقناعه فحسب بأن يتبنى مباديء الليبرالية ثم ينتخب حكومة ليبرالية ، إذ المجتمع نفسه حين يصبح ليبراليا فلن يقبل أبدا بدكتاتور متسلط بخلاف ما هو ماثل في المجتمع السوداني الذي لا يتمتع نصفه على الأقل بحقوقه الأساسية ، فحقوق النساء المنتقصة لم تنتزعها الحكومات في رأي الكاتب بل هو المجتمع نفسه من فعل ذلك ، بما في ذلك النساء اللواتي يراهن الكاتب ضحايا وجلادين في ذات الوقت ، وكذلك فالحقوق الدينية ليست متوفرة في هذا المجتمع رغم ما يبدو عليه من التسامح الظاهري . أما الحقوق السياسية فيرى الكاتب أنه ورغم أن المجتمع السوداني يبدو متسامحا فيها ، فهي لا تزال مرتبطة بالحقوق الدينية ، ففي حقيقة الأمر ، يقول الكاتب ، ليست هناك سياسة في السودان على الإطلاق ! بل هي حكاو وأقاصيص تدور حول تاريخنا وتاريخكم ! ولهذا السبب بالذات ، أي عدم ترسخ المفاهيم الليبرالية في المجتمع السوداني – يجد الكاتب أنه يصبح من الطبيعي ألا يكترث الشعب عند حدوث انقلاب عسكري إن لم يهلل له ، فقيم الحرية والحقوق المدنية هي المباديء التي إن تبناها المجتمع ( بعد انتقاله لمرحلة المجتمع الليبرالي ) ، فقطعا لن ينتخب فصيلا سيمنع هذه الحريات ! بدت لي هذه الملاحظة حصيفة في تفسير تكرار الدكتاتوريات في تاريخ الدولة الوطنية في السودان وتكرار وفرة مؤيديها على الدوام . الملاحظة الحصيفة كذلك بدت لي في مارآه الكاتب من أن المجتمع الليبرالي سيقف بالتأكيد وقفة منيعة أمام كل من تسول له نفسه انتزاع هذه الحقوق عبر انقلاب عسكري أو أي شكل آخر . بدت لي هذه الملاحظة حصيفة وربما مفيدة كذلك في تفسير الحراك المجتمعي السوداني – الشبابي في غالبه – في ثورة ديسمبر المجيدة وما بعدها ، فقيم الليبرالية ربما كانت أكثر ترسخا لدى فئات الشباب منها لدى الأجيال الأكبر سنا ، مرد ذلك بالتأكيد لأجواء العولمة التي نشأ فيها هؤلاء الشباب وانفتاح الأفكار والجرأة في مناقشتها ، وهو على كل حال مناخ ليس خاصا بالسودان ، إلا أن ما يميز المجتمع السوداني ربما هو توقه الدائم للتحرر وميله نحو قيم الحرية وإن بطريقته الخاصة التي لا تعني بالضرورة الحقوق اليبرالية .
يرى الكاتب أن الرأسمالية لم تطبق أبدا في السودان ويعتقد أن الرأي القائل بأن تطبيق الرأسمالية في عهد السيد عبد الرحيم حمدي وزير مالية السودان في بعض فترات حكومة الإسلاميين ، يرى بأن ذلك لا يعدو كونه خرافة سودانية أخرى وأن ما طُبق وقتها لم يكن أكثر من كونه نزعة للمتاجرة من غير اهتمام بأي شيء آخر ، فالدولة حينها كانت دولة بيروقراطية مترهلة بامتياز ، وكان إنجاز أمر عبرها يتطلب الدخول في متاهات قد لا تنتهي وذلك مقابل وجود طرق سرية قصيرة جدا ولكنها غير متاحة إلا للمسئولين الحكوميين أو ذويهم كما يرى الكاتب . ربما يمكننا كمثال هنا أن نذكر الاعفاءات الجمركية التي انتهجتها الحكومة وقتها لصالح بعض منسوبيها مقابل التشدد فيها ورفع الضرائب على الرأسمالية الوطنية غير الموالية لنظام الحكم . استشرت هذه الممارسة بالطبع إلى حد أن أدت إلى خروج بعض الأسماء المعروفة من الرأسمالية الوطنية من السوق وصعود أسماء أخرى لم يكن لها أن تتسيد المشهد لولا هذا التمييز الانتقائي . بالطبع نستطيع أن نرد ما يحدث الآن من تهريب للذهب ولثروات البلاد الأخرى باشراف بل وبتواطؤ بعض أجهزة الدولة نفسها إلى ما أعطته بعض مراكز القوى في سودان ما بعد اتفاقية سلام جوبا لنفسها من امتيازات تمثل رؤيتها لمفهوم الدولة . لم تكن هذه المسألة في أخذ جهاز الدولة كوسيلة للإغتناء حديثة عهد الاسلاميين وإن كانت أكثر ظهورا في عهدهم لتطاول فترة حكمهم ربما أو لتعدد مصادر كسب المال وكذلك التدخل الإقليمي والدولي في السودان مترافقا مع استعداد النظام الحاكم لبيع ما تيسر بيعه من البلاد مقابل البقاء في سدة الحكم أيا كان المقابل ، غير أن ما يحدث الآن يميزه غياب مركزية الدولة وتعدد مراكز اتخاذ القرار مما يزيد الوضع سوء .
لا يخلو الكتاب من الاحصائيات المهمة والمفيدة مثل نسبة السودانيين تحت خط الفقر ، نسبة السودانيين المحرومين من خدمات الكهرباء والمياه النقية الصالحة للشرب ، نسبة الأمية ، عدد المستشفيات مقابل المواطنين وكذلك نسبة الأسر التي لا تملك وبالتالي لا تستخدم دورات المياه . من نافلة القول بالطبع إن هذه المسائل بالذات وما يماثلها هي ما يراها السيد مجاهد من أبجديات السياسة وما ينبغي أن تكون من اهتمامات وفي برامج الأحزاب السياسية . وفي هذا الإطار ، أي إطار الاحصائيات والمقارنات يورد المؤلف دراسة معبرة دعمها بالرسومات والأشكال البيانية خلص منها إلى أن الدول الثلاثين الأعلى من حيث دخل الفرد ( ذكرها المؤلف بالاسم ) كلها حازت على مؤشرات ديمقراطية مرتفعة ( عدا أربع دول تمثل حالات خاصة في نظر المؤلف لتوفرها على ثروات طبيعية ضخمة من الغاز والنفط ) ، كذلك يخلص المؤلف إلى أن الدول الثلاثين الأعلى في تصنيف الديمقراطية جميعها عدا ست دول يصل متوسط دخل الفرد فيها إلى 25 ألف دولار سنويا ، وحتى هذه الدول الست يصل متوسط دخل الفرد في أقلها إلى ثلاثة أضعاف متوسط دخل الفرد في السودان ، هذه الخلاصات المبنية على الدراسة يخلص المؤلف منها إلى حقائق وقناعات قوية بأن الليبرالية ( تقرأ الرأسمالية ، الديمقراطية ) هي الحل . وفي سبيل ذلك يعرض الكاتب لمناقشة فكرة الطرح الاسلامي المتطرف ممثلا في أفكار سيد قطب الذي يرى في الليبرالية كفرا بواحا ، كما يعرض للفكرة الشيوعية الداعية إلى خلق مجتمع متجانس بالقوة والإكراه ، و يخلص الكاتب في النهاية إلى أن التنبيه إلى التجانس بين الفكر الإسلامي المتطرف والفكر الشيوعي .
الكاتب منتبه إلى أحابيل الرافضين لليبرالية وحيلهم في تغبيش وعي المجتمع في دول مثل السودان ، من مثل ربط الليبرالية بالتحرر الجنسي والشذووذ وغير ذلك مما يصفه الكاتب بالهراء ، وفي الحقيقة إذا تطرقنا لهذه المسألة فربما ينبغي الإشارة والانتباه إلى أن التحرر الجنسي الممارس في المجتمعات السودانية إنما المسكوت عنه لهو متقدم ربما حتى على المجتمعات الراسخة في الليبرالية ولكن المسكوت عنه في مجتمعاتنا أقوى من أكاديميات الاحصاء والتحليل ومحروس بحراس دولة الطهرانية المدعاة . على كل حال فموقف الكاتب هنا واضح بلا مواربة ، فهو يرى أنه إن كانت ثقافة الليبرالية والرأسمالية والديمقراطية تتعارض مع عاداتنا وتقاليدنا فلنتخل إذن عن عاداتنا وتقاليدنا ولنلق بها في سلة المهملات .
يتبنى المؤلف في الجانب الاقتصادي للدولة مسألة رفع الدعم عن السلع ولكن ذلك في رأيه مربوط بالشرعية الكافية للحكومة ، ولا يعني بالشرعية بالضرورة شرعية الديمقراطية وصناديق الاقتراع ، فالحكومة الصينية رغم عدم ديمقراطيتها تتمتع بقدر كبير من الشرعية منبعه إيمان قطاعات كبيرة من الشعب الصيني بأفكار وبرامج الحزب الحاكم وأحقيته بالحكم إلى الأبد – يمكن المجادلة هنا بالطبع بأن النظام الصيني هو نظام قمعي بامتياز إلى حد تصبح معه هذه الفرضية ذاتها مشكوكا فيها - ، وبالنظر إلى الحالة السودانية وقت طباعة الكتاب ( في زمن الرئيس عمر حسن البشير ) فيرى المؤلف أن حكومة الحركة الاسلامية القائمة لها أنصار كثر وسط الشعب نفسه فهي تملك الشرعية ، ولكن المعضلة بحسب الكاتب أنها تملك شرعية كافية لإبقائها في الحكم مدة أطول ولكنها غير كافية لتطبيق برامج اقتصادية حقيقية تدفع عجلة الاقتصاد إلى الأمان ، وبلا شرعية يصبح الفساد المالي وأكل المال العام ضرورة لابد منها . وإزاء ذلك يرى المؤلف أن هناك خياران : أن يتخذ الشعب قراره ويسقط الحكومة ( وهو ما قد حدث بعد ذلك بالطبع ) ، أو أن تستمر إلى فترة طويلة وهنا يقول الكاتب إنه سيبحث معها عن حلول لتحسين الوضع الاقتصادي ، براغماتية واضحة ولكن تلك هي السياسة ودور الأحزاب السياسية من وجهة نظر الكاتب . وفي استعراضه لأنواع الشرعية يورد الكاتب تفسيرا ذكيا يعارض التفسير اليميني كما سماه لخروج المظاهرات المؤيدة للرئيس الأسبق جعفر النميري ضد انقلاب الشيوعيين عليه في 1971 ، فالتفسير اليميني وقتها والمُتبنى إلى الآن في أدبيات اليمين السوداني أن الجماهير خرجت لأنها تُكِنٌّ بغضا للحزب الشيوعي ، ونقطة الضعف هنا يرى الكاتب أن انقلاب النميري نفسه قبل ذلك في العام 1969 كان في نظر الشعب انقلاب شيوعيين . ما أخرج الجماهير يومها بحسب الكاتب هي الشرعية التي أعطتها هذه الجماهير للشخصية الكارزمية للنميري ، فهو رغم إمكانياته الضعيفة في الخطابة وآرائه المضطربة ، كان بمثابة الفارس في المخيلة السودانية شجاعا حاسما وفقيرا من أسرة فقيرة . ويورد الكاتب مثالا آخر للشرعية المعززة بالكاريزما في الراحل الدكتور جون قرنق قائد الحركة الشعبية لتحرير السودان .
واحدة من الحلول أو خطوات الحلول التي يراها الكاتب لتعافي اقتصاد السودان هي في استعادة السودان من اليسار ، وفي هذه الحالة وإرضاء للرأسمالية يرى الكاتب بأن أولئك الذين يختارون ألا يعملوا فإن على وحش الرأسمالية أن يقتلهم جوعا وليس كما يحدث في المجتمع السوداني حيث تتم رعايتهم بلا مقابل . وقريبا من ذلك يرى الكاتب أن التعليم من وجهة النظر الاقتصادية هو سلعة خاصة ولكن القرار السياسي جعلها سلعة عامة . وبالمقارنة مع أهداف الانجليز من تعليم السودانيين التي كانت اقتصاية بحتة يرى الكاتب أن التعليم في عهد الحركة الاسلامية في نظام الانقاذ كان لأهداف أيديولوجية وسياسية تشبه أهداف الحكومات الفاشية عند هتلر وموسوليني ويورد الكاتب أدلته على ذلك من منشورات ومطبوعات الحكومة نفسها عن التعليم . لا أتفق إلى حد كبير مع هذه الخلاصة ولكن ليس هذا مكان مناقشة ذلك . على كل حال يرى الكاتب أن التعليم في السودان أصبح بلا غاية حقيقية بل أصبح هو الغاية الأسمى للجميع ، وكحل لمعضلة التعليم العالي وتبعاتها يرى الكاتب أن التعليم الجامعي يجب أن يصبح سلعة مرتفعة السعر . بالطبع سيجادل الكثيرون هنا عن حق المواطنين في التعليم الجامعي في دولة كالسودان وعن حرمان النابهين من دخول الجامعات وكذا ، ولكن هذه الحجج كلها ستسقط أذا أخذنا على سبيل المثال أن عدد المقاعد الخالية في الدور الأول للقبول في كل كليات الزراعة في السودان تجاوز نصف المقاعد المتاحة للمنافسة ( وصل إلى نحو 53% ) من جملة المقاعد المتاحة في قبول هذا العام 2022 ! هذا مع الإشارة إلى أن نسب القبول لكليات الزراعة جميعها توقفت عند حاجز ال 50% بينما ارتفعت في جامعة الخرطوم حيث كانت النسبة المؤهلة للقبول هي 65 % ! توجد أمثلة أخرى بالطبع لتوضيح العدد الكبير من المقاعد الشاغرة في كليات الدعوة والاعلام ، علوم البيئة وغيرها وغيرها من الكليات والتخصصات التي سيتم ملؤها كيفما اتفق بالطلاب المتقدمين للقبول في الدور الثاني . تصرف الدولة بالطبع على هذه الكليات وتدعمها ليُطرح السؤال : ما الجدوى من الدعم أو توفير التعليم الجامعي في هذه الحالات لطلاب سيتخرجون للعمل في مجالات أخرى لا تمت لتخصصاتهم بأي صلة . في جامعة الزعيم الأزهرى في دراسة أُعدت لتقدير التكلفة الحقيقة للطالب الجامعي في العام 2021 كان ما يدفعه الطلاب كرسوم دراسية يمثل أقل أو نحو 10 % من التكلفة الحقيقية . تجدر الإشارة هنا إلى أن طلاب السنة الرابعة أو الخامسة في الكليات الحكومية يدفعون رسوما لا تصل إلى الثلاثة آلاف من الجنيهات في العام كله وتتضاءل لتصل إلى الخمسمائة جنيه في بعض الكليات ( أقل من دولار واحد وربما أقل من نصف الدولار كرسوم للعام الدراسي كله ! ) .
في خواتيم الكتاب وعن العنصرية ومساهمة الليبرالية في القضاء عليها يقول الكاتب إن أولى حلقات العنصرية تتحطم في المجتمع الرأسمالي عندما يشعر العمال أنهم جميعا كتلة واحدة ضد الرأسمالي الذي يعملون عنده ، وفي مسألة الزواج والعنصرية يرى أن الفيصل في الزواج تحت ظل المجتمع الرأسمالي يصبح هو المال وليس العرق والقبيلة ، ويشير هنا إلى أنه في السودان يُنظر إلى العرق والقبيلة والأصل بحذر إن كان دخلك المالي متوسطا أو ضعيفا ، بينما يُغض الطرف عن ذلك في حالة الغنى ، في الحقيقة أظن أن هذه الفرضية غير صحيحة بالمرة وإن شابتها بعض الاستثناءات ، بل إنني أظن أن الكاتب بالغ في تأثير سطوة النظام الرأسمالي ومقدرته على محو الفوارق العرقية في السودان وفي الدول الأخرى كذلك .
الكتاب جدير بالقراءة ومحفز للتفكير ، لا يُتوقع من القاريء أن يتفق مع مجمل أو كل ما ورد فيه من أفكار ولكنه على كل حال لا يمكن للقاريء للكتاب تجاوز الطريقة المحفزة وقبل ذلك الشجاعة والواضحة للكاتب والباعثة على إعادة النظر في الكثير من المسلمات - تُقرأ الخرافات كذلك - التي اتبعها في طرح رؤيته وأفكاره .
wmelamin@hotmail.com
//////////////////////////