أركون وَالْعَقْلِيَّة الْجَدِيدَة

 


 

 

إلى الذي قدم الكثير
دون أن ينتظر مقابل
المفكر الموسوعي
د. عبد الله الفكي البشير

 

لَقَد صارَ قَلْبِي قابِلا كُلَّ صورةٍ
فمرعًى لغزلانٍ وَديْرٌ لرُهبانِ
وبيتٌ لِأَوثانٍ وكعبةُ طائٍف
وألواحُ توراةٍ ومصحفُ قُرآنِ
أَدينُ بدينِ الحُبِّ
أَنّى تَوجَّهَتْ ركائِبُهُ
فالحُبُّ دِينِي وَإِيماني.

ابْنِ عَرَبِيٍّ

إنطلاقا من الإسلاميات الكلاسيكية إلى الإسلاميات التطبيقية المشروع الفكري الذي هاجسه الأول، الإنسان، وهو مشروع نقد العقل الإسلامي للمفكر الجزائري محمد أركون، حيث سعى أركون إلى بلورة عقلية جديدة منفتحة ومتسامحة من خلال منهجية نقدية اصطلح عليها مترجمة عن الفرنسية د٠هاشم صالح اسم المنهجية التقدمية التراجعية، وهو نقد منهجي يعمل على تسليط أضواء الماضي على الحاضر، وأضواء الحاضر على الماضي. فالباحث يرى ان فهم المشكلات الراهنة بشكل دقيق ممكن عبر قراءة ماضينا قراءة واعية، أو بتعبير آخر، النظر إلى التراث عبر عدسة الحداثة، والنظر إلى الحداثة بعدسة التراث، حسب تعبير صديقنا خالد تورين. وهنا عزيزي/تي القارئ/ة أحيلك إلى كتاب عبد الله العروي (العرب والفكر التاريخي). يشير العروي في كتابه إلى نقطة اعتبرها مهمة، وهي ان كلمة التراث هذه، بحسب العروي هو مفهوم غير ثابت يتحرك ما بين الديني والثقافي، وبالتالي قد يؤدي احيانا إلى تضليل القارئ/ة. محمد أركون في مشروعه يسعى لفهم ماضي العرب و المسلمين بصدد الوقوف على الأسباب التي أدت إلى الانحطاط والتخلف الراهن الذي تعيشه المجتمعات العربية، والإسلامية المعاصرة، وبالتالي فإن مشكلات الراهن لها جذور عميقة في الماضي البعيد، مما دفع، أركون إلى التنقيب في الماضي باحثاً عن أسباب انطفاء شمعة الفلسفة والتنوير العربي الاسلامي، ومن ثمة انهيار الحضارة العربية الإسلامية التي كانت مزدهرة خلال القرنين الثالث والرابع الهجري. في نظري ان انشغال اركون الرئيس في معظم كتاباته هو بحثه المستمر عن النزعة الإنسانية. ولعل أكبر دليل على ذلك هو أن رسالته التي تقدم بها للحصول على الدكتوراه جاء تحت عنوان، نزعة الأنسنة في الفكر العربي جيل مسكويه والتوحيدي، والذي هو بمثابة بحث عن النزعة الإنسانية التي اختفت من ساحة الفكر العربي الإسلامي، بعد تراجع وانهيار الحضارة الإسلامية. أركون يرى أن، اختفاء التنوير ودخول المسلمين في الانحطاط تم عقب هيمنة الفكر اللاهوتي المضاد للفلسفة، ولكل نزعة انسانية حيث بدأت التراجع من منذ ذلك، واستمر حتى وصل إلى عصر تدعو فيه التنظيمات الظلامية إلى استئصال الآخر المختلف دينياً. فأهمية أركون تكمن في أنه، ومن خلال مشروعه النقدي، يفتح عقولنا على رؤية نقدية، تؤسس لعقلية جديدة تجمع بين ما يسميه بالخيال الشاعري، من جهة) والعقل العلمي من جهة اخرى. وهكذا فإن مشروعه يدخل، ضمن المشاريع النقدية الما بعد حداثية، فالباحث يشتغل نقدا على بنية الوعي الإسلامي التقليدي الراسخ الجذور، متطلعا إلى إحداث قطيعة إبستمولوجية مع هذا النوع من الوعي المأزوم، حيث ان الغرب الذي نراه متقدما هو نفسه ما عرف الحداثة الا حين أحدث قطيعة مع الاعتقاد التقليدي القروسطي، منتقلا بذلك إلى النزعة الإنسانية الفلسفية. في الحقيقة، وقبل ذلك، لم نعرف أوربا احترام حقوق الإنسان، ولا الديمقراطية. فالتحولات الكبرى حدثت عبر مراحل ولم تأتي دفعة واحدة: فالنهضة، ثم الإصلاح البروتستانتي، ثم الثورة السياسية التي أسقطت الملكية، والتي من خلالها انتزعت الشعوب حريتها انتزاعا من سلطة الملك والاكليروس، وهدمت بذلك الشكل الثيوقراطي للدولة. كذلك مشروع أركون النقدي يهدف إلى ترسيخ القيم الانسان عالمية، وبالتالي يمكن اعتباره ثورة في الوعي الثقافي من اللامعقول، إلى المعقول. فالباحث بصرامته النقدية واقتداره الفلسفي، في نظري، هو امتداد للفلاسفة القدماء / مسكوية /التوحيدي/ وبن رشد/، والكندي/ وآخرون غيرهم. فهو، قد حمل ذات همومهم، وأكثر من ذلك، سعى جاهداً، لفهم وتحليل، مشكلات الإنسان في السياقات العربية والاسلامية، والإنسان في السياق العربي والإسلامي قد "أشكل عليه الإنسان" حسب العبارة المدهشة لأبي حيان التوحيدي، الذي طرح الإنسان كمشكل فلسفي، وبالتالي، أركون يرى أن المنظور الفقهي والوعي التقليدي وحده لا يكفي لفهم الانسان، لذا فإن العقلية النقدية الجديدة المنفتحة والمتسامحة التي سعى إلى بلورتها وفق المنظور الفلسفي النقدي تركز بشكل أساسي على الإنسان، ولكنها في ذات الآن لا تهمل الجانب الروحي الديني وتهذيبه. ومن هنا تتضح ملامح المشروع الأركوني الما بعد حداثي. فهو يطرح الدين، ولكنه وفق منظور جديد، لا استعراضي، هو الأقرب إلى عصرنا، حسب تعبير هاشم صالح، حيث ان هذه العقلية الجديدة تنظر للدين بشكل مغاير، وتخلصه من الشكلانية الاستعراضية التي نراها عند الدراويش. وهنا يكمن عمق الدراسات الأركونية. فالباحث، رغم إعجابه الشديد بتلك النزعة الإنسانية والفلسفية في التراث العربي الإسلامي بين القرن الثالث والرابع والخامس، إلا ان ذلك التراث الفلسفي وبرغم أهميته، فهو سابق على الحداثة التي يعيشها العالم الآن، وبالتالي فهو ينتمي إلى النظام المعرفي الخاص بالعصور الوسطى، اي أنها عقلانية في حدود سياقها الزمكاني، والتطورات التي حدثت قد تجاوزتها، حسب محمد أركون. ففي مشروعه التحليلي النقدي لم يقف عند الحركات الأصولية الإسلاموية فحسب، بل كان اشتغاله النقدي قد شمل اليمين المتطرف الاوروبي أيضا. فمثلا، نجده ينتقد الأنظمة الحاكمة في الغرب، ويعتبرها مسؤولة مسؤولية مباشرة عن ما يحدث من هوة بين المجتمعات في الغرب والشرق. فالعقلية الجديدة عند أركون هي التي تمكنا من خلالها إقامة جسور بين شعوب العالم، ولكن صعوبة هذه العملية التأسيسية، في نظر أركون، تكمن في ان المؤسسات التعليمية عندنا هي ذاتها تعمل على مأسسة الجهل، بمعنى ما يسميه، تجهيل بنيوي مؤسسي، حيث تلعب المؤسسات دورا أساسيا في ترسيخها. فالإعلام مثلاً يرسخ للمواطن صورة مقلوبة عن الغرب، وكذا الحال في بعض المؤسسات في الغرب، فهي تعطي صورة زائفة عن الإسلام والمسلمين، وهذا يساهم في استمرار المشكل. فالخوف من الآخر، والتمركز حول الذات، خلق فجوة كبيره بين شعوب العالم، لذلك نجد الباحث في مشروعه يتحدث عن مسعى نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيدية، وهو أحد عناوين كتبه المهمة التي سعى من خلالها إلى تحرير المسلم/ والمسيحي/ واليهودي/ من الوعي التقليدي المتخندق والقائم على التنابز، والرفض، والقبض على الدين الصحيح، واحتكاره. هذه الرؤية العوجاء التي تاريخيا أدت إلى صعوبة التفاهم، وقبول الاختلاف، حيث أن الكل قد أغلق نفسه داخل سياج دوغمائي، حسب تعبيره. وهنا لابد ان نشير إلى رأي اخر للمفكر المصري يوسف زيدان، في كتابه اللاهوت العربي وأصول العنف الديني. زيدان له رأي آخر عن مقولة الأديان هذه: فهو يرى ان الدين أساسه واحد، وبالتالي فالتقسيم الشائع، بين أديان أرضية وأخرى سماوية، في حد ذاته يؤسس لمشكل، وبالتالي فهو وصف يفتقر للدقة العلمية.
نعود الى مسار حديثنا عن، ضرورة تحاشي التعصب والإكراه في الدين، فالعقلية الجديدة التي سعي أركون إلى تأسيسها، تتميز عن العقل التقليدي من خلال فهمه للدين بشكل عقلاني قائم على النزعة الإنسانية، وهذا قد يكبح جماح الأصوليات بأنواعها المختلفة. فالتنوير يقوم على زحرحة التوابث واختبار صلاحيتها، ومدى قدرتها على تقديم إجابات على أسئلة الراهن: فمن هذا المنطلق محمد أركون قام بمساءلة فكر ابن خلدون وتوصل إلى ان معظم ما قيل عن ابن خلدون من مدح وثناء، بل والبعض جعله مؤسسا لعلم الاجتماع، ومقارنته عن طيب خاطر بميكافيلي وغيره، حسب اركون، هذا كله ليس إلا إسقاطات ومبالغات. فالواقع يقول عكس ذلك، وهو ان فكر ابن خلدون، الديني تحديدا، قروسطي، ويندرج ضمن الحدود المشتركة للموقف اللاهوتي التقليدي، بمعنى موقف الرفض. فابن خلدون لم يخرج من التخندق أبدآ، وبالتالي لا ينبغي المبالغة بالحديث عن حداثته، ولا ينبغي إعطاؤه ما لا يستحق: للمزيد حول فكر ابن خلدون، اضافة إلى كتابات أركون، أحيل القارئ/ه إلى مراجعة نقدية مهمة للفكر الخلدوني وهو كتاب، (حفريات في الخطاب الخلدوني الأصول السلفية ووهم الحداثة العربية) الصادر عن دار الجنوب بتونس، للباحثة في الفكر والحضارة الإسلامية د٠ناجية الوريمي.
نعود الآن إلى أركون، حيث ينصب الباحث اهتمامه على التنقيب، حاملاً معه عدته المعرفية ليغوص في التاريخ عميقا. ويبدو أن مسكويه والتوحيدي في نظر أركون هما الشخصان اللذان لعبا دوراً مركزياً في التيار الإنساني العقلاني الذي يدعو له أركون، بالأدب الفلسفي في معناه الكلاسيكي الواسع لكلمة الأدب، واتفق مع أركون في ذلك. فالذي يقرأ الهوامل والشوامل يجد حقيقة، ان التوحيدي يجمع بين الأدب والفلسفة بشكل مدهش، وواضح انه كان في عصره باحثاً متبحراً، لم تقف معرفته في حدود الأدب فقط. أركون، ومن خلال حفرياته المعرفية في التراث، يعيد، الفتوحات الفكرية الكبرى التي حققها المفكرون في "العصر الذهبي". حيث توصل إلى نتيجة مفادها ان هذا الانسان المسلم المعاصر يعاني من قطيعتين، الاولى مع هذه الفتوحات الفكرية العظيمة التي تحققت للمسلمين في العصر الذهبي، في القرن الرابع. وقطيعة ثانية مع فتوحات الحداثة الأوربية. وبذلك أصبح المسلم فقير فكرياً، فقراً مدقعاً، لا يملك معه شيء، سواء كان هذا المسلم عربيًا او فارسيًا او تركيًا او افريقيا، او غيره. والسبب الرئيس في استمرارية هذا الفقر الفكري، حسب أركون، هو ان أنظمة ما بعد خروج المستعمر اتبعت طريق الجمود الأيديولوجي، وغاصت في العطالة الفكرية الموروثة، ورمت بنفسها في أحضان الأصولية الإسلاموية، التي قادت الشعوب إلى حتفها، وإلى انسدادات تاريخية، حتى اكتفت وباتت تصدر أصوليتها إلى الغرب، الذي هو ايضا يبدو ليس في مأمن. فظاهرة الارهاب خلقت خوفًا معممًا ك، شرقاً وغربًا. وبالتالي ادى إلى تسميم العلاقات الدولية، لذا ينبغي على العقلية الجديدة المتسامحة ان تفرض نفسها من خلال الدراسة العلمية المحايدة لكل الاديان، بعيداً عن المشهد الاستعراضي. وأن تعمل على روحنة شخصية. فالمتتبع لمشروع أركون يلاحظ انه يعمل على إقامة علاقة خلاقة بين العقل والإيمان، لأن ذلك حسب رأيه، يؤدى إلى تقدم الفكر الأخلاقي، حيث نجده في معظم كتاباته لم يتردد في القول بأن مفكري العصر الكلاسيكي جمعوا بين العقل والإيمان فنتجت عن ذلك علاقات تفاعلية خصبه ومبدعة بينهما، ثم لاحقا بدأت العلاقة بين العقل والإيمان في التدهور والتراجع، إبان فترة الانحطاط، حيث تراجعت مكانة العقل، وهٌمِشّ بعيداً في العصور المتأخرة، بصعود الأصولية الإسلاموية المنغلقة على ذاتها. اما في اوروبا، حسب أركون، فقد حصل العكس. بدأت مكانة العقل ضعيفة ثم سرعان ما تطورت مع اشتغالات الفلاسفة، واستمرت حتى وصلت إلى ما هو عليه الآن.
لكن السؤال الأهم هو: كيف نفهم أسباب هذه الحالة المعكوسة؟ السبب في ذلك، حسب الباحث، يعود إلى أن الكاثوليكية، رغم تحفظاتها، وحتى رفضها أحيانًا للعقل، الا أنها رغم ذلك لم تَحْدِث قطيعة مع العقل كما حدث عند المسلمين. فالفقهاء المسلمون حاربوا الفكر الاغريقي، ووسموه بالعلوم الدخيلة، وهذه النظرة الفقهية أدت إلى قصر عمر الفلسفة. وفي رأي أركون، ان الفلسفة في السياق الإسلامي كانت محرومة من القواعد الثقافية الصلبة والواسعة التي تضمن لها البقاء، لذا ماتت مبكرا، وبموتها المبكر خلت الساحة للعقل المدرساني، بينما في أوربا الفلسفة واصلت مسارها. وهنا، لابد من إحالة القارئ/ه إلى كتاب جورج طرابيشي الذي يناقش فيه مصائر الفلسفة بين الاسلام والمسيحية لمزيد المعلومات حول الموضوع. بالعودة إلى أركون، فهو في مشروعه يتطرق إلى الفلسفة الاشراقية، ويقول عنها انها أقرب ما تكون إلى الباطنية الأفلوطينية، والصوفية، منها إلى الفلسفة بالمعنى الإغريقي العقلاني. يقصد الفلسفة كتوتر خصب بين اللوغوس والميتوس، العقل والأسطورة. اما فيما يتعلق بالمأزق الاسلامي الراهن، يبدو واضحا من خلال الدراسات الأركونية ان شروط إمكانية الخروج من النزعة الإسلاموية التبجيلية الانفعالية، يمكن أن تتم من خلال مساهمات في البحوث النقدية عن التراث وتوطين المعارف الجديدة. فالوصاية التي فرضتها الأيديولوجيا الأصولية ينبغي على الباحثين تفكيكها عن طريق ثورة في الوعي الثقافي لدى هذه المجتمعات. لكن أركون قد كان أيضا صريحا، لذلك يقول لا يمكننا إحداث اي تقدم في ظل هيمنة جماعات لا تمتلك اي مشروع فكري/ أو سياسي /واضح، فهي غير قادرة على فتح أبواب مستقبل إنساني يتجاوز للطائفية والمناطقية، بل والقبائلية التي اقعدتها كثيرا عن آفاق الكونية، لكن الخروج من الأزمة ممكن بالعقلية الجديدة المتسامحة، فهو وحده الذي يستطيع تجاوز التضاد المتجذر عميقا في المجتمعات الأصولية. أركون في كتابه نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيدية يقول ان العقل الجديد المنبثق، الصائد، الذي يتطلع إليه، هو عقل ما بعد حداثي، يرفض كل موقف جامد ويقيني ونهائي للعقل. ومن هنا نفهم سبب توجيهه نقده للموقف الدوغمائي للفسلفة الوضعية، والمنهجية التاريخية، اللتين حسب رأيه كانتا قد دعمتا العلم الاستعماري والفاشيه والستالينية. وهذا يعني ان التطرف موجود في كلا الطرفين، وإن ظل يشكل حضورا أكثر عند الجهة الإسلامية. ومرة أخرى، فإن ان العلموية مرفوضة عند أركون، حيث يقول لم تعد المشكلة المطروحة علينا هي ان نحذف الدين كلياً ونحل العلم محله. فالاعتقادات الدينية معاشة حقيقيه لا مجازية، لذلك فإن موقف أركون الجديد هو ان نسير معاً بشكل متضامن تجاه كل الانفتاحات الفكرية. فالحداثة حسب أركون، فتحت إمكانية ظهور أنظمة أخرى للحقيقة غير النظام الديني، إلا أنها احيانا تعرض نفسها وكأنها النظام الوحيد للحقيقة المطلقة، وبالتالي هنا تكمن معضلة الحداثة الكلاسيكية. من جانب اخر، يرى الباحث ان دراسة ظاهرة الاصولية الإسلاموية من خلال مناهج العلوم السياسية ليس كافيًا لفهم الظاهرة. فعلى رغم نصاعة هذه المناهج، الا ان مشكلتها في نظر أركون انها في دراستها للظاهرة ترتكز إلى فترة قصيرة من تاريخ المجتمعات العربية والاسلامية، ويرى ان دراسة الماضي البعيد هو الجدير بالكشف عن الجذور العميقة للأصولية من خلال إجراء نقد إجمالي وراديكالي لكل التراث الإسلامي. كذلك الباحث من ناحية ثانية يناشد الأكاديميين في الغرب قائلاً لهم ان المطلوب من الجامعات في الغرب ان تعيد النظر في أنظمة التعليم، حيث لا ينبغي على الجامعات في الغرب الاستمرار في فصل الدراسات الاستشراقية عن الغربية، إنما ينبغي عليها تشكيل برامج تعليم مشتركة، وقابلة للتعميم كونياً، دون إقامة حاجز بين الشرق والغرب. ولا ينبغي النظر إلى الشرق كأنه ينتمي لبشرية أخرى، حسب تعبيره، وبالتالي فإن فكرة وجود مناهج خاصة بشعوب تسمى متخلفة، ومناهج اخرى خاصة بشعوب متقدمة، فكرة مرفوضة عند أركون، جملة وتفصيلاً، لذلك أركون يدعو إلى النظرة الواسعة للأمور وفق رؤى كبرى للمستقبل. وهو من خلال استكشافاته الْقَيِّمَة يضعنا أمام الأمر الوقع، فيقول لنا ان ما وصل إليه المسلمون من سلفيه، وانغلاق، وصِدام مع العصر، ليس هو من بنات اليوم، فقصة هذا التخلف والتقهقر بدأت قديمًا، منذ ان هُمِشِّ الفكر الرشدي وَمُحِيَّ من الوجود، فتصدر سلفه الغزالي المشهد، والذي بدوره أدى إلى ما يسميه اركون بالكلام الغائب في الاسلام المعاصر، بمعنى غياب رأي الباحثين العِلِمِيَّين في التراث الاسلامي. وهذا الغياب الموحش يوصفه أركون بالغياب الموجع. فنحن بحاجة ماسة إلى هذا الخطاب العلمي الذي يتفحص التراث تفحصاً تاريخياً، بمعنى يدرسه دراسة ما وراء المماحكات الجدالية المتجاوزة لكل انواع الحقد الايديولوجي، المتداخل مع العنصري. فمن أسباب انغلاق الشعوب داخل سياجاتها الدوغمائية، رغم الأسباب المتراكمه التي تطرقنا إليها، فإن وسائل الاعلام أيضاً باتت تعمل على ما يسميه الباحث بتغذية الجهل المقدس في اوساط المجتمعات الاسلامية، والذي يؤدي إلى مزيد من التطرف في المجتمعات العربية والاسلامية، ويبعدها عن العقلانية النقدية، ويساهم في إقبالها على ممارسة الإرهاب. كذلك نجد في الاتجاه الآخر ان اليمين المتطرف في الغرب يعطي صورة زائفة، وتعميمات مخلة، تؤدى إلى إسلاموفوبيا. وهذا بطبيعة الحال له انعكاسات سلبية.
أخيراً، ينبهنا محمد أركون إلى نقطة مهمة وهي ان الدين الذي يتم تدريسه للطلاب في مؤسساتنا، هو فهم سلفي متشدد، يعتمد على قراءة يصفها بالفوضوية والعشوائية، دون إتاحة اي مجال لدراسة تأويلية. وهذه هي النقطة الحاسمة والتراجيدية بين الفهم الاصولي السلفي والفهم النقدي التأويلي المتعقل من ناحية اخرى. وكما اشرت سابقاً فإن أركون ناقد للجانب السلبي من التنوير، لأن عقل التنوير حسب رأيه، قد انحرف في أَحْيَانٍ كثيره عن المسار الصحيح للتنوير، وارتكبت أبشع الاعمال، كالحروب الكولونيالية وانتهاكاتها ضد السكان المحليين. فالاستعمار ظل على الدوام يوصف هذه المجتمعات بالشعوب المتخلفة، ومارس فيها أبشع انواع الممارسات اللا إنسانية، كالاسترقاق، والإبادة الثقافية، وغيرها، من جرائم ضد الإنسانية. وكل ذلك تم تحت مبررات تحضير هذه الشعوب التي وصفها بالبدائية. فانحراف عقل التنوير عن مساره، وتبريره لممارسة القمع والإذلال، في رأي الباحث، لم يتوقف عند سكان دول افريقيا فحسب، بل إن ستالين وهتلر قد ارتكبا ذات الانتهاكات مع الأوربيين أنفسهم، وبالتالي فان نقد أركون للأصولية الإسلاموية، والتنوير، يهدف إلى خروج يحرر الأفق من الانسدادات، ويفتحها أمام المسألة الاخلاقية، شرقاً وغرباً، وذلك يعني ان العقلية الجديدة هي بمثابة تحرير لكل الشعوب.
ومن هنا يجيء مأخذ المفكر اللبناني التفكيكي د٠علي حرب على مشروع أركون، بوصفه مشروع رسالي. بمعنى انه مشروع يَدَّعِي تخليص الشعوب. ولكن رغم ذلك تظل اشتغالات اركون النقدية من أهم الانشغالات الفكرية الناقدة للتراث في السياقات العربية والإسلامية، فهو مشروع نقدي يغوص عميقا في التاريخ، للكشف عن الجذور التأسيسية لمشكلات الراهن، كالأصولية وغيرها. فالباحث، عمل دون خوف على تكسير كل السياجات بغرض الانفتاح على الأديان جميعها، دون استثناء، وذلك بدراستها دراسة علمية وأنسنتها، وردم الهوة السحيقة التي تفصل بين الشعوب، خاصة وهو الذي يتحدث كثيرا عن شعوب وثقافات حوض المتوسط، وبالتالي فإن السبيل إلى التسامح والتصالح يمكن يتم من خلال النقد الذاتي الصريح) والراديكالي، لتجربة الماضي، والانتقال إلى سياسة أخرى، هي سياسة محررة للجميع. بمعنى سياسة تفتح ثغرة في جدار التاريخ المسدود لاهوتيا، وذلك بابتكار النقد الاسترجاعي العميق للفضاء المتوسطي، وإجراء حوار بين الثقافات، لكي تتقارب وتتعاون فيما بينها: فالتخندق والتمركز حول الذات، لن يجدي نفعا.
قدم محمد أركون في مشروعه البحثي، مساهمات فكرية جديرة بالثناء، وهدف إلى بلورة عقلية جديدة منفتحة ومتسامحة من خلالها يمكننا ترميم وتوحيد ذاكرة الشعوب، التي تعيش تشظياً في الذات لفترات طويلة. لذا يقول أركون لقد تحولت هوياتنا إلى هويات قاتلة من شدة تمسكنا بها، وَكُرِهْنَا لكل الهويات والتُراثات الأخرى، وبالتالي يكمن هنا جوهر المشكل، لذا، نؤكد في هذا المقال ان العقلية الجديدة التي سعى الركون إلى بلورتها هي عقل نقدي تحليلي؟ اسماه العقل المنبثق الصائد، وهو قائم على نقد وتجاوز الأصوليات الدينية إلى أَفَاقٍ كَونِيةً.

الثلاثاء 29 مارس 2022
بحري شمبات

 

آراء