في حكاياننا مايو (4): الصدق منجاة
عبدالله حميدة
2 April, 2022
2 April, 2022
قيل الكثير عن صرامة جعفر نميري وسطوته وهيبته. فتحدث الناس عن ضربه للوزراء تاديبا وعقابا وتقريعا .وذهب البعض الي انه (بهدل محمد حسنين هيكل علي مراي ومسمع من الرئيس السادات ) حين تفوه بما رآه نميري اساءة له وللسودان . وكثير مما قيل في هذا الخصوص تم دحضه وتكذيبه من اناس كانوا من خاصته اوممن عملوا تحت امرته المباشرة.
الذي يعنيني من هذه المقدمة ان انقل تجربتي الشخصية التي اتاحها لي حادث مفاجيء مع الرئيس نميري عام ١٩٧٧بما يساعد القاريء علي فهم بعض الجوانب في طريقة تعاطيه وسلوكه مع الاخرين .ولا اجزم ان تجربة فردية عابرة – مثل التجربة التي سارويها - يمكن ان تشكل قاعدة لحكم عام وثابت ونهائي علي كيفية تصرف الرجل مع الاخرين.
كنت اعمل نايبا لمدير المؤتمرات بقاعة الصداقة في بداية عهدها حين كان مديرها الاول الاستاذ شفيق شوقي الفنان التشكيلي المعروف.
وقد راي الاستاذ شفيق - بعين الفنان - ان القاعة بشكلها الفريد وموقعها المتميز ومستوي خدماتها الفندقية الممتازة يمكن ان تكون مقرا من مقرات راس الدولة. فعرض الامر علي الرئيس ، فوافق.
في نهاية يوم من ايام العمل ، وانا اتهيا لمغادرة المكتب ، استدعاني المدير وطلب مني ان اذهب لمكتب الرئيس الذي طلب ايفاد احد موظفي القاعة اليه . وعندما استفسرته عن المطلوب مني قال لي بطريقته المرحة : ( يابني امش....يمكن الرئيس حيعينك وزير ! )
ذهبت بعد ان( تهندمت ) قليلا وقابلت السكرتارية. وحين سالت عن المطلوب مني قالت السكرتيرة ان الرئيس قد طلب مندوبا من القاعة وهذا كل مايعرفونه . قلت :والعمل؟ . قالت : تدخل علي الرئيس وفتحت بابا يقود مباشرة الي مكتبه. وفي تلك اللحظة – والله علي ما اقول شهيد – شعرت باستفزاز عظيم و لم تنتابني اي رهبة او توتر او ارتباك .بل انني نظرت الي الامر باعتباره تحدي وساتصرف مع الموقف بكل ماتمليه علي مسؤولياتي الوظيفية وماتفرضه علي قيم النزاهة والصدق مع النفس.
ودخلت علي الرئيس ، فرايته جالسا في الناحية اليسري من الباب ولمحت عددا من كبار قادة الجيش عرفتهم بسيماهم والي جانبهم عدد اخر من عسكريين ذوي رتب عالية يلبسون ( كاكي ) الجيش المصري. فتذكرت ان صحف ذلك اليوم تحدث عن وفد عسكري مصريا قد وصل البلاد لتفعيل اتفاقية الدفاع المشترك.
ولكم ان تتعجبوا كيف يمكن ان تتزاحم كل الصور والاحاسيس والمشاعر التي تأججت في ذهني منذ ان غادرت مكتب المدير والي ان وقفت وجها لوجه امام نميري الذي تنسج من حوله الاساطير.
قلت: السلام عليكم ( ولا اذكر هل اضفت اليها مايتطلبه الموقف من عبارات الاحترام مثل : سيادتك..والسيد الرئيس).
فرد علي قايلا : اهلا يابركة.
ووقفت صامتا انتظر منه ما يقول.
قال : هؤلاء الضيوف (واشار بيده الي الوفد العسكري المصري) نريد ان نكرمهم بجولة يتفرجون فيها علي مرافق القاعة...في تلك اللحظة تذكرت ان العمل بالقاعة يتوقف عند الساعة الثلنية ظهرا، ثم يستانف في الخامسة مساء الي مابعد العاشرة. فقلت له : السيد الرئيس .. يسرنا ان نتيح للضيوف الكرام هذه الجولة ولكن بتعديل بسيط يتفق مع نظام تشغيل القاعة ويمكنهم من مشاهدة كل مرافقها. وساكون جاهزا قبل الساعة الخامسة لتنفيذ الجولة (علما باني كنت اسكن الحارة السابعة بالثورة. )
نظر الرئيس الي الجانب السوداني لمعرفة رايهم في اقتراحي ، فاعتذر اكبرهم رتبة قايلا ان الوفد المصري سيشرف حفل الشاي المقام تكرينا لهم بنادي الضباط في نفس الموعد المقترح للجولة.وهنا نظر الرئيس نحوي نظرة لا انساها لانها كان مزيجا من الابتسام و( الحدرة ) وقال : ربنا ريحك..اتفضل.
وخرجت توا الي مكتب المدير دون ان اجيب علي تساؤلات السكرتيرة عن فحوي المقابلة لان السكرتير الذي لايعلم بنفسه ماذا كان يريد الرئيس ،(يلقي ذلك عند الغافل)كما تقول الحكمة الشعبية.
حكيت للمدير مادار في مكتب الرئيس ليكون علي علم بما قمت به من تصرف. ولا انسي ضحكته المجلجلة التي اردفها بعبارة (جدع) ثم صرفني وهو في غاية الدهشة والانشراح.
العجيبة انني عندما حضرت الي القاعة في صبيحة اليوم التالي ، استقبلني الزملاء الذين علموا بمقابلة الرئيس، كل بطريقته الخاصة..فمنهم من قال انني (باااالغت)ومنهم من اتهمني مناكفة ب : ( الثورة المضادة) ومنهم من تبكم لا يدري مايقول .
الدرس الاول المستفاد من هذه الحادثة هو الا تحكم علي احد الا عن معرفة مباشرة ولا تعتمد في حكمك علي الاقاويل غير الموثقة. والدرس الثاني الا تكون الا نفسك فكم من الغي نفسه واستعار نفسا غير نفسه اردته في المهالك. ثم ان الصدق مع النفس منجاة والكذب عليها ضياع مطلق.وصدق من قال:
ولا مدح مالم يمدح المرء نفسه
بافعال صدق لم تشنها الخسايس
aha1975@live.com
////////////////////////
الذي يعنيني من هذه المقدمة ان انقل تجربتي الشخصية التي اتاحها لي حادث مفاجيء مع الرئيس نميري عام ١٩٧٧بما يساعد القاريء علي فهم بعض الجوانب في طريقة تعاطيه وسلوكه مع الاخرين .ولا اجزم ان تجربة فردية عابرة – مثل التجربة التي سارويها - يمكن ان تشكل قاعدة لحكم عام وثابت ونهائي علي كيفية تصرف الرجل مع الاخرين.
كنت اعمل نايبا لمدير المؤتمرات بقاعة الصداقة في بداية عهدها حين كان مديرها الاول الاستاذ شفيق شوقي الفنان التشكيلي المعروف.
وقد راي الاستاذ شفيق - بعين الفنان - ان القاعة بشكلها الفريد وموقعها المتميز ومستوي خدماتها الفندقية الممتازة يمكن ان تكون مقرا من مقرات راس الدولة. فعرض الامر علي الرئيس ، فوافق.
في نهاية يوم من ايام العمل ، وانا اتهيا لمغادرة المكتب ، استدعاني المدير وطلب مني ان اذهب لمكتب الرئيس الذي طلب ايفاد احد موظفي القاعة اليه . وعندما استفسرته عن المطلوب مني قال لي بطريقته المرحة : ( يابني امش....يمكن الرئيس حيعينك وزير ! )
ذهبت بعد ان( تهندمت ) قليلا وقابلت السكرتارية. وحين سالت عن المطلوب مني قالت السكرتيرة ان الرئيس قد طلب مندوبا من القاعة وهذا كل مايعرفونه . قلت :والعمل؟ . قالت : تدخل علي الرئيس وفتحت بابا يقود مباشرة الي مكتبه. وفي تلك اللحظة – والله علي ما اقول شهيد – شعرت باستفزاز عظيم و لم تنتابني اي رهبة او توتر او ارتباك .بل انني نظرت الي الامر باعتباره تحدي وساتصرف مع الموقف بكل ماتمليه علي مسؤولياتي الوظيفية وماتفرضه علي قيم النزاهة والصدق مع النفس.
ودخلت علي الرئيس ، فرايته جالسا في الناحية اليسري من الباب ولمحت عددا من كبار قادة الجيش عرفتهم بسيماهم والي جانبهم عدد اخر من عسكريين ذوي رتب عالية يلبسون ( كاكي ) الجيش المصري. فتذكرت ان صحف ذلك اليوم تحدث عن وفد عسكري مصريا قد وصل البلاد لتفعيل اتفاقية الدفاع المشترك.
ولكم ان تتعجبوا كيف يمكن ان تتزاحم كل الصور والاحاسيس والمشاعر التي تأججت في ذهني منذ ان غادرت مكتب المدير والي ان وقفت وجها لوجه امام نميري الذي تنسج من حوله الاساطير.
قلت: السلام عليكم ( ولا اذكر هل اضفت اليها مايتطلبه الموقف من عبارات الاحترام مثل : سيادتك..والسيد الرئيس).
فرد علي قايلا : اهلا يابركة.
ووقفت صامتا انتظر منه ما يقول.
قال : هؤلاء الضيوف (واشار بيده الي الوفد العسكري المصري) نريد ان نكرمهم بجولة يتفرجون فيها علي مرافق القاعة...في تلك اللحظة تذكرت ان العمل بالقاعة يتوقف عند الساعة الثلنية ظهرا، ثم يستانف في الخامسة مساء الي مابعد العاشرة. فقلت له : السيد الرئيس .. يسرنا ان نتيح للضيوف الكرام هذه الجولة ولكن بتعديل بسيط يتفق مع نظام تشغيل القاعة ويمكنهم من مشاهدة كل مرافقها. وساكون جاهزا قبل الساعة الخامسة لتنفيذ الجولة (علما باني كنت اسكن الحارة السابعة بالثورة. )
نظر الرئيس الي الجانب السوداني لمعرفة رايهم في اقتراحي ، فاعتذر اكبرهم رتبة قايلا ان الوفد المصري سيشرف حفل الشاي المقام تكرينا لهم بنادي الضباط في نفس الموعد المقترح للجولة.وهنا نظر الرئيس نحوي نظرة لا انساها لانها كان مزيجا من الابتسام و( الحدرة ) وقال : ربنا ريحك..اتفضل.
وخرجت توا الي مكتب المدير دون ان اجيب علي تساؤلات السكرتيرة عن فحوي المقابلة لان السكرتير الذي لايعلم بنفسه ماذا كان يريد الرئيس ،(يلقي ذلك عند الغافل)كما تقول الحكمة الشعبية.
حكيت للمدير مادار في مكتب الرئيس ليكون علي علم بما قمت به من تصرف. ولا انسي ضحكته المجلجلة التي اردفها بعبارة (جدع) ثم صرفني وهو في غاية الدهشة والانشراح.
العجيبة انني عندما حضرت الي القاعة في صبيحة اليوم التالي ، استقبلني الزملاء الذين علموا بمقابلة الرئيس، كل بطريقته الخاصة..فمنهم من قال انني (باااالغت)ومنهم من اتهمني مناكفة ب : ( الثورة المضادة) ومنهم من تبكم لا يدري مايقول .
الدرس الاول المستفاد من هذه الحادثة هو الا تحكم علي احد الا عن معرفة مباشرة ولا تعتمد في حكمك علي الاقاويل غير الموثقة. والدرس الثاني الا تكون الا نفسك فكم من الغي نفسه واستعار نفسا غير نفسه اردته في المهالك. ثم ان الصدق مع النفس منجاة والكذب عليها ضياع مطلق.وصدق من قال:
ولا مدح مالم يمدح المرء نفسه
بافعال صدق لم تشنها الخسايس
aha1975@live.com
////////////////////////