السودان والتحول الديمقراطية بعد حروب الكيزان الدينية

 


 

طاهر عمر
8 March, 2023

 

ثورة ديسمبر تعد عمل جبار من شعب واعي ينشد الحرية كقيمة القيم و ستفتح الطريق للتحول الديمقراطي و سينعكس على تنامي الوعي الذي ينتصر للفرد و العقل و الحرية و لكن عليك أيها القارئ أن تنتبه للمعوقات و العراقيل التي تسد طريق الخروج من متاهة الشعوب التقليدية و بداية رحلة شاقة باتجاه بناء دولة حديثة و ترسيخ مفهوم السلطة بمعناها الحديث.
أول علامات إمكانية تحقيق التحول الديمقراطي في السودان أن الشعب في إنجازه لثورته قد رسخ فكرة كانت غائبة عن النخب السودانية و هي أن من يقوم بالتغيير هو الشعب و ليس النخب و لا المثقف و لا المفكر و هذا واحدة من الفتوحات الباهرة في عمل روح الشعب السوداني و من علاماتها أن المثقف التقليدي السوداني و المؤرخ التقليدي السوداني و المفكر التقليدي و عالم الاجتماع التقليدي قد أصبح حائر لأنه يحاول أن يعمل بعقله القديم الذي مات و لم يدرك نور عقل الشعب الجديد الذي يولد.
و إذا أردنا أن نضرب مثل على ذلك يمكن أن تراجع كيف فشلت حكومة حمدوك عندما لم تكن في مستوى مطالب الشعب و هي ظهور ملامح الدولة الحديثة و لا يكون بغير تفكيك التمكين و أول بداياته يجب أن تبدأ بولاية وزارة المالية على المال العام و تفكيك التمكين في البنك المركزي بنك البنوك و إعادة سيطرة سياساته النقدية على مناشط البنوك بما يخدم التنمية التي تعتبر أن أكبر معوقاتها غياب الريادات الوطنية غير الواعية.
و هذا لم يحصل في حقبة حكومة حمدوك حيث كانت حكومته خالية من الريادات الوطنية الواعية التي تعمل على إزالة ما تركته الإنقاذ من ركام و للأسف بدلا من إزالة ركام الإنقاذ من مفاصل الدولة نجد أن حكومة حمدوك تركت ركام الانقاذ في مفاصل الدولة في وزارة الخارجية و في البنك المركزي و غيرها من الأماكن التي تعتبر كمرآة يتضح فيها وجه الدولة الحديثة.
و لم ينتبه حمدوك و وزراءه الى أن أخطر ركام تركته الانقاذ في مفاصل الدولة و يصل الى أن يكون في مستوى النفايات السامة و الضارة بل المشعة هم عنصرها البشري الكيزاني و قد رأينا كيف قد عطلوا عمل الجهاز القضائي الذي ينبغي حله كما حدث في تونس بعد عشرية الغنوشي الفاشلة و هذا ما يجب أن يكون في السودان لأن حقبة الكيزان و ما خلفته لا يمكن أن ينطلي على أي شخص بأن الجهاز القضائي الكيزاني يعتبر سلطة قضائية كما رأينا في مسألة فصل السلطات في علم إجتماع منتسكيو.
لهذا قلنا لحمدوك و سنكرر اليوم يجب أن يكون التعامل مع عنصر الكيزان البشري بلا رحمة فيما يتعلق بتفكيك التمكين و إلا سوف يتأخر التحول الديمقراطي في السودان لسنيين و لكن في نهاية المطاف أن التغيير آت و أن التحول الديمقراطي لا أحد يستطيع إيقافه و لذلك من الأحسن أن تنتبه النخب لفكرة أن الأفضل أن يأتي التحول الديمقراطي بعمل هادف و واعي من قبل النخب و لا يكون ذلك باليسير في ظل نخب أسيرة كسلها الذهني الذي أورثها القراءة الناعسة و عكسها يجب أن يحل عقل القارئ المدرب الذي يستطيع إختصار الطريق لتحقيق التحول الديمقراطي.
عندما نقول القارئ المدرب نقصد القارئ المتسلح بمشروعه النقدي الذي يسوره التفكير النقدي حيث تصبح ظاهرة المجتمع البشري علامة لوحدة الانسانية النفسية و أقصد أن ما حصل من تحول هائل في المفاهيم في المجتمعات الحية و جعلها تقبل فكر عقل الانوار لا محالة قادم الى مجتمعاتنا التقليدية و من الأفضل الإستعداد لقبوله بكل الرضى الذي يفسح المجال لظهور الشخصيات التاريخية و هى زبدة المجتمع التي يمثلها عباقرة الرجال.
و أقصد بعباقرة الرجال من يتجاوزون الفكر المتكلس المنتج من نخب لم تنتج غير فكر مساكن و مجاور لفكر رجال الدين في السودان و قد رأينا حقبة حروبهم الدينية التي قادتها الإنقاذ و قد جسدت عنف الكل ضد الكل. نعم حقبة الإنقاذ تعتبر ثلاثة عقود من الحروب الدينية في السودان كما الحروب الدينية التي أعقبت فكرة الاصلاح الديني في اوروبا.
و عليه نقول للنخب السودانية بعد حروب الكيزان التي تقابل حروب اوروبا الدينية التي أعقبت فكرة الاصلاح الديني يجب أن تفتح الطريق للنخب السودانية نحو فكر ذو نزعة إنسانية و مفارق و غير مصادق على فكر رجال الدين و هذا يتطلب منا الكف عن قراءة التراث الذي لا ينتج غير ذاكرة محروثة بالوصاية و ممنوعة من التفكير كما يقول الفيلسوف التونسي فتحي المسكيني و قد رأينا إنتاج ذاكرة الوصاية الممنوعة من التفكير في فكرة المساومة التاريخية و مهادنة الطائفية و مؤالفة ما بين العلمانية و الدين و كله فكر نخب أسيرة القراءة الناعسة التي لا تليق بمستوى القارئ المدرب.
بمناسبة الذاكرة المحروسة بالوصاية و ممنوعة من التفكير أريد أن أنبه النخب السودانية الى أن مستوى الحراك الفكري الضئيل في حقبة إنقلاب البرهان الفاشل يدل على أن النخب السودانية ما زالت تنتظر مخلصها كل على هواه و إلا لماذا إختفى كثير من المفكريين السودانيين في وقت تظهر فيه حوجتنا لجهدهم إذا لم يكونوا من مروجي الوعي الزائف.
على أي حال ما دعاني لكتابة هذا المقال هو أن التحول الهائل في المفاهيم فيما يتعلق بنقل مستوى الفهم المتدني بين النخب الى مستواه في المجتمعات الحية يخص جهد الأقلية الخلاقة و هي التي يقع على عاتقها نقل مستوى الوعي بأن ما حدث من تحول هائل في المفاهيم في المجتمعات الاوروبية ستقع ظلاله على مجتمعاتنا التقليدية شاء من شاء و أبى من أبى لسبب بسيط و هو أن الانسانية تربطها وحدة نفسية و أن تاريخها قد أختصرته مسيرة مواكب المجتمعات الاوروبية و أعني أن نضج العقل البشري و ما أنتجه من علامات كمجد العقلانية لا محالة قادم الى مجتمعاتنا التقليدية.
و من هنا ندعو النخب السودانية و هي تستعد للتحول الديمقراطي في السودان بأن تدرك أن التحول في المفاهيم يحتم عليها طرح فكر جديد ينتصر للفرد و العقل و الحرية لأننا في زمن قد أصبح الفرد بديلا للطبقة لأن الفرد هو الذي ينشد الحرية كقيمة القيم و هذا يدعونا أن نغيير فكرتنا عن المثقف العضوي و هو الذي يريد تحقيق رغبات الأجيال الصاعدة و حتما لا ينبغي أن يكون من أتباع أحزاب وحل الفكر الديني أو من أتباع الأيديولوجيات المتحجرة بعد أن أصبحت دين ضد الدين و كانت أفشل من الأديان نفسها في جلب سلام العالم الذي لا يكون بغير الانتصار للفرد و العقل و الحرية.
و لهذا ينبغي أن يكون المثقف العضوي من ييقن بأن معادلة الحرية و العدالة تحتاج لمشاريع نقدية لم نجدها في تاريخ المثقف التقليدي السوداني و المؤرخ التقليدي السوداني و المفكر التقليدي السوداني.
البشارة الوحيدة التي ينبغي أن يسمعها الشعب السوداني هي أن السودان في حقبة الحركة الاسلامية و لثلاثة عقود قد عبر حقبة مظلمة و تركها خلفه و تعتبر حقبة حروب دينية و قد دفع عبرها الدم و العرق و الدموع كما حروب أوروبا الدينية التي أعقبت الإصلاح الديني الذي وضع حد لفكر رجال الدين.
و لهذا نقول للمفكرين السودانيين و المثقفين السودانيين و المؤرخيين السودانيين التقليديين عليكم بأن تدركوا أن حقبة الانقاذ كانت حقبة حروب دينية و قد تجاوزها الشعب السوداني و هو يسير نحو التحول الديمقراطي كما تجاوزت اوروبا حروبها الدينية التي أعقبت الإصلاح الديني.
و لكن الفرق بين حروب أوروبا الدينية و حروب السودان الدينية هو أن هناك فكر ذو نزعة إنسانية و قد إنتصر و قد أورث اوروبا إفتخارها بالعقلانية مقارنة بفكر الحضارات التقليدية و من بينها الحضارة العربية الاسلامية التقليدية التي يتخفى خلف فكرها التقليدي المثقف و المفكر و المؤرخ التقليدي في السودان ومن هنا تأتي دعوتنا لقارئ التراث في السودان بأننا نحتاج لفكر جديد ذو نزعة إنسانية متجاوز و غير مساكن و لا مجاور لفكر رجال الدين في السودان.

taheromer86@yahoo.com
//////////////////////////

 

آراء