الشيوعي والبعثي والكوز.. الأشياء تتداعى

 


 

طاهر عمر
16 February, 2023

 

ما يربط بين الشيوعي السوداني و الكوز و البعثي أنهم ثلاثتهم يجسدون بطل رواية الأشياء تتداعى للنيجيرى أشيبي و قد أخذ أشيبي عنوانه من قصيدة للشاعر ييتس كتبها في أعقاب الحرب العالمية الأولى و فيها يرى أن أوروبا قد ودّعت عالم ظن كثر أنه خالد لا يزول.
عالم سيطرت فيه ثقافة المسيحية و قد خيمت بظلال ليلها على عوالم أوروبا لقرون و إذا بها أي اوروبا تستيقظ على زوال أحلامها و تدرك أنها تسير في نومها تحت ضغط كوابيسها و ما الحرب العالمية الاولى إلا أولها لنهاية انتظار ألفين عام لعودة المسيح.
ييتس في قصيدته زى سجند كمنغ قد أرسل ما أتخذه أشيبي عنوان لروايته الأشياء تتداعى حيث يبرز فيها أن كمون المسيحية على عودة المسيح قد طرحت ميلاد مسخ أو دجال قادم و كلها تهيئة بأن كل شئ كان ذو قيمة قد مسخ و بدأ مسيرة زواله.
في قصيدته كما يتنبئ بالمسخ الذي يحل مكان نبؤة عودة المسيح كذلك يتنبئ ييتس بقدوم النازية و الفاشية و هي مسخ جديد حيث تعاود أوروبا تكرار الحرب العالمية الثانية بدلا من السلام الذي ترنو إليه بعد ما رأت مأسي الحرب العالمية الأولى و تصبح الأشياء تتداعى تسلسل من السئ الى الأسواء في حلقات متواصلة في تكرار أوروبا لحروبها العالمية المتعاقبة و تكرار الزعازع في تحول مجتمع أشيبي و بطل روايته حيث سارت حياته من سئ الى أسواء الى لحظة إنتحاره.
وقفة لكي ننبه القارئ لقدرة ييتس في كيفية ضغط الزمن حيث تتساوى ألفين عام من تاريخ المسيحية و انتظار عودة المسيح مع حقبة ما بين الحربين العالمتين حيث ينضغط الزمن في عقدين بين حربين ليساوي ألفين في إنتظار عودة المسيح وتصير الأشياء تتداعى سلسل من السئ الى الأسواء حيث تولد النازية و الفاشية كشبيه لميلاد المسخ الذي يحبط إنتظار عودة المسيح.
تنبيه آخر للقارئ و هو أن إدورد سعيد في إتهامه للغرب بأن شراكه قد نجحت في أصطياد مثقفي العالم الثالث حيث ساروا في خط ما رسمته الثقافة الغربية من أجل الهيمنة و قد ذكر مثالا تأثر أشيبي و قد إتخذ من قصيدة ييتس عنوانا لروايته إلا أن ادورد لم ينتبه الى أن أشيبي لم يكن صيدا سهلا بل فهم ما يرنو إليه ييتس في قصيدته.
اشيبي في روايته سار على هدى ييتس في تحسره على صحو أوروبا على تغيير يفوق تجربتها مع المسيحية و عودة المسيح و قد صحت على كوابيسها بدلا من
أحلامها بعودة المسيح كذلك أفريقيا قد استيقظت على عالم متغيير بشكل فظيع و هنا تكون نقطة إلتقاء أشيبي مع ييتس.
نقطة إلتقاء ييتس مع اشيبي كأنها تمثل الوحدة النفسية العاطفية للانسانية قاطبة حيث يصير أشيبي صنوا لييتس كمقياس لشدة الزلازل و الزعازع التي تصيب المجتمعات مع إختلاف مشاربهم الثقافية.
ييتس يرى أن الأشياء تتداعى في أعقاب حرب زلزلت أوروبا و اشيبي يرى الأشياء تتداعى في مجتمع أفريقي قد استيقظ على أصوات جيوش تدق أبواب ثقافة أفريقية لم تألف ما أتت به جيوش الاستعمار و ما صاحبها من مبشرين بالمسيحية و قد قضت على ثقافة افريقية ضاربة الجذور و هنا يأتي رد أشيبي على جوزيف كونراد في روايته قلب الظلام.
الأشياء تتداعى تفقد ادورد سعيد حجته بأن الأدب الأوروبي قد قام بتهيئة شعوب العالم الثالث لكي تكون على إستعداد لقبول الاستعمار في وقت نجد أوروبا نفسها ضحية تتطورها الداخلي الذي قد أوردها الى تتداعي الأشياء و قد سارت حلقات تداعيها من سئ الى أسواء كما كانت تتنبئ قصيدة ييتس و قد تنباء بقدوم النازية و الفاشية و الحرب العالمية الثانية.
بالمناسبة في نفس زمن كتابة ييتس الى فكرة الأشياء تتداعى و تنبؤه بالفاشية و النازية نجد جون ماينرد كينز الاقتصادي الشهير قد قال أن ما فرض على المانيا من قيود و إكراهات سوف يفتح على حرب عالمية ثانية و قد صدقت أفكاره كما صدقت قصيدة ييتس و فكرة الأشياء تتداعى.
و هنا يتجاور الشعر مع الفكر الكنزي كما تجاور الشعر و الفلسفة ذات يوم في شعر هولدرلين و فلسفة هيغل و هذا الذي لم نجده يتجاور في محاولات إدورد سعيد مما جعله يعتذر عن كتابه الإستشراق و أعترف بأنه أي كتابه الإستشراق قد خدم الأصولية و الفكر الأصولي أكثر من أن يخدم التنوير.
إدورد سعيد في كتابه الاخير الأنسنة و النقد الديمقراطي قد أكد على نزعة انسانية و قطيعة مع التراث كان إدورد من أكثر المدافعين عنه لدرجة جعلته في كتابه الاستشراق يخدم الأصولية أكثر من خدمته للتنوير. في كتابه الاخير نجده قد تراجع عن أفكاره كتراجع ميشيل فوكو عن هجومه على عقل الانوار و معروف أن ادورد سعيد يتكئ بشكل واضح على أفكار ميشيل فوكو كما يتكئ ميشيل فوكو على أفكار فردريك نيتشة.
في أعلى المقال قد رأينا كيف تجاورت أفكار كينز كاقتصادي مع قصيدة ييتس زى سكند كمنغ في تنبؤهما بأن أوروبا تتداعى حلقات أحداثها من سئ الى أسواء هنا سوف نؤكد تجاور أفكار رينيه شارل كشاعر مع أفكار ييتس حيث يؤكد رينيه شارل بأن أوروبا لم يتبقى لها من المسيحية غير أنها تراث و لكنها لم تعد عهدا أو ميثاق.
أو قل لم يعد تراث المسيحية دينا لأن المسيحية كدين كانت تسمى العهد الجديد وكتابها يسمى كتاب الحياة أو كتاب البشارة و ما مرّ على أوروبا من أحداث غير مسبوقة بعهد تجعل أوروبا رهينة الأشياء تتداعى حيث تعلن نهاية فلسفة التاريخ التقليدية و ميلاد فلسفة التاريخ الحديثة.
استيقظت أوروبا على كوابيس الحرب العالمية الأولى و قبل أن تجف دماء الضحاياها و دموع اليتامى و الأرامل فاذا بييتس يتنباء بالأسواء كحلقة قادمة و هكذا الأشياء تتداعى حلقة سيئة تجر أسواء منها.
و من حلقات ييتس السيئة التي تجر الأسواء منها كانت حياة بطل أشيبي الى لحظة انتحاره و لهذا كان اختيار أشيبي من قصيدة ييتس مناسبا لتسلسل حلقات بطل أشيبي و ليس شرك من شراك الادب الغربي لإصطياد مثقفي العالم الثالث كما يظن ادورد سعيد و هو مخطئ و يصر على هجومه و يبرر هيمنة الثقافة الغربية.
هنا يظهر فرق المناهج بين ادورد سعيد و أشيبي حيث نجد أشيبي يتكئ على بنوية كلود ليفي أشتروس حيث تتساوى الحضارات أي أن الحضارة الغربية لا تتفوّق على بقية الحضارات التي نظن أنها بدائية بل نجد أن هناك دقة متناهية في الحضارات التي تسمى بدائية تجعلها صنوا للحضارة الغربية و متساوية معها في تفسير الظواهر الاجتماعية.
فكرة ادورد سعيد في هجومه على الحضارة الغربية يؤكد من حيث لا يدري أنها متفوقة بعكس رؤية البنوية التي تضعها متساوية مع الحضارات البدائية بل نجد أن كلود ليفي اشتروس يرفض بأن توصف أي حضارة بأنها حضارة بدائية و معروف أن كلود ليفي أشتروس ينتقد أفكار ميشيل فوكو التي يعتمد عليها ادورد سعيد.
و كما ذكرت في هذا المقال أن كتاب ادورد سعيد الأخير أي الأنسنة و النقد الديمقراطي فيه تراجع واضح من ادورد سعيد عن أفكاره التي قد جعلت جهده خادما للأصولية و الأصوليين أكثر من خدمته للتنوير.
نعود لعنوان المقال حيث نجد الشيوعي السوداني ما زال في خصام مع فكرة الدولة من الأساس كمفهوم حديث و السلطة كمفهوم حديث بل صارت نسخة الشيوعية السودانية تفسيرا لفكرة الأشياء تتداعى حيث كل حلقة تجر الأسواء منها وكامنة في تاريخ الحزب الشيوعي السوداني حيث ما زال عاجز عن الوصول لفهم نمط الانتاج الرأسمالي كتاريخ طبيعي للانسانية قاطبة و هو أي تاريخ الرأسمالية وحده القادر على إيقاف سلسلة الأشياء تتداعى أي إيقاف الحلقة التي تجر حلقة أسواء منها حيث نجد الشيوعي السوداني منذ جهوده في إسقاط حكومة حمدوك لا يختلف عن الكوز مهما إجتهد.
أما البعثي السوداني ففي إنتظاره لوحدة عربية و أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة يجعله من المرجئة حيث تمر الدهور في انتظار ميلاد أو عودة مسيح و قطعا لا يصحو القومي العربي إلا على الأشياء تتداعى كما استيقظت أوروبا بعد ألفين عام من انتظار المسيح و عودته على الأشياء تتداعى كما أبدع ييتس حيث لم يعد المسيح بل مسخ كما نجده في تاريخ البعث و حروب صدام العبثية و وراثة ابن حافظ الأسد لأبيه فلا تنتظر من بعثي أيها السوداني دعما لتحول ديمقراطي فاقد الشئ لا يعطيه.
أما الكوز فلا أظن أن أي سوداني يحتاج لتفسير و توضيح كيف كان الكوز في انتظاره لجامعة إسلامية قد كان روح الأشياء تتداعى و كل سنوات حكمهم في السودان كانت حلقة سيئة و شريرة تجر حلقات أكثر سواء و أكثر شر و لكن الأمل و الخبر الجيد لكم أيها السودانيون أن الكوز و البعثي و الشيوعي سيختفون جميعا من مسرح الأحداث كما أختفت الشيوعية و النازية و الفاشية من مسرح الأحداث.
و لكن ننبهكم الى أن إختفاء النازية و الشيوعية و الفاشية قد كلف البشرية كثير من الدم و العرق و الدموع و لكن يمكننا أن نتجنبه بإرتفاع مستوى وعيكم أي بأن تفهموا أن الكوز و الشيوعي و البعثي هم تجسيد للشيوعية و النازية و الفاشية و كما كانت النازية و الفاشية و الشيوعية نتيجة حقبة عابرة بسبب إنشغال البشرية بين نهاية ليبرالية تقليدية و بداية ليبرالية حديثة.
كذلك سيكون البعثي و الكوز و الشيوعي في السودان نتيجة لحقب عابرة لم يكن فيها المثقف السوداني مدرك لما يفسر الظواهر الاجتماعية التي تجعل الانسان في مسيرة مأساوية و تراجيدية فرضتها عليه الحياة و الحداثة و لا يمكن مجابهتها إلا بفهم فكرة ضمير الوجود و تجربة الانسان.
و في الختام نقول لكم زى سجند كمنغ و من داخلها كقصيدة نذكّركم بروح الأشياء تتداعى ستتذكرون أن مصير الكوز و الشيوعي السوداني و البعثي السوداني لا يختلف عن مصير بطل رواية النيجيري العظيم أشيبي و حينها لم يجدوا من ينزلهم من مكان انتحارهم لأنهم وفقا لثقافة أشيبي أنهم قد تلوثوا.

taheromer86@yahoo.com
/////////////////////////

 

آراء