مَأْساة العلاقة مع الجارة الشمالية
مـحمد أحمد الجاك
31 March, 2022
31 March, 2022
ما من شك في أن العلاقة بين السودان وجارته الشمالية علاقة أزلية؛ و إن العلاقة بين شعبي وادي النيل علاقة بين شقيقين، و كذلك البلدين هما بلد واحد.. كل تلك جمل تقال علي سبيل المجاملات في لقاءات الدبلوماسيين و المسؤولين الرسميين في البلدين.
لكن في الواقع فإن العلاقة بين البلدين هي علاقة ازلية في مأسويتها، فمنذ العهد الاستعماري تعرض السودان للاحتلال انطلاقاً من اراضي مصر مرتان، في ١٨٢١م و ١٨٩٩م و خضع لاستعمار استنزف قدراته ببعثتين قوامهما الاعظم من جنود و موظفين مصريين لمصلحة تركيا العثمانية في الاولي و لبريطانيا في الثانية.
أما في عصر الاستقلال فإن هذه العلاقة استمرت علي ذات المنوال، ضحي السودان لأجل العلاقة الأزلية كثيراً، من بينها موافقته علي إغراق الآف الكيلومترات من الاراضي السكنية و الزراعية و المناطق الأثرية بالمياه كي تنعم مصر بالطاقة التي تكفيها للنهضة و الكهرباء، لكن في المقابل كان هنالك كان كثير من الجحود، فقد ظلت مصر دوماً مصدراً للمصائب بل و المشاكل، و لم يجد منها السودان (شعباً) ادني اعتبار إلى أن قضت الحرب الأهلية علي ثلثي ارضه.
المبررات المصرية الكاذبة بأن النظام السابق ناصبها العداء، و هذا غير صحيح اطلاقاً بل هو مجرد تهريج، إذ إن من سوّق للعالم انقلاب البشير في يونيو١٩٨٩م هو النظام المصري، بل و هي استفادت من مواقف ذلك النظام فاحتلت مثلث حلايب-شلاتين-ابورماد، و استفادت من عزلة السودان عربياً لتنهي عزلتها التي استمرت منذ ١٩٧٩م و حتي ١٩٩٠م
قبل ذلك ومنذ ١٩٦٧م و عندما كانت مصر في مواجهة مفتوحة مع نظام المملكة السعودية (ازمة الملك فيصل و الرئيس ناصر) و كانت مصر خرجت من حرب النكسة مثقلة بالجراح، و كانت تدفع ثمن سياسة ناصر القائمة علي تأليب الجيوش العربية للانقلاب علي الانظمة الملكية و الديمقراطية كذلك (تم في ذلك العهد الاطاحة بملك اليمن الامام احمد، و ملك ليبيا الملك السنوسي، و ملك العراق الملك فيصل بن الحسين و حكومة سوريا)، هذا الوضع الذي قوض الثقة تماماً بين مصر و السعودية و دخلتا في حرب مفتوحة في اليمن .. لم تنه تلك الأزمة إلا وساطة سياسة من حكومة السودان (الشرعية) و من قادة الاحزاب الديمقراطية السودانية، فكيف ردت مصر الناصرية ذلك الجميل؟ و هي المستفيد الأول من إنهاء الأزمة لأن مصر كانت من دول المواجهة في وقت الحرب.. ردت مصر بأن خططت و دعمت انقلاب الضباط الأحرار في السودان بقيادة جعفر نميري و الذي قوض سلطة الحكومة الديمقراطية و أنهي حالة التعددية السياسية في السودان.
و عندما اختارت مصر طريق المصالحة مع الكيان الصهيوني و اتجهت الدول العربية إلى مقاطعتها و نُقلت الجامعة العربية غلى الجزائر كان السودان هو الدولة العربية الوحيدة التي لم تقاطع مصر و تفهمت الدول العربية إهمية مصر بالنسبة للسودان، و أصبح السودان هو قناة إتصال رئيسية بين مصر و بقية الحكومات العربية.. لكن مع الأسف لم تتفهم مصر تلك الخصوصية و لم تفهم أهمية السودان بالنسبة لها، و اختارت في ١٩٩٠م أن تصعد علي اكتاف السودان و تنهي عزلتها عبر ادخال السودان في عزلة عربية لم تنته إلا في ٢٠١٥م، بل و لم تنته بالنسبة لعدد من الأنظمة كالكويت و أنظمة أخري لا تزال تنظر للسودان كمارق علي الإجماع و مصدر للمشاكل و داعم لجماعات المعارضة الإرهابية.
لم تبذل القاهرة أي دور لإنهاء هذا الوضع، بل و حتي بعد أن نجح السودانيين في الإطاحة بالبشير الذي تسبب بكل تلك المشاكل وقفت القاهرة موقف المتفرج فيما يخص اعادة ادماج السودان عربياً و عالمياً، والغريب والعجيب أن مصر هي الدولة العربية الوحيدة من بين الدول الصديقة والشقيقة التي عارضت وصوت في مجلس الأمن أمام رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للارهاب وقتها !!
بل و اخذت تتربص بتجربة الانتقال الديمقراطي و احتضنت رموز من نظام البشير الأخواني علي رأسهم مدير جهاز مخابراته و الذي يدير من القاهرة عملية اجهاض الانتقال المدني الديمقراطي في السودان .. كل ذلك برعاية رسمية تامة من النظام المصري.
لقد سعي بعض رموز النظام الانتقالي في السودان للتقارب مع مصر و عملت وزارة الخارجية و وزارة الري بتنسيق عالي مع مصر فيما يخص موضوع سد النهضة كل ذلك لضمان أمن مصر المائي علي أمل ان تضمن مصر أمن السودان في لحظة الانتقال و خسر السودان في سبيل ذلك صداقة اثيوبيا.. لكن مصر اختارت استغلال الموقف و استثمار علاقاتها العسكرية بالجانب السوداني و التي عملت عليها عقب الاطاحة بنظام المؤتمر الوطني الإخواني و عبر مدير مخابرات البشير لاجهاض ثورة ديسمبر و تقويض الحكومة المدنية و محاولة اقامة سلطة موالية بالكامل للقاهرة! و ان كان ثمن ذلك و مقابله خلق حالة من التبعية تقعد بالسودان و تزيد من أزماته الاقتصادية و الاجتماعية بما لها من إنعكاسات سياسية و امنية.. في حين ان ليس للسودان أي مكان في اجندة مصر الاقتصادية او في مجال التعاون التنموي، إذ ظلت دوماً تري في السودان تابع حضاري و ظل ثقافي، أو تنظر إليه بعين المخابرات و الأمن، بل و منذ محاولة اغتيال حسني مبارك و التي هي بالاساس من ترتيب جماعات الجهاد المصرية و المخترقة حتي النخاع من أمن مصر إلا أن نظام مبارك-عمر سليمان قرر بعدها تحويل ملف السودان من الخارجية إلى المخابرات العامة اسوة بالملف الفلسطيني ليقبع فيه منذ العام ١٩٩٤م و إلى يومنا هذا
إن طريق السودان الوحيد للنهوض مما تردي فيه بسبب سنوات من الحروب الأهلية هو اقامة تعددية سياسية راشدة و بناء دولة مواطنة و حكم قانون تنهي حالة التناحر و تنامي النزاعات المطلبية الجهوية ، و محاولات السودانيين لاقامة ديمقراطية وطنية متعددة و واعدة، لكن العقلية المصرية تري من المعيب في حقها إن يتقدم السودان عليها سياسياً و يقيم تجربة برلمانية تعددية حقيقية و ينعم شعبه بحرية سياسية و مشاركة تامة في الشأن العام قبل أن يحدث ذلك بمصر؛ و التي لا يبدو انها ستفعل في المستقبل المنظور؛ لذا فالحل في رأي النخبة الحاكمة المصرية و النظام المصري يكمن في اقامة نظام تابع في الخرطوم ليبقي السودات تابع لمصر حتي يحدث الله امراً
مخرج السودان من هذه الصلة المأساوية و هذه العلاقة القاتلة والمدمرة يقوم علي الحرص علي تقليل الأثر الضار لتلك العلاقة، و ذلك بتقليص الصلة مع مصر إلى الحدود الدنيا في كافة المجالات سياسيا ودبلوماسيا بما في ذلك المجال الثقافي و الاعلامي، و إنهاء الحالة التي كانت قائمة لقرون و هي فكرة أن النخب السودانية كانت تعتبر مصر هي نافذتهم على العالم و هي طريق السودانيين إلى جهات الأرض الأربعة.
السودان لا يحتاج لنافذة ضيقة و لا يحتاج لطريق ملئ بالعراقيل و الفخاخ، في حين أبواب العالم في هذا الزمان مشرعة و مليئة بالضياء و الطرق متعددة و متنوعة و متاحة امام الجميع وليست بحاجة لوسيط أو عميل لطرقها.
mido34067@gmail.com
//////////////////////////////
لكن في الواقع فإن العلاقة بين البلدين هي علاقة ازلية في مأسويتها، فمنذ العهد الاستعماري تعرض السودان للاحتلال انطلاقاً من اراضي مصر مرتان، في ١٨٢١م و ١٨٩٩م و خضع لاستعمار استنزف قدراته ببعثتين قوامهما الاعظم من جنود و موظفين مصريين لمصلحة تركيا العثمانية في الاولي و لبريطانيا في الثانية.
أما في عصر الاستقلال فإن هذه العلاقة استمرت علي ذات المنوال، ضحي السودان لأجل العلاقة الأزلية كثيراً، من بينها موافقته علي إغراق الآف الكيلومترات من الاراضي السكنية و الزراعية و المناطق الأثرية بالمياه كي تنعم مصر بالطاقة التي تكفيها للنهضة و الكهرباء، لكن في المقابل كان هنالك كان كثير من الجحود، فقد ظلت مصر دوماً مصدراً للمصائب بل و المشاكل، و لم يجد منها السودان (شعباً) ادني اعتبار إلى أن قضت الحرب الأهلية علي ثلثي ارضه.
المبررات المصرية الكاذبة بأن النظام السابق ناصبها العداء، و هذا غير صحيح اطلاقاً بل هو مجرد تهريج، إذ إن من سوّق للعالم انقلاب البشير في يونيو١٩٨٩م هو النظام المصري، بل و هي استفادت من مواقف ذلك النظام فاحتلت مثلث حلايب-شلاتين-ابورماد، و استفادت من عزلة السودان عربياً لتنهي عزلتها التي استمرت منذ ١٩٧٩م و حتي ١٩٩٠م
قبل ذلك ومنذ ١٩٦٧م و عندما كانت مصر في مواجهة مفتوحة مع نظام المملكة السعودية (ازمة الملك فيصل و الرئيس ناصر) و كانت مصر خرجت من حرب النكسة مثقلة بالجراح، و كانت تدفع ثمن سياسة ناصر القائمة علي تأليب الجيوش العربية للانقلاب علي الانظمة الملكية و الديمقراطية كذلك (تم في ذلك العهد الاطاحة بملك اليمن الامام احمد، و ملك ليبيا الملك السنوسي، و ملك العراق الملك فيصل بن الحسين و حكومة سوريا)، هذا الوضع الذي قوض الثقة تماماً بين مصر و السعودية و دخلتا في حرب مفتوحة في اليمن .. لم تنه تلك الأزمة إلا وساطة سياسة من حكومة السودان (الشرعية) و من قادة الاحزاب الديمقراطية السودانية، فكيف ردت مصر الناصرية ذلك الجميل؟ و هي المستفيد الأول من إنهاء الأزمة لأن مصر كانت من دول المواجهة في وقت الحرب.. ردت مصر بأن خططت و دعمت انقلاب الضباط الأحرار في السودان بقيادة جعفر نميري و الذي قوض سلطة الحكومة الديمقراطية و أنهي حالة التعددية السياسية في السودان.
و عندما اختارت مصر طريق المصالحة مع الكيان الصهيوني و اتجهت الدول العربية إلى مقاطعتها و نُقلت الجامعة العربية غلى الجزائر كان السودان هو الدولة العربية الوحيدة التي لم تقاطع مصر و تفهمت الدول العربية إهمية مصر بالنسبة للسودان، و أصبح السودان هو قناة إتصال رئيسية بين مصر و بقية الحكومات العربية.. لكن مع الأسف لم تتفهم مصر تلك الخصوصية و لم تفهم أهمية السودان بالنسبة لها، و اختارت في ١٩٩٠م أن تصعد علي اكتاف السودان و تنهي عزلتها عبر ادخال السودان في عزلة عربية لم تنته إلا في ٢٠١٥م، بل و لم تنته بالنسبة لعدد من الأنظمة كالكويت و أنظمة أخري لا تزال تنظر للسودان كمارق علي الإجماع و مصدر للمشاكل و داعم لجماعات المعارضة الإرهابية.
لم تبذل القاهرة أي دور لإنهاء هذا الوضع، بل و حتي بعد أن نجح السودانيين في الإطاحة بالبشير الذي تسبب بكل تلك المشاكل وقفت القاهرة موقف المتفرج فيما يخص اعادة ادماج السودان عربياً و عالمياً، والغريب والعجيب أن مصر هي الدولة العربية الوحيدة من بين الدول الصديقة والشقيقة التي عارضت وصوت في مجلس الأمن أمام رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للارهاب وقتها !!
بل و اخذت تتربص بتجربة الانتقال الديمقراطي و احتضنت رموز من نظام البشير الأخواني علي رأسهم مدير جهاز مخابراته و الذي يدير من القاهرة عملية اجهاض الانتقال المدني الديمقراطي في السودان .. كل ذلك برعاية رسمية تامة من النظام المصري.
لقد سعي بعض رموز النظام الانتقالي في السودان للتقارب مع مصر و عملت وزارة الخارجية و وزارة الري بتنسيق عالي مع مصر فيما يخص موضوع سد النهضة كل ذلك لضمان أمن مصر المائي علي أمل ان تضمن مصر أمن السودان في لحظة الانتقال و خسر السودان في سبيل ذلك صداقة اثيوبيا.. لكن مصر اختارت استغلال الموقف و استثمار علاقاتها العسكرية بالجانب السوداني و التي عملت عليها عقب الاطاحة بنظام المؤتمر الوطني الإخواني و عبر مدير مخابرات البشير لاجهاض ثورة ديسمبر و تقويض الحكومة المدنية و محاولة اقامة سلطة موالية بالكامل للقاهرة! و ان كان ثمن ذلك و مقابله خلق حالة من التبعية تقعد بالسودان و تزيد من أزماته الاقتصادية و الاجتماعية بما لها من إنعكاسات سياسية و امنية.. في حين ان ليس للسودان أي مكان في اجندة مصر الاقتصادية او في مجال التعاون التنموي، إذ ظلت دوماً تري في السودان تابع حضاري و ظل ثقافي، أو تنظر إليه بعين المخابرات و الأمن، بل و منذ محاولة اغتيال حسني مبارك و التي هي بالاساس من ترتيب جماعات الجهاد المصرية و المخترقة حتي النخاع من أمن مصر إلا أن نظام مبارك-عمر سليمان قرر بعدها تحويل ملف السودان من الخارجية إلى المخابرات العامة اسوة بالملف الفلسطيني ليقبع فيه منذ العام ١٩٩٤م و إلى يومنا هذا
إن طريق السودان الوحيد للنهوض مما تردي فيه بسبب سنوات من الحروب الأهلية هو اقامة تعددية سياسية راشدة و بناء دولة مواطنة و حكم قانون تنهي حالة التناحر و تنامي النزاعات المطلبية الجهوية ، و محاولات السودانيين لاقامة ديمقراطية وطنية متعددة و واعدة، لكن العقلية المصرية تري من المعيب في حقها إن يتقدم السودان عليها سياسياً و يقيم تجربة برلمانية تعددية حقيقية و ينعم شعبه بحرية سياسية و مشاركة تامة في الشأن العام قبل أن يحدث ذلك بمصر؛ و التي لا يبدو انها ستفعل في المستقبل المنظور؛ لذا فالحل في رأي النخبة الحاكمة المصرية و النظام المصري يكمن في اقامة نظام تابع في الخرطوم ليبقي السودات تابع لمصر حتي يحدث الله امراً
مخرج السودان من هذه الصلة المأساوية و هذه العلاقة القاتلة والمدمرة يقوم علي الحرص علي تقليل الأثر الضار لتلك العلاقة، و ذلك بتقليص الصلة مع مصر إلى الحدود الدنيا في كافة المجالات سياسيا ودبلوماسيا بما في ذلك المجال الثقافي و الاعلامي، و إنهاء الحالة التي كانت قائمة لقرون و هي فكرة أن النخب السودانية كانت تعتبر مصر هي نافذتهم على العالم و هي طريق السودانيين إلى جهات الأرض الأربعة.
السودان لا يحتاج لنافذة ضيقة و لا يحتاج لطريق ملئ بالعراقيل و الفخاخ، في حين أبواب العالم في هذا الزمان مشرعة و مليئة بالضياء و الطرق متعددة و متنوعة و متاحة امام الجميع وليست بحاجة لوسيط أو عميل لطرقها.
mido34067@gmail.com
//////////////////////////////