لماذا انتصار الشر يقوى بين النخب السودانية؟

 


 

طاهر عمر
6 February, 2023

 

من أكبر معوقات التنمية السياسية و التنمية الاقتصادية في السودان غياب المسافة الكافية بين المثقف غير التقليدي و المفكر غير التقليدي و المؤرخ غير التقليدي و بين السياسي الذي يزعم أنه هو الذي يلعب دور المثقف و المؤرخ و المفكر و النتيجة تفاعل موضعي يعطل أي تجربة لكي تصل الى غاياتها. لكي نوضّح الفكرة.
مثلا في الدول المتقدمة هناك مسافة بين السياسي تتيح له فرصة إختيار أي الأفكار يمكن ان تفضي لحل مشاكل المجتمع في فترة معينة مثلا نجد أن جاك شيراك بعد سيطرة ميتران على المشهد السياسي و كان محاط بمفكريين قد خلقوا منه أحد الخالديين بتطبيقه لفكرة الحد الأدنى للدخل و حماية فكرة الضمان الاجتماعي.
كان على شيراك أن يأتي بالجديد الذي يجعله على مستوى ميتران بعد أن ضرب ضربته التي أوصلته الى مقام العظماء في فرنسا. كيف أستطاع فرانسوا ميتران الوصول بالاشتراكيين الى قبول فكرة كينز فيما يتعلق بالحد الأدنى للدخل و فتح المجال لكي تنتقل فرنسا الى يسار الرأسمالية من جهة الاشتراكيين الفرنسيين؟ و هنا يتضح الفرق بين الاشتراكيين الفرنسيين و الشيوعيين الفرنسيين و ما بين الحزب الشيوعي السوداني في تكلسه و إصراره على إضطراد العقل و التاريخ الذي يوصل الى نهاية التاريخ المزعومة و نهاية الصراع الطبقي كما يتوهم الشيوعي السوداني حتى اللحظة.
بفضل مفكريين تجاوز اليسار الفرنسي أوهام مثل أوهام الشيوعيين السودانيين و قد تأكد كل ذلك بفضل المسافة التي تفصل المفكر من السياسي عندما وضح أن الانسانية التاريخية الفرد فيها بديل للطبقة و الفرد بطبعه عقلاني و اخلاقي. مثلا كانت الساحة الفرنسية قد أبعدت أفكار فلاسفة ما بعد الحداثة و ما بعد البنوية بفضل مفكريين إنتصروا على فكر ما بعد الحداثة بل أجبروهم على التنازل من هجومهم على عقل الحداثة و قد إنهزمت ماركسية سارتر بعد أن وضّح كلود ليفي إشتروس أن سارتر يجهل علم الاجتماع بالكلية.
و يجهل سارتر أن الظواهر الاجتماعية عبرها يمكن حل و كشف فاعلية المجتمع و ليس كما يتوهم سارتر في مسألة الصراع الطبقي كما يتوهم الشيوعي السوداني الى اليوم.
هذا ما يجعل نشاط الحزب الشيوعي السوداني يأتي لصالح صف العسكر و الفلول كما يفعل الكيزان لتعطيل التحول الديمقراطي. بالنسبة للفرنسيين أن أفكار اليسار و ماركسية سارتر فيما يتعلق بالسلطة كمفهوم حديث و الدولة كذلك قد وضّحها فشل ثورة الشباب في فرنسا عام 1968 و وضع حد لأفكارهم كما وضع حد لأفكار ما بعد الحداثة و ما بعد البنوية في وقت ما زالت النخب السودانية الى اليوم تخوط في أفكار ما بعد الحداثة و ما بعد البنوية كأنها في أيام ستينيات القرن المنصرم و ما زال الحزب الشيوعي السوداني يؤمن بشيوعية لم تصل لفكر أحزاب الشيوعية في الغرب و قد أيقنت من نمط إنتاج الاقتصاد الرأسمالي.
ما زالت أفكار إعادة إكتشاف غرامشي مستعصية على الشيوعي السوداني الذي لم يصل الى مستوى الوعي الذي يجعله يدرك كما أدركت الأحزاب الشيوعية في الغرب و استوعبت فكرة نمط الانتاج الرأسمالي. و هذا بسبب إشتباك الشيوعي السوداني كسياسي و غياب المسافة التي تفصله من المفكر و المثقف غير التقليدي و المؤرخ غير التقليدي.
هذا نتاج زعم الشيوعي السوداني أنه هو المفكر و المثقف و المؤرخ و في نفس الوقت هو السياسي و المؤرخ الواهم بفكرة إضطراد التاريخ و العقل و هذا هو الذي قصدته بغياب المسافة بين المفكر و السياسي و هنا أود أن أقول أن الشيوعي السوداني كسياسي بسبب غياب المسافة بينه و بين المفكر و المثقف و المؤرخ و بسبب خلق الهالة حول السياسي الشيوعي السوداني و تضخم ذاته نجده يزعم أي الشيوعي السوداني كسياسي أنه هو ذات نفسه مفكر و مؤرخ و مثقف و لهذا قد وصلوا لمستوى الحجا القصار و لا تشرح حاله غير الحجوة التي تقول كان شاله ما بنشال و كان خله سكن الدار أي أنه كوشة حيث ترمى الاوساخ.
بسبب تحجر النسخة الشيوعية السودانية التي لا ترى في نمط الانتاج الراسمالي غير ما كانت تراه الشيوعية في الاتحاد السوفيتي و قد إنهارت نجد الشيوعي السوداني ما زال لا يؤمن بفكرة الدولة من الاساس و بما أنه لا يمتلك قوة الدولة كما كان الاتحاد السوفيتي سابق يستخدم قوة الدولة كلها في تحطيم المجتمع الى أن إنهارت الشيوعية.
كذلك نجد الشيوعي السوداني و بسبب مواقفه من التحول الديمقراطي المفضي لفكرة الدولة التي لا يؤمن بها الشيوعي السوداني نجده يستخدم قوة الفلول و العسكر و الكيزان بموقفه السالب من التحول الديمقراطي و يحطم بها مسيرة التحول الديمقراطي كما فعل شيوعيي الاتحاد السوفيتي بقوة الدولة و قد حطموا بها المجتمع الى أن إنهار.
عدم ايمان الشيوعي السوداني بفكرة الدولة من الأساس يجعله مهما تفنن في إبداء الحجج في مواقفه السالبة لا يختلف عن موقف الكوز و هذا بسبب غياب المسافة التي تفصل ما بين المفكر و السياسي كما نجدها في المجتمعات المتحضرة. نضرب مثلا عندما حانت مفارقة فرانسوا ميتران كسياسي لمشهد الفكر و هو محاط بمفكريين.
أطلت حقبة جاك شيراك و هو يستعد للفوز و هو كسياسي يعرف المسافة بينه و المفكر و لذلك تسلح بفكرة عمانويل تود أي فكرة التشظي الاجتماعي و هذا ما قاد جاك شيراك للفوز بعد فترة هيمنة فرانسوا ميتران كاشتراكي أسس لنقل اليسار الفرنسي الى مستوى إدخال فكر يسار الرأسمالية و هذا ما قصدته من وجود مسافة تفصل بين السياسي و المفكر و المثقف كما نجد في المجتمعات الحية حيث يتسلح السياسي بأفكار المفكر و المثقف و المؤرخ غير التقليدي و الاقتصادي.
على السياسي السوداني أن يدرك بأن السياسي في المجتمعات الحية متغير تابع لمتغير مستقل و هو المثقف و المفكر و المؤرخ غير التقليدي و الاقتصادي و هو الذي يستشرف مستقبل الشعوب و ليس السياسي و خاصة في مجتمع سوداني تقليدي للغاية.
و للأسف مشكلة الشعب السوداني تكمن في غياب شخصية تاريخية تستطيع فك الاشتباك بين نخب ما زالت تجهل غياب المسافة بين السياسي و المفكر الذي يلعب دور العابر بأمته كما فعل روزفلت في لحظة الكساد العظيم أو كما فعل مانديلا و قد عبر بأمته و غياب مانديلا من وسط النخب السودانية يجعل الحزب الشيوعي السوداني و مواقفه السالبة كمواقف بتوليزي إلا أن ماندلا قد أقنعه فمن يقنع الحزب الشيوعي السوداني من مواقفه السالبة في غياب مانديلا سوداني يلعب دور الشخصية التاريخية؟
على أي حال مسألة تخبط النخب السودانية و إلتباس العلاقة بين السياسي و المفكر تكاد تكون مزمنة أي منذ أيام مؤتمر الخريجيين و يظهر تسابقهم للانضمام لبيوت الطائفية بعد إنهيار مؤتمر الخريجيين كيف تسيطر على روح المثقف السوداني روح الأبوية المستحدثة و استعداده و خنوعه للامام الطائفي و مولانا الختمي.
و من هناك نمت الذات المتضخمة لنخب يظن أغلبهم أنه هو السياسي و المفكر في نفس الوقت و من لحظتها ضاع دور المفكر الذي يستطيع أن يكشف كيف يتم التحول الهائل في المفاهيم فيما يتعلق بمفهوم الدولة كمفهوم حديث و كله بسبب أن المثقف السوداني كان ضحية البناء الأسري و دوره في إنتاج النظم السياسية و كيف يتخلص من بناء الأسرة الجذعية التي لا تنتج غير نخب سياسية يفتح فكرها على إمكانية إنتاج النظم الشمولية.
هذا هو سر سيطرة الشيوعي السوداني على مشهد الفكر بفكر شمولي عبر شعراه كأصنام ذهنية و عبر مفكرين شيوعيين سودانيين ضحية سلطة الأب و ميراث التسلط. و أستاذ ينسب له الحزب بلا خجل لأن روح سلطة الأب و ميراث التسلط هي المسيطرة على أتباع الشيوعي السوداني و أصدقاء الحزب و هذا بسبب غياب المفكر الذي يوضح لهم أن المثقف السوداني ضحية بناء أسري لأسرة جذعية دخلت إلينا مع الثقافة العربية الاسلامية و لا تنتج غير مثقف يخدم خط النظم الشمولية و هذا سر إصرار الشيوعي السوداني على نهاية التاريخ و إنتهاء الصراع الطبقي.
و نتيجة سيطرة ثقافة الأسرة الجذعية على المثقف السوداني و في المقدمة الشيوعي السوداني نجد أن الشيوعي السوداني حتى اللحظة لم يفهم بأن الطبقات الصاعدة لجيل ثورة ديسمبر المجيدة لا يمكن أن يكون مثقفها العضوي الذي يحقق لهم مستقبلهم من ضمن من كانوا ضحية ثقافة الأسرة الجذعية التي تجعل الفرد متفاني في إنتاج نظام شمولي كما يفعل أتباع الحزب الشيوعي السوداني و لا يكون المثقف العضوي من أتباع أحزاب اللجؤ الى الغيب.
لهذا وجب القول للنخب السودانية بأن تحقيق أهداف ثورة ديسمبر تحتاج لمثقف عضوي يرفض ثقافة الأسرة الجذعية و نظم الشمولية و لا يسعها أي ثورة ديسمبر المجيدة و شعارها العظيم غير بناء الأسرة النووية التي تنتج نظم ديمقراطية و هنا نحتاج للمفكر الذي تفصله عن السياسي مسافة كافية يوضح للسياسي السوداني بأنه و بسبب غياب المسافة بينه و المفكر يظهر على مسرح الحدث سياسي بعقل الحيرة و الاستحالة و معشعش على عقله الخوف المرضي الذي يجعله لا يفكر إلا في المحاصصة.
و قد رأينا غياب المسافة بين المفكر و السياسي أي المسافة التي تتيح للمفكر أن ينتج فكر يساعد السياسي كما رأينا فرانسوا ميتران و جاك شيراك في صحبة مفكريين فرنسيين كان لهم دور في تفسير ظواهر المجتمع.
غياب هذه المسافة أنتجت سياسي سوداني كالسائر في نومه عبر سبعة عقود لم تنتج غير مثقف قضى عقود في حديث الهويات القاتلة بدلا عن الحديث عن الحريات و بسبب جهل السياسي السوداني بالنشؤ و الإرتقاء المتجاوز للعرق و الدين نجدهم قد أضاعوا عقود في مشكلة الهامش و المركز و هو عنوان مضلل لم ينتج مفكريين بمستوى وعي عالي بل نجده قد أنتج متدنيي الوعي في الجانبيين أي المركز و الهامش.
ها نحن نشهد مثقفي الهامش و هم على صورة مشوّهة لمثقفي المركز و قد فضحهم وقوفهم في جانب نصرة أفشل إنقلاب يقوده البرهان الفاشل. وقوف مالك عقار و مبارك أردول و مناوي و ناظر البجة ترك و قفل الميناء و جبريل في جانب الإنقلاب يوضح لك بأن سياسيي الهامش هم صورة مشوّهة لسياسيي المركز و قد أعادوا للأذهان يوم إنهيار مؤتمر الخريجيين و تسابق نخب الشمال لبيوت الطائفية.
بعد سبعة عقود نجد عقار و أردول و جبريل و مناوي يناصرون إنقلاب البرهان و تتضح صورتهم و هم يظهرون بجانب البرهان و إنقلابه الفاشل بصورة مشهوّه لنخب الشمال قبل سبعة عقود يوم تسابقهم نحو بيوت الطائفية و القاسم المشترك بين صورة نخب الشمال و صورتهم المشوّهة أي نخب الهامش أن كليهما لا تنتج مناشطهم نظم ديمقراطية.
و لهذا نقول على السياسي السوداني أن يدرك بأن زمن طرح الهامش و المركز و الهويات بدلا للحريات قد ولى بلا رجعة جاء الوقت بأن يقوم المفكر و المثقف و المؤرخ غير التقليدي بطرح فكر يخرج السياسي السوداني من غباءه الموروث منذ أيام مؤتمر الخريجيين الذي أورثنا لوثة فكر نخب لا تفرق بين السياسي و المفكر و المثقف و المؤرخ و الاقتصادي الذي ينتج فكر يجسر ما بيننا و بين الشعوب المتقدمة.

taheromer86@yahoo.com
/////////////////////////

 

آراء