حرب السودان انتهت.. ولم تنتهي مهام الانتقال الديمقراطي (1/5)
علاء الدين أبومدين
26 June, 2023
26 June, 2023
مقدمة
بينما تنعم كل ولايات السودان بانتفاء أو انتهاء المعارك العسكرية، باستثناء ما يجري في ولاية الخرطوم وأحداث عنف أخرى في كل من دارفور وكردفان، تُمثل أنماط أفعال وممارسات اعتادت قوات الدعم السريع (الجنجويد) على ارتكابها بشكل متكرر في إقليم دارفور.. حيث تبرز المظاهر الأساسية لتلك الأفعال والممارسات في سياسة الأرض المحروقة وأعمال النهب الواسعة واستخدام الاغتصاب كسلاح والمدنيين كدروع بشرية وأعمال القتل الواسعة على أساس الهوية.. إلخ. ثم تمددت تلك الأفعال والممارسات بدرجةٍ أو بأخرى إلى ولاية الخرطوم وولايات أخرى، مما كان له عظيم الأثر في نفور الجماهير السودانية عن قوات الدعم السريع. فلم يتبقى للدعم السريع سوى شراء ضعاف النفوس والفقراء والحالمين بالثروات عبر توزيع الوظائف والأموال. وهي الأموال التي ظل الدعم السريع يُراكمها، أولاُ، من مصدر مناجم الذهب؛ وثانياً، من مصدر تأجير قواته كمرتزقة في حرب اليمن. وكان نظام عمر البشير الإسلاموي قد أنشأ قوات الجنجويد جراء مخاوفه من انقلاب الجيش السوداني عليه.. وتُعبِّر تلك الأفعال والممارسات لدى الجنجويد، بما في ذلك بذل المال لكسب الولاء، عن طبيعة ثقافة الجنجويد البدوية التي تقوم عملية مراكمة الثروة فيها أساساً على زيادة عدد ماشيتها خاصة من الإبل والأبقار؛ بالإضافة إلى مراكمة أخرى مؤقتة للثروة عبر أعمال الإغارة والغنيمة التي ميزت جميع المجتمعات البدوية بغض النظر عن موقعها على الخريطة الدولية.. كما يتحدد وزن الزعيم القبلي البدوي فيها على أساس ما يملكه من مال وحلال وكذلك من قدرته كفارس على الدفاع عن المال والحلال وأيضاً جلب المزيد منه ولو عبر تجهيز الفرسان.. ومؤدى ذلك أعمال عنف تتفاقم وتتغذى من/ أو بسبب التغيرات المناخية وما تخلفه من جفاف وتصحر وفقر في الموارد الطبيعية التي يقوم عليها اقتصاد القبائل البدوية.. لذلك ظلت كل أو بعض ممارسات السلب والنهب والاغتصاب والتطهير العرقي، فصول عنف تختلف درجة حدتها ودرجة تتابع حدوثها، حسب ظروف القبيلة البدوية وظروف بيئتها الطبيعية؛ لكنها ظلت ملازمة لبدو الجنجويد المسلحين في كل أرضٍ وطأتها أقدامهم عقب ظروف جفافٍ وفقرٍ مُتطاولة. بينما تمثل جميع تلك الأفعال والممارسات جرائم حرب كبيرة حسب تطور القانون الدولي.. رغم كل ذلك، نستطيع أن نقول بكل ثقة أن المعركة الكُبرى والأكثر خطورة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في ولاية الخرطوم قد انتهت بانتصار كبير وحاسم للجيش السوداني ما لم تتدخل قوى أو/ قوة عُظمى بشكل كبير لصالح قوات الدعم السريع، بما يعنيه ذلك من سعي واستدعاء الجيش السوداني لقوى أو/ قوة عُظمى أخرى لتدعمه.. مما يتسبب في إطالة أمد الحرب، بل تحول السودان لساحة جديدة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية في ظل ظروف تشكُل النظام الدولي الجديد، جراء تواتر وتراكب عمليات الاصطفاف وإعادة الاصطفاف والتموضع وإعادة التموضع إقليمياً أو دولياً؛ من أجل وضعية أفضل للدول الطموحة في إطار النظام الدولي الجديد الآخذ في التشكُّل، والذي سوف يكون أفضل من الأنظمة الدولية التي سبقته بسبب التطور العظيم في الوعي الإنساني وبروز عامل سهولة الوصولية Accessibility للمعلومات، وبالتالي سوف ينشأ نظام دولي جديد بعدد قليل للغاية من الضحايا؛ مقارنة بضحايا تكوين النظامين الدوليين السابقين عقب الحربين العالميتين الأولى والثانية.. ولعل أسوأ سيناريو يُمكن أن يحدث للسودان هو أن تتفق القوى العظمى على استطالة أمد الحرب بالسودان لأجل إنهاكه، بحسبان أن التعامل مع عدة سودانات قد يكون أكثر سهولة.. وهذا أمر لا أمل من تكرار أنه يُمكن للسودانيين تجنبه بإبرام صفقات تاريخية صلدة ومستدامة من أهم شروط نجاحها حدوث توافق وطني سوداني عريض..
في الواقع، أنني مقتنعٌ تماماً – حسب قراءتي لوقائع الأحوال ومآلاتها الطبيعية – أن الدعم السريع ومن بعده الجيش السوداني، قد أبرما (فعلاً) عقود تحالفات ضمن صفقات مع بعض أطراف القوى الدولية، وإن لم ينشرا ذلك حتى الآن لمصلحة هامش مناورة الأطراف المتحالفة في خضم ظروف تشكُّل نظام دولي جديد.. لكن، ضمن ظروف عدم التوافق الوطني السوداني الحالي، لا يُمكن وصف تلك التحالفات والصفقات المُبرمة بأنها جرت في إطار صفقة أو/ صفقات تاريخية قابلة للعيش والنمو.. وأكبر دليل على هشاشتها وعدم تاريخيتها، أنه في سياق الحرب الجارية قد حدث تدهور كبير في سمعة قوات الدعم السريع جراء أفعال وممارسات منسوبيها التي اعتادوا عليها في مجتمعاتهم، الأمر الذي دفع وسوف يدفع بقوى دولية وإقليمية كبيرة للنأي بنفسها عن الدعم السريع... لكن المهم في الأمر أن قوى سياسية سودانية عديدة سوف تسعى إلى التبرؤ من أفعال وممارسات الدعم السريع وانقلاب القصر وعموم الممارسات الجنجكوزية، كما سوف يُصبح جزء كبير من تلك القوى السياسية أكثر وعياً وقابلية لتفهم طبيعة علاقات المصالح بين الدول وكذلك دور التوافق الوطني العريض في تعظيم مجمل المكاسب الوطنية..
ولا يفوتني هنا تقديم تعريف مختصر لمصطلح (الجنجوكوز العملاء): فالجنجوكوز العملاء يمثلون الجنجويد الذين هم القوة الرئيسية في الدعم السريع بالإضافة لقيادات إسلاموية شاركت في تأسيسه وأخرى انضمت له لاحقاً ومنهم بعض جماعة بوكو حرام، وكذلك العملاء من السودانيين الذين يتعاملون مع الأجانب بقصد الإضرار بالسودان وشعبه، وبالطبع مؤيدي تلك القوات سيئة السمعة لسبب أو لآخر.. ولربما من سوء حظ السودان أو/ حسن حظه أن ثورته قد حدثت ضمن ظروف نشوء وتشكُّل النظام الدولي الجديد، مما وفر مجالاً واسعاً للصفقات التاريخية بشرط توافر توافق وطني سوداني غالب، كما أسلفت.. ذلك أن الصفقات التاريخية تكون مُتوفرة بصورة أكبر وضمن شروط أفضل في ظروف التحولات التاريخية الكبرى في تاريخ الإنسانية، لكن نجاحها على الصعيد الوطني يظل رهيناً لتوافق الغالبية العظمى من القوى السياسية وجزء مقدر من بين أنشط النشطاء السياسيين الذين يعملون خلف واجهات العمل المدني المستقل.. خاصة، وقد شهدنا دور أولئك النشطاء والمستقلين، ليس فقط في منح د. عبد الله حمدوك، منصب رئيس الوزراء السوداني في أول حكومة بعد السقوط الجزئي لنظام البشير الإسلاموي بسبب ثورة ديسمبر 2018 المستمرة؛ بل أيضاً في تقرير التوجهات السياسية والاقتصادية للحكومة الانتقالية.. أواصل.
abumedian123@gmail.com
بينما تنعم كل ولايات السودان بانتفاء أو انتهاء المعارك العسكرية، باستثناء ما يجري في ولاية الخرطوم وأحداث عنف أخرى في كل من دارفور وكردفان، تُمثل أنماط أفعال وممارسات اعتادت قوات الدعم السريع (الجنجويد) على ارتكابها بشكل متكرر في إقليم دارفور.. حيث تبرز المظاهر الأساسية لتلك الأفعال والممارسات في سياسة الأرض المحروقة وأعمال النهب الواسعة واستخدام الاغتصاب كسلاح والمدنيين كدروع بشرية وأعمال القتل الواسعة على أساس الهوية.. إلخ. ثم تمددت تلك الأفعال والممارسات بدرجةٍ أو بأخرى إلى ولاية الخرطوم وولايات أخرى، مما كان له عظيم الأثر في نفور الجماهير السودانية عن قوات الدعم السريع. فلم يتبقى للدعم السريع سوى شراء ضعاف النفوس والفقراء والحالمين بالثروات عبر توزيع الوظائف والأموال. وهي الأموال التي ظل الدعم السريع يُراكمها، أولاُ، من مصدر مناجم الذهب؛ وثانياً، من مصدر تأجير قواته كمرتزقة في حرب اليمن. وكان نظام عمر البشير الإسلاموي قد أنشأ قوات الجنجويد جراء مخاوفه من انقلاب الجيش السوداني عليه.. وتُعبِّر تلك الأفعال والممارسات لدى الجنجويد، بما في ذلك بذل المال لكسب الولاء، عن طبيعة ثقافة الجنجويد البدوية التي تقوم عملية مراكمة الثروة فيها أساساً على زيادة عدد ماشيتها خاصة من الإبل والأبقار؛ بالإضافة إلى مراكمة أخرى مؤقتة للثروة عبر أعمال الإغارة والغنيمة التي ميزت جميع المجتمعات البدوية بغض النظر عن موقعها على الخريطة الدولية.. كما يتحدد وزن الزعيم القبلي البدوي فيها على أساس ما يملكه من مال وحلال وكذلك من قدرته كفارس على الدفاع عن المال والحلال وأيضاً جلب المزيد منه ولو عبر تجهيز الفرسان.. ومؤدى ذلك أعمال عنف تتفاقم وتتغذى من/ أو بسبب التغيرات المناخية وما تخلفه من جفاف وتصحر وفقر في الموارد الطبيعية التي يقوم عليها اقتصاد القبائل البدوية.. لذلك ظلت كل أو بعض ممارسات السلب والنهب والاغتصاب والتطهير العرقي، فصول عنف تختلف درجة حدتها ودرجة تتابع حدوثها، حسب ظروف القبيلة البدوية وظروف بيئتها الطبيعية؛ لكنها ظلت ملازمة لبدو الجنجويد المسلحين في كل أرضٍ وطأتها أقدامهم عقب ظروف جفافٍ وفقرٍ مُتطاولة. بينما تمثل جميع تلك الأفعال والممارسات جرائم حرب كبيرة حسب تطور القانون الدولي.. رغم كل ذلك، نستطيع أن نقول بكل ثقة أن المعركة الكُبرى والأكثر خطورة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في ولاية الخرطوم قد انتهت بانتصار كبير وحاسم للجيش السوداني ما لم تتدخل قوى أو/ قوة عُظمى بشكل كبير لصالح قوات الدعم السريع، بما يعنيه ذلك من سعي واستدعاء الجيش السوداني لقوى أو/ قوة عُظمى أخرى لتدعمه.. مما يتسبب في إطالة أمد الحرب، بل تحول السودان لساحة جديدة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية في ظل ظروف تشكُل النظام الدولي الجديد، جراء تواتر وتراكب عمليات الاصطفاف وإعادة الاصطفاف والتموضع وإعادة التموضع إقليمياً أو دولياً؛ من أجل وضعية أفضل للدول الطموحة في إطار النظام الدولي الجديد الآخذ في التشكُّل، والذي سوف يكون أفضل من الأنظمة الدولية التي سبقته بسبب التطور العظيم في الوعي الإنساني وبروز عامل سهولة الوصولية Accessibility للمعلومات، وبالتالي سوف ينشأ نظام دولي جديد بعدد قليل للغاية من الضحايا؛ مقارنة بضحايا تكوين النظامين الدوليين السابقين عقب الحربين العالميتين الأولى والثانية.. ولعل أسوأ سيناريو يُمكن أن يحدث للسودان هو أن تتفق القوى العظمى على استطالة أمد الحرب بالسودان لأجل إنهاكه، بحسبان أن التعامل مع عدة سودانات قد يكون أكثر سهولة.. وهذا أمر لا أمل من تكرار أنه يُمكن للسودانيين تجنبه بإبرام صفقات تاريخية صلدة ومستدامة من أهم شروط نجاحها حدوث توافق وطني سوداني عريض..
في الواقع، أنني مقتنعٌ تماماً – حسب قراءتي لوقائع الأحوال ومآلاتها الطبيعية – أن الدعم السريع ومن بعده الجيش السوداني، قد أبرما (فعلاً) عقود تحالفات ضمن صفقات مع بعض أطراف القوى الدولية، وإن لم ينشرا ذلك حتى الآن لمصلحة هامش مناورة الأطراف المتحالفة في خضم ظروف تشكُّل نظام دولي جديد.. لكن، ضمن ظروف عدم التوافق الوطني السوداني الحالي، لا يُمكن وصف تلك التحالفات والصفقات المُبرمة بأنها جرت في إطار صفقة أو/ صفقات تاريخية قابلة للعيش والنمو.. وأكبر دليل على هشاشتها وعدم تاريخيتها، أنه في سياق الحرب الجارية قد حدث تدهور كبير في سمعة قوات الدعم السريع جراء أفعال وممارسات منسوبيها التي اعتادوا عليها في مجتمعاتهم، الأمر الذي دفع وسوف يدفع بقوى دولية وإقليمية كبيرة للنأي بنفسها عن الدعم السريع... لكن المهم في الأمر أن قوى سياسية سودانية عديدة سوف تسعى إلى التبرؤ من أفعال وممارسات الدعم السريع وانقلاب القصر وعموم الممارسات الجنجكوزية، كما سوف يُصبح جزء كبير من تلك القوى السياسية أكثر وعياً وقابلية لتفهم طبيعة علاقات المصالح بين الدول وكذلك دور التوافق الوطني العريض في تعظيم مجمل المكاسب الوطنية..
ولا يفوتني هنا تقديم تعريف مختصر لمصطلح (الجنجوكوز العملاء): فالجنجوكوز العملاء يمثلون الجنجويد الذين هم القوة الرئيسية في الدعم السريع بالإضافة لقيادات إسلاموية شاركت في تأسيسه وأخرى انضمت له لاحقاً ومنهم بعض جماعة بوكو حرام، وكذلك العملاء من السودانيين الذين يتعاملون مع الأجانب بقصد الإضرار بالسودان وشعبه، وبالطبع مؤيدي تلك القوات سيئة السمعة لسبب أو لآخر.. ولربما من سوء حظ السودان أو/ حسن حظه أن ثورته قد حدثت ضمن ظروف نشوء وتشكُّل النظام الدولي الجديد، مما وفر مجالاً واسعاً للصفقات التاريخية بشرط توافر توافق وطني سوداني غالب، كما أسلفت.. ذلك أن الصفقات التاريخية تكون مُتوفرة بصورة أكبر وضمن شروط أفضل في ظروف التحولات التاريخية الكبرى في تاريخ الإنسانية، لكن نجاحها على الصعيد الوطني يظل رهيناً لتوافق الغالبية العظمى من القوى السياسية وجزء مقدر من بين أنشط النشطاء السياسيين الذين يعملون خلف واجهات العمل المدني المستقل.. خاصة، وقد شهدنا دور أولئك النشطاء والمستقلين، ليس فقط في منح د. عبد الله حمدوك، منصب رئيس الوزراء السوداني في أول حكومة بعد السقوط الجزئي لنظام البشير الإسلاموي بسبب ثورة ديسمبر 2018 المستمرة؛ بل أيضاً في تقرير التوجهات السياسية والاقتصادية للحكومة الانتقالية.. أواصل.
abumedian123@gmail.com