أوتار مالى
الدكتور قندول إبراهيم قندول
13 August, 2022
13 August, 2022
(١ من ٢)
jbldameek@gmail.com
كثيراً ما يلجأ الناس في الأوقات الصعبة والعصيبة إلى محفزات للقيام بأعمالهم وإنجاز مهامهم. وقد تختلف تلك المحفزات من شخص لآخر ولطبيعة العمل المراد القيام به. فبعض الناس يعتصمون بالاستماع إلى الموسيقى التي تَبُثُ الهِمَّة، وترفع الروحَ المعنوية وتذكي العقل وتنشطه، بغض النظر عن مصدرها وأصلها، والأنغام الموسيقيَّة التي تريح النفس والبال وتهدئ الأعصاب وتزيد من درجة التفكير. بيد أنَّ الاختيار يعتمد على المزاج والذوق اللذين تبعثهما تلك النغمة في النفس. بالنسبة لي، لعلَّ الموسيقى الأفريقيَّة الماليَّة (نسبة لدولة مالي) لهي من أكثر الموسيقى التي استمع إليها واستمتع بها حين أعكف على الكتابة. ويرجع فضل تذوُّقي لموسيقى مالي إلى إخوة وزملاء دراسة سابقين لي من دولة مالي بجامعة نبراسكا-لينكولن، أذكر منهم الأخ "كريم تراوري"، و"مينامبا بقايوقو" اللذان سبقاني بفترة دراسية واحدة. أما "عبد الوهاب توري" و"سيدي بكاي كلوبالي"، و"ديوني"، فكنت أسبقهم بفترة دراسية واحدة أيضاً. توطدَّت العلاقة الأخويَّة بيننا وما كنا نفترق أبداً، لدرجة أنَّنا كنا نسجِّل لنفس المواد الدراسيَّة. كما كنا نستمع سويَّاً لمشاهير مغنيهم مثل ملك الجاز "علي إبراهيم فركة توري". حقيقة كان كثيرٌ من الذين التقي بهم من مالي يظنون أنَّني منهم لدرجة أنَّهم يلقوني علي التحية بلغتهم الوطنيَّة "بامبارا"، خاصة الباحثين الزراعيين ورؤساء زملائي الزائرين للجامعة من مالي. و"فركة" لقب وتعني "حمار" (سنبيِّن سبب هذا اللَّقب لاحقاً)، والفنانة "أمي كويتا"، والمغنية "أومو سانغاري". فقد أهدى لي صديقي "كريم تراوري" أشرطة كاسيت لثلاثتهم فكنت استمع لهم يوميَّاً وباستمرار. هكذا ارتبطت بهم وبموسيقاهم وجدانيَّاً. في هذا المقال سنتطرَّق لهؤلاء وللذين شملتهم اهتماماتي التذويقية لموسيقى مالي التي أسرت مسامعي الرقيقة فشغفت بها.
عندما زار "علي فركة" مدينة لينكولن لإقامة حفل موسيقي لمعجبيه في المدينة، كنت ضمن الزوار قبل الحفل مع إخوتي وزملائي من مالي. لا مراء، لقد زاد إعجابي ب "علي فركة" عند حضوري الحفل الحيٍ المشار إليه بمسرح "ليد سنتر" التابع لجامعة نبراسكا- لينكولن، وسط مدينة لينكولن العاصمة عام ١٩٨٩م. فأمام جمهورٍ كبير اكتظ به المسرح، أدَّى "على فركة" أغنياته أداءً جميلاً وباهراً تحدَّث عنه رواد الموسيقى الأفريقيَّة وجاز البلوز في المدينة لوقت طويل. وللحق نقول إنَّ "علي فركة" شكَّل حضوراً مميِّزاً بزيه القومي وطوله وجسمه القويم، لا السمين البدين، ولا النحيل الهزيل؛ وملاح وجهه الصبوح وتقاطيعه المستقيمة، وابتسامته المشرقة التي تبزر بريق أسنانه البيضاء عند تفاعله مع الجمهور الغفير حين يشير إليهم بإعجابه بهم. كان الرجل يوجه مجموعة العازفين ويتحرَّك جيئة وذهاباً محييَّاً محبيه بيده اليمني، وأصابع يده اليسرى تخلِّل أوتار جيتاره، دون النظر أو الالتفات إليها مظهراً مهارة العزف عليها بلا منازع ليرسل النشوة للجموع التي آثرت الرقص والطرب والصراخ الداوي بما فعلت بهم أنغام أوتار "علي فركة" الساحرة وهو يضربها بيد واحدة.
إنَّ الحديث عن "علي فركة" لكثير وقد يطول، ولكن نختصره في أنَّه كان الطفل الوحيد، من والدته الذي عاش بعد موت كل إخوته الذين يكبرونه، لذا لُقِّب ب "فركة" أي "حمار" لكي يبقى على قيد الحياة. كان ذلك تقليداً إفريقيَّاً عندما لا يعيش مواليد المرأة بالتتالي فيُعطي ما يليهم اسماً غريباً غير مألوف لديهم لطرد الشر المحدق بالأسرة. عاش "على فكة" وأصبح فناناً ماهراً مما أهَّله بمعايير ذلك الزمن ليقلِّد منصب أول وزير للفن والثقافة في دولة مالي بعد استقلالها من فرنسا لما قام به من جهود فرديَّة في تقدُّم الفن والثقافة في بلاده. ثم أنَّ علياً أصدر في مسيرته الفنيَّة العديد من التسجيلات والأغنيات كما نال جائزة الجرامي. كما طاف بلدان كثيرة في رحلات فنيَّة غنائيَّة ومن ألبوماته المشهورة كمثال فقط: "الوحش"، و"الحديث بلغة تمبكتو"؛ و"المصدر"، و"نيافونكي" (اسم مسقط رأسه)، "في قلب القمر"، و"راديو مالي" إلخ... لا نبالغ إذا قلنا إنَّنا نملك كل ألبوماته.
يلي تناولنا للفنانين الماليين الفنانة "أُومو سانغاري" وهي من الأصوات النسائيَّة التي تميًّز موسيقاها بالنمط الشعبي المستمد من المناطق الريفيَّة في منطقة "موصولو" بجنوب مالي، ويدور حول مناصرة حقوق المرأة الماليَّة هناك. ولا شك في أنَّ "أُومو" تأثَّرت في عمر مبكر بوالدتها التي كانت مغنية باهرة في ذلك الجزء القصي من مالي حيث كانت تقيم حفلات الزفاف والمعموديَّة بالنسبة للمسيحيين في المدينة. لم يمض وقتٌ طويل قبل أن تبدأ "أُومو" في الغناء بنفسها وأصبحت فنانة معترف بها محليَّاً.
قامت "أُومو" بجولة قصيرة إلى أوروبا مع فرقتها كمغنية رئيسيَّة، وبعد عودتها من تلك الجولة بدأت في كتابة الموسيقى لتسجيل ألبومها الأول "موصولو". طوَّرت "أُومو" موسيقاها من قيثارة بستة أوتار بإضافة إليها الكمان لإعطائها محرِّك إيقاعي جيد، وجيتار كهربائي، وبيز جيتار لتوفير الدعم اللحني المتناسق. كما أضافت مجموعة من المطربات للتعبير عن غنائها الفردي القوي بنسخته الغرب إفريقيَّة. على كلٍ، تميَّزت كلمات ألبومها الأول الذي صُدر عام ١٩٩٠م بنقد حاد لموضوعات محظورة مثل تعدُّد الزوجات، والزواج المرتَّب، ومشقة النساء في مجتمع غرب إفريقيا، ولاقى استجابة عالية فوزُعت منه محليَّاً حوالي ٢٥٠٠٠٠ نسخة وسرعان ما تم اختياره للتوزيع الدولي. توالت إصدارات "أُومو سانغاري" لتشمل العديد من التسجيلات منها "تمبكتو"، "موقويا"، "ووروتان"، وأومو". ومن الأغنيات الشهيرة التي استمع لها: "ديارابي نيني"، و"كيايني وورا". بالإضافة لتناول "أُومو" للقضايا الاجتماعيَّة وقضية المرأة بصفة خاصة، فقد عملت مع وكالات إنسانيَّة مختلفة، بما في ذلك منظمة الأغذية والزراعة في الأمم المتحدة، وعملت سفيرة رسمية لها. أما "أمي كويتا" من المغنيات الماليات اللائي تأثَّرنا بهن باكراً وما زلنا نستمتع بأغانيها، وهي بلا شك رمز من رموز الفن في مالي ورقم لا يمكن تجاوزه بأي حال من الأحوال.
أوتار مالى (٢ من ٢)
في الجزء الأول كتبنا عن فناني مالي الذين أسروا مسامعنا منذ ١٩٨٩م. في هذا الجزء نتعرَّض ما توسعت به مكتبتنا بالغناء المالي فيما لتشمل في رفوفها "أفيل بوكوم"، و"بوبكر تراوري"، الملقَّب ب "كاركار"، و"ساليف كويتا" الملقَّب أيضاً بالصوت الذهبي، و"فاتوماتا دياوارا"، و"توماني دياباتي"، و"فيو علي فركة"، و"حبيب كويتي"، وغيرهم من عظماء الموسيقى الماليَّة. سنتناول كل واحد منهم باختصار شديد. "أفيل بوكوم" هو ابن أخت "علي فركة" وقد عمل معه في فرقته المسماة ب "أسكو" لمدة ٣٠ عاماً، ولكنه شكَّل فرقة موسيقيَّة خاصة به من الموسيقيين المحليين. يصفه "علي فركة" ويظهر فخره بالقول: "إنَّه رجلاً طموحاً سيساهم في تطوير الفن والثقافة وتاريخ مالي". بجانب التمتُّع بسمعة طيبة بسبب موسيقاه، إلا أنَّ "أفيل" كان مستشاراً زراعيَّاً وله ارتباط قوي بالأرض، وترتبط أغانيه بالمجتمع المالي. ويعتقد "بوكوم" أن الموسيقى هي أقوى وسيلة لمعالجة المشاكل المتنامية في مالي، البلد الذي كان يفتقد الكثير من وسائل الترفيه والتواصل، وأنَّها هي أفضل طريقة لإيصال الرسالة. تحمل فرقته وأول ألبومه نفس الاسم: "رسول النهر العظيم". فمثل "علي فركة" أصدر "أفيل بوكوم" عدداً من الألبومات والأغنيات الجميلة منها على سبيل المثال: "ليندي"، و"ألكيبار". ومن الأغنيات التي يظهر فيها نوعاً من روح الشباب أغنيته بعنوان "تينكي هييري".
ثم يأتي الحديث عن "بوبكر تراوري كاركار"، و"كاركار" لقب كروي وسمه به أصحابه لكثرة المراوغة أثناء اللعب بكرة القدم. الكلام عن الجوهرة السوداء، كما يسميه البعض، "كاركار" يحمل في طياته مآسي كثيرة، غير أنَّه من الأفضل القول بإنَّ "بوبكر" قلب موازين المأساة إلى السعادة في آخر عمره. فقد لمع نجمه في أواخر ستينيات القرن العشرين ثم أفل، ولم يتم اكتشافه بعد ذلك إلا عام ١٩٨٧م في قريته. ولظروف قاهرة بعد وفاة زوجته تاركة ورائها سبعة أطفال، هاجر "كاركار" إلى باريس التي ذاق فيها مرارات الغربة والاغتراب ولم يكن أمامه إلا أن يشتغل كعامل بناء ليعول أبناءه. ثم جاء الاكتشاف الكبير له بواسطة منتج إنجليزي فتغيَّرت حياته إلى الأفضل وإلى الأبد إذ صار يعبِّر عن أحزانه وأفراحه في الأغنية الرصينة تأليفاً ولحناً. ساعدته في ذلك دقته في نظم كلماته، ونضوج صوته الفريد المتماشي والمتناسق مع عبارات الحنين في الشعر. فبين ١٩٩٠-٢٠٠٥م أنتج "بوبكر" ثماني ألبومات، و٣ أخريات بين ٢٠١١-٢٠١٧م ويعتبر ذلك رقماً قياسيَّاً. ومن تلك الألبومات: "مريما"، و"كاركار"، و"سأغني لك"، و"الجفاف" و"أطفال" إلخ... ولإيقاع أغنية "بابا دراميه" وقع عميق في النفس.
الفنان الموسيقار "ساليف كويتا" أو "الصوت الذهبي" ينتمي إلى الأسرة المالكة في مالي سابقاً. لقد عانى "ساليف" في حياته الأولى نتيجة لإصابته بالبرص فطردته عائلته، ونبذه المجتمع لأنَّ البرص ليس معيباً ومصدر الشر فقط، بل علامة لسوء الحظ في ثقافة ذلك المجتمع. لم يكن أمام "ساليف كويتا" إلا السعي وراء امتهان مهنة الموسيقى والغناء الذي يعتبر من المحظورات لأفراد النبلاء مثل "ساليف كويتا" الأمر الذي زاد الشقة بينه وبين أسرته ومجتمعه. على أية حال، جال "ساليف كويتا" بين مسقط رأسه "جوليبا" إلى العاصمة المالية "بماكو"، وخارج مالي إلى "أبيدجان" بساحل العاج، ثم باريس بفرنسا. حصل على الاعتراف الدولي في سبعينيات القرن الماضي وتوسَّع نشاطه الفني وأصبح من أشهر المشاهير في غرب أفريقيا. له العديد من التسجيلات الغنائيَّة.
ومن الفنانات الماليات اللائي أسرن مسامعنا، الفنانة "فاتوماتا دياوارا" التي ولدت في ساحل العاج لأبوين ماليين اللذان انتقلا فيما بعد لموطنهما مالي. اشتهر غناؤها بالصوت الحسي الذي تعمَّد أغاني النصيحة التي تناولت فيها كفاح المرأة الأفريقيَّة وأشهر أغنيتها في هذا الجانب من الحياة، وفي ظل حكم الأصوليين الدينيين وممارسة ختان الإناث، هي أغنية "مُوصو"، تليها أغنية "مالي كو" التي تحث فيها على الوحدة وتهدئة الاستياء الذي خيَّم على شعب مالي من أفعال أقلية الطوارق التي يلقي البعض عليها اللوم فيما يحدث في شمال مالي من تحريض لهذه الأقلية للتوغل للاستيلاء على السلطة بالقوة. وقد قالت "فاتوماتا" في الأغنية إياها إنَّها بحاجة للصراخ ب: "استيقظ! نحن نخسر مالي! نحن نفقد ثقافتنا، وتقاليدنا وأصولنا وجذورنا"!
يأتي ابن "علي إبراهيم فركة توري" المسمى ب "فيو" ضمن الذين يعجبني وسيعجبك غناؤه على المستويين: المستوى الذي يحرِّض على الرقص غير الصاخب، والمستوى الهادئ الذي يريح الدماغ ويعالج الاضطراب الذهني ويشد الإنسان إلى التفكير والانتباه. وكما يقول المثل لا تقع الثمار بعيدة من الشجرة، فقد أخذ "فركة الابن" خطوات والده في الغناء والعزف على الجيتار بطريقة ساحرة مبهرة، ربما قد تفوَّق على والده! لقد عارض "علي فركة" الطريق الموسيقى التي سلكها ابنه، إلا أنَّ "فيو" انضم سراً لمعهد موسيقي في المدينة ليفاجئ والده بما كان يرفضه. بالتأكيد لو عاش "علي فركة" إلى اليوم لكان أكثر فخراً بابنه الذي وصل إلى القمة بأدائه الفني. أصدر "فيو" وحده تسع ألبومات واثنين مع "راشيل". ومن أجمل أغانيه تلك التي يرثي فيها والده بعنوان "فافا". رغم عدم فهن للغة وكلمات الأغنية إلا أنَّها من أكثر أغنياته المحببة إلينا واستطيع الاستماع إليها طول اليوم. أخيراً وليس آخراً، نتناول الفنان "حبيب كُويتي" الذي يتميَّز أسلوبه بالسلم الخماسي الذي يعتمد على اللعب على أوتار مفتوحة، كما يصفها الموسيقيون. أما صوته فحميمي ومريح للغاية ويؤكِّد على الغناء الهادئ والمزاجي بدلاً من البراعة الفنيَّة الأوبراليَّة. يقوم "حبيب" بتأليف وترتيب جميع أغانيه، ويغنيها باللغات الإنجليزيَّة والفرنسيَّة والبامبارا، لغة دولة مالي الوطنيَّة. ومن ألبوماته: "موسو كو"، و"ما يا"، و"بارو"، و"أفريكي"، وأجمل الإيقاع في أغنية "آي كا باررا".
أما بعد، عند الاستماع والاستمتاع بأنغام "أوتار مالي" يغلب علينا في كثير من الوقت الترديد والترنيم والهمهمة كأنَّنا نفهم ما يتغنى به أولئك الفنانون الغنائيون. وعندما يسألنا سائل عن زئيرنا من الصدر كالأسد، نجيب: "أنَّنا ذاهبون إلى مالي دون عفش أو تأشيرة لأنَّ جواز سفرنا وتأشيرتنا إليها هو ارتباطنا الوجداني بما يشع به فضاء إفريقيا من حبال أصوات مغنيها الأفذاذ".
jbldameek@gmail.com
كثيراً ما يلجأ الناس في الأوقات الصعبة والعصيبة إلى محفزات للقيام بأعمالهم وإنجاز مهامهم. وقد تختلف تلك المحفزات من شخص لآخر ولطبيعة العمل المراد القيام به. فبعض الناس يعتصمون بالاستماع إلى الموسيقى التي تَبُثُ الهِمَّة، وترفع الروحَ المعنوية وتذكي العقل وتنشطه، بغض النظر عن مصدرها وأصلها، والأنغام الموسيقيَّة التي تريح النفس والبال وتهدئ الأعصاب وتزيد من درجة التفكير. بيد أنَّ الاختيار يعتمد على المزاج والذوق اللذين تبعثهما تلك النغمة في النفس. بالنسبة لي، لعلَّ الموسيقى الأفريقيَّة الماليَّة (نسبة لدولة مالي) لهي من أكثر الموسيقى التي استمع إليها واستمتع بها حين أعكف على الكتابة. ويرجع فضل تذوُّقي لموسيقى مالي إلى إخوة وزملاء دراسة سابقين لي من دولة مالي بجامعة نبراسكا-لينكولن، أذكر منهم الأخ "كريم تراوري"، و"مينامبا بقايوقو" اللذان سبقاني بفترة دراسية واحدة. أما "عبد الوهاب توري" و"سيدي بكاي كلوبالي"، و"ديوني"، فكنت أسبقهم بفترة دراسية واحدة أيضاً. توطدَّت العلاقة الأخويَّة بيننا وما كنا نفترق أبداً، لدرجة أنَّنا كنا نسجِّل لنفس المواد الدراسيَّة. كما كنا نستمع سويَّاً لمشاهير مغنيهم مثل ملك الجاز "علي إبراهيم فركة توري". حقيقة كان كثيرٌ من الذين التقي بهم من مالي يظنون أنَّني منهم لدرجة أنَّهم يلقوني علي التحية بلغتهم الوطنيَّة "بامبارا"، خاصة الباحثين الزراعيين ورؤساء زملائي الزائرين للجامعة من مالي. و"فركة" لقب وتعني "حمار" (سنبيِّن سبب هذا اللَّقب لاحقاً)، والفنانة "أمي كويتا"، والمغنية "أومو سانغاري". فقد أهدى لي صديقي "كريم تراوري" أشرطة كاسيت لثلاثتهم فكنت استمع لهم يوميَّاً وباستمرار. هكذا ارتبطت بهم وبموسيقاهم وجدانيَّاً. في هذا المقال سنتطرَّق لهؤلاء وللذين شملتهم اهتماماتي التذويقية لموسيقى مالي التي أسرت مسامعي الرقيقة فشغفت بها.
عندما زار "علي فركة" مدينة لينكولن لإقامة حفل موسيقي لمعجبيه في المدينة، كنت ضمن الزوار قبل الحفل مع إخوتي وزملائي من مالي. لا مراء، لقد زاد إعجابي ب "علي فركة" عند حضوري الحفل الحيٍ المشار إليه بمسرح "ليد سنتر" التابع لجامعة نبراسكا- لينكولن، وسط مدينة لينكولن العاصمة عام ١٩٨٩م. فأمام جمهورٍ كبير اكتظ به المسرح، أدَّى "على فركة" أغنياته أداءً جميلاً وباهراً تحدَّث عنه رواد الموسيقى الأفريقيَّة وجاز البلوز في المدينة لوقت طويل. وللحق نقول إنَّ "علي فركة" شكَّل حضوراً مميِّزاً بزيه القومي وطوله وجسمه القويم، لا السمين البدين، ولا النحيل الهزيل؛ وملاح وجهه الصبوح وتقاطيعه المستقيمة، وابتسامته المشرقة التي تبزر بريق أسنانه البيضاء عند تفاعله مع الجمهور الغفير حين يشير إليهم بإعجابه بهم. كان الرجل يوجه مجموعة العازفين ويتحرَّك جيئة وذهاباً محييَّاً محبيه بيده اليمني، وأصابع يده اليسرى تخلِّل أوتار جيتاره، دون النظر أو الالتفات إليها مظهراً مهارة العزف عليها بلا منازع ليرسل النشوة للجموع التي آثرت الرقص والطرب والصراخ الداوي بما فعلت بهم أنغام أوتار "علي فركة" الساحرة وهو يضربها بيد واحدة.
إنَّ الحديث عن "علي فركة" لكثير وقد يطول، ولكن نختصره في أنَّه كان الطفل الوحيد، من والدته الذي عاش بعد موت كل إخوته الذين يكبرونه، لذا لُقِّب ب "فركة" أي "حمار" لكي يبقى على قيد الحياة. كان ذلك تقليداً إفريقيَّاً عندما لا يعيش مواليد المرأة بالتتالي فيُعطي ما يليهم اسماً غريباً غير مألوف لديهم لطرد الشر المحدق بالأسرة. عاش "على فكة" وأصبح فناناً ماهراً مما أهَّله بمعايير ذلك الزمن ليقلِّد منصب أول وزير للفن والثقافة في دولة مالي بعد استقلالها من فرنسا لما قام به من جهود فرديَّة في تقدُّم الفن والثقافة في بلاده. ثم أنَّ علياً أصدر في مسيرته الفنيَّة العديد من التسجيلات والأغنيات كما نال جائزة الجرامي. كما طاف بلدان كثيرة في رحلات فنيَّة غنائيَّة ومن ألبوماته المشهورة كمثال فقط: "الوحش"، و"الحديث بلغة تمبكتو"؛ و"المصدر"، و"نيافونكي" (اسم مسقط رأسه)، "في قلب القمر"، و"راديو مالي" إلخ... لا نبالغ إذا قلنا إنَّنا نملك كل ألبوماته.
يلي تناولنا للفنانين الماليين الفنانة "أُومو سانغاري" وهي من الأصوات النسائيَّة التي تميًّز موسيقاها بالنمط الشعبي المستمد من المناطق الريفيَّة في منطقة "موصولو" بجنوب مالي، ويدور حول مناصرة حقوق المرأة الماليَّة هناك. ولا شك في أنَّ "أُومو" تأثَّرت في عمر مبكر بوالدتها التي كانت مغنية باهرة في ذلك الجزء القصي من مالي حيث كانت تقيم حفلات الزفاف والمعموديَّة بالنسبة للمسيحيين في المدينة. لم يمض وقتٌ طويل قبل أن تبدأ "أُومو" في الغناء بنفسها وأصبحت فنانة معترف بها محليَّاً.
قامت "أُومو" بجولة قصيرة إلى أوروبا مع فرقتها كمغنية رئيسيَّة، وبعد عودتها من تلك الجولة بدأت في كتابة الموسيقى لتسجيل ألبومها الأول "موصولو". طوَّرت "أُومو" موسيقاها من قيثارة بستة أوتار بإضافة إليها الكمان لإعطائها محرِّك إيقاعي جيد، وجيتار كهربائي، وبيز جيتار لتوفير الدعم اللحني المتناسق. كما أضافت مجموعة من المطربات للتعبير عن غنائها الفردي القوي بنسخته الغرب إفريقيَّة. على كلٍ، تميَّزت كلمات ألبومها الأول الذي صُدر عام ١٩٩٠م بنقد حاد لموضوعات محظورة مثل تعدُّد الزوجات، والزواج المرتَّب، ومشقة النساء في مجتمع غرب إفريقيا، ولاقى استجابة عالية فوزُعت منه محليَّاً حوالي ٢٥٠٠٠٠ نسخة وسرعان ما تم اختياره للتوزيع الدولي. توالت إصدارات "أُومو سانغاري" لتشمل العديد من التسجيلات منها "تمبكتو"، "موقويا"، "ووروتان"، وأومو". ومن الأغنيات الشهيرة التي استمع لها: "ديارابي نيني"، و"كيايني وورا". بالإضافة لتناول "أُومو" للقضايا الاجتماعيَّة وقضية المرأة بصفة خاصة، فقد عملت مع وكالات إنسانيَّة مختلفة، بما في ذلك منظمة الأغذية والزراعة في الأمم المتحدة، وعملت سفيرة رسمية لها. أما "أمي كويتا" من المغنيات الماليات اللائي تأثَّرنا بهن باكراً وما زلنا نستمتع بأغانيها، وهي بلا شك رمز من رموز الفن في مالي ورقم لا يمكن تجاوزه بأي حال من الأحوال.
أوتار مالى (٢ من ٢)
في الجزء الأول كتبنا عن فناني مالي الذين أسروا مسامعنا منذ ١٩٨٩م. في هذا الجزء نتعرَّض ما توسعت به مكتبتنا بالغناء المالي فيما لتشمل في رفوفها "أفيل بوكوم"، و"بوبكر تراوري"، الملقَّب ب "كاركار"، و"ساليف كويتا" الملقَّب أيضاً بالصوت الذهبي، و"فاتوماتا دياوارا"، و"توماني دياباتي"، و"فيو علي فركة"، و"حبيب كويتي"، وغيرهم من عظماء الموسيقى الماليَّة. سنتناول كل واحد منهم باختصار شديد. "أفيل بوكوم" هو ابن أخت "علي فركة" وقد عمل معه في فرقته المسماة ب "أسكو" لمدة ٣٠ عاماً، ولكنه شكَّل فرقة موسيقيَّة خاصة به من الموسيقيين المحليين. يصفه "علي فركة" ويظهر فخره بالقول: "إنَّه رجلاً طموحاً سيساهم في تطوير الفن والثقافة وتاريخ مالي". بجانب التمتُّع بسمعة طيبة بسبب موسيقاه، إلا أنَّ "أفيل" كان مستشاراً زراعيَّاً وله ارتباط قوي بالأرض، وترتبط أغانيه بالمجتمع المالي. ويعتقد "بوكوم" أن الموسيقى هي أقوى وسيلة لمعالجة المشاكل المتنامية في مالي، البلد الذي كان يفتقد الكثير من وسائل الترفيه والتواصل، وأنَّها هي أفضل طريقة لإيصال الرسالة. تحمل فرقته وأول ألبومه نفس الاسم: "رسول النهر العظيم". فمثل "علي فركة" أصدر "أفيل بوكوم" عدداً من الألبومات والأغنيات الجميلة منها على سبيل المثال: "ليندي"، و"ألكيبار". ومن الأغنيات التي يظهر فيها نوعاً من روح الشباب أغنيته بعنوان "تينكي هييري".
ثم يأتي الحديث عن "بوبكر تراوري كاركار"، و"كاركار" لقب كروي وسمه به أصحابه لكثرة المراوغة أثناء اللعب بكرة القدم. الكلام عن الجوهرة السوداء، كما يسميه البعض، "كاركار" يحمل في طياته مآسي كثيرة، غير أنَّه من الأفضل القول بإنَّ "بوبكر" قلب موازين المأساة إلى السعادة في آخر عمره. فقد لمع نجمه في أواخر ستينيات القرن العشرين ثم أفل، ولم يتم اكتشافه بعد ذلك إلا عام ١٩٨٧م في قريته. ولظروف قاهرة بعد وفاة زوجته تاركة ورائها سبعة أطفال، هاجر "كاركار" إلى باريس التي ذاق فيها مرارات الغربة والاغتراب ولم يكن أمامه إلا أن يشتغل كعامل بناء ليعول أبناءه. ثم جاء الاكتشاف الكبير له بواسطة منتج إنجليزي فتغيَّرت حياته إلى الأفضل وإلى الأبد إذ صار يعبِّر عن أحزانه وأفراحه في الأغنية الرصينة تأليفاً ولحناً. ساعدته في ذلك دقته في نظم كلماته، ونضوج صوته الفريد المتماشي والمتناسق مع عبارات الحنين في الشعر. فبين ١٩٩٠-٢٠٠٥م أنتج "بوبكر" ثماني ألبومات، و٣ أخريات بين ٢٠١١-٢٠١٧م ويعتبر ذلك رقماً قياسيَّاً. ومن تلك الألبومات: "مريما"، و"كاركار"، و"سأغني لك"، و"الجفاف" و"أطفال" إلخ... ولإيقاع أغنية "بابا دراميه" وقع عميق في النفس.
الفنان الموسيقار "ساليف كويتا" أو "الصوت الذهبي" ينتمي إلى الأسرة المالكة في مالي سابقاً. لقد عانى "ساليف" في حياته الأولى نتيجة لإصابته بالبرص فطردته عائلته، ونبذه المجتمع لأنَّ البرص ليس معيباً ومصدر الشر فقط، بل علامة لسوء الحظ في ثقافة ذلك المجتمع. لم يكن أمام "ساليف كويتا" إلا السعي وراء امتهان مهنة الموسيقى والغناء الذي يعتبر من المحظورات لأفراد النبلاء مثل "ساليف كويتا" الأمر الذي زاد الشقة بينه وبين أسرته ومجتمعه. على أية حال، جال "ساليف كويتا" بين مسقط رأسه "جوليبا" إلى العاصمة المالية "بماكو"، وخارج مالي إلى "أبيدجان" بساحل العاج، ثم باريس بفرنسا. حصل على الاعتراف الدولي في سبعينيات القرن الماضي وتوسَّع نشاطه الفني وأصبح من أشهر المشاهير في غرب أفريقيا. له العديد من التسجيلات الغنائيَّة.
ومن الفنانات الماليات اللائي أسرن مسامعنا، الفنانة "فاتوماتا دياوارا" التي ولدت في ساحل العاج لأبوين ماليين اللذان انتقلا فيما بعد لموطنهما مالي. اشتهر غناؤها بالصوت الحسي الذي تعمَّد أغاني النصيحة التي تناولت فيها كفاح المرأة الأفريقيَّة وأشهر أغنيتها في هذا الجانب من الحياة، وفي ظل حكم الأصوليين الدينيين وممارسة ختان الإناث، هي أغنية "مُوصو"، تليها أغنية "مالي كو" التي تحث فيها على الوحدة وتهدئة الاستياء الذي خيَّم على شعب مالي من أفعال أقلية الطوارق التي يلقي البعض عليها اللوم فيما يحدث في شمال مالي من تحريض لهذه الأقلية للتوغل للاستيلاء على السلطة بالقوة. وقد قالت "فاتوماتا" في الأغنية إياها إنَّها بحاجة للصراخ ب: "استيقظ! نحن نخسر مالي! نحن نفقد ثقافتنا، وتقاليدنا وأصولنا وجذورنا"!
يأتي ابن "علي إبراهيم فركة توري" المسمى ب "فيو" ضمن الذين يعجبني وسيعجبك غناؤه على المستويين: المستوى الذي يحرِّض على الرقص غير الصاخب، والمستوى الهادئ الذي يريح الدماغ ويعالج الاضطراب الذهني ويشد الإنسان إلى التفكير والانتباه. وكما يقول المثل لا تقع الثمار بعيدة من الشجرة، فقد أخذ "فركة الابن" خطوات والده في الغناء والعزف على الجيتار بطريقة ساحرة مبهرة، ربما قد تفوَّق على والده! لقد عارض "علي فركة" الطريق الموسيقى التي سلكها ابنه، إلا أنَّ "فيو" انضم سراً لمعهد موسيقي في المدينة ليفاجئ والده بما كان يرفضه. بالتأكيد لو عاش "علي فركة" إلى اليوم لكان أكثر فخراً بابنه الذي وصل إلى القمة بأدائه الفني. أصدر "فيو" وحده تسع ألبومات واثنين مع "راشيل". ومن أجمل أغانيه تلك التي يرثي فيها والده بعنوان "فافا". رغم عدم فهن للغة وكلمات الأغنية إلا أنَّها من أكثر أغنياته المحببة إلينا واستطيع الاستماع إليها طول اليوم. أخيراً وليس آخراً، نتناول الفنان "حبيب كُويتي" الذي يتميَّز أسلوبه بالسلم الخماسي الذي يعتمد على اللعب على أوتار مفتوحة، كما يصفها الموسيقيون. أما صوته فحميمي ومريح للغاية ويؤكِّد على الغناء الهادئ والمزاجي بدلاً من البراعة الفنيَّة الأوبراليَّة. يقوم "حبيب" بتأليف وترتيب جميع أغانيه، ويغنيها باللغات الإنجليزيَّة والفرنسيَّة والبامبارا، لغة دولة مالي الوطنيَّة. ومن ألبوماته: "موسو كو"، و"ما يا"، و"بارو"، و"أفريكي"، وأجمل الإيقاع في أغنية "آي كا باررا".
أما بعد، عند الاستماع والاستمتاع بأنغام "أوتار مالي" يغلب علينا في كثير من الوقت الترديد والترنيم والهمهمة كأنَّنا نفهم ما يتغنى به أولئك الفنانون الغنائيون. وعندما يسألنا سائل عن زئيرنا من الصدر كالأسد، نجيب: "أنَّنا ذاهبون إلى مالي دون عفش أو تأشيرة لأنَّ جواز سفرنا وتأشيرتنا إليها هو ارتباطنا الوجداني بما يشع به فضاء إفريقيا من حبال أصوات مغنيها الأفذاذ".