الخطر الأعظم على بلاد السودان (2): الإسلاميون والجماعات المتطرفة

 


 

 

الواقع، أن الحركة الإسلامية ورغم التقارب والتنسيق الذي حدث سابقاً في تسعينيات القرن الماضي مع الجماعات المتطرفة ورموزها والدول التي ترعاها، ورغم ما بدأ بالظهور مجدداً في شكل تحالفات تحت مسميات مختلفة، مثل التيار الوطني العريض، ونداء أهل السودان وغيرها من المسميات، فهي لا تتطابق بالكامل مع هذه المجموعات المتطرفة في السودان، والتي تنتمي أو تتشابه أفكارها مع الجماعات المتطرفة في المنطقة وداعش على وجه الخصوص؛ فالجماعات المتطرفة المعنية تنظر للحركة الإسلامية ذاتها وللجماعات الإسلامية الأخرى المتطرفة إلى حدٍ ما والمعتدلة إلى حدٍ ما، كمثل الجماعات السلفية وجماعة أنصار السنة بفروعها والإخوان المسلمين وشيوخ الطرق الصوفية وغيرهم، كعدوٍ أول لمشروعهم والذي ينحو للتخلص من هؤلاء ابتداء، ولكن هذه الجماعات تؤثر التحالف المؤقت معهم، وبذات التكتيكات التي تتخذها الحركة الإسلامية مع قيادة الجيش كما أشرنا، من أجل هزيمة مشروع الثورة السودانية الذي بُنى بالكامل على نقيض المشروع الديني للدولة بأشكاله كافة، حيث كانت شعارات مشروع الثورة حداثية وعلمية من الطراز الأول(حرية، سلام، وعدالة) فهي بحسب المصطلح (SMART)، محددة وقابلة للقياس وواقعية وذات مدى زمني للتحقق. وحيث أن الشباب الذي قاد الثورة، يعلم جيداً أن الفرق بين هذه المجموعات هو فرق مقدار لا فرق نوع، وحيث أنها كلها تنتهي للاستبداد الذي يفارق معاني الديمقراطية التي يسعى لها الشباب؛ الديمقراطية التي تستند على القيادة الجماعية بدلاً عن حكم الفرد، والبناء القاعدي الذي يسعى لتوسيع المشاركة الشعبية المحلية عوضاً عن حكم النخب أياً كانت يمينية أو يسارية أو ليبرالية أو وسطية أو وارثة، والرؤية الوطنية في الاستفادة من الموارد في التنمية بدلاً عن استجداء الخارج وانتظار المعونات مع تسليع مقدرات الوطن، وهو المشروع الذي لم تنجح في استيعابه حتى القوى التي مثلت الثورة، أو لنقل، لم تنجح في تحقيقه وفق التصور الذي أراده هؤلاء الشباب!

 

دامس.. تنظيم الدولة في مصر والسودان

في بلاد السودان، يكاد موضوع انتشار الإرهاب والجماعات المتطرفة غائباً عن الأجندة السياسية والأمنية ولا يظهر إلا في إطار التعاون الأمني المحدد بمصلحة سياسية أو بسبب اشتراطات تضعها دول أخرى، الأمر الذي لم يحدث خلال فترة الحكومة الانتقالية أو في ظل الحرب الحالية، بل حدث بصورة أكبر قبل ذلك بسنوات، هذا على الرغم من تكرر الحوادث التي شهدتها الخرطوم ومدينة ود مدني منذ نهايات تسعينيات القرن الماضي وبداية القرن الحالي، مروراً بمقتل الدبلوماسي الأمريكي جون غرانفيل في الخرطوم العام 2008،  وبالأخبار التي راجت عن المؤسسات التعليمية السودانية التي فرَّخت وحشدت وسيرت قوافل من الطلاب والطالبات للالتحاق بهذه الجماعات في بلدان أخرى، وليس اكتفاءً بما كان من مواجهات مع خلايا إرهابية في سبتمبر وأكتوبر من العام 2021، وهي الحوادث التي استمرت لما يقارب الأسبوع ورغم ذلك واجهها الإعلام الشعبي بكثير من التشكيك، ربما لتكرر محاولات الخداع وتزييف الحقائق الذي ارتبط بسيرة العسكر بشكل عام وخلال السنوات الأربع الماضية بشكل خاص، وفي كثير من المناسبات التي من أهم محطاتها فض اعتصام القيادة العامة في الخرطوم (يونيو 2019). لربما ساهم في ذلك أيضاً العقل الجمعي المسالم في السودان خاصة في فترات الاستقرار النسبي، والرافض لوجود مثل هذه الجماعات أو المرعوب من انتشارها وانتشار ضررها كما هو مشهود ومعلوم ومختبر في بلدان قريبة وبعيدة.

ولا يوجد بحسب تقرير لوكالة الأناضول عن هذه الجماعات (رصد حقيقي لوجودهم أو مناطق انتشارهم، وكيفية تشكلهم، إلا أن بعض المهتمين يقسمونهم بحسب مناطق تواجدهم، والتي غالبا ما تظهر للوجود بالترافق مع حادث عنيف، مثل "مجموعة كمبو عشرة"، و"خلية السلمة"، وغيرهما

و"كمبو عشرة" منطقة بالقرب من مدينة مدني وسط السودان، حدثت فيها اشتباكات نهاية عام 1993 بين مجموعة تكفيرية والشرطة، أدت إلى مقتل ما يزيد على 17 من الجماعة) .

لقد أشارت مواقع إخبارية (4 أكتوبر 2021) بأن المخابرات السودانية أفادت بمقتل 4 واعتقال 2 من الإرهابيين بموقع في منطقة جبرة، والقبض على 2 آخرين بموقع ثانٍ في ذات المنطقة، كما "أطلقت المجموعة الإرهابية أعيرة نارية كثيفة في مواجهة القوات السودانية، وتسببت بمقتل ضابط سوداني وإصابة 3 آخرين". وكان قد صدر بيان بتاريخ 28 سبتمبر عن المخابرات العامة السودانية أعلنت من خلاله (في إطار الجهود المبذولة من قبل جهاز المخابرات العامة نحو تأمين واستقرار البلاد وبتنسيق تام مع الأجهزة الأمنية لمحاربة ومكافحة الأنشطة الإرهابية المتطرفة وبناء على توفر معلومات عن خلية تتبع لداعش الإرهابية تم صباح اليوم تنفيذ عملية أمنية للقبض على هذه المجموعة بأحياء جبرة مربعي 18 و14 والأزهري مربع 14) وأضاف البيان أن العملية أسفرت عن القبض على عدد (11) من الإرهابيين الأجانب من جنسيات مختلفة. كما قال البيان (احتسب جهاز المخابرات العامة خمسة شهداء منهم إثنين ضباط وثلاثة ضباط صف وإصابة ضابط بجروح، ومن ثم لاذت المجموعة المكونة من أربعة إرهابيين أجانب من الهروب)!  ولا يعلم أحد حتى الآن إلى أين هربت هذه المجموعة، ومع من تتعاون لكي تتوارى عن الأنظار ويعجز جهاز المخابرات العامة عن الوصول إليها!

ويذكر السودانيون كيف ظهر محمد علي الجزولي الذي نشرت له قوات الدعم السريع مؤخراً تسجيلاً مصوراً أشار فيه إلى أنه كان "منتمياً إلى داعش منذ أبوبكر البغدادي" وأضاف "حتى الآن"!  ولكن الجزولي ظهر في تسجيلات عديدة إبان الثورة، أوضح من خلالها ميوله الواضحة للجماعات المتطرفة، كما لم يتوان قبل الثورة عن إعلان موقفه الموالي لداعش من خلال الصحف والمنتديات والمنابر، حيث كانت الإنقاذ ذات الصبغة الإسلامية في الحكم تدير عنه وجهها وقتما تريد، وتقلب له ظهر المجن في الوقت الذي يناسب سياساتها، وتزج به في السجون والمعتقلات مرات، وتسمح له بالظهور على شاشات التلفزيونات الرسمية بأكثر مما تفعل مع وزراء وولاة.

ويظهر لكل متابع أن قوات الدعم السريع بتسجيلها لهذا الاعتراف للجزولي الذي مهما بدا محتواه متسقاً مع أفكاره ومشروعه، إلا أنه يفتقر لأبسط أسس العدالة والحقوق، حيث ينتقص من مشروعية تسجيله وبثه، وضع الدعم السريع ذاته وموقفه السياسي منه شخصياً ومن عدوها الحالي القوات المسلحة، لا الموقف المبدئي من الإرهاب والجماعات المتطرفة، فهذا النوع من الفعل بخلاف أنه يشي بنوع من الانتقام المباشر منه لهجومه المتكرر على الدعم السريع وقيادته خاصة خلال العام المنصرم، إلا أن الأكثر وضوحاً محاولتها – أي قوات الدعم السريع- إثبات أن قيادة القوات المسلحة تأتمر بأمر الإسلاميين وتنتمي "للكيزان"، وهو وصف يشير للحركة الإسلامية وتفريعاتها المختلفة بالسودان. كما تريد قوات الدعم السريع بالإضافة للتأكيد على ممالأة قادة الجيش للقوى الإسلامية المعتدلة والمتطرفة والتنسيق معها، أن تبعث رسالة واضحة وبهذا الشكل والمضمون ليس للداخل فحسب، وليس من أجل تأكيد الدفاع عن الثورة السودانية - واستعادة الديمقراطية كما يرددون- والتي نجحت في إسقاط إحدى أطول وأسوأ الديكتاتوريات في أفريقيا بقيادة الحركة الإسلامية السودانية، بل الهدف الأبعد والأكثر أولوية هو تأكيد بُعد الدعم السريع عن هذه الجماعات بل واتخاذ مظهر استحكام العداء معها! ولا نطلق الاتهامات جزافاً إذا قلنا إن هذا الأسلوب مأخوذ بالكامل من أساليب نظام البشير في التعامل مع قضايا الأمن القومي من زاوية المصلحة المباشرة واللحظية لا التعامل الاستراتيجي!

وليس بعيداً عن كل ذلك ظهور أعلام وتسيير مظاهرة تحت لافتات لجماعات أقرب للتطرف في نهايات شهر أكتوبر من العام 2022، وتحت سمع وبصر السلطة العسكرية التي كان على رأسها قادة القوات المسلحة والدعم السريع على حد السواء.

 

الجيش، حلم السلطة والبراغماتية الضارة       

ولتأكيد أن قيادة القوات المسلحة ذاتها وعبر تاريخها في السلطة تستوعب هذا التعقيد، بين حلمها بالاستفراد بالسلطة، ومجابهتها ومحاربتها لقوى متعددة تنازعها هذه السلطة بما فيها المجموعات الدينية المتطرفة التي تعتبر مجموعة مثل داعش أخطرها، سنورد هنا عدداً من الشواهد.

أول هذه الشواهد تاريخي وهو أن أي تحالف أو تقارب حدث بين القوى السياسية المدنية والقوات المسلحة مهما اختلفت الأولى في أيدولوجياتها أو مذاهبها الفكرية أو الكيفية التي أتاحت لها الوصول للسلطة، إن كان عبر الانتخابات أو عبر ثورة شعبية، ومهما شعرت بتمكنها من مفاصل القوات المسلحة، ينتهي بها الأمر للمشانق أو السجون أو الطرد من السلطة على أقل تقدير. وبالمقابل يحدث انفراد كامل بالسلطة من قبل القوات المسلحة، مع التقلب في التحالف والعداء مع هؤلاء المدنيين على اختلافهم؛ حدث ذلك من الفريق إبراهيم عبود (1900- 1983) الذي حاز السلطة بتسليم وتسلم في نوفمبر من العام 1958، من رئيس الوزراء عبدالله بك خليل (1892- 1970)، وحدث من النميري (1930-2009) الذي انقلب على السلطة بمساندة من قوى من اليسار في العام مايو 1969، كما حدث من البشير (1944-) بعد تدبير الانقلاب بالكامل من الجبهة الإسلامية في العام يونيو 1989، وحدث مؤخراً بين قوى الحرية والتغيير والفريق البرهان (1960-) بعد قيادة الأولى للثورة في ديسمبر 2018 عبر تظاهرات ومواكب سلمية حتى اقتلاع البشير في أبريل من العام 2019، ومن ثم استيلاء البرهان عليها بالكامل في أكتوبر من العام 2021، وسيحدث هذا لاحقاً مع أي كان ولأي كان وتحت ذرائع عديدة إن عادت الكرة على ذات المنوال ودون استفادة من الدروس!

الشاهد الثاني هو أنه طوال فترات الحكم العسكري في السودان، لم تبقَ القيادات العسكرية على مذهب فكري أو أيديولوجي أو اتجاه سياسي معين، وقد كان الفريق إبراهيم عبود أول البادئين، حيث قال في بيانه الأول(نوفمبر 1958) الذي لم يبدأه بالبسملة بل بدأ بالقول: أيها المواطنون أحييكم اليوم أطيب تحية، وأردف بعد التحية قائلاً: كلكم يعلم ويعرف تماماً ما وصلت إليه البلاد من سوء وفوضى وعدم استقرار للفرد وللمجموعة، وختم بيانه بعد جولة واسعة في اللفظ والمعني لتبيان سوء الأحزاب والقوى السياسية ومحاولات انفرادها بالسلطة، بجملة قرارات حل بموجبها الأحزاب السياسية وأوقف الصحف ومنع التجمعات والمظاهرات!  ومعلوم أن نظام عبود بدأ من حيث انتهت آخر حكومة ديمقراطية قبل انقلابه، كرجل مهموم بحال الوطن وأمنه واستقراره، ولكنه انتهى لديكتاتور تمت تنحيته بقوة الثورة الشعبية في أكتوبر 1964، ليس ذلك فحسب، ولكنه انتهى كمتهم بالضلوع في جرائم لم ترد كثيراً في المصادر التي تحدثت عن هذه الفترة، بل ركزت تلك المصادر على قضايا أخرى مقيمة في مركزية الفكر النخبوي الغردوني،  بأكثر من القضايا ذات الطابع الحقوقي والإنساني لشعوب السودان بحدوده المعلومة في ذاك الوقت خاصة في الأطراف شمالاً وجنوباً، فبالإضافة لتهجير أهالي وادي حلفا وإغراق آثار النوبة(1963)، فقد أشار الدكتور ماوت جواراك (Mawut Acheicque Guarak) في كتابه (Integration and Fragmentation of the Sudan) إلى أن نظام إبراهيم عبود ضالع خلال فترة حكمه في قتل الآلاف من مواطني جنوب السودان بحيث لم يفُقه في المجازر والقتل إلا البشير!

وتشير مصادر عديدة إلى أن عبود عمد في علاقاته الخارجية بعد استيلائه على السلطة لسياسة جديدة، حيث أنه اعترف بالصين الشعبية وحافظ على علاقاته مع الولايات المتحدة الأمريكية في آن واحد وفي مفارقة عجيبة، ورغم ذلك فقد انتهى لمشروع الأسلمة القسرية لجنوب السودان ومحاولة تعريبه، وهو النهج الذي اتبعه فيه نظام الإنقاذ وبشكل أسوأ وعلى نطاقات أخرى بخلاف جنوب السودان، كما وقَّع اتفاقية تقاسم مياه نهر النيل(1959) والتي لا تزال الدولة السودانية تعاني من آثارها حتى يوم الناس هذا، علاوة على أنه قدم أسوأ تجربة في حماية المقدرات الوطنية بإغراق وادي حلفا وتهجير أهلها مقابل لا شيء، وقد كان عهده ضربة البداية لملاحقة الحكومات الوطنية للسياسيين وقمعهم، وبداية لنهج تكرر لاحقاً من جميع الحكومات العسكرية في امتهان القوى الحزبية وازدراء الديمقراطية بدعوى أنها تؤدي للفوضى، كما إنه أول حاكم وطني عطل الدستور الديمقراطي وحل البرلمان الديمقراطي وسنّ إيقاف الصحف ومنع التجمعات والتظاهرات!

 

baragnz@gmail.com

 

آراء