اختيار منطقة “خشم القربة” لإعادة توطين الحلفاويين (2 -2): بقلم: أ.د. إسماعيل حسين عبد الله .. ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
بدر الدين حامد الهاشمي
27 February, 2023
27 February, 2023
THE CHOICE OF KHASHM – AL GIRBA AREA FOR THE RESETTLEMNT OF THE HALFAWIS
بقلم: أ.د. إسماعيل حسين عبد الله
ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذا هو الجزء الثاني من ترجمة لغالب ما ورد في مقال لبروفيسور إسماعيل حسين عبد الله، تم نشره عام 1970م في المجلد رقم 51 من مجلة "السودان في رسائل ومدونات"، صفحات 56 – 74، تناول فيه مسألة اختيار منطقة "خشم القربة" لإعادة توطين الحلفاويين في بدايات ستينيات القرن الماضي. والمقال مستل من مشروع بحثي رعته "وحدة أبحاث السودان" بجامعة الخرطوم.
تجد في هذا الرابط محاضرة عامة للبروفيسور تم فيها سرد سيرته الذاتية ومؤلفاته باللغتين الإنجليزية والعربية: https://www.youtube.com/watch?v=DYqBWJwwsjQ
المترجم
******* ******* *******
أعلنت الحكومة عن قرارها النهائي باختيار "خشم القربة" موقعاً لإعادة توطين الحلفاويين بعد مرور ثلاثة أشهر على إعلان "اللجنة القومية" عن الموقع الذي اختارته لإعادة استيطان أهاليهم. وكانت تلك الشهور (أغسطس – أكتوبر 1960م) هي أصعب الأوقات التي مرت بأهل وادي حلفا؛ ولا غرو، فقد كانت فترة مليئة بالشك والتحسب والترقب القلق. لقد كانوا بالفعل حساسين، ويسهل سريان الشائعات بينهم. وبدا أنهم كانوا في بداية الأمر يوقنون بأن الحكومة ستجيز على ما توافقوا عليه من اختيار منطقة جنوب الخرطوم مقراً لإعادة استيطانهم، خاصة وقد سمعوا من رئيس الوزراء (عبود) نفسه، إبان زيارته لهم، بأنهم سينقلون لأي منطقة يختارونها بأنفسهم؛ وأن الحكومة لن تدخر وسعاً في مساعدتهم على اختيار المنطقة التي يرغبون في السكن فيها، بعد دراسة متأنية لكل منطقة من المناطق التي تم اقتراحها.
غير أنه مع تطاول فترة انتظار إصدار الحكومة لقرارها حول المكان المختار، بدأ الشك يتسرب تدريجياً لنفوس الحلفاويين. وفسر بعضهم تلكؤ الحكومة في إصدار قرارها النهائي بأنه رفض منها لتفضيلهم إعادة التوطين في جنوب الخرطوم. لذا أحسوا بالخذلان والخيانة من الحكومة، وبأن بقية الشعب السوداني قد تخلوا عنهم. وتم التعبير عن تلك المشاعر في الكثير من قصائد شعراء الحلفاويين وأغانيهم العاطفية التي ذاعت في منطقتهم. وفَشَا اليأس والقنوط بين بعض أهالي المنطقة الذين لم يدر بخلدهم قط أن يجبروا على هجر موطنهم الصغير في نهاية المطاف، وبصورة نهائية. وكإشارة منهم للأسف والحزن الشديد قرروا الامتناع عن إقامة حفلات الأعراس وغيرها من ضروب الاحتفالات (أشار الكاتب في الحاشية أن الأستاذ محمد خير عثمان، المدرس ببخت الرضا، قد قام بالاشتراك مع الطبيب النفسي طه بعشر، بإجراء دراسة نفسية لبعض سكان منطقة وادي حلفا قبل تهجيرهم – وصدرت نتائج تلك الدراسة في تقرير باللغة العربية. المترجم).
وفي الأسبوع الثاني من شهر أكتوبر 1960م، أي قبل أيام قليلة من وصول الوفد الوزاري إلى وادي حلفا لإبلاغ سكانها بقرار الحكومة الذي حدد المنطقة التي ستتم فيها إعادة توطينهم، سرت شائعات بين سكان المنطقة بأنهم سيهجرون إلى منطقة "خشم القربة". ولعل موظفي اتصالات "الترنكTrunk " هم من كانوا قد نقلوا تلك المعلومة لمعارفهم بعد أن تنصَّتوا على محادثات بين مسؤولين في الخرطوم مع المسؤول الإداري لمنطقة وادي حلفا. وعلى الرغم من نفي ذلك المسؤول الإداري لتلك الشائعات، إلا أن الحلفاويين ظلوا مقتنعين بصحة ما سمعوه عن المكان الذي سيهجرون إليه، وظللوا يرددون بما يفيد أنه "ما من دخان من غير نار"، وظلت شكوكهم تزداد مع مرور الوقت. (أورد الكاتب في الحاشية بأن ذلك المسؤول الإداري كان يعارض تهجير الحكومة للحلفاويين إلى "خشم القربة"، بل كان قد نصح الحكومة بقبول مطلب أهالي المنطقة الاستقرار في منطقة جنوب الخرطوم. غير أنه كان يريد أيضاً أن يؤكد للحكومة أنه لا يعارض بصورة قاطعة تهجيرهم لخشم القربة، وذلك بقوله: "أنا متأكد من أن أحوال المهجرين ستتحسن بلا شك إذا تم تهجيرهم إلى خشم القربة". ويبدو أن المسؤول الإداري في وادي حلفا لم يكن، حتى يوم 15 أكتوبر 1960م، قد توصل لرأي نهائي حول "خشم القربة" بحسبانها موقعاً ستتم فيه إعادة استيطان الحلفاويين. المترجم).
وبدا أن التوتر في منطقة وادي حلفا كان عظيماً. وكان واضحاً أن المسؤول الإداري بها لم يكن سعيداً عندما تم إخباره بأن الوفد الوزاري سوف يأتي لوادي حلفا لإعلان المنطقة التي قررت الحكومة ترحيل الحلفاويين إليها. ونصح ذلك المسؤول الوفد الحكومي بعدم الحضور للمدينة خوفا من ردة الفعل العنيف الذي سيقوم به سكان المدينة الغاضبين. وعوضاً عن مجيء الوفد لوادي حلفا، اقترح أن تدعو الحكومة ممثلين لأهالي المنطقة للحضور إلى العاصمة لإبلاغهم – في جو سلمي – بقرارها الأخير. وأعتقد المسؤول الإداري أن بوسع الحكومة أن تقنع أولئك الممثلين بوجاهة أسباب قرارها النهائي.
وعلى الرغم من نصيحة المسؤول الإداري في وادي حلفا، قررت الحكومة إرسال ذلك الوفد الوزاري للمدينة. وكان على المسؤول الإداري بها اتخاذ إجراءات صارمة لضمان سلامة أعضاء الوفد الزائر. وبدأ بوضع كثير من الشيوعيين (وكل من يشك في ولائهم للحكومة) بالمدينة تحت مراقبة لصيقة لكل تحركاتهم. وتم كذلك جلب عدد كبير من رجال قرية "دبيرة" (التي كان بها الكثير من المؤيدين للتهجير إلى "خشم القربة") ليكونوا في استقبال الوفد الوزاري عند وصوله مطار المدينة. وأحس المسؤول الإداري بالمدينة بارتياح كبير عندما أبلغته "اللجنة القومية" بأنها قررت عدم استقبال الوفد رسمياً في المطار. وكانت تلك اللجنة قد أدركت في تلك الأيام أن الحكومة قد قررت – بصورة نهائية - أن تختار منطقة "خشم القربة" موقعاً لإعادة توطين الحلفاويين، وأنها قد تجاهلت رغبتهم في الاستقرار بمنطقة جنوب الخرطوم.
ويبدو أن كل شخص تقريباً في وادي حلفا كان على علم بقرار الحكومة النهائي عندما حطت طائرة الوفد الحكومي في مطار وادي حلفا يوم 22 أكتوبر 1960م. وتجمهر الكثير من سكان المدينة في أحد ميادين المدينة للتظاهر ضد قرار سبق لهم معرفته، وليس لسماع قرار الحكومة من ذلك الوفد الزائر (الذي كان أيضا على علم بأن أهالي وادي حلفا كان يعرفون أن الحكومة قد اتخذت قرارها حول إعادة الاستيطان). لذا حاول رئيس الوفد (اللواء محمد طلعت فريد، وزير الاستعلامات والعمل) في خطابه بالمطار كسب مستمعيه لجانب الحكومة؛ فبدأ بتحية الحلفاويين والإشادة بنكرانهم لذواتهم وبأخلاقهم الرفيعة. وأكد لهم بأن الحكومة مهتمة غاية الاهتمام بمشاكلهم، ونقل لهم كلمات الرئيس عبود التي مفادها أنه سيتأكد بنفسه من أن كل الخدمات العامة ستكون متوفرة في موطنهم الجديد، وأنه سيحول أي فائض في ميزانية البلاد إلى "خشم القربة" حتى تغدو مدينة مثالية بحسب المعايير العالمية.
ثم خاطب اللواء أحمد مجذوب البحاري وزير الداخلية والحكومات المحلية من قدموا لاستقبال الوفد الوزاري، وقال لهم بأنه كانت هناك أمام الحكومة أربع خيارات للأماكن التي يمكن إعادة توطين أهالي وادي حلفا فيها، هي شمال الخرطوم ووادي الخوىّ وجنوب الخرطوم وخشم القربة. وأوضح لهم أن معايير الحكومة في الاختيار كانت تقوم على أن تتوفر بكل منطقة مقترحة المعايير التالية: وجود الأراضي القابلة للزراعة فيها بصورة كافية؛ وتوفر ري طوال العام بصورة مستدامة؛ وألا تكون الزراعة تحت إشراف الحكومة؛ وأن تكون إعادة الاستيطان في منطقة يمكن أن تُبْنَى فيها مساكن لائقة للمزارعين؛ ويمكن أن تُقدم فيها للسكان خدمات عمومية لائقة لا تقل جودةً عما يُقدم حالياً في "حلفا القديمة"؛ وأن يتيسر في المنطقة المقترحة قيام صناعة؛ وأن يكون الوصول إليها ممكناً بسهولة؛ وأن يكون بالإمكان الحفاظ فيها على القانون والنظام (أشار الكاتب في الحاشية أن تلك المعايير التي ذكرها وزير الداخلية والحكومات المحلية تختلف – بصورة أساسية – عما ورد في المطالب الإثني عشر التي سبق أن قدمتها "اللجنة القومية". وتطرق الوزير للمناطق الأربع المقترحة من حيث استيفائها للشروط والمعايير التي ذكرها، وقارن بينها جميعاً، وخلص إلى أن "خشم القربة" هي أفضل الخيارات. وذكر أنها تتميز بـ "تربة خصبة تصلح لزراعة كل المحاصيل النقدية (التي يسهل بيعها)، ومساحات شاسعة يمكن ريها عن طريق سد "خشم القربة" المقترح. كذلك تمتاز تلك المنطقة بخلوها من السكان، مما يجعل من الميسور تقديم الخدمات العمومية والاجتماعية فيها دون التأثير على سكان آخرين. كذلك سيمكن للحكومة أن تقدم خدمات الصحة العامة للسكان في هذه المنطقة بأكثر مما هو متيسر في أي مكان آخر.
وتحدث بعد اللواء البحاري وزير آخر هو اللواء مقبول الأمين الحاج وزير الري والطاقة الكهربائية – المائية، وحاول المقبول، مثله مثل وزير الصحة محمد أحمد علي، ذكر المزيد من مزايا منطقة "خشم القربة" التي رجحت اختيارها مكانا لإعادة توطين أهالي وادي حلفا. غير أنه – عند ذلك الحد - عِيل صَبر الجماهير ولم يطيقوا سماع المزيد من التفاصيل، فتعالت – لأول مرة - صياحات احتجاجاتهم ضد قرار التهجير إلى "خشم القربة". وكان ذلك إيذاناً ببداية صراع حقيقي، وإصرار من الحلفاويين على مقاومة سياسة الحكومة. وتفرق الجمع من غير نظام، وتلت ذلك مظاهرات غاضبة عمت كل ارجاء المدينة. وتكررت المظاهرات المعارضة لقرار الحكومة في اليوم التالي. وشاركت النساء – لأول مرة في تاريخ النوبة – في تلك المظاهرات. وقطع المتظاهرون خطوط البرق (التلغراف) والهاتف، مما جعل مدينة وادي حلفا مقطوعة تماماً عن باقي البلاد لمدة ثلاثة أيام كاملة (استشهد الكاتب في هذه المعلومة بكتاب "ثورة شعب" ص 267). غير أن الوفد الوزاري تمكن من الوصول للمطار سراً، وآب إلى الخرطوم في نفس اليوم الذي كانت فيه الإذاعة السودانية تذكر لمستمعيها أن الوفد الوزاري سيبقى في وادي حلفا ليومين أو ثلاثة استجابة لرغبات الحلفاويين. وأرسلت الحكومة تعزيزات أمنية من مدينة أتبرا لفرض الأمن والنظام في وادي حلفا، وتمت السيطرة (الأمنية) على الأوضاع، ولكن ليس قبل اعتقال عدد كبير من المتظاهرين، حيث قضوا في معتقلهم فترات متفاوتة.
وواجه سكان المنطقة التي ستغمرها مياه النيل، لأول مرة، قرار الحكومة إعادة توطينهم في منطقة أجمع غالبيتهم على رفضها. أعليهم الانصياع لقرار الحكومة أم مقاومته؟ سيكون اتخاذهم لأي من الخيارين عسيراً جداً. وقرر الحلفاويون (وهم سودانيون لهم تمثيل كبير في كل مجالات الحياة بالبلاد) مقاومة سياسة الحكومة، وشرعوا في إسماع صوتهم. وسرعان ما انتشرت مظاهراتهم الغاضبة في كثير من مدن السودان مثل الخرطوم وأتبرا وكوستي وبورتسودان. وعملت تلك المظاهرات أيضا على تقليل شعبية النظام العسكري، التي كانت تتَضَاءل بصورة متزايدة. وفي نهايات شهر أكتوبر 1960م كانت السلطات قد اعتقلت نحو 476 متظاهراً ضد النظام العسكري بمدن السودان المختلفة. وسرعان ما حول الحزب الشيوعي السوداني واتحاد طلاب جامعة الخرطوم غرض تلك المظاهرات لخدمة مصالحهما السياسية. فقد كانت تلك المظاهرات في الأصل قد سُيرت ضد الحكومة لعدم احترامها لوعدها للحلفاويين. غير أن شعار تلك المظاهرات تغير لاحقا، إذ صار المتظاهرون يطالبون بانسحاب الجيش من السلطة تماماً.
ولم يكن الحال في مدينة وادي حلفا موافقاً لرغبات السلطة الحكومية. فقد ساد اليأس والقنوط عند سكان المدينة، وأحسوا بأن الحكومة قد خذلتهم وخانتهم وأهانتهم. ولذلك كان عليهم أن يقابلوا ذلك بالنضال ضدها. وتعبيراً عن تذمرهم وعدم رضاهم عن اتفاقية مياه النيل، بدأوا في إغلاق متاجرهم، ورفع الأعلام السوداء على أبواب منازلهم في 8 نوفمبر 1960، بمناسبة مرور عام على توقيع السودان ومصر على تلك الاتفاقية (انظر مقال أ. د. سلمان محمد أحمد سلمان عن الاتفاقية في الرابط: https://rb.gy/un6i3q . المترجم). وقام كثير منهم بوضع شارات الحداد السوداء على ملابسهم. بل عزم بعضهم على البقاء في وادي حلفا إن لم يسمح لهم بإعادة التوطين في جنوب الخرطوم. وكان هؤلاء قد سبق لهم رفض التعاون مع لجان التعويضات في المناطق المتأثرة (التي كان المسؤول الإداري لمنطقة وادي حلفا قد شكلها في بداية عام 1960م لتسجيل وتصنيف كل أنواع الممتلكات، وتقدير قيمة بعضها).
وبحسب ما ذكره المسؤول الإداري لمنطقة وادي حلفا فقد أصابت حالة الشعور باليأس والخيانة حتى الحلفاويين الذين كانوا أيدوا في السابق إعادة التوطين في "خشم القربة". غير أن سبب ذلك الإحساس كان مختلفاً عن سبب غيرهم. فقد أحس من أيدوا الترحيل إلى "خشم القربة" باليأس من قرار الحكومة منح كل مزارع حلفاوي فداناً واحداً من الأرض الزراعية في مقابل كل فدان خسره في أرضه بمنطقة وادي حلفا. وكان ذلك المسؤول الإداري يعتقد بأن موقف الحلفاويين ربما كان سيتغير تماماً لو كانت الحكومة أكثر كرماً في توزيع الأراضي بخشم القربة.
وكانت حالة اليأس والتذمر التي سادت بين الحلفاويين قد شجعت على انتشار المزيد من الدعايات المضادة للحكومة. وكان المواطنون العاديون على اقتناع بأن حكومةً تتجاهل وعد رئيس وزرائها للحلفاويين، لن تتواني عن فعل ذات الشيء بخصوص أي أمر آخر. لذا آمن الحلفاويون بأن وعد الحكومة لهم بتوفير بيت "مثالي" لكل أسرة، ومنح كل حلفاوي "حواشة" مساحتها 15- 20 فداناُ هو مجرد وعد خادع لن ينفذ.
غير أن "اللجنة القومية" كانت ما تزال تتمسك ببعض الأمل في أن تغير الحكومة من قرارها، فأرسلت العديد من الالتماسات للسلطات في الخرطوم؛ بعثت بأولها في الأسبوع الأول من عام 1960م، وذكروا في التماسهم أن الحلفاويين يحسون بالإحباط الشديد من موقف وسلوك الحكومة تجاههم، وتجاهلها التام لرغباتهم المعلنة. ولم ترد السلطات الحكومية على تلك الرسالة، فأتبعتها "اللجنة القومية" برسالة أخرى في يوم 23 نوفمبر 1960م. وفي هذه الرسالة بدأت اللجنة بسرد الأهمية التاريخية لشعب النوبة، وعظموا ما يقومون به من تضحيات بأرضهم الغالية من أجل مصلحة الوطن الكبير ومنفعته. وأكدت اللجنة على حقها في مواصلة التحدث باسم الحلفاويين في المستقبل، كما فعلت في الماضي. ومن أهم النقاط التي وردت في الالتماس الأخير هو إعلان "اللجنة القومية" بأن جميع الحلفاويين، كبيرهم وصغيرهم، رجالهم ونسائهم، على اتفاق تام بضرورة مقاومة أي محاولة لنقلهم لأي بقعة إن لم تتحقق لهم الشروط المحددة التالية:
1. ضرورة أن تتم إعادة توطين المتضررين من الفيضان في شمال الخرطوم، وليس جنوب الخرطوم أو أي مكان آخر؛
2. وجوب تحديد التعويضات النقدية والعينية، وطريقة صرفها قبل بدء عملية التهجير؛
3. التزام الحكومة بإعلام المهجرين، قبل رحيلهم إلى موطنهم الجديد، بنوع المساكن التي سيعيشون فيها؛
4. ضرورة إكمال مشروع إعادة الاستيطان تماماً، وإنجاز كل الخدمات المطلوبة في الموقع قبل وصول المهجرين إليه؛
5. وجوب أن يكون المشروع الزراعي أو الصناعي، الذي سيعيش عليه الحلفاويون في مهجرهم، جاهزاً عند وصولهم لمنطقتهم الجديدة.
ومن المهم ملاحظة اختلاف مطالب "اللجنة القومية" المذكورة في هذه الرسالة عن مطلب لجنة ممثلي قرى منطقة وادي حلفا، المتمثل في إعادة التوطين في منطقة جنوب الخرطوم. لذا فإن مطالب "اللجنة القومية" تلك لا بد أن تكون قد صيغت دون أخذ مشورة لجنة ممثلي القرى. وقد يكون ممثلو قرية دغيم هم من صاغوا مطلب إعادة التوطين في شمال الخرطوم، إذ أنهم كانوا يصرون دوماً على ذلك الخيار.
ومع نهاية نوفمبر عام 1960م، كان الموقف في المنطقة التي ستغمرها المياه قد بلغ درجةً من القتامة جعلت المسؤول الإداري لمنطقة وادي حلفا يخلص إلى أن الحلفاويين لن يغادروا منطقتهم أبدا. وكان يؤمن بأنهم قد يكررون ما قام به "الكنوز" في مصر؛ الذين أبوا مغادرة منازلهم بعد التعلية الثانية للسد العالي، إلى أن تم انقاذهم من الغرق بالمراكب. وتضاعفت مخاوف المسؤول الإداري عندما بلغه في نهاية عام 1960م تكوين منظمة سرية اسمها "اتحاد شعب وادي حلفا للمقاومة"، كان يقف خلفها الحزب الشيوعي السوداني والعديد من الحلفاويين الساخطين. ودعا ذلك الاتحاد أهالي وادي حلفا لمقاومة وإبطال مخططات الحكومة لإعادة توطينهم في "خشم القربة". وأنشأ له فروعاً في عدد من المدن السودانية، كان من أهمها وأكثرها نشاطاً فرعه في مدينة أتبرا. وكان الاتحاد يصدر بين كل فترة وأخرى منشورات تهاجم الحكومة، وينشر سراً مطبوعة اسمها "صوت حلفا"، كانت توزع لأهالي وادي حلفا، وللحلفاويين في المدن الأخرى (اِسْتَقى الكاتب معظم هذه المعلومات من كتاب "ثورة شعب، ص 274. المترجم). وبدا أن الحكومة بدأت تستشعر أن "اتحاد شعب وادي حلفا للمقاومة"، يشكل خطراً حقيقيا على خططها، وأن عليها أن تأخذ تأثير تعقيداته ومضاعفاته المتزايدة في وادي حلفا على محمل الجد. غير أنه كان واضحاً لها أنه لا يوجد شيء يمكنها فعله حيال الوضع في وادي حلفا سوى اتباع سياسة "لننتظر ونرى". وتحاشت السلطات – بحكمة - اتخاذ أي إجراءات عنيفة ضد سكان وادي حلفا الغاضبين، وركنوا إلى أن مرور الزمن كفيل بحل المشكلة، وأن المقاومة ستهمد عما قريب. ولم يكن هنالك من سبب يجعل الحكومة تفترض حدوث مثل ذلك السيناريو. فحتى ذلك الوقت لم يكن هنالك ما يدل على أن المقاومة ستختفي من تلقاء نفسها. وبحسب ما ذكره السيد / طه عثمان، مساعد رئيس مفوضية إعادة التوطين، كان بعض أعضاء مجلس الوزراء يؤيدون إعادة النظر في فكرة التهجير إلى "خشم القربة"، وتمت مناقشة ذلك الاقتراح بجدية في مجلس الوزراء. وكاد المجلس أن يتبنى ذلك الاقتراح، إلا أن التأثير المضاد للمقبول الأمين الحاج (الذي كان سكرتير المجلس الأعلى للقوات المسلحة إضافة لمنصبه كوزير الري) كان أقوى، فوافق المجلس على المضي قدماً في خطة إعادة توطين الحلفاويين في "خشم القربة". وأقالت السلطات السيد/ داؤود عبد اللطيف، رئيس مفوضية إعادة التوطين، لمعارضته التهجير إلى "خشم القربة"، وأحلت محله السيد /حسن علي عبد الله الوكيل الدائم لوزارة الداخلية في ذلك الوقت. وقررت مفوضية إعادة التوطين أن يتولى مجلس الوزراء تحديد عدد المنازل التي ستشيد في "خشم القربة"، وذلك لعدم قدرتها على تحديد من يرغب من الحلفاويين في الاستيطان في "خشم القربة"، خاصة وأن معظمهم لا يرغبون في الانتقال إليها أصلاً.
وتواصلت في وادي حلفا المقاومة السلبية، ورفض سكانها التعاون مع السلطات المحلية لنصف عام كامل. وقضى المسؤول الإداري تلك الفترة وهو يحاول بشدة اقناع السكان بتسجيل ممتلكاتهم. ونجح أخيراً في إقناعهم بأن تسجيلهم لمختلف ممتلكاتهم وعقاراتهم وتقدير قيمتها لا علاقة له بالتهجير إلى "خشم القربة"، وإن تمت إعادة توطينهم في "خشم القربة" أو في أي موقع آخر، أو حتى لو ظلوا في وادي حلفا، فلن يمكن للسلطات أن تدفع لهم أي تعويضات إلا أذا تم سلفاً تحديد وتسجيل ممتلكاتهم وقيمتها المادية. وأتفق المسؤول الإداري مع الحلفاويين، أفراداً وبصورة سرية، على التعاون مع مكتبه، ومساعدة الجهات المنوط بها تحديد التعويضات على أداء واجبها. غير أن ما من أحد منهم تَجَرَّأَ على إعلان تعاونه بصورة مكشوفة. وعندما حاول بعض الأفراد تسجيل ممتلكاتهم، وبالتالي سمحوا لمسئولي التعويض بدخول منازلهم، كان القرويون الآخرون يحتشدون أمام تلك المنازل في احتجاج صامت. وبذا يضطر أولئك الأفراد لصرف مسئولي التعويض بعيدا عن منازلهم. وهذا ما جعل السلطات الحكومية تبعث برجال شرطة لتفريق من يتجمهروا أمام منازل من يرغبون في نيل تعويضات الحكومة. ونجحت تلك التكتيكيات في نهاية المطاف. ولم تقف مجهودات المسؤول الإداري لمنطقة حلفا عند حد كبح مقاومة الحلفاويين، بل بدأ الرجل في حملة لكبح النشاط الدعائي للحزب الشيوعي ضد النظام العسكري في المنطقة، وأعلن بأن الشيوعيين ليسوا صادقين في تأييدهم لقضية الحلفاويين، فهم - في النهاية – يمثلون الإتحاد السوفيتي، الذي سيقوم ببناء "السد العالي"، الذي هو أصلاً سبب تهجير الحلفاويين من موطن أجدادهم. وكانت الحملة الدعائية التي قام بها المسؤول الإداري لمنطقة حلفا ضد الشيوعيين قد صادفت شعوراً عاماً بعدم الرضا عند الحلفاويين الذين وجدوا أنفسهم قد دفعوا دفعاً للتعاون مع الشيوعيين "الملاحدة"، حتى وإن كان أولئك قد تضامنوا مع نضالهم ضد الحكومة. وأخفق الحزب الشيوعي في نيل قيادة الحلفاويين. ولم تجد كل محاولات الحزب للتظاهر في وادي حلفا أي استجابة وسط السكان (أورد الكاتب في الحاشية أحد الأمثلة على ذلك بمحاولة القيام بمظاهرة في يوم 24 ديسمبر 1960م أمام أحد المساجد بعد صلاة الجمعة. وحدثت بعد ذلك مشادة كلامية بين بعض أعضاء "اللجنة القومية" وبعض الشيوعيين. [يذكر أن يوم 24 ديسمبر 1960م هو يوم سبت وليس جمعة]. المترجم). ويبدو أن الحلفاويين كانوا يفرقون بصورة واضحة بين النضال ضد النظام العسكري بصورة عامة، والنضال ضد قرار النظام الذي قضى بإعادة توطينهم في "خشم القربة". ومع تضاءل الثقة المتبادلة بين معظم الحلفاويين و"اتحاد شعب وادي حلفا للمقاومة"، تدخلت السلطات الحكومية في وادي حلفا لتوجيه الضربة القاضية للمقاومة من جميع الجهات. ولحسن حظ الحكومة، تزامنت تلك الضربة مع قرار الحزب الشيوعي التصالح مع النظام العسكري والمشاركة في انتخابات المجالس المحلية الجديدة في يونيو 1961م (ذكر الكاتب في الحاشية أن الحزب الشيوعي أعلن بعد نجاح ثورة أكتوبر 1964م أنه لم يصالح العسكريين قط، وأن قرار الحزب المشاركة في انتخابات المجالس المحلية عام 1961م كان تغييراً في التكتيك، وليس في السياسة؛ بحسب ما جاء في ص 389 من كتاب "ثورة شعب". المترجم). وكان الحلفاويون يرون أن قرار "الهدنة" بين الحزب الشيوعي والحكومة كان قراراً مؤسفاً. وكما ذكرنا من قبل، لم يكن أهالي وادي حلفا بحريصين بصورة خاصة على العمل مع الشيوعيين، ولكنهم كانوا يحسون بأن قدراتهم العالية على العمل السري ستكون عوناً لا غنى لهم عنه. وبعد تغيير الشيوعيون لاستراتيجيتهم، لم يعد بمقدور الحلفاويين الصمود أمام ضغوط الحكومة المتزايدة، وسرعان ما بدأت مقاومتهم في الانكسار.
وشرع المسؤول الإداري لمنطقة وادي حلفا في تعطيل أنشطة "اللجنة القومية" بخلقه العديد من العوائق أمامها. فقد أعاد للجنة الرسالة الثالثة التي أرادت اللجنة إرسالها للحكومة بدعوى أن لهجتها تفتقر إلى الاحترام والتهذيب الواجبين، وطلب من رئيس اللجنة وسكرتيرها الاعتذار عن ذلك. وبالفعل اعتذر الرجلان وأعادا صياغة الرسالة لتصبح أكثر اعتدالاً. غير أن المسؤول الإداري أعاد الرسالة لهم مرة أخرى بدعوى أنها لم تجز بأغلبية أعضاء اللجنة. إضافة لذلك، شجع ذلك المسؤول الإداري على الخلاف بين أعضاء اللجنة، مما أدى في نهاية المطاف لتعطيل عملها. وقام بإرسال مجموعات من الحلفاويين الذين وافقوا على إعادة التوطين في "خشم القربة"، وكذلك الذين لم يلتزموا بعد بأي موقع معين، لزيارة "خشم القربة" ليروها بأعينهم. ومنحتهم السلطات تصاريح سفر مجانية (ذهابا وإيابا)، وسمحوا لهم بمقابلة رئيس الوزراء وبعض الوزراء من ذوي العلاقة بالتهجير في العاصمة، وبالحديث في إذاعة أم درمان ومع مراسلي الصحف (بحسب ما ورد في جريدة "الرأي العام 13 أبريل 1961م). وكان وفد الحلفاويين الأول يتكون من 8 من عُمد المنطقة وغالب نظار المدارس وكبار موظفي الحكومة بها. وبعد نهاية تلك الزيارة وافق معظم أعضاء تلك الوفود على إعادة التوطين في "خشم القربة"، لما لمسوه من حرص عند الرئيس وكبار قيادات البلاد على إنجاح مشروع إعادة التوطين. وكان من الطبيعي أن يتحدث غالب أعضاء تلك الوفود بعد عودتهم لوادي حلفا معبرين عن تأييدهم لإعادة التوطين في "خشم القربة"، وعملت الدعاية الحكومية على تعضيد تلك المشاعر، ولا غرو، إذ أن الحكومة كانت قد عينت موظف إعلام في وادي حلفا مهمته هي العمل بنشاط شديد على نشر مثل تلك الدعايات التي ترغب السكان في إعادة التوطين في "خشم القربة" بمختلف الوسائل (مثل الأفلام القصيرة والصور والمعارض). واُفْتُتِحَ أول تلك المعارض الدائمة في مدينة وادي حلفا في نوفمبر 1962م. (ذكر الكاتب في الحاشية أن المسؤول الإداري بالمدينة صرح بأن نحو 10,000 من الأهالي قد زاروا ذلك المعرض في غضون أقل من أسبوع واحد، وهذا رقم كبير يثير الاستغراب بالنظر إلى أن عدد سكان المدينة لم يكن يومها يتجاوز 11,000 نسمة. وبما أنه لم يُعرض أي شيء في ذلك المعرض عن مواقع التوطين المقترحة الأخرى، فلا بد أن معظم الذين رأوا "مشروع خشم القربة" كنموذج على الطاولة، لم يتمكنوا من مقاومة إغراء مشاهدته على أرض الواقع.
وبعد أن أدركت الحكومة أنها أفلحت في جعل الحلفاويين يميلون للقبول بالرحيل إلى "خشم القربة"، أقدمت على حل "اللجنة القومية" ومنعتها من ممارسة أي نشاط. وبذا أزيلت من أمام الحكومة آخر قلاع مقاومة الحلفاويين، وغدا الطريق إلى "خشم القربة" أوضح مما ذي قبل. وتواصل إرسال المسؤول الإداري في وادي حلفا لمزيد من الوفود إلى الخرطوم و"خشم القربة"، واستمر موظف الإعلام في دعاياته لصالح خيار "خشم القربة". وأفضى كل ذلك النشاط لتحسن تدريجي في موقف أهالي وادي حلفا (من وجهة النظر الحكومية). وفي يوم 12 أبريل 1961م كتب المسؤول الإداري في وادي حلفا فخورا بإنجازاته ما يفيد بالتالي: " لقد أرسل لي عُمد قرى صرصر وعكاشة وصرص غرب ودويشات وجيمي رسائل يؤكدون لي فيها على تأييدهم لإعادة التوطين في "خشم القربة". لقد مال الناس هنا بسهولة لتأييد خيار الحكومة، بعد أن انتصرنا على المعارضة. وحتى في دغيم، التي كانت مركز المعارضة، لم يبق الآن من معارضي إعادة التوطين في "خشم القربة" سوى عشرين رجلاً فقط." (أشار الكاتب في الحاشية إلى أن ما ذكره ذلك المسؤول الإداري عن عدد المعارضين في دغيم غير صحيح، بدليل وجود ما يزيد عن 3,000 من الحلفاويين – غالبيتهم من دغيم - الآن (أي في 1970م أو قبلها بقليل. المترجم) رفضوا تماماً الرحيل عن وادي حلفا، وشيدوا لأنفسهم مبانٍ مؤقتة على البحيرة، بالقرب من حلفا القديمة).
ومن اللافت للنظر أنه لم تمر سوى خمسة أسابيع بين الوقت الذي أرسلت فيه "اللجنة القومية" آخر التماساتها للحكومة لتغيير من رأيها حول اختيارها لـ "خشم القربة" موقعاً لإعادة توطين الحلفاويين، وبين وقت ذلك التحسن المزعوم في موقف الحلفاويين (وعددهم نحو 50,000 نسمة). وليس هناك من تفسير معقول لهذه المفارقة سوى أن أحد الطرفين: إما المسؤول الإداري لحلفا، أو "اللجنة الوطنية"، يفرطان في المبالغة. والراجح (عند الكاتب. المترجم) هو أن تلك "اللجنة القومية" لم تعد – عند بدايات عام 1961م – تقوم بدورها المطلوب في الحديث إنابة عن جميع سكان حلفا. وعندما حلت الحكومة تلك اللجنة، لم يقم الحلفاويون بأي محاولة جادة لاستِنقاذها.
وفي واقع الأمر لم تكن جهود المسؤول الإداري لحلفا وحدها هي ما جعلت الحلفاويين يقبلون في نهاية المطاف بالانتقال إلى "خشم القربة". فقد أدى كل أو معظم عُمَد المنطقة دوراً مهماً في ذلك. فلم يكن باستطاعتهم – بحكم عملهم في سلك الخدمة المدنية – عدم القبول بسياسة الحكومة العامة، حتى لو رغبوا في ذلك. ويبدوا أنهم تمكنوا – بسبب وضعهم الاجتماعي الرفيع في أوساط الأهالي – من إقناع عدد كبير من الحلفاويين بالرحيل إلى "خشم القربة". وكان من العوامل الأخرى التي دفعت الحلفاويين للقبول بالرحيل هو خشيتهم من ذوبان مجتمعهم في مجتمعات سكانية أخرى بالبلاد، خاصة بعد أن أعلنت الحكومة أن الرحيل إلى "خشم القربة" ليس إلزاميا، وأن بإمكان أي حلفاوي أن ينتقل إلى أي منطقة في البلاد يختارها بنفسه. حينها أدرك الحلفاويون أن البديل لإعادة توطينهم في "خشم القربة" هو التشتت. لذا قرروا أنه إذا كان يجب على مجتمعهم أن ينتقل لمكان آخر تتم فيه إعادة توطينهم، فيجب أن يتم ذلك وهم كتلة واحدة. وإن كُتب عليهم الانتقال إلى "خشم القربة"، فسيرضون بالرحيل إليها ليبقوا كياناُ واحداً في منطقة واحدة. (ذكر الكاتب في الحاشية أن الحلفاويون ظلوا يطالبون دوما في كل رسائلهم للحكومة – ومنذ زيارة عبود لمنطقتهم - على ضرورة بقائهم جماعةً واحدة وفي منطقة واحدة). وكان بعض الحلفاويين يرضون بالرحيل إذ أن ذلك هو قدرهم الذي كتبه الله لهم، وأن مشيئة الله تعالى هي السبب في أن يُبْنَى "السد العالي" وأن يتم ترحيلهم من أراضيهم الغالية نتيجةً لذلك، وأن تغرق حتى مساجدهم الجميلة، وأن يتم توطينهم في نهاية المطاف في "خشم القربة". (أشار الكاتب في الحاشية أيضا إلى مقالات إنشاء كتبتها طالبات المدارس الوسطى في المنطقة، تدور حول مسألة "القضاء والقدر" في رِضا الأهالي بالرحيل من وطن أجدادهم. وأجاب بعض الحلفاويين الذين انتقلوا لـ "خشم القربة" على أسئلة وجهها لهم الكاتب في عامي 1964 -1965م بما يفيد أنهم أتوا لمدينتهم الجديدة لأن الله كان قد كتب عليهم "الخروج مِن ديارهم" والإقامة في موقعهم الجديد. المترجم).
وأخيراً، قُضِيَ الْأَمْرُ بالنسبة لمنطقة وادي حلفا. ومع نهاية عام 1962م كان غالب الحلفاويين قد وافقوا على القبول بالرحيل إلى "خشم القربة" على نهر أتبرا. وأدرك هؤلاء أن محاولة مقاومتهم قرار الحكومة كانت عديمة الجدوى. ومن جهة أخرى، كان هناك عدد كبير من الحلفاويين الفقراء الذين لم يكن يملكون أي أراضٍ زراعية في وادي حلفا، وكانوا سعداء بانتقالهم إلى منطقة "خشم القربة" التي منحوا فيها أراضٍ زراعية واعدة. لقد كان نصف مليون فدان أو أكثر من التربة الخصبة في منطقة إعادة التوطين عامل جذب قوي للأفراد الذين لم تكن أراضيهم الصالحة للزراعة تمتد إلى ما وراء الضفاف الضيقة لنهر النيل. وبالنسبة إلى هؤلاء كانت إعادة توطينهم في تلك المنطقة ضرورة اقتصادية.
وبعد مرور تلك الأوقات الصعبة، وبعد عمل شاق ومتواصل، ومناورات عديدة تمكن الإداري النشط السيد/ حسن دفع الله (المسؤول الإداري بمنطقة وادي حلفا) من الجلوس والتفكير بهدوء في تنفيذ أكبر عملية تهجير مخطط له سلفاً في تاريخ السودان بأكثر الطرق والوسائل كفاءةً.
alibadreldin@hotmail.com
بقلم: أ.د. إسماعيل حسين عبد الله
ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذا هو الجزء الثاني من ترجمة لغالب ما ورد في مقال لبروفيسور إسماعيل حسين عبد الله، تم نشره عام 1970م في المجلد رقم 51 من مجلة "السودان في رسائل ومدونات"، صفحات 56 – 74، تناول فيه مسألة اختيار منطقة "خشم القربة" لإعادة توطين الحلفاويين في بدايات ستينيات القرن الماضي. والمقال مستل من مشروع بحثي رعته "وحدة أبحاث السودان" بجامعة الخرطوم.
تجد في هذا الرابط محاضرة عامة للبروفيسور تم فيها سرد سيرته الذاتية ومؤلفاته باللغتين الإنجليزية والعربية: https://www.youtube.com/watch?v=DYqBWJwwsjQ
المترجم
******* ******* *******
أعلنت الحكومة عن قرارها النهائي باختيار "خشم القربة" موقعاً لإعادة توطين الحلفاويين بعد مرور ثلاثة أشهر على إعلان "اللجنة القومية" عن الموقع الذي اختارته لإعادة استيطان أهاليهم. وكانت تلك الشهور (أغسطس – أكتوبر 1960م) هي أصعب الأوقات التي مرت بأهل وادي حلفا؛ ولا غرو، فقد كانت فترة مليئة بالشك والتحسب والترقب القلق. لقد كانوا بالفعل حساسين، ويسهل سريان الشائعات بينهم. وبدا أنهم كانوا في بداية الأمر يوقنون بأن الحكومة ستجيز على ما توافقوا عليه من اختيار منطقة جنوب الخرطوم مقراً لإعادة استيطانهم، خاصة وقد سمعوا من رئيس الوزراء (عبود) نفسه، إبان زيارته لهم، بأنهم سينقلون لأي منطقة يختارونها بأنفسهم؛ وأن الحكومة لن تدخر وسعاً في مساعدتهم على اختيار المنطقة التي يرغبون في السكن فيها، بعد دراسة متأنية لكل منطقة من المناطق التي تم اقتراحها.
غير أنه مع تطاول فترة انتظار إصدار الحكومة لقرارها حول المكان المختار، بدأ الشك يتسرب تدريجياً لنفوس الحلفاويين. وفسر بعضهم تلكؤ الحكومة في إصدار قرارها النهائي بأنه رفض منها لتفضيلهم إعادة التوطين في جنوب الخرطوم. لذا أحسوا بالخذلان والخيانة من الحكومة، وبأن بقية الشعب السوداني قد تخلوا عنهم. وتم التعبير عن تلك المشاعر في الكثير من قصائد شعراء الحلفاويين وأغانيهم العاطفية التي ذاعت في منطقتهم. وفَشَا اليأس والقنوط بين بعض أهالي المنطقة الذين لم يدر بخلدهم قط أن يجبروا على هجر موطنهم الصغير في نهاية المطاف، وبصورة نهائية. وكإشارة منهم للأسف والحزن الشديد قرروا الامتناع عن إقامة حفلات الأعراس وغيرها من ضروب الاحتفالات (أشار الكاتب في الحاشية أن الأستاذ محمد خير عثمان، المدرس ببخت الرضا، قد قام بالاشتراك مع الطبيب النفسي طه بعشر، بإجراء دراسة نفسية لبعض سكان منطقة وادي حلفا قبل تهجيرهم – وصدرت نتائج تلك الدراسة في تقرير باللغة العربية. المترجم).
وفي الأسبوع الثاني من شهر أكتوبر 1960م، أي قبل أيام قليلة من وصول الوفد الوزاري إلى وادي حلفا لإبلاغ سكانها بقرار الحكومة الذي حدد المنطقة التي ستتم فيها إعادة توطينهم، سرت شائعات بين سكان المنطقة بأنهم سيهجرون إلى منطقة "خشم القربة". ولعل موظفي اتصالات "الترنكTrunk " هم من كانوا قد نقلوا تلك المعلومة لمعارفهم بعد أن تنصَّتوا على محادثات بين مسؤولين في الخرطوم مع المسؤول الإداري لمنطقة وادي حلفا. وعلى الرغم من نفي ذلك المسؤول الإداري لتلك الشائعات، إلا أن الحلفاويين ظلوا مقتنعين بصحة ما سمعوه عن المكان الذي سيهجرون إليه، وظللوا يرددون بما يفيد أنه "ما من دخان من غير نار"، وظلت شكوكهم تزداد مع مرور الوقت. (أورد الكاتب في الحاشية بأن ذلك المسؤول الإداري كان يعارض تهجير الحكومة للحلفاويين إلى "خشم القربة"، بل كان قد نصح الحكومة بقبول مطلب أهالي المنطقة الاستقرار في منطقة جنوب الخرطوم. غير أنه كان يريد أيضاً أن يؤكد للحكومة أنه لا يعارض بصورة قاطعة تهجيرهم لخشم القربة، وذلك بقوله: "أنا متأكد من أن أحوال المهجرين ستتحسن بلا شك إذا تم تهجيرهم إلى خشم القربة". ويبدو أن المسؤول الإداري في وادي حلفا لم يكن، حتى يوم 15 أكتوبر 1960م، قد توصل لرأي نهائي حول "خشم القربة" بحسبانها موقعاً ستتم فيه إعادة استيطان الحلفاويين. المترجم).
وبدا أن التوتر في منطقة وادي حلفا كان عظيماً. وكان واضحاً أن المسؤول الإداري بها لم يكن سعيداً عندما تم إخباره بأن الوفد الوزاري سوف يأتي لوادي حلفا لإعلان المنطقة التي قررت الحكومة ترحيل الحلفاويين إليها. ونصح ذلك المسؤول الوفد الحكومي بعدم الحضور للمدينة خوفا من ردة الفعل العنيف الذي سيقوم به سكان المدينة الغاضبين. وعوضاً عن مجيء الوفد لوادي حلفا، اقترح أن تدعو الحكومة ممثلين لأهالي المنطقة للحضور إلى العاصمة لإبلاغهم – في جو سلمي – بقرارها الأخير. وأعتقد المسؤول الإداري أن بوسع الحكومة أن تقنع أولئك الممثلين بوجاهة أسباب قرارها النهائي.
وعلى الرغم من نصيحة المسؤول الإداري في وادي حلفا، قررت الحكومة إرسال ذلك الوفد الوزاري للمدينة. وكان على المسؤول الإداري بها اتخاذ إجراءات صارمة لضمان سلامة أعضاء الوفد الزائر. وبدأ بوضع كثير من الشيوعيين (وكل من يشك في ولائهم للحكومة) بالمدينة تحت مراقبة لصيقة لكل تحركاتهم. وتم كذلك جلب عدد كبير من رجال قرية "دبيرة" (التي كان بها الكثير من المؤيدين للتهجير إلى "خشم القربة") ليكونوا في استقبال الوفد الوزاري عند وصوله مطار المدينة. وأحس المسؤول الإداري بالمدينة بارتياح كبير عندما أبلغته "اللجنة القومية" بأنها قررت عدم استقبال الوفد رسمياً في المطار. وكانت تلك اللجنة قد أدركت في تلك الأيام أن الحكومة قد قررت – بصورة نهائية - أن تختار منطقة "خشم القربة" موقعاً لإعادة توطين الحلفاويين، وأنها قد تجاهلت رغبتهم في الاستقرار بمنطقة جنوب الخرطوم.
ويبدو أن كل شخص تقريباً في وادي حلفا كان على علم بقرار الحكومة النهائي عندما حطت طائرة الوفد الحكومي في مطار وادي حلفا يوم 22 أكتوبر 1960م. وتجمهر الكثير من سكان المدينة في أحد ميادين المدينة للتظاهر ضد قرار سبق لهم معرفته، وليس لسماع قرار الحكومة من ذلك الوفد الزائر (الذي كان أيضا على علم بأن أهالي وادي حلفا كان يعرفون أن الحكومة قد اتخذت قرارها حول إعادة الاستيطان). لذا حاول رئيس الوفد (اللواء محمد طلعت فريد، وزير الاستعلامات والعمل) في خطابه بالمطار كسب مستمعيه لجانب الحكومة؛ فبدأ بتحية الحلفاويين والإشادة بنكرانهم لذواتهم وبأخلاقهم الرفيعة. وأكد لهم بأن الحكومة مهتمة غاية الاهتمام بمشاكلهم، ونقل لهم كلمات الرئيس عبود التي مفادها أنه سيتأكد بنفسه من أن كل الخدمات العامة ستكون متوفرة في موطنهم الجديد، وأنه سيحول أي فائض في ميزانية البلاد إلى "خشم القربة" حتى تغدو مدينة مثالية بحسب المعايير العالمية.
ثم خاطب اللواء أحمد مجذوب البحاري وزير الداخلية والحكومات المحلية من قدموا لاستقبال الوفد الوزاري، وقال لهم بأنه كانت هناك أمام الحكومة أربع خيارات للأماكن التي يمكن إعادة توطين أهالي وادي حلفا فيها، هي شمال الخرطوم ووادي الخوىّ وجنوب الخرطوم وخشم القربة. وأوضح لهم أن معايير الحكومة في الاختيار كانت تقوم على أن تتوفر بكل منطقة مقترحة المعايير التالية: وجود الأراضي القابلة للزراعة فيها بصورة كافية؛ وتوفر ري طوال العام بصورة مستدامة؛ وألا تكون الزراعة تحت إشراف الحكومة؛ وأن تكون إعادة الاستيطان في منطقة يمكن أن تُبْنَى فيها مساكن لائقة للمزارعين؛ ويمكن أن تُقدم فيها للسكان خدمات عمومية لائقة لا تقل جودةً عما يُقدم حالياً في "حلفا القديمة"؛ وأن يتيسر في المنطقة المقترحة قيام صناعة؛ وأن يكون الوصول إليها ممكناً بسهولة؛ وأن يكون بالإمكان الحفاظ فيها على القانون والنظام (أشار الكاتب في الحاشية أن تلك المعايير التي ذكرها وزير الداخلية والحكومات المحلية تختلف – بصورة أساسية – عما ورد في المطالب الإثني عشر التي سبق أن قدمتها "اللجنة القومية". وتطرق الوزير للمناطق الأربع المقترحة من حيث استيفائها للشروط والمعايير التي ذكرها، وقارن بينها جميعاً، وخلص إلى أن "خشم القربة" هي أفضل الخيارات. وذكر أنها تتميز بـ "تربة خصبة تصلح لزراعة كل المحاصيل النقدية (التي يسهل بيعها)، ومساحات شاسعة يمكن ريها عن طريق سد "خشم القربة" المقترح. كذلك تمتاز تلك المنطقة بخلوها من السكان، مما يجعل من الميسور تقديم الخدمات العمومية والاجتماعية فيها دون التأثير على سكان آخرين. كذلك سيمكن للحكومة أن تقدم خدمات الصحة العامة للسكان في هذه المنطقة بأكثر مما هو متيسر في أي مكان آخر.
وتحدث بعد اللواء البحاري وزير آخر هو اللواء مقبول الأمين الحاج وزير الري والطاقة الكهربائية – المائية، وحاول المقبول، مثله مثل وزير الصحة محمد أحمد علي، ذكر المزيد من مزايا منطقة "خشم القربة" التي رجحت اختيارها مكانا لإعادة توطين أهالي وادي حلفا. غير أنه – عند ذلك الحد - عِيل صَبر الجماهير ولم يطيقوا سماع المزيد من التفاصيل، فتعالت – لأول مرة - صياحات احتجاجاتهم ضد قرار التهجير إلى "خشم القربة". وكان ذلك إيذاناً ببداية صراع حقيقي، وإصرار من الحلفاويين على مقاومة سياسة الحكومة. وتفرق الجمع من غير نظام، وتلت ذلك مظاهرات غاضبة عمت كل ارجاء المدينة. وتكررت المظاهرات المعارضة لقرار الحكومة في اليوم التالي. وشاركت النساء – لأول مرة في تاريخ النوبة – في تلك المظاهرات. وقطع المتظاهرون خطوط البرق (التلغراف) والهاتف، مما جعل مدينة وادي حلفا مقطوعة تماماً عن باقي البلاد لمدة ثلاثة أيام كاملة (استشهد الكاتب في هذه المعلومة بكتاب "ثورة شعب" ص 267). غير أن الوفد الوزاري تمكن من الوصول للمطار سراً، وآب إلى الخرطوم في نفس اليوم الذي كانت فيه الإذاعة السودانية تذكر لمستمعيها أن الوفد الوزاري سيبقى في وادي حلفا ليومين أو ثلاثة استجابة لرغبات الحلفاويين. وأرسلت الحكومة تعزيزات أمنية من مدينة أتبرا لفرض الأمن والنظام في وادي حلفا، وتمت السيطرة (الأمنية) على الأوضاع، ولكن ليس قبل اعتقال عدد كبير من المتظاهرين، حيث قضوا في معتقلهم فترات متفاوتة.
وواجه سكان المنطقة التي ستغمرها مياه النيل، لأول مرة، قرار الحكومة إعادة توطينهم في منطقة أجمع غالبيتهم على رفضها. أعليهم الانصياع لقرار الحكومة أم مقاومته؟ سيكون اتخاذهم لأي من الخيارين عسيراً جداً. وقرر الحلفاويون (وهم سودانيون لهم تمثيل كبير في كل مجالات الحياة بالبلاد) مقاومة سياسة الحكومة، وشرعوا في إسماع صوتهم. وسرعان ما انتشرت مظاهراتهم الغاضبة في كثير من مدن السودان مثل الخرطوم وأتبرا وكوستي وبورتسودان. وعملت تلك المظاهرات أيضا على تقليل شعبية النظام العسكري، التي كانت تتَضَاءل بصورة متزايدة. وفي نهايات شهر أكتوبر 1960م كانت السلطات قد اعتقلت نحو 476 متظاهراً ضد النظام العسكري بمدن السودان المختلفة. وسرعان ما حول الحزب الشيوعي السوداني واتحاد طلاب جامعة الخرطوم غرض تلك المظاهرات لخدمة مصالحهما السياسية. فقد كانت تلك المظاهرات في الأصل قد سُيرت ضد الحكومة لعدم احترامها لوعدها للحلفاويين. غير أن شعار تلك المظاهرات تغير لاحقا، إذ صار المتظاهرون يطالبون بانسحاب الجيش من السلطة تماماً.
ولم يكن الحال في مدينة وادي حلفا موافقاً لرغبات السلطة الحكومية. فقد ساد اليأس والقنوط عند سكان المدينة، وأحسوا بأن الحكومة قد خذلتهم وخانتهم وأهانتهم. ولذلك كان عليهم أن يقابلوا ذلك بالنضال ضدها. وتعبيراً عن تذمرهم وعدم رضاهم عن اتفاقية مياه النيل، بدأوا في إغلاق متاجرهم، ورفع الأعلام السوداء على أبواب منازلهم في 8 نوفمبر 1960، بمناسبة مرور عام على توقيع السودان ومصر على تلك الاتفاقية (انظر مقال أ. د. سلمان محمد أحمد سلمان عن الاتفاقية في الرابط: https://rb.gy/un6i3q . المترجم). وقام كثير منهم بوضع شارات الحداد السوداء على ملابسهم. بل عزم بعضهم على البقاء في وادي حلفا إن لم يسمح لهم بإعادة التوطين في جنوب الخرطوم. وكان هؤلاء قد سبق لهم رفض التعاون مع لجان التعويضات في المناطق المتأثرة (التي كان المسؤول الإداري لمنطقة وادي حلفا قد شكلها في بداية عام 1960م لتسجيل وتصنيف كل أنواع الممتلكات، وتقدير قيمة بعضها).
وبحسب ما ذكره المسؤول الإداري لمنطقة وادي حلفا فقد أصابت حالة الشعور باليأس والخيانة حتى الحلفاويين الذين كانوا أيدوا في السابق إعادة التوطين في "خشم القربة". غير أن سبب ذلك الإحساس كان مختلفاً عن سبب غيرهم. فقد أحس من أيدوا الترحيل إلى "خشم القربة" باليأس من قرار الحكومة منح كل مزارع حلفاوي فداناً واحداً من الأرض الزراعية في مقابل كل فدان خسره في أرضه بمنطقة وادي حلفا. وكان ذلك المسؤول الإداري يعتقد بأن موقف الحلفاويين ربما كان سيتغير تماماً لو كانت الحكومة أكثر كرماً في توزيع الأراضي بخشم القربة.
وكانت حالة اليأس والتذمر التي سادت بين الحلفاويين قد شجعت على انتشار المزيد من الدعايات المضادة للحكومة. وكان المواطنون العاديون على اقتناع بأن حكومةً تتجاهل وعد رئيس وزرائها للحلفاويين، لن تتواني عن فعل ذات الشيء بخصوص أي أمر آخر. لذا آمن الحلفاويون بأن وعد الحكومة لهم بتوفير بيت "مثالي" لكل أسرة، ومنح كل حلفاوي "حواشة" مساحتها 15- 20 فداناُ هو مجرد وعد خادع لن ينفذ.
غير أن "اللجنة القومية" كانت ما تزال تتمسك ببعض الأمل في أن تغير الحكومة من قرارها، فأرسلت العديد من الالتماسات للسلطات في الخرطوم؛ بعثت بأولها في الأسبوع الأول من عام 1960م، وذكروا في التماسهم أن الحلفاويين يحسون بالإحباط الشديد من موقف وسلوك الحكومة تجاههم، وتجاهلها التام لرغباتهم المعلنة. ولم ترد السلطات الحكومية على تلك الرسالة، فأتبعتها "اللجنة القومية" برسالة أخرى في يوم 23 نوفمبر 1960م. وفي هذه الرسالة بدأت اللجنة بسرد الأهمية التاريخية لشعب النوبة، وعظموا ما يقومون به من تضحيات بأرضهم الغالية من أجل مصلحة الوطن الكبير ومنفعته. وأكدت اللجنة على حقها في مواصلة التحدث باسم الحلفاويين في المستقبل، كما فعلت في الماضي. ومن أهم النقاط التي وردت في الالتماس الأخير هو إعلان "اللجنة القومية" بأن جميع الحلفاويين، كبيرهم وصغيرهم، رجالهم ونسائهم، على اتفاق تام بضرورة مقاومة أي محاولة لنقلهم لأي بقعة إن لم تتحقق لهم الشروط المحددة التالية:
1. ضرورة أن تتم إعادة توطين المتضررين من الفيضان في شمال الخرطوم، وليس جنوب الخرطوم أو أي مكان آخر؛
2. وجوب تحديد التعويضات النقدية والعينية، وطريقة صرفها قبل بدء عملية التهجير؛
3. التزام الحكومة بإعلام المهجرين، قبل رحيلهم إلى موطنهم الجديد، بنوع المساكن التي سيعيشون فيها؛
4. ضرورة إكمال مشروع إعادة الاستيطان تماماً، وإنجاز كل الخدمات المطلوبة في الموقع قبل وصول المهجرين إليه؛
5. وجوب أن يكون المشروع الزراعي أو الصناعي، الذي سيعيش عليه الحلفاويون في مهجرهم، جاهزاً عند وصولهم لمنطقتهم الجديدة.
ومن المهم ملاحظة اختلاف مطالب "اللجنة القومية" المذكورة في هذه الرسالة عن مطلب لجنة ممثلي قرى منطقة وادي حلفا، المتمثل في إعادة التوطين في منطقة جنوب الخرطوم. لذا فإن مطالب "اللجنة القومية" تلك لا بد أن تكون قد صيغت دون أخذ مشورة لجنة ممثلي القرى. وقد يكون ممثلو قرية دغيم هم من صاغوا مطلب إعادة التوطين في شمال الخرطوم، إذ أنهم كانوا يصرون دوماً على ذلك الخيار.
ومع نهاية نوفمبر عام 1960م، كان الموقف في المنطقة التي ستغمرها المياه قد بلغ درجةً من القتامة جعلت المسؤول الإداري لمنطقة وادي حلفا يخلص إلى أن الحلفاويين لن يغادروا منطقتهم أبدا. وكان يؤمن بأنهم قد يكررون ما قام به "الكنوز" في مصر؛ الذين أبوا مغادرة منازلهم بعد التعلية الثانية للسد العالي، إلى أن تم انقاذهم من الغرق بالمراكب. وتضاعفت مخاوف المسؤول الإداري عندما بلغه في نهاية عام 1960م تكوين منظمة سرية اسمها "اتحاد شعب وادي حلفا للمقاومة"، كان يقف خلفها الحزب الشيوعي السوداني والعديد من الحلفاويين الساخطين. ودعا ذلك الاتحاد أهالي وادي حلفا لمقاومة وإبطال مخططات الحكومة لإعادة توطينهم في "خشم القربة". وأنشأ له فروعاً في عدد من المدن السودانية، كان من أهمها وأكثرها نشاطاً فرعه في مدينة أتبرا. وكان الاتحاد يصدر بين كل فترة وأخرى منشورات تهاجم الحكومة، وينشر سراً مطبوعة اسمها "صوت حلفا"، كانت توزع لأهالي وادي حلفا، وللحلفاويين في المدن الأخرى (اِسْتَقى الكاتب معظم هذه المعلومات من كتاب "ثورة شعب، ص 274. المترجم). وبدا أن الحكومة بدأت تستشعر أن "اتحاد شعب وادي حلفا للمقاومة"، يشكل خطراً حقيقيا على خططها، وأن عليها أن تأخذ تأثير تعقيداته ومضاعفاته المتزايدة في وادي حلفا على محمل الجد. غير أنه كان واضحاً لها أنه لا يوجد شيء يمكنها فعله حيال الوضع في وادي حلفا سوى اتباع سياسة "لننتظر ونرى". وتحاشت السلطات – بحكمة - اتخاذ أي إجراءات عنيفة ضد سكان وادي حلفا الغاضبين، وركنوا إلى أن مرور الزمن كفيل بحل المشكلة، وأن المقاومة ستهمد عما قريب. ولم يكن هنالك من سبب يجعل الحكومة تفترض حدوث مثل ذلك السيناريو. فحتى ذلك الوقت لم يكن هنالك ما يدل على أن المقاومة ستختفي من تلقاء نفسها. وبحسب ما ذكره السيد / طه عثمان، مساعد رئيس مفوضية إعادة التوطين، كان بعض أعضاء مجلس الوزراء يؤيدون إعادة النظر في فكرة التهجير إلى "خشم القربة"، وتمت مناقشة ذلك الاقتراح بجدية في مجلس الوزراء. وكاد المجلس أن يتبنى ذلك الاقتراح، إلا أن التأثير المضاد للمقبول الأمين الحاج (الذي كان سكرتير المجلس الأعلى للقوات المسلحة إضافة لمنصبه كوزير الري) كان أقوى، فوافق المجلس على المضي قدماً في خطة إعادة توطين الحلفاويين في "خشم القربة". وأقالت السلطات السيد/ داؤود عبد اللطيف، رئيس مفوضية إعادة التوطين، لمعارضته التهجير إلى "خشم القربة"، وأحلت محله السيد /حسن علي عبد الله الوكيل الدائم لوزارة الداخلية في ذلك الوقت. وقررت مفوضية إعادة التوطين أن يتولى مجلس الوزراء تحديد عدد المنازل التي ستشيد في "خشم القربة"، وذلك لعدم قدرتها على تحديد من يرغب من الحلفاويين في الاستيطان في "خشم القربة"، خاصة وأن معظمهم لا يرغبون في الانتقال إليها أصلاً.
وتواصلت في وادي حلفا المقاومة السلبية، ورفض سكانها التعاون مع السلطات المحلية لنصف عام كامل. وقضى المسؤول الإداري تلك الفترة وهو يحاول بشدة اقناع السكان بتسجيل ممتلكاتهم. ونجح أخيراً في إقناعهم بأن تسجيلهم لمختلف ممتلكاتهم وعقاراتهم وتقدير قيمتها لا علاقة له بالتهجير إلى "خشم القربة"، وإن تمت إعادة توطينهم في "خشم القربة" أو في أي موقع آخر، أو حتى لو ظلوا في وادي حلفا، فلن يمكن للسلطات أن تدفع لهم أي تعويضات إلا أذا تم سلفاً تحديد وتسجيل ممتلكاتهم وقيمتها المادية. وأتفق المسؤول الإداري مع الحلفاويين، أفراداً وبصورة سرية، على التعاون مع مكتبه، ومساعدة الجهات المنوط بها تحديد التعويضات على أداء واجبها. غير أن ما من أحد منهم تَجَرَّأَ على إعلان تعاونه بصورة مكشوفة. وعندما حاول بعض الأفراد تسجيل ممتلكاتهم، وبالتالي سمحوا لمسئولي التعويض بدخول منازلهم، كان القرويون الآخرون يحتشدون أمام تلك المنازل في احتجاج صامت. وبذا يضطر أولئك الأفراد لصرف مسئولي التعويض بعيدا عن منازلهم. وهذا ما جعل السلطات الحكومية تبعث برجال شرطة لتفريق من يتجمهروا أمام منازل من يرغبون في نيل تعويضات الحكومة. ونجحت تلك التكتيكيات في نهاية المطاف. ولم تقف مجهودات المسؤول الإداري لمنطقة حلفا عند حد كبح مقاومة الحلفاويين، بل بدأ الرجل في حملة لكبح النشاط الدعائي للحزب الشيوعي ضد النظام العسكري في المنطقة، وأعلن بأن الشيوعيين ليسوا صادقين في تأييدهم لقضية الحلفاويين، فهم - في النهاية – يمثلون الإتحاد السوفيتي، الذي سيقوم ببناء "السد العالي"، الذي هو أصلاً سبب تهجير الحلفاويين من موطن أجدادهم. وكانت الحملة الدعائية التي قام بها المسؤول الإداري لمنطقة حلفا ضد الشيوعيين قد صادفت شعوراً عاماً بعدم الرضا عند الحلفاويين الذين وجدوا أنفسهم قد دفعوا دفعاً للتعاون مع الشيوعيين "الملاحدة"، حتى وإن كان أولئك قد تضامنوا مع نضالهم ضد الحكومة. وأخفق الحزب الشيوعي في نيل قيادة الحلفاويين. ولم تجد كل محاولات الحزب للتظاهر في وادي حلفا أي استجابة وسط السكان (أورد الكاتب في الحاشية أحد الأمثلة على ذلك بمحاولة القيام بمظاهرة في يوم 24 ديسمبر 1960م أمام أحد المساجد بعد صلاة الجمعة. وحدثت بعد ذلك مشادة كلامية بين بعض أعضاء "اللجنة القومية" وبعض الشيوعيين. [يذكر أن يوم 24 ديسمبر 1960م هو يوم سبت وليس جمعة]. المترجم). ويبدو أن الحلفاويين كانوا يفرقون بصورة واضحة بين النضال ضد النظام العسكري بصورة عامة، والنضال ضد قرار النظام الذي قضى بإعادة توطينهم في "خشم القربة". ومع تضاءل الثقة المتبادلة بين معظم الحلفاويين و"اتحاد شعب وادي حلفا للمقاومة"، تدخلت السلطات الحكومية في وادي حلفا لتوجيه الضربة القاضية للمقاومة من جميع الجهات. ولحسن حظ الحكومة، تزامنت تلك الضربة مع قرار الحزب الشيوعي التصالح مع النظام العسكري والمشاركة في انتخابات المجالس المحلية الجديدة في يونيو 1961م (ذكر الكاتب في الحاشية أن الحزب الشيوعي أعلن بعد نجاح ثورة أكتوبر 1964م أنه لم يصالح العسكريين قط، وأن قرار الحزب المشاركة في انتخابات المجالس المحلية عام 1961م كان تغييراً في التكتيك، وليس في السياسة؛ بحسب ما جاء في ص 389 من كتاب "ثورة شعب". المترجم). وكان الحلفاويون يرون أن قرار "الهدنة" بين الحزب الشيوعي والحكومة كان قراراً مؤسفاً. وكما ذكرنا من قبل، لم يكن أهالي وادي حلفا بحريصين بصورة خاصة على العمل مع الشيوعيين، ولكنهم كانوا يحسون بأن قدراتهم العالية على العمل السري ستكون عوناً لا غنى لهم عنه. وبعد تغيير الشيوعيون لاستراتيجيتهم، لم يعد بمقدور الحلفاويين الصمود أمام ضغوط الحكومة المتزايدة، وسرعان ما بدأت مقاومتهم في الانكسار.
وشرع المسؤول الإداري لمنطقة وادي حلفا في تعطيل أنشطة "اللجنة القومية" بخلقه العديد من العوائق أمامها. فقد أعاد للجنة الرسالة الثالثة التي أرادت اللجنة إرسالها للحكومة بدعوى أن لهجتها تفتقر إلى الاحترام والتهذيب الواجبين، وطلب من رئيس اللجنة وسكرتيرها الاعتذار عن ذلك. وبالفعل اعتذر الرجلان وأعادا صياغة الرسالة لتصبح أكثر اعتدالاً. غير أن المسؤول الإداري أعاد الرسالة لهم مرة أخرى بدعوى أنها لم تجز بأغلبية أعضاء اللجنة. إضافة لذلك، شجع ذلك المسؤول الإداري على الخلاف بين أعضاء اللجنة، مما أدى في نهاية المطاف لتعطيل عملها. وقام بإرسال مجموعات من الحلفاويين الذين وافقوا على إعادة التوطين في "خشم القربة"، وكذلك الذين لم يلتزموا بعد بأي موقع معين، لزيارة "خشم القربة" ليروها بأعينهم. ومنحتهم السلطات تصاريح سفر مجانية (ذهابا وإيابا)، وسمحوا لهم بمقابلة رئيس الوزراء وبعض الوزراء من ذوي العلاقة بالتهجير في العاصمة، وبالحديث في إذاعة أم درمان ومع مراسلي الصحف (بحسب ما ورد في جريدة "الرأي العام 13 أبريل 1961م). وكان وفد الحلفاويين الأول يتكون من 8 من عُمد المنطقة وغالب نظار المدارس وكبار موظفي الحكومة بها. وبعد نهاية تلك الزيارة وافق معظم أعضاء تلك الوفود على إعادة التوطين في "خشم القربة"، لما لمسوه من حرص عند الرئيس وكبار قيادات البلاد على إنجاح مشروع إعادة التوطين. وكان من الطبيعي أن يتحدث غالب أعضاء تلك الوفود بعد عودتهم لوادي حلفا معبرين عن تأييدهم لإعادة التوطين في "خشم القربة"، وعملت الدعاية الحكومية على تعضيد تلك المشاعر، ولا غرو، إذ أن الحكومة كانت قد عينت موظف إعلام في وادي حلفا مهمته هي العمل بنشاط شديد على نشر مثل تلك الدعايات التي ترغب السكان في إعادة التوطين في "خشم القربة" بمختلف الوسائل (مثل الأفلام القصيرة والصور والمعارض). واُفْتُتِحَ أول تلك المعارض الدائمة في مدينة وادي حلفا في نوفمبر 1962م. (ذكر الكاتب في الحاشية أن المسؤول الإداري بالمدينة صرح بأن نحو 10,000 من الأهالي قد زاروا ذلك المعرض في غضون أقل من أسبوع واحد، وهذا رقم كبير يثير الاستغراب بالنظر إلى أن عدد سكان المدينة لم يكن يومها يتجاوز 11,000 نسمة. وبما أنه لم يُعرض أي شيء في ذلك المعرض عن مواقع التوطين المقترحة الأخرى، فلا بد أن معظم الذين رأوا "مشروع خشم القربة" كنموذج على الطاولة، لم يتمكنوا من مقاومة إغراء مشاهدته على أرض الواقع.
وبعد أن أدركت الحكومة أنها أفلحت في جعل الحلفاويين يميلون للقبول بالرحيل إلى "خشم القربة"، أقدمت على حل "اللجنة القومية" ومنعتها من ممارسة أي نشاط. وبذا أزيلت من أمام الحكومة آخر قلاع مقاومة الحلفاويين، وغدا الطريق إلى "خشم القربة" أوضح مما ذي قبل. وتواصل إرسال المسؤول الإداري في وادي حلفا لمزيد من الوفود إلى الخرطوم و"خشم القربة"، واستمر موظف الإعلام في دعاياته لصالح خيار "خشم القربة". وأفضى كل ذلك النشاط لتحسن تدريجي في موقف أهالي وادي حلفا (من وجهة النظر الحكومية). وفي يوم 12 أبريل 1961م كتب المسؤول الإداري في وادي حلفا فخورا بإنجازاته ما يفيد بالتالي: " لقد أرسل لي عُمد قرى صرصر وعكاشة وصرص غرب ودويشات وجيمي رسائل يؤكدون لي فيها على تأييدهم لإعادة التوطين في "خشم القربة". لقد مال الناس هنا بسهولة لتأييد خيار الحكومة، بعد أن انتصرنا على المعارضة. وحتى في دغيم، التي كانت مركز المعارضة، لم يبق الآن من معارضي إعادة التوطين في "خشم القربة" سوى عشرين رجلاً فقط." (أشار الكاتب في الحاشية إلى أن ما ذكره ذلك المسؤول الإداري عن عدد المعارضين في دغيم غير صحيح، بدليل وجود ما يزيد عن 3,000 من الحلفاويين – غالبيتهم من دغيم - الآن (أي في 1970م أو قبلها بقليل. المترجم) رفضوا تماماً الرحيل عن وادي حلفا، وشيدوا لأنفسهم مبانٍ مؤقتة على البحيرة، بالقرب من حلفا القديمة).
ومن اللافت للنظر أنه لم تمر سوى خمسة أسابيع بين الوقت الذي أرسلت فيه "اللجنة القومية" آخر التماساتها للحكومة لتغيير من رأيها حول اختيارها لـ "خشم القربة" موقعاً لإعادة توطين الحلفاويين، وبين وقت ذلك التحسن المزعوم في موقف الحلفاويين (وعددهم نحو 50,000 نسمة). وليس هناك من تفسير معقول لهذه المفارقة سوى أن أحد الطرفين: إما المسؤول الإداري لحلفا، أو "اللجنة الوطنية"، يفرطان في المبالغة. والراجح (عند الكاتب. المترجم) هو أن تلك "اللجنة القومية" لم تعد – عند بدايات عام 1961م – تقوم بدورها المطلوب في الحديث إنابة عن جميع سكان حلفا. وعندما حلت الحكومة تلك اللجنة، لم يقم الحلفاويون بأي محاولة جادة لاستِنقاذها.
وفي واقع الأمر لم تكن جهود المسؤول الإداري لحلفا وحدها هي ما جعلت الحلفاويين يقبلون في نهاية المطاف بالانتقال إلى "خشم القربة". فقد أدى كل أو معظم عُمَد المنطقة دوراً مهماً في ذلك. فلم يكن باستطاعتهم – بحكم عملهم في سلك الخدمة المدنية – عدم القبول بسياسة الحكومة العامة، حتى لو رغبوا في ذلك. ويبدوا أنهم تمكنوا – بسبب وضعهم الاجتماعي الرفيع في أوساط الأهالي – من إقناع عدد كبير من الحلفاويين بالرحيل إلى "خشم القربة". وكان من العوامل الأخرى التي دفعت الحلفاويين للقبول بالرحيل هو خشيتهم من ذوبان مجتمعهم في مجتمعات سكانية أخرى بالبلاد، خاصة بعد أن أعلنت الحكومة أن الرحيل إلى "خشم القربة" ليس إلزاميا، وأن بإمكان أي حلفاوي أن ينتقل إلى أي منطقة في البلاد يختارها بنفسه. حينها أدرك الحلفاويون أن البديل لإعادة توطينهم في "خشم القربة" هو التشتت. لذا قرروا أنه إذا كان يجب على مجتمعهم أن ينتقل لمكان آخر تتم فيه إعادة توطينهم، فيجب أن يتم ذلك وهم كتلة واحدة. وإن كُتب عليهم الانتقال إلى "خشم القربة"، فسيرضون بالرحيل إليها ليبقوا كياناُ واحداً في منطقة واحدة. (ذكر الكاتب في الحاشية أن الحلفاويون ظلوا يطالبون دوما في كل رسائلهم للحكومة – ومنذ زيارة عبود لمنطقتهم - على ضرورة بقائهم جماعةً واحدة وفي منطقة واحدة). وكان بعض الحلفاويين يرضون بالرحيل إذ أن ذلك هو قدرهم الذي كتبه الله لهم، وأن مشيئة الله تعالى هي السبب في أن يُبْنَى "السد العالي" وأن يتم ترحيلهم من أراضيهم الغالية نتيجةً لذلك، وأن تغرق حتى مساجدهم الجميلة، وأن يتم توطينهم في نهاية المطاف في "خشم القربة". (أشار الكاتب في الحاشية أيضا إلى مقالات إنشاء كتبتها طالبات المدارس الوسطى في المنطقة، تدور حول مسألة "القضاء والقدر" في رِضا الأهالي بالرحيل من وطن أجدادهم. وأجاب بعض الحلفاويين الذين انتقلوا لـ "خشم القربة" على أسئلة وجهها لهم الكاتب في عامي 1964 -1965م بما يفيد أنهم أتوا لمدينتهم الجديدة لأن الله كان قد كتب عليهم "الخروج مِن ديارهم" والإقامة في موقعهم الجديد. المترجم).
وأخيراً، قُضِيَ الْأَمْرُ بالنسبة لمنطقة وادي حلفا. ومع نهاية عام 1962م كان غالب الحلفاويين قد وافقوا على القبول بالرحيل إلى "خشم القربة" على نهر أتبرا. وأدرك هؤلاء أن محاولة مقاومتهم قرار الحكومة كانت عديمة الجدوى. ومن جهة أخرى، كان هناك عدد كبير من الحلفاويين الفقراء الذين لم يكن يملكون أي أراضٍ زراعية في وادي حلفا، وكانوا سعداء بانتقالهم إلى منطقة "خشم القربة" التي منحوا فيها أراضٍ زراعية واعدة. لقد كان نصف مليون فدان أو أكثر من التربة الخصبة في منطقة إعادة التوطين عامل جذب قوي للأفراد الذين لم تكن أراضيهم الصالحة للزراعة تمتد إلى ما وراء الضفاف الضيقة لنهر النيل. وبالنسبة إلى هؤلاء كانت إعادة توطينهم في تلك المنطقة ضرورة اقتصادية.
وبعد مرور تلك الأوقات الصعبة، وبعد عمل شاق ومتواصل، ومناورات عديدة تمكن الإداري النشط السيد/ حسن دفع الله (المسؤول الإداري بمنطقة وادي حلفا) من الجلوس والتفكير بهدوء في تنفيذ أكبر عملية تهجير مخطط له سلفاً في تاريخ السودان بأكثر الطرق والوسائل كفاءةً.
alibadreldin@hotmail.com