جنباً إلى جَنْب .. الشِّعْرُ والثَّورة !!
فضيلي جماع
12 April, 2022
12 April, 2022
رفعت هذا المقال أول مرة يوم 4 أكتوبر 2013. ولد المقال إبان إنتفاضة سبتمبر 2013. باعتقادي أن المقال يتحدث بلسان حال اليوم. لذا رايت أن أعيد رفعه هدية لقراء صفحتي رغم أنه قد مضى على كتابته ثماني سنوات ونيف.
===================
الكتابة نوعان: كتابة ينصرف القلم فيها لواقع هو جزء منه. واقع تتلخص فيه حياة الناس بكل حلاوتها ومرارتها. وتصبح الكتابة في هذا المنحى مرآة لواقع معاش في عصر الشعوب والأمم. وكتابة بهدف التسلية والترويح. ومثل هذا الكاتب لا تعنيه كثيراً هموم الناس ، بل يجد مثل هذا الكاتب في الإلتزام بقضايا الناس حوله عنتاً لا ضرورة له، فينصرف لكل ما هو ذاتي وشخصي وانصرافي.
ما يعنيني في هذه السانحة هو نمط الكتابة التي تنحاز لهموم الجماعة في عصر الشعوب والجماهير. ولعل كل من قرأ في آداب الشعوب من حولنا وجد أن الأدب الملتزم قضايا الناس هو الذي يكتب له الخلود ويذهب جفاء أدب الصالونات والترويح وأدب الترويج الأيديولوجي الذي لا يبصر فيه الكاتب أبعد من أرنبة أنفه ، ولا يقرأ فيه من الواقع حوله إلا ما أراده الحزب أو الحاكم.
قرأنا لشعراء انطلقت كلماتهم رصاصاً في وجه الطغاة. بعضهم دفع الثمن مضاعفاً وهو ينحاز إلى ثقافة شعبه وإرثه. اغتيل شاعر الغجر فيدريكو غارسيا لوركا على يد زبانية فرانكو دكتاتور اسبانيا في ستينات القرن الماضي لأنه وظف الكلمة سهلة منقادة للجماهير الاسبانية المتعطشة آنذاك للحرية:
لماذا وُلِدتُ بين المرايا؟
اليومُ يدورُ من حولي
والليلُ يصنعُ نسخاً منِّي
في كل النجمات!
وفي فرنسا التي قاومت النازية كانت أشعار لويس أراغون انجيل الثوار حتى عرف بشاعر المقاومة. كان شعره سهلا وعميقاً في ذات الوقت. يغرف من أصفى ينابيع اللغة وثقافة الناس من حوله، ثم يستخدم الرمز بمنتهى الشفافية. يقول لويس أراغون في إحدى قصائده:
العارُ للذين لا يتنهّدُونَ لمرأي السماءِ الصافيهْ
والعارُ للذين لا يقعُ سلاحُهم أمامَ الطفولهْ !
وفي واقع بلادنا كُتِبَ على الشعراء والأدباء والفنانين السودانيين في هذا الزمن الأغبر أن يختاروا واحداً من المعسكرين: معسكرِ الإنتماءِ لهذه الأمة وثقافتِها وهمومِها النبيلة ، فرحاً أو كرهاً. وفي هذا الصدد تكون الكتابة ويكون الفن رسالةً سامية دونها إزهاقُ المهجِ والأرواح. ودونها المنفى وضياع العمر. أو معسكر الكتابة خارج إيقاع الناس وهمومهم..الكتابة التي يوظفها صاحبها لتكون مدخلا يجني من ورائهِ الربح. ويكسب من خلفه رضا الحاكم والدولة. والمتابع لحركة الكتابة في بلادنا خلال ربع القرن من حكم الإسلامويين الفاشي يجد أن الأقلام لم تخرج عن هذين المعسكرين.. فالحقبة التي عشناها تحت مظلة الإنقاذ لا تحتمل اللون الرمادي . كان لابد لكل مبدع أن يحدد موقفه بوضوح مما يجري في بلادنا .. فالمسألة من الوضوح بحيث لا تقبل الحياد.
دفعني إلى كتابة هذه الخاطرة بعضُ الحروف التي سالت مثل دمع حار من أقلام بعض من كتبوا في الأيام القليلة الفائتة ، حيث عبرت بعض القصائد - رغم الإرتجال - عن الدم الذي خضب الشوارع والأزقة. وعن بطولات شباب في عمر الزهور. هم الشهداء الذين كانوا وسيظلون أشرف منا جميعاً. فقصيدة الشاعر أزهري محمد علي "زخات رصاص" رسمت مشهداً رائعاً لشهيد غض الإهاب. سقطت كراسته فانحنى ليلتقط حجراً فإذا باللحية المخضبة بالدم تحرم شبابه الحياة:
مجبورْ رمي الكراس
دنقرْ رفع طوبهْ
شاف لحية القنّاص
بي دَمُّو مخضوبهْ
تمتمْ قرى الاخلاصْ
كتب الخلاصْ بالدمْ
طلع القمر بوبا !
الإرث السوداني السمح في "سورة الإخلاص" و"القمر بوبا". يقفان في معسكر الصبي الشهيد ضد لحيةِ قاتله المخضوبةِ بالدم. نجح أزهري في رسم هذه الصورة بالكلمة المنحازة لهموم الناس.
كذلك يرتجل في نفس هذه الأيام شاعر الشعب محجوب شريف قصيدة تصبح بعض تمائم ثورة 23 سبتمبر المباركة. يقول محجوب شريف
آن الأوانْ
أكبر من الأحزانْ
غضبْ.. حَدّ اللهبْ
والإنفجارْ
لا رجعة بعد اللحظة
إلّا الإنتصارْ
ولعلي أختم في هذه العجالة بأبيات رائعة للشاعر عبد المنعم الجزولي، ترسم صورة رائعة للنقيضين: الموت والحياة من خلال شهادة شاب جلست أمه تبكيه لكنه كتب حياة أمتنا . وعبد المنعم الجزولي نظر بذكاء شديد لأجداده شعراء الحقيبة ومنهم شاعر الوطن خليل فرح حين كان الجناس لعبة الشعراء المحببة ، فالكلمة الواحدة تصبح الروي لقصيدة من عدة أبيات لكنها بمعاني مختلفة. انظر كيف نجح عبد المنعم الجزولي في هذا الجو المفعم بالتراجيديا والثورة في رسم هذه الصورة للشهيد
كلاب لهبْ في الحيْ
ضربوا الرصاصْ الحيْ
يا الأمُّو قالتْ حيْ
جناكِ ما ماتْ .. حيْ!
طلعت شمس الأدب الملتزم بالقضية ، وسنقرأ حين تحط ثورتنا المباركة رحلها كتابات كانت تحكي نبض جماهير شعبنا..كلمات لم تنحن في الرواية والشعر والمقالة . بل إن فن الكاريكاتير الذي أبدع فيه عمر دفع الله والحلو وآخرين يفصح عن أن أهل الفن كلهم مطالبون بالانحياز لثورة شعبنا في أركان وطننا الأربعة. التحية لكل من كتبوا ورسموا وغنوا.. وكان هدفهم أن يقولوا:
! لا في وجه من قال: نعم
فضيلي جماع
4 أكتوبر 2013
fjamma16@yahoo.com