حوار في خيمة العزاء .. إعداد: حسن الجزولي
حسن الجزولي
26 February, 2023
26 February, 2023
( بمناسبة مرور ذكرى الرحيل الفاجع للموسيقار محمد وردي الذي نعته البلاد في 18 فبراير2012 والاحتفال باليوم العالمي للاذاعة في 13 فبراير)
* برع في صناعة صفارة القصب وتلحين الأناشيد لتلاميذ المدرسة.
* يا طير يا طاير مسجلة في الاذاعة بطريقتين مختلفتين!.
* أحد الذين شكلوا كورس لوردي في بداية مشواره يعمل حالياً إمام جامع!.
محمد جعفر أحمد، إبن عم الموسيقار الراحل محمد وردي، يحمل ملامح منه ومن صواردة ومناطق السكوت، كان نديداً لمطربنا الراحل، لا يكبره إلا قليلاً، نشأ معه وترعرع في نفس المنزل الدي جمعهما سوياً. جلسنا إليه أيام العزاء في منزل الراحل وخرجنا منه بهذه الافادات:-
كان محمد زي أخوي، درسنا مع بعضينا وكان بالنسبة لي نعم الصديق والأخ، جمعتنا الخلوة والمدرسة والعائلة، كنا دفعة في عبري الأولية، زاملنا في الفصل كل من محمد صالح إبراهيم، محمد إبراهيم أبو سليم، فضل عثمان، محمد سيد طه من جزيرة صاي، محمد عبدون، محمد بدر إبن خالة محمد وردي، وكان ناظر المدرسة هو شيخ المغربي والد المذيعة الراحلة ليلى المغربي وشقيقاتها.
محمد وردي تيتم وهو صغير السن، فتربى في بيت عمه صالح حسن وردي والد زوجته الأولى السيدة ثريا واليسا وسلمى، وكان يعمل في وظيفة مساعد طبي بمنطقة عكاشة. رباه تربية جيدة ووفر له كل ما يعينه على ألا يحس مطلقاً أنه فاقد للأم والأب.
محمد من صغره كان يحب الغناء والفن والطرب، وأذكر أن صوته بدأ يبرز منذ أن كنا صغاراً سواء بين الحقول والسواقي أو حصص الأناشيد، وأذكر أنه كان صانعاً ماهراً لصفارة القصب التي يجيد العزف عليها، ثم بدأ التمرن على آلة الطنبور وقد برع في العزف عليه فيما بعد، كنا بمثابة جمهور مستمعين وكورس له.
التحق محمد بمعهد التربية بشندي وبعد التخرج عاد لصواردة، فتم تعيينه معلماً في مدارس كان يطلق عليها زمان “تحت الدرجة” وهي بين الخلوة والأولية. فكان أحب ما لديه ولدى تلاميذه أن يقوم بتلحين الأناشيد وآداءها معهم بآلة الطمبور بمصاحبة إيقاعات التلاميذ على أدراج الدراسة!.
فيما بعد وصل محمد العاصمة في نهاية خمسينات القرن الماضي، وأذكر أني سبقته إلى هناك حيث توظفت في هيئة مرطبات السكة حديد، وتدرجت في الأقسام. فعاش معي محمد في منزلي المؤجر ومعي بعض الأقارب كعزابة.
في أحد الأيام جاء إلينا محمد مهموماً وعندما سألناه قال أنه اجتاز امتحان في الغناء بالاذاعة السودانية وتقرر أن يؤدي وصلة غنائية بها، وقال أن هذا بمثابة امتحان عسير بالنسبة له لأنه غير مستعد وليست معه أوركسترا، خففنا عليه وأقنعناه بأننا سنكون مجموعة كورس خلفه تماماً كعادتنا معه سنوات الصبا بصوارده!. وبالفعل أدينا بعض البروفات على بعض الأغنيات النوبية وأغنية واحدة باللهجة العربية!.
الاذاعة كانت توجد بمدرسة بيت الأمانة للبنات ومقرها جنوب جامع الخليفة، وكانت تبث على الهواء مباشرة- قرب المدرسة أذكر أن الفنان عبد الكريم الكابلي كان مستأجراً لمنزل صغير في تلك المنطقة وزرناه مع محمد وردي بعد مشوار الغناء في الاذاعة – وأذكر أن للمبنى صالة مستطيلة كانت هي الأستديو، أما البث والتسجيل بشرائط الريل القديمة فكانت في مطبخ الصالة الملحق بها!، عندما وصلنا التقانا مدير الاذاعة يسن معني وعلمنا منه أن ما سيقدمه محمد وردي سيتم تسجيله في مسجل الريل ليتحول إلى أسطوانة ستطبع بمصر، وقال لنا أنه في حالة شاهدنا النور الأحمر في الأستديو، فعلينا أن نتوقف عن الغناء ليعاد التسجيل مرة أخرى.
أذكر أن الكورس كان يتكون مني وشقيقي عبد الرحيم وعبد الرحيم محي الدين حسن وشفيق عامر وعبد الرحيم زوج شقيقة ثريا زوجة محمد وردي وصلاح فرح سيدي وهو اليوم مؤذن جامع الكلاكلة شرق، كان هذا بمثابة أول كورس تاريخي خلف الفنان محمد وردي، محمد قدم أغنيتين بالنوبية وختم بأغنية “يا طير يا طاير” وهي من الحان خليل أحمد الذي كان يصطحبنا أيضاً، وهكذا خرجت أغنية “يا طير يا طاير” للمستمعين وهي المسجلة على أسطوانة بمصاحبة الطمبور الذي كان يعزف عليه محمد وردي وخلفه نحن ككورس!. وفيما بعد أعاد وردي تسجيل الأغنية بأركسترا الاذاعة بصورة حديثة!. بمعنى أن أغنية “يا طير يا طاير” مسجلة بمكتبة الاذاعة بطريقتين مختلفتين في الآداء!.
من طرائف ذلك اليوم – ولا زلت أذكر أنه كان مساء أربعاء في رمضان عام 1957 – أن مقرئ الاذاعة للقرآن الكريم هو الشيخ عوض عمر، وكان يأتي بحماره الدي يربطه قرب مبنى الاذاعة، وأثناء الآداء، أذكر أن تمت إضاءة النور الأحمر دون أن ننتبه، فدخل علينا يسن معني غاضباً لأننا لم نعمل بتعليماته بأن نتوقف عن الغناء في حالة إضاءة النور الأحمر، وعندما استفسرناه عن السبب قال لنا ساخطاً:- يعني ما سامعين حمار عم عوض في الشارع بهنق كيف؟!.
وهكذا بدأ مشوار محمد وردي في الغناء بالعاصمة بعد أن استقبل جمهور المستمعين أولى أغنياته، وما زلت أذكر أنه جاء لي يوماً لأخذ رأيي في موضوع قراره بالتفرغ للغناء وتقديم استقالته من التدريس، وقال لي أنه يمكن أن يجني أرباحاً مضاعفة من الغناء، ولكني اقترحت عليه الا يستعجل وأن يحرص على التمسك بمهنته الأساسية حتى يتهيأ لمشوار الفن وقد كان.
أذكر أن محمد نور الدين كان وزيراً في تلك الفترة وهو من بلدياتنا، فوجه بنقل محمد وردي للعاصمة، وعندما لم يجدوا له خانة في مدارس العاصمة، حول الوزير منزله لمدرسة حتى تستوعب وردي!.
تقاسم وردي سكناً مع كل من خليل أحمد والعازف علي ميرغني في منزل متواضع بالديوم جنوب غرب مقابر فاروق فترة طويلة من الزمن، وشهد ذلك المنزل بزوغ أولى الآغنيات والألحان لمحمد وردي في بداية مشواره الفني، لذا فإن جيرانه القدامى في ذلك الحي عندما علموا بوفاته هرعوا للمقابر، واكتشفنا أن كل مجموعة منهم كانت تتبارى مع الأخريات في توفير مقبرة لجارهم القديم، حتى وصل مجموع المقابر التي حفرها الجيران إلى ثلاثة مقابر حباً ومعزة لمحمد وردي ، رحمه الله.
______
* ضمن كتاب بعنوان " عصر وردي المموسق" سيصدر قريباً
hassangizuli85@gmail.com
//////////////////////////
* برع في صناعة صفارة القصب وتلحين الأناشيد لتلاميذ المدرسة.
* يا طير يا طاير مسجلة في الاذاعة بطريقتين مختلفتين!.
* أحد الذين شكلوا كورس لوردي في بداية مشواره يعمل حالياً إمام جامع!.
محمد جعفر أحمد، إبن عم الموسيقار الراحل محمد وردي، يحمل ملامح منه ومن صواردة ومناطق السكوت، كان نديداً لمطربنا الراحل، لا يكبره إلا قليلاً، نشأ معه وترعرع في نفس المنزل الدي جمعهما سوياً. جلسنا إليه أيام العزاء في منزل الراحل وخرجنا منه بهذه الافادات:-
كان محمد زي أخوي، درسنا مع بعضينا وكان بالنسبة لي نعم الصديق والأخ، جمعتنا الخلوة والمدرسة والعائلة، كنا دفعة في عبري الأولية، زاملنا في الفصل كل من محمد صالح إبراهيم، محمد إبراهيم أبو سليم، فضل عثمان، محمد سيد طه من جزيرة صاي، محمد عبدون، محمد بدر إبن خالة محمد وردي، وكان ناظر المدرسة هو شيخ المغربي والد المذيعة الراحلة ليلى المغربي وشقيقاتها.
محمد وردي تيتم وهو صغير السن، فتربى في بيت عمه صالح حسن وردي والد زوجته الأولى السيدة ثريا واليسا وسلمى، وكان يعمل في وظيفة مساعد طبي بمنطقة عكاشة. رباه تربية جيدة ووفر له كل ما يعينه على ألا يحس مطلقاً أنه فاقد للأم والأب.
محمد من صغره كان يحب الغناء والفن والطرب، وأذكر أن صوته بدأ يبرز منذ أن كنا صغاراً سواء بين الحقول والسواقي أو حصص الأناشيد، وأذكر أنه كان صانعاً ماهراً لصفارة القصب التي يجيد العزف عليها، ثم بدأ التمرن على آلة الطنبور وقد برع في العزف عليه فيما بعد، كنا بمثابة جمهور مستمعين وكورس له.
التحق محمد بمعهد التربية بشندي وبعد التخرج عاد لصواردة، فتم تعيينه معلماً في مدارس كان يطلق عليها زمان “تحت الدرجة” وهي بين الخلوة والأولية. فكان أحب ما لديه ولدى تلاميذه أن يقوم بتلحين الأناشيد وآداءها معهم بآلة الطمبور بمصاحبة إيقاعات التلاميذ على أدراج الدراسة!.
فيما بعد وصل محمد العاصمة في نهاية خمسينات القرن الماضي، وأذكر أني سبقته إلى هناك حيث توظفت في هيئة مرطبات السكة حديد، وتدرجت في الأقسام. فعاش معي محمد في منزلي المؤجر ومعي بعض الأقارب كعزابة.
في أحد الأيام جاء إلينا محمد مهموماً وعندما سألناه قال أنه اجتاز امتحان في الغناء بالاذاعة السودانية وتقرر أن يؤدي وصلة غنائية بها، وقال أن هذا بمثابة امتحان عسير بالنسبة له لأنه غير مستعد وليست معه أوركسترا، خففنا عليه وأقنعناه بأننا سنكون مجموعة كورس خلفه تماماً كعادتنا معه سنوات الصبا بصوارده!. وبالفعل أدينا بعض البروفات على بعض الأغنيات النوبية وأغنية واحدة باللهجة العربية!.
الاذاعة كانت توجد بمدرسة بيت الأمانة للبنات ومقرها جنوب جامع الخليفة، وكانت تبث على الهواء مباشرة- قرب المدرسة أذكر أن الفنان عبد الكريم الكابلي كان مستأجراً لمنزل صغير في تلك المنطقة وزرناه مع محمد وردي بعد مشوار الغناء في الاذاعة – وأذكر أن للمبنى صالة مستطيلة كانت هي الأستديو، أما البث والتسجيل بشرائط الريل القديمة فكانت في مطبخ الصالة الملحق بها!، عندما وصلنا التقانا مدير الاذاعة يسن معني وعلمنا منه أن ما سيقدمه محمد وردي سيتم تسجيله في مسجل الريل ليتحول إلى أسطوانة ستطبع بمصر، وقال لنا أنه في حالة شاهدنا النور الأحمر في الأستديو، فعلينا أن نتوقف عن الغناء ليعاد التسجيل مرة أخرى.
أذكر أن الكورس كان يتكون مني وشقيقي عبد الرحيم وعبد الرحيم محي الدين حسن وشفيق عامر وعبد الرحيم زوج شقيقة ثريا زوجة محمد وردي وصلاح فرح سيدي وهو اليوم مؤذن جامع الكلاكلة شرق، كان هذا بمثابة أول كورس تاريخي خلف الفنان محمد وردي، محمد قدم أغنيتين بالنوبية وختم بأغنية “يا طير يا طاير” وهي من الحان خليل أحمد الذي كان يصطحبنا أيضاً، وهكذا خرجت أغنية “يا طير يا طاير” للمستمعين وهي المسجلة على أسطوانة بمصاحبة الطمبور الذي كان يعزف عليه محمد وردي وخلفه نحن ككورس!. وفيما بعد أعاد وردي تسجيل الأغنية بأركسترا الاذاعة بصورة حديثة!. بمعنى أن أغنية “يا طير يا طاير” مسجلة بمكتبة الاذاعة بطريقتين مختلفتين في الآداء!.
من طرائف ذلك اليوم – ولا زلت أذكر أنه كان مساء أربعاء في رمضان عام 1957 – أن مقرئ الاذاعة للقرآن الكريم هو الشيخ عوض عمر، وكان يأتي بحماره الدي يربطه قرب مبنى الاذاعة، وأثناء الآداء، أذكر أن تمت إضاءة النور الأحمر دون أن ننتبه، فدخل علينا يسن معني غاضباً لأننا لم نعمل بتعليماته بأن نتوقف عن الغناء في حالة إضاءة النور الأحمر، وعندما استفسرناه عن السبب قال لنا ساخطاً:- يعني ما سامعين حمار عم عوض في الشارع بهنق كيف؟!.
وهكذا بدأ مشوار محمد وردي في الغناء بالعاصمة بعد أن استقبل جمهور المستمعين أولى أغنياته، وما زلت أذكر أنه جاء لي يوماً لأخذ رأيي في موضوع قراره بالتفرغ للغناء وتقديم استقالته من التدريس، وقال لي أنه يمكن أن يجني أرباحاً مضاعفة من الغناء، ولكني اقترحت عليه الا يستعجل وأن يحرص على التمسك بمهنته الأساسية حتى يتهيأ لمشوار الفن وقد كان.
أذكر أن محمد نور الدين كان وزيراً في تلك الفترة وهو من بلدياتنا، فوجه بنقل محمد وردي للعاصمة، وعندما لم يجدوا له خانة في مدارس العاصمة، حول الوزير منزله لمدرسة حتى تستوعب وردي!.
تقاسم وردي سكناً مع كل من خليل أحمد والعازف علي ميرغني في منزل متواضع بالديوم جنوب غرب مقابر فاروق فترة طويلة من الزمن، وشهد ذلك المنزل بزوغ أولى الآغنيات والألحان لمحمد وردي في بداية مشواره الفني، لذا فإن جيرانه القدامى في ذلك الحي عندما علموا بوفاته هرعوا للمقابر، واكتشفنا أن كل مجموعة منهم كانت تتبارى مع الأخريات في توفير مقبرة لجارهم القديم، حتى وصل مجموع المقابر التي حفرها الجيران إلى ثلاثة مقابر حباً ومعزة لمحمد وردي ، رحمه الله.
______
* ضمن كتاب بعنوان " عصر وردي المموسق" سيصدر قريباً
hassangizuli85@gmail.com
//////////////////////////