طردية العلاقة بين الديمقراطية و الرأسمالية

 


 

طاهر عمر
16 March, 2023

 

قرن من الزمن بالتمام و الكمال قد مر على نشر أفكار ماكس فيبر و أجمل ما فيه حديثة عن عقلانية الرأسمالية. فكرة الاقتصاد و المجتمع لماكس فيبر نشرت بعد سنوات قليلة قد أعقبت نهاية الحرب العالمية الأولى حيث استيقظت أوروبا على كوابيسها. نعم إنتهت الحرب العالمية الاولى في أوروبا و لكن شعراءها و فلاسفتها ومؤرخيها و علماء الاجتماع و الاقتصاديين كانوا على يقين من أن حرب عالمية ثانية لا محالة قادمة.
عندما نقول شعراءها نقصد ييتس كشاعر أدرك أن أوروبا قد دخلت في حقبة ليست مسبوقة بعهد كما يقول الشاعر رينيه شارل حيث لم يعد تراث المسيحية كعهد و ميثاق أو قل لم يعد دين و هنا يلتقيا مع فكرة زوال سحر العالم في فكر ماكس فيبر و حديثه بأن الدين قد أصبح في مستوى دين الخروج من الدين و لم يعد الدين كجالب لسلام العالم.
لكن مهلا أيها القارئ المحترم لا تنسى أن ماكس فيبر قد إنتقد الايمان التقليدي و لكنه قد تحدث عن البنى الثقافية و دورها في خلق الإزدهار المادي للشعوب و هنا ينتقد الماركسية في إعتمادها على البنى التحتية و هنا تأتي أهمية فكر ماكس فيبر في حديثه عن الفكر البروتستانتي و عقلانية الرأسمالية حيث يصبح هناك مستويين لفكر علم الاجتماع.
ما يخص الفرد و علاقته بربه علاقة فردية لا يدخل بينه و ربه تجار الدين أما علاقة الفرد و صراعه مع مجتمعه فإنها علاقة تحكمها معادلة الحرية و العدالة. من هنا يزدهر عند فلاسفة الفكر الرأسمالي فكر العقد الاجتماعي حيث يصبح الفرد عقلاني و أخلاقي و بالتالي يصبح الفرد بديلا للطبقة و عندهم تصير مسألة الظواهر الاجتماعية بديلا لفكرة الصراع الطبقي و نهاية التاريخ المفضي لنهاية الصراع الطبقي كما يعتقد كل من هيغل و ماركس في مسألة إضطراد العقل و التاريخ و هيهات.
من هنا يصبح علم الاجتماع بعد معرفي في صميم ديالكتيك منفتح على اللانهاية تسير به مسيرة الانسانية بلا قصد و لا معنى و كل حقبة تنتج ما يناسبها من أفكار في تكرار لا نهائي و هذا ما يجعل الرأسمالية تخرج من إختناقاتها الاقتصادية دوما أكثر قوة و أكثر حيوية.
ففي ظل ظاهرة المجتمع البشري كانت السلطة سابقة للدين و جاء زمن قد أصبح الدين يحل في مقعد السلطة و بعدها قد تجاوزه عقل الانسان بعد أن نضج بسبب تجربة الانسانية و تجاوبها مع ضمير الوجود و كانت النتيجة مجد العقلانية و إبداع العقل البشري و بالتالي قد أصبح الدين شأن فردي و لهذا لم تعد هناك فرصة لرجال الدين في المجتمعات الحية أن تستثمر في تاريخ الخوف كما يتاجر الكيزان بفكرة الخلاص الاخروي.
و هنا نحتاج للشخصيات التاريخية التي تكسر طوق تاريخ الخوف و تشب عنه و توضح لنا معنى تاريخ الذهنيات كما فعل مارتن لوثر في فكرة الإصلاح الديني حيث أصبح من العقلانية بأن يدخل الفكر البشري في عمق نصوص الدين و بالتالي تصبح فكرة أنسنة الإله و تأليه الانسان ممكنة. و بالتالي تفتح الطريق لفكرة الشرط الانساني و بالسياسة تصبح مواثيق حقوق الانسان نتاج لفكرة أن الانسان هو مركز الوجود.
و عندها تصبح الديمقراطية في علاقتها بالرأسمالية نتاج نزعة إنسانية تعطيها طردية العلاقة بعكس عكسية العلاقة ما بين الديمقراطية و الشيوعية كدين بشري أفشل من الأديان في جلب سلام العالم و هنا يجب أن نذكر كيف إستل ريموند أرون أفكار توكفيل و ديمقراطيته من قلب النسيان حيث كان توكفيل في الحكومة التي عانت من فوضى الفوضويين و كان ماركس كثوري في عمق الاضطرابات عام 1848 و لكن بعدها نرى كيف إنتصر توكفيل كسياسي في نفس حقبة الفوضى على ماركس في ذاك التاريخ البعيد.
و بعده بمئة عام كيف إستخدم ريموند ارون أفكار توكفيل التي هزم بها ماركس في حينه و قد هزم بها ريموند أرون ماركسية سارتر و بعدها قد أصبح ماركس كمؤرخ عادي يأخذ مقعده بين المفكريين و ليس كأفق لا يمكن تجاوزه كما يعتقد الشيوعي السوداني.
هنا يجر السؤال السؤال لماذا ينتصر توكفيل على ماركس في ميدان الفكر في كل أنحاء العالم إلا عند الشيوعي السوداني؟ و لماذا تصبح الرأسمالية عقلانية في جميع انحاء العالم إلا عند النخب السودانية؟. الاجابة سهلة جدا و هي أن المفكر السوداني لم يدرك مسألة التحول الهائل في المفاهيم التي قد رأها علماء الاجتماع كماكس فيبر و الاقتصاديين ككينز في فكرة النظرية العامة و هي تجسيد لفكرة المسؤولية الاجتماعية نحو الفرد و هي نواة فكرة الضمان الاجتماعي حيث تصبح العلاقة مباشرة بين الفرد و الدولة كمفهوم حديث و السلطة أيضا كمفهوم حديث قد غابت عن عقل النخب السودانية.
سبب غياب مفهوم الدولة كمفهوم حديث عن دفاتر النخب السودانية غياب الإدراك فيما يتعلق بعلاقة الفرد بالدولة و ليس علاقته مع الطائفة و قد أنتج أحزاب طائفية و مع الدين و قد أنتجت أتباع الحركة الاسلامية مؤسسي أحزاب اللجؤ الى الغيب و كذلك أتباع الطرق الصوفية و الادارات الاهلية و يمكننا أن نقول أن فكر النخب السودانية لا يعرف طريق لفكرة النشؤ و الإرتقاء التي قد تجاوزت كل فكر يتخذ من العرق و الدين قاعدة إنطلاق.
جميل في الفقرة أعلاء قد رأينا كيف إنتصر توكفيل على ماركس و وجب أن نقول كذلك عن إنتصار توكفيل على فكر كاثوليك السودان و أقصد أن توكفيل في كتابه الديمقراطية الأمريكية قد إنتقد الكاثوليك و الكاثوليكية في فرنسا و كان الكاثوليك في فرنسا يعتقدون بأنهم عبر الكاثوليكية يستطيعون تحقيق الديمقراطية كما تحققت في أمريكا.
ألم تلاحظ إلتقاء أفكار الامام الصادق المهدي مع توهم الكاثوليك في تحقيق ديمقراطية عبر فكرهم الديني كما يعتقد الصادق المهدي الآن في تحقيق الديمقراطية عبر طائفيته و يدافع عن الطائفية بشكل يوضح لك في أي واد سحيق سقط المفكر السوداني و قد غطته ظلال الجهل رغم وجود فاصل زمني يقارب القرنيين من الزمن بين الصادق المهدي و توكفيل؟
و لكن توكفيل كان يقول لهم هيهات لأن أمريكا قد حققت الديمقراطية بعد أن إهتدت لأفكار جون لوك و عقده الاجتماعي حيث كان جون لوك يمقت الإلحاد كما يمقت عدم فصل الدين عن الدولة. كان جون لوك يقول لا يمكنك أن تتحدث عن التسامح و أنت تحاول الانتصار لخطاب ديني و من هنا نجحت أمريكا في ترسيخ الديمقراطي قبل الدول الاوروبية.
هنا كانت لحظة إعجاب توكفيل بالديمقراطية الامريكية و كيف كان بلده فرنسا تحت إعتقاد الكاثوليكية و الكاثوليك الخاطئ بأنهم سوف يصلون بالكاثوليكية لتحقيق الديمقراطية و هيهات لذلك أدعو النخب السودانية لفهم مقاربة الديمقراطية الأمريكية لفكرة فصل الدين عن الدولة و كيف أصبحت المساواة نهاية لقلق الانسان و بعدها قد أصبح لا يشغله غير الأخلاق و العقلانية التي تميز الفرد و بعدها قد أصبحت الديمقراطية بديلا للفكر الديني و من هنا جاء معنى ثورة الديمقراطية و صيرورة الديمقراطية و فكرة عقلانية الرأسمالية و هذا ما أريد أن أنبه النخب السودانية الى بريقه كفكر ذو نزعة إنسانية كان نتاج مسيرة الانسانية التاريخية و الانسان التاريخي.
من هنا نقول لأتباع أحزاب الطائفية أن توكفيل في ديمقراطيته أيضا قد إنتصر عليكم كما إنتصر على ماركس و هنا أيضا نقول لماذا يكره أتباع الطائفية عقلانية الرأسمالية و لماذا لا تنتقد النخب السودانية فكر الصادق المهدي الذي ينعت الذين يدعون لفكر ذو نزعة إنسانية بالدهريين؟ و كما قال جون لوك لا يمكنك الحديث عن التسامح و أنت تستند على خطاب ديني و الصادق المهدي يتكئ على فكر ديني يدافع به عن طائفية مقيتة.
فكيف تصف نخب السودان الامام الصادق المهدي بأنه متسامح و هو يخالف فكر جون لوك الذي يقول لا يمكنك التحدث عن التسامح و أنت مستند على خطاب ديني أي دين و قد رأينا فكر الصادق المهدي الذي لا يختلف عن فكر رجال الدين بل قد كانت أفكاره في فترة ديمقراطية ما قبل إنقلاب الكيزان تقوم على فكر الصحوة الاسلامية؟
و هنا نحتاج لفن القراءة كما هو عند كلود لوفرت و كذلك لفلسفة ادغار موران في ساحتنا السودانية التي تتحدث نخبها عن الديمقراطية و لكنها تجافي فكر فلاسفتها و تكره أي النخب السودانية أن تعترف بعقلانية الرأسمالية و عليك أن تتسأل أيها القارئ لماذ لم تدرك النخب السودانية فكرة عقلانية الرأسمالية؟ و فكرة صيرورة الديمقراطية و قد أصبحت بديلا للفكر الديني الذي قد أصبح ككعب أخيل للنخب السودانية و هي عاجزة عن تجاوزه؟
سألنا مثل هذا السؤال لأن النخب السودانية تجهل أن مسألة تحقيق العدالة الاجتماعية عبر أدوات الفكر الرأسمالي أسهل من تحقيقها عبر فكر الاشتراكيات التي تتغطى بالفكر الشمولي و قد رأينا كيف إنتبه دكتور منصور خالد بعد فوات الأوان بأن مسألة تحقيق العدالة عبر الحزب الواحد و طريق الاشتراكية كانت لحظة ممارسة النخب السودانية لوهم جماعي قد كان ثمة فكر نخب العالم الثالث و منصور خالد رغم تأخر أنتباهه لمثل لهذه الاوهام إلا أنه متقدم على النخب السودانية بسنين ضؤية.
إنتباه الدكتور منصور خالد يذكرنا بإنتباه دينغ شياو بينغ مهندس الإصلاح الصيني و إدخاله لفكر إقتصادي عام 1978 يخرج الصين من الاقتصاد الموجه الى اقتصاد السوق و قد قال أن الصين تحتاج لنصف قرن من الزمن لإستكمال عملية التحديث و السيطرة السياسية و الاقتصادية و هنا يتضح معنى عنوان المقال لماذا أيقن دينغ شياو بينغ بفاعلية الرأسمالية و عقلانيتها التي لم تدركها النخب السودانية حتى اللحظة؟
لدينغ شياو بينغ جراءة محببة و هي قد مكنته من التفكير حيث إختلف مع مقولة " من الأفضل أن نبقى فقراء في ظل الاشتراكية على أن نغتني في ظل الرأسمالية" حيث أكد أن الفقر ليس اشتراكية و له تعليقه المشهور حول القط لا يهم طالما أنه يصطاد الفئران و كان هذا عام 1961 فيما يخص تطوير الانتاج الزراعي. و من هنا ندعو النخب السودانية الى التفكير بشكل جيد عن عقلانية الرأسمالية و قد إنتبه لها دينغ شياو بينغ عام 1978.
و عليك أيها القارئ أن تلاحظ بأن إنتباه دينغ شياو بينغ الى عقلانية الرأسمالية يتزامن مع بزوغ أشعة ديناميكية النيوليبرالية حيث أنتخب كل من تاتشر و ريغان لتحقيق فكرها و هنا في العالم العربي و الاسلامي التقليدي كانت أضواء الصحوة الاسلامية التى تعمي ببريق الأيديولوجيات ها هي الصين تحقق ما أراده لها دينغ شياو بينغ و الغرب الصناعي يتأهب الى الدخول الى حقبة الحماية الاقتصادية و العالم العربي و الاسلامي التقليدي يرقد في كساد فكره.
في ختام هذا المقال لا يفوتني التنبيه الى نباهة الصديق الزيلعي التي لا تقل و قد ظهرت في مستوى طرحه سؤال هل يمكن تجديد الحزب الشيوعي السوداني؟ عن نباهة منصور خالد التي قارناها بنباهة دينغ شياو بينغ.
و نحن نتحدث عن التحول الديمقراطي السودان نحتاج لفكر يؤسس لعقلانية الرأسمالية و خاصة بعد التأكد بأن علاقة الديمقراطية علاقة طردية مع الرأسمالية و فكرها الذي لا يوجد له أثر في فكر النخب السودانية التي لم ترى في فكر الرأسمالية غير رميم.

taheromer86@yahoo.com

 

آراء