الجِّنسً البَشَرِيُّ ليسَ بَعدَ حُرَّاً
رئيس التحرير: طارق الجزولي
30 June, 2023
30 June, 2023
الجِّنسً البَشَرِيُّ ليسَ بَعدَ حُرَّاً
بقلم: بين أوكريBen Okri
ترجمة: إبراهيم جعفر
إهداء الكاتب: إلى سلمان رُشدي
1
إنَّ أسوأ حقائق عصرنا هذا حقائقٌ مُصنُوعة. عليه مهمَّتنا، كمشاركين خلَّاقين في هذا الكون، كائنةً في سعينا على سبيلِ مُعافاةِ هذا العالم. وحقيقةُ أنَّنَا على امتلاكٍ للخيال تعني أنَّ كُلَّ شيءٍ في هذا العالم بِوُسْعِهِ أن يُعَافَىْ. كُلُّ حقيقةٍ، أو واقعةٍ، في إمكانِها الانطواء- ضِمنِيَّاً- على إمكاناتٍ بديلةٍ لها. إنَّ الكائنات الإنسانيَّة مُبارَكَةٌ بضرورةِ التَّحَوُّلْ.
2
الكُتَّابُ هُم ميكانيزماتِ حُلُمِ الجِّنسِ البَشَرِيِّ والسَّردُ يُؤثِّرُ فِينا على ذاتِ النَّحوِ الذي تُؤَثِّرُ فِينا وِفْقَهُ الأحلام. والسَّردُ والأحلام مُتَّسِمَان، معاً، بذاتِ السِّمتِ الحُلُمِيِّ المُتَجَاوِزْ. إنَّهُمَا، معاً، يمتلكان القُدرة على تبديل الواقع وحقائقِهِ الماثلة. والأحلامُ قد تَكُن، على ذَاكَ السَّبيل، أوفرَ حُرِّيَّةً من السَّرد، سَيَّمَا وأنَّها ليست مُرَكَّبَةً من الكلمات. لكنَّهُ آنَ ما يَلِجُنَا السَّردُ القَصَصِيُّ التَّخيِيلِيُّ لا يَعُدْ ذاكَ السَّردُ موجُودَاً، في ما بيننا، على هيئةِ كلماتٍ، فَحَسْبْ.
3
بِوُسْعِنَا التَّحكُّم في رواياتنا ومختلف شكول سَردِنَا إلى حدٍّ ما، غير أنَّه ليس بإمكاننا التَّحكُّم في الآثار التي قد تترتَّب عليها في العالم. ثُمَّ إنَّنَا ليس بِوُسْعِنَا التَّحُّكم التَّام في أحلامنا. وأحياناً قد نحلُم، آناءَ اللَّيل، بأشياءٍ زِندِيقَةٍ وفاضحةٍ، باغتيالاتٍ ودمارٍ وتحوُّلاتْ. وفي أحيانٍ أخرى قد نحلُم حتَّى بأنفسنا وهي مُوغِلَةً في جُواءِ حقائقنَا الأعمق ومصائرنا التي قد تبدو لنا، آنذاك، غيرَ منظورةِ التَّحقُّق العِيانِي البَيَانِيْ.
4
ليست هنالك طريقةٌ واحدةٌ، فحسبْ، لتفسير الأحلام مقبُولةً لكُلِّ الكائنات الإنسانيَّةْ. إنَّ كاتبَاً ما أو آخر قد يُبدِعُ كِتاباً واحداً يصيرُ مائةً من الكُتُبِ المختلفة في أذهانِ وواعياتِ من يقرؤونهُ ولبعضِ أولئكَ قد يغدُو ذاكَ الكتاب الواحد سبيلاً للضُّوءِ، كَشفَاً، فِعلَ تحرير فيما هو قد يُرَىْ، مِن قِبَلِ آخرينَ منهُم، مثل وحشٍ شائن الخلقة والخُلقْ.
5
أحيانَاً نحلُمُ بأشياءٍ غريبةٍ تجعلنا نتساءل، مُتَعَجِّبِيْنْ، عمَّا إن تكن هنالك نفسٌ هَدَّامةٌ باطنةٌ فينا- روحٌ غيرَ مسؤولة ولعوبة ومشاغبة وماكرة بداخلنا- تبتهجُ بأن تُبدِي لنا كم هي زائفةً الأشكالُ والحدود والقواعد التي تسيرُ وفقها حياتُنا. تلك النَّفس الباطنة الهَدَّامة، المبتسمة بشقاوة، تبدُو مُتَعَمِّدَةً إظهارَ كونِنَا ليس بِمُسْتَطَاعِنَا أن نفلت من عواقب تقييد حرِّيَّتِنَا والطَّبيعة المُسْتَسِرَّة للكائنات الإنسانيَّةْ.
6
قد يكن الحال أحيانَاً أنَّ أحلامنا تزعجنا وتُشعِرُنا بالاستياءِ إلى حدِّ أنَّنا نبتغي لجم حريَّة مَلَكَةِ الحُلُم الإبليسيَّةِ تِلكْ. وقد تكن تلك المَلَكَةُ تنبؤنا حينذاكَ بشيءٍ عن أنفسنا أكثرَ صدقَاً من أن تتحمَّلَهُ تلكَ الأنفس. غير أنَّهُ كُلَّمَا أوغلنا في رفض الإصغاء إليها تغدُو مَلَكةُ الحُلُمِ الإبليسيَّةُ تِلك أكثرَ عصيانَاً وتمرُّدَاً علينا.
إنَّ الأشياء التي نرفض مواجهتها في الحياة تُطعِمُ شهيَّة مَلَكَةِ الحُلمِ الجُّوَّانيَّةِ تِلك، الخطرة المُنبئَة، أو قد تكن هي المُنذِرَة، بالأحرى، بالحقيقة ومن ثَمَّ تُمسي تلك الأشياء، والحالُ كذلكَ، وحوشَاً في آناتِ منامنا.
7
ولئن تكن الأشياء التي نواجهها في الحياةِ أكثرَ عِظَمَاً وأهمِّيَّةً من تِلك الأشياء التي قد نرفض مواجهتها في الحياة سنكن، حينذاك، على الأقل، قد شرعنا في إعادة تقييم عالمنا؛ سنكن حينذاكَ، على الأقل، قد بدأنا تَعَلُّمَ أن نَرَىْ ونحيَا، مرَّةً أُخرَىْ.
غيرَ أنَّنَا عندما نرفض مواجهة أيٍّ من حقائقنا الأعمق والأكثرَ إرباكَاً لنا سنصيرُ، عاجلاً أو آجلاً، صًمَّاً وعُميَانَا. وحينذاكَ سنُمضِي، في غايةِ الأمر، إلى حيثٍ قد يتوجَّبُ وعلينَا عِنْدَهُ إسكاتَ أصواتِ أحلامِنَا، كما أصوات أحلام الآخرين أيضَاً. بعبارةٍ أخرى، سنمُوتُ حينذاكْ؛ سنموتُ في، وقبل، انتهاء الحياةْ.
8
وعندما نموت قبل انتهاء الحياة يغدو من اليسير جداً علينا رؤية الآخرين وهم يموتون أيضاً، قبل انتهاء الحياة؛ يغدو من اليسير جداً علينا حينذاك اغتيال أحلام الآخرين، تسميم دفق حيواتهم، تسميم براءتهم، تسميم حبهم. وآنَ ما نكن أموات آناءَ الحياة لا يًعُدْ بِوُسْعِنَا التَّنَبُّه حينما تموت المعجزات الصغيرة حولنا وقُبَالَةَ تحديقنا المَوَاتْ.
9
هنالك عدة طرق للموت وليست كلها ذات صلة بفناء الجسد والنفس الحسيين في آخرِ هذه الحياة وإنما العديد منها على صلة بهذه الحياة، بعيشِ أكاذيبٍ كثيرةٍ في هذه الحياة، بالعيشِ دونَ طرحِ أسئلة، بعيشِ الإنسان الفرد، رجلاً كان أم امرأة، في كهفِ تَحَيُّزَاتِهِ، أو تَحيُّزَاتِهَا، الخاصَّة، بعيشِ الإنسان الفرد، رجلاً كان أم امرأة، حياةً مفروضةً عليه، أو عليها، بعيش الإنسان الفرد، رجلاً كان أم امرأة، بِكُلِّيَّتِهِ، أو كُلِّيَّتِهَا، في مجالي أحلام ورموز أسلافه، أو أسلافها.
10
إنَّ حقيقةَ ما قد يرتكبه كائنٌ بشريٌّ ما أو آخر من أفعالٍ بحقِّ كائنٍ بشريٍّ ما أو آخرٍ، أو كائناتٍ بشريَّةٍ ما أو أخرى، حقيقةٌ ملغُومَةٌ ومن ثَمَّ هي قابلةٌ للانفجار. والمحتويات السِّرِّيَّة لحيواتنا، كبشر، قد تنطوي على ما يُرعبْ. هنالك الكثيرُ ممَّا قد يدفعنا إلى رَفعِ الصَّوتِ أو الصِّياح بشأنِهِ. هنالك أكاذيبٌ كبيرةٌ قد تصبِغُ زماننا هذا بالتَّلَوُّث ووحوشٌ جاريةٌ عِند قعر بحر قرننا هذا. إنَّ النَّهرَ بداخلنا قد أضحى أكثرَ تَجَمُّدَاً ممَّا قد كان هو عليهِ أبدَاً من قبل. إنَّنَا مُحتاجُونَ الآنَ لأكثرِ بكثيرٍ من "فأسِ كافكا" مضرب الأمثال حتَّى نُقَصِّفُ ثَلجَ ذاكَ التَّجَمُّد ومِن ثَمَّ نُمَكِّنُ دمَ الإنسانيَّة المُجَمَّد من التَّدَفُّقِ، كَرَّةً أُخرَىْ.
إنَّنَا، بعبارةٍ واحدةٍ، مُحتاجُونَ- الآنَ- إلى شيءٍ يُوقِظُنَا من أعماقِ سُباتِنَا الأخلاقي.
11
تُنْشِئُ عِندي كلمة "أرثوذوكسي" عالمَاً فيه النَّاسُ قد وصلُوا إلى المحطَّةِ الأخيرةِ للكيفيَّةِ التي هم بها يُعرِّفُون أنفسهم.
12
في العالمِ الصَّامتِ، هُنالِكَ عِندَ الظِّلِّ، دومَاً أُناسٌ يحلُمُونَ بتبديلِ صُورةِ العالمِ الزَّمكَانِيِّ الذي نحيا نحنُ الآنَ عِنْدَهُ، وفِيهِ.
13
لم تعد هنالك أيُّ تُخُومٍ فيما بين الخيال والعالم.
14
حقائقُ العالم قد تكُن، أحياناً، أكثر خياليَّةً من مُنشئَاتِ خيالِنَا.
15
لئن يكن الواقع أيضاً معركةُ أحلامٍ مُتنافسةٍ سينبغي، والحال كذلك، على إنشاءاتنا، صمتنا وحُبِّنَا الأسمى خوضَ الكفاح عِندَ ساحتِهِ.
16
نحنُ نحيا في جُواءِ أحلامِ الآخرين. وقد نُسجُنُ في تلك الأحلامْ.
17
المنفى هربٌ من حُلُمٍ إلى حُلُمٍ آخرْ. وآناءَ تِلك الصَّيرورة نحنُ نتبدَّل، نتناسخ ولا تَقِرُّ هيئاتنا الجَّديدة، أبدَاً، على أيِّ مُسْتَقَرٍّ لها.
18
العيشُ تناسُخٌ مُستمر. وكُلُّ شيءٍ تَغَيُّرٌ؛ كُلُّ شيءٍ نِسبِيْ.
19
عندما نحيا مع أرثوذوكسيَّاتٍ طاغيةٍ تُضحي الانفجاراتُ بداخلنا أعظم. حينذاكَ تنفجرُ أحلامُنا على ضفافِ ما هو سائدٌ أو مقبولْ.
20
بقدرِ شدَّةِ استحكام النِّظامِ المرئيِّ للأشياء تكُن شِدَّةُ زخمِ الاضطراب اللامرئي.
21
لا يمكن أن تكن هنالك مُطْلَقَات: لا مُطلَقَ خيرٍ أو شرٍّ هناك؛ ليست هنالك طريقةٌ واحدةٌ مُطلقَةٌ للعيشْ. ليست هنالك حقيقةٌ واحدةٌ مُطلقةْ. كُلُّ الحقائق تُوصَلُ إلينا بوساطة حقيقة العيش. البقاءُ حيَّاً يُقيِّدُ كُلَّ الأشياءْ.
22
رُبَّما ذلك هو السَّبب في أنَّ اليونانيين والمصريين والأفارقة القدماء والهنود لديهم تلك الكثرة من الآلهة فكُلٌّ من الآلهةِ إيَّاهَا يُشكِّلُ تجريدَاً لصفاتنا المختلفة وأنفسنا المختلفة التي هي بحاجةٍ إلى أن يُعترَفَ بها وان يُعْتَنَىْ بها في انسجامٍ مع الكُلِّيَّةِ الإنسانيَّةِ فينَا. ينبغي علينا أن نقبل أنفسنا المختلفة ونفسنا الواحدة. نحنُ نحتاجُ إلى أن نُوَحِّدَ أنفسنا المنقسمة فينا لذا يجب أن يُتاحَ لأنفسنا المختلفة تلك حقُّ التَّنَفُّسِ والعافية؛ ينبغي أن يُتاحَ ذلك لِمَلَكَةِ الحُلُمِ فينا، لطَرَفِ النَّفْسِ مِنَّا الذي يحيا تحتَ تَيَّارِ النَّسَيَان، لحاجةِ الجَّسَدِ مِنَّا للاحتفال والنَّشوة، لحاجةِ النَّفسِ مِنَّا للعمل، لما هو إلهِيٌّ فينا- ذاكَ الذي يصبُو في هدوءٍ إلى التَّوَحُّدِ الأسمَىْ، لما هو شَبَقِيٌّ فينا وتائقٌ إلى تجريبِ البهجة الخالدة لما هو فان.
غَيرَ أنَّنَا عندما تأتِنَا أيُّ أيدولوجيَّةٍ أرثوذوكسيَّة وتُحاولُ أن تقمعَ أَيَّاً من تِلكَ الحاجاتِ أو الأُلُوهَةِ فينا ستعصِفُ الأحلامُ المُتمرِّدَة فينا بقيدِ القمعِ ذاكَ وتُزْعِجُ نومَ الأرثوذوكسيَّةِ العتيقةِ الوطيدَ في البلادْ.
23
أيُّ أملٍ هناك للحقيقة الفردية أو الأصالة حينما قوى العنف والأرثوذوكسية، تلك القوى المستحوذة على الأسلحة والقنابل والرأي العام المُسْتَغَل، تجعل في حكم المستحيل لنا أن نكن كائنات إنسانيَّة أصيلة ومُحقِّقَة لذواتِهَا؟
الأملُ الوحيدُ هنا كائنٌ في خلقِ قيمٍ بديلة، حقائق بديلة. الأملُ الوحيدُ هنا كائنٌ في اجتراء كُلِّ فردٍ مِنَّا على إعادةِ حُلْمِهِ بمكانهِ في هذا العالم- ذلكُم فعلُ خيالٍ جميلٍ وفعلُ صيرورةٍ ذاتيَّةٍ مُستَدَام ومُتماسِكْ. ذلك يعني، بعبارةٍ أخرى، أنَّنَا هنا، بطريقةٍ ما أو أُخرَىْ، نخرقُ ونزعزِعُ التِّخُومَ المقبُولة- التِّخُوم المُحدَّدَة سَلَفَاً وقَهرَاً- للأشياءْ.
24
الخيارُ الآخرُ هنا هو خيارُ المُضِيِّ على سبيلِ هجرةٍ تكامُلِيَّة، خيارُ أن يصير الإنسان الفرد مِنَّا منفيَّاً في دواخلِ النَّفس حيثُ قد يقبل ما هو عليهِ، يتغيَّر على نحوٍ ما أو آخر، أو حتَّى يُجَنْ. هنا يحيا الإنسان الفرد حياتين، يغدو إنسانين ومن ثَمَّ هو قد ينزاح، حينذاكَ، عن مكانِهِ الأصليِّ في هذا العالم أو حتَّى هو آنذاكَ قد ينفجر بجِماعِ ما هو في جُوائِهِ فتغدو حينذاكَ نفسُهُ ("أنفُسُهُ") السِّرِّيَّة أكثرَ حقيقيَّةً من نَفِسِهِ ("أنفُسِهِ") البَرَّانِيَّةْ.
25
الانتساخُ هو الشَّرطُ الجَّوهرِيُّ لأيِّ وضعيَّةٍ ما أو أخرى من وضعيَّاتِ مُختَلَفِ الشُّؤون. إنَّهُ الحقيقَةُ الصَّحيحةُ آنَ صيرُورتِهَا جَلِيَّةْ. إنَّ جوهر الأشياء أو النَّاس أكثرَ حقيقِيَّةً من شِكُولِها المرئيَّةْ. وفي حالِ الانتساخ تطغى الحقيقة الجَّوهريَّة على وهم الحقيقة البَرَّانِي فكما أنتَ كائنٌ في الحقِّ أنتَ تكون، وكما أنتِ كائنةٌ في الحقِّ أَنتِ تكُونينْ. وفي حالةِ الافتقار إلى الحساسيَّة يغدو الإنسان الفرد، امرأةً كان أم رجلاً، مثل الخِرتيت. وهنالك شيءٌ آخرٌ جديرٌ بالاعتبار مُتَّصِلٌ بما نحنُ بِصدَدِهِ هنا وهو أنَّ أُسَّ الانتساخ هو، في الأصل، أُسٌّ بسيطٌ إذ هو قد ينطوي إمَّا على اضِّطرامِ قلقٍ أو على انتشاءْ.
26
في عالمٍ كعالمنا هذا، عالمٌ يُجفِّفُهُ الموتُ والمَوات كثيراً من المعنى، تكمُنُ الأصالةُ الفرديَّةُ في ما قد نستطيع أن نَجِدْهُ مُستَحِقَّاً للحياةِ من أجلِهِ. والشَّيءُ الوحيدُ الذي تُستَحَقُّ الحياةُ من أجله هو الحب: حُبٌّ كُلٌّ مِنَّا للآخرين؛ حُبُّ كُلٌّ منَّا لنفسِهِ؛ حُبُّ كُلٍّ مِنَّا لعملِهِ؛ حُبُّ كُلٍّ مِنَّا لمصيرِهِ، مهما قد يكن عليهِ ذاكَ المصير؛ حُبُّنا لمصاعبنا ومتاعبنا؛ حُبُّ كُلٍّ مِنَّا للحياة. ذاكَ هو الحُبُّ الذي بِوُسْعِهِ تحريرَنَا من دوراتِ الكَبَدِ والمعاناة الغامضةَ الغاية بالنِّسْبَةِ لنا، هو الحُبُّ الذي يُحرِّرُنا من سجن الذَّات، من شعورنا بالمرارة، من جشعنا، من نزعتنا التَّنافُسِيَّة التي قد تُودِي بِنَا إلى الجِّنون. ذاكَ هو الحُبُّ الذي بإمكانِهِ أن يجعلنا نتنفَّس، كَرَّةً أُخرىْ، حُبُّ قضيَّةٍ جليلةٍ وعظيمة، حُبُّ رؤيا بديعة، حُبٌّ عظيمٌ للآخر أو للمُستقبَلْ. ثُمَّ ذاكَ هو الحُبُّ الذي يُصالِحُنَا مع أنفُسِنَا، مع بهجاتنا البسيطة، كما مع سُبُلِ إشباعِ حاجاتِنَا غير المُكْتَشَفَةْ. إنَّهُ حُبٌّ خالقٌ؛ حُبٌّ مَمْسُوسٌ بالتَّسَامِيْ.
27
ليست فأسُ كافكا هي ما نحتاجُهُ هُنَا فنحنُ، بالأحرى، بحاجةٍ هُنَا إلى نيران الحُبِّ كَيْ تُذيبَ أنهارنا الجُّوَّانِيَّة المُجَمَّدَةْ. نحنُ بحاجةٍ هنا إلى النَّظرِ، إلى بعضنا البعض، بعيونٍ جديدةْ. نحنُ بحاجةٍ هنا إلى المثابرة على فعلِ ذلكِ، يومَاً إِثرَ يومْ.
نحنُ بحاجةٍ هنا، بموجزِ العبارة، إلى كسرِ وهدمِ الحواجز بحِكمَة وإلَّا فإنَّنَا سوف لن يكُن بمُستطاعِنَا الخروج والخلاص من سجوننا الذَّاتيَّة، كما لا شيءَ سيكن بِوُسْعِهِ، حينَذَاك، الوُلوج إلى دواخلنا من فضاءِ الخارجِ الفسيحْ.
28
هذه الأيَّامُ أيَّامٌ غريبة فهنالِك فيها أشياءٌ كُثُرٌ تقمعُ أحلامنا. ونحنُ أيضاً قد نُضحِي، في ذاتِ الأيَّام، أصغر فأصغر في القيمةِ والمعنىْ. علينا إذاً، والحالُ كذلك، أن نحذر من أن نُمسَخَ ومن ثَمَّ نُجْعَلُ خراتيتٌ.
29
تجبُ علينا المُجاهرة، الصِّدُوع بالحقِّ من آرائنا. غير أنَّنَا لا ينبغي علينا، مع ذلك، المُغالاة والصِّراخ بما نحنُ فيهِ وعليهِ وإلَّا فإنَّنَا لن يُصْغَىْ إلينا بفعل رتابةِ إيقاعِ ذاكَ الصِّراخ. ومن عِندَ حيثٍ آخرٍ ينبغي غلينا أن نكن صامتين وعلى صفاءٍ وأن نُخطِّطَ بهدوءْ. غير أنَّنا يجب علينا، مع ذلك، ألَّا نُوغلُ، بإفراطٍ، في الصَّمت وإلَّا فإنَّنَا لن نُسْمَعَ أَبَدَاً.
30
قبل أن نتمكَّنَ من إنشاءِ عالمٍ جديدٍ يجبُ علينا، أوَّلَاً، كشف وهدم الأساطير والوقائع، الأكاذيب والدِّعاية التي استُغِلَّتْ لقمع واستعباد وسجن وحبس الكائنات الإنسانيَّة، كما وخنق وقتل أفرادها وجموعها بالغاز السَّام وتعذيبها وتجويعها. إنَّ مواجهة أكاذيب التَّاريخ مسؤوليَّة إنسانيَّة أساسيَّةْ. تلك هي مسؤوليَّةٌ قد نلقَىْ عَنَتَاً في تحمُّلِ أعبائها، لكن تأدية ما تستوجِبُهُ ليس فيها تحريرٌ لمن قد يؤُدُّونَ ذاكَ الواجب، فحسبْ، وإنَّمَا هو بِوُسْعِهِ تحرير الكائنات الإنسانيَّة جميعِهَا.
31
كُلُّ الدِّياناتِ الكُبرَىْ في هذا العالم انبعثت، في البدء، من أحلامٍ ورؤى عظيمة.
32
الدِّين ابن المُعاناة والتَّعاطف. بلى، إنَّ وضعيَّةَ المُعاناة وضعيَّةٌ بعيدةً جِدَّاً، في جوهرها، من حالِ الأُلُوهة. بيدَ أنَّا قد نرى، من عِندَ حيثٍ آخرٍ، كيف أنَّها تعتنِقُ مع كُلِّ الدِّيانات البشريَّة العظيمة. إنَّ الدِّيانات العظيمة، في حالةِ كونِهَا خالصةَ الصَّفاء من الأوشاب، قبل أن تنهمك في شأن التَّشريع للكيفيَّات التي ينبغي علينا- بحسبِهَا- أن نحيا وِفقَها ومن ثَمَّ فرضها لمختلفِ شكولِ تشريعها علينا قسرَاً وبِواسطةِ قوى أرضيَّة أجنبيَّةً عن مصدَرِهَا الجَّوهري المُحايث لصورتها البَرَّانيَّة، قد جلبت التَّعاطف الإلهيَّ اللامتناهي والرَّحمة الإلهيَّة اللامتناهية إلى حيثٍ أقربَ للإنسانيَّةْ.
33
لئن يُساءِلُ أيُّ شخصٍ صوابَ تلك الدِّيانات فذلك قد يكن بسبب أنَّ الدِّيانات إيَّاها قد خذلتنا، قد خيَّبت حسنَ ظَنِّنَا بها، قد صيَّرَتْنَا أصغرَ في قيمتِنَا. ولا أعني بضميرِ الجَّمعِ "نا" هنا المنتسبين لتلك الدِّيانات والمؤمنين الغيورين عليها من أهلها وإنَّما أعني به السُّلالة البشريَّة كُلَّها وذلكَ لأنَّ المؤسَّسات السَّلفيَّة الخاصَّة بالدِّيانات إيَّاها قد أطلقت، باسمها، بشفراتها ورموزها وطغيانها الدُّنيَوِيِّ الأرضِيِّ، كوابيس انقضَّت علينا تمثَّلَتْ في عمليَّاتِ تطهيرٍ عرقِيٍّ-دينِيٍّ، حروبٍ وحشيَّة، محاكم تفتيشٍ قميئة، كما هي قد أقرَّت، باسمها، الرِّق والاستعباد، الكراهيَّة العنصريَّة والقسوة والفظاظة.
34
رُبَّمَا الأمرُ أنَّهُ في حُلمِهَا بأرثوذوكسيَّاتها فقدت بعضُ الأديان العظيمة صلتها بالحُبِّ النَّبيل الذي كان هو، في الأصلِ والمقامِ الأوَّل، المُبشِّر والمُوحي بميلادها والصَّائن الحفيظ لاستدامتِها فيما بين النَّاسْ. هي، تلك الأديان، قد فقدت، فيما يبدُو، بِفعلِ إفراطِهَا في الحُلم بأرثوذوكسيَّاتِهَا، الوصلَ مع معاناةِ النَّاس، مع جُوعهم وكَبَدِهِم، مع تعاطُفِها ومرحمتها الأساسيَّين اللَّذينِ بدونِهِمَا تغدو حتَّى أكثر الدِّياناتِ جمالاً في وحيِهَا وإلهامِهَا مُجَرَّدَ قَوقَعَةٍ جوفاء ليس بها من شيءٍ سوى قشورِ عقيدةٍ دوغمائيَّةٍ جامِدةْ.
35
ورُبَّما الأمرُ هنا كائنٌ كذلكَ في أنَّ الكُتَّابَ أيضاً قد خيَّبُوا رجاءنا فيهم إذ هم، بفعل إغواءِ أنفسهم لأنفسهم بحُرِّيَّتِهِم- بِحُرِّيَّةِ وَوُسْعِ قدرتهم على الإمتاع والتَّرفيه، رُبَّما كانُوا غافلينَ ومتجاهلين لتلك الوحوش العاوية في نومنا، تلك الوحوش التي، في ذاتِ يومٍ ما أو آخرٍ، قد تلتهمُنَا.
36
إنَّ على الكُتَّابِ تقع مسؤوليَّةٌ عظيمةٌ واحدةٌ هي أن يُنشؤُوا كتابةَ جميلةً؛ أن يُنْشِؤُوا، بعبارةٍ بسيطةٍ أخرى، كتابةٍ جيِّدَةْ. وممَّا تنطوي عليهِ تلك المسؤوليَّة أن يَتِّسِمَ الكُتَّابُ، رجالاً كانوا أم نساء، بالصِّدقِ الحقيقيِّ الخلُوص. بلى، إنَّ الإبهار، التَّسرية والتَّسلية، سحر الكلمة المكتوبة وأخذَ الإنسان إلى عوالمٍ كائنةِ خارجَ أعتابِ نفسِهِ اليوميَّة المُباشرة، كُلًّ تِلكَ تُشكِّلُ أجزاءَ من إنشاء جمالِ الكلمة المكتوبة. غيرَ أنَّ هنالكَ، بخلافِهَا، مسؤوليَّةٌ مُوازِيَةٌ لها تُهيبُ بالكُتَّابِ، رجالاً ونساءً، بأن يغنُّوا ويُغنِّينَ قليلاً بشأنِ وقائع عصرهما، بأن يُخلِّفُوا ويُخَلِّفْنَ لعمومِ النَّاسِ ضَرْبَاً من السِجِلِّ السِّحرِيِّ لما رأُوا ورأينَ وحَلُمُوا وحَلُمْنَ فيما هم وهُنَّ ما يزالُوا وما يَزِلْنَ أحياء (فهُمْ وهُنَّ ليس بِوُسْعِهِم ووُسعُهِنَّ، في الحقِّ، فِعلَ ذلك آناءَ الموت)، بأن يشهدُوا ويَشْهَدْنَ، على نحوٍ مُفْرَدٍ، على الجَّمالاتِ وعاديات الأحوال، كما الفظائع، التي قد يشتملُ عليها العهدُ الذي هُنَّ وهُمْ عِنْدَهُ يَقِمْنَ ويَقِيمُونْ.
37
الكُتَّابُ يغدُونَ خَطِرِيْنَ آنَ ما هُم وهُنَّ يبُوحون بالحقيقةْ.
38
وهم وهُنَّ أيضاً يضحونَ خطرين آنَ ما هُم وهُنَّ ينطقون كذبَاً وزِيْفَا.
39
كُلًّنَا شِهُودْ.
40
امضْ بعيدَاً على سبيلِكَ ما تَدُمْ الحياةُ تدفعُكَ على ذاكَ السَّبيلْ.
41
إن لم تكُن قادراً على العطاء يُمكِنُكُ، من عِندَ حيثٍ آخرٍ، أن تكُن مُنفتِحَاً على التَّعَلُّمْ.
42
أحياناً يكن العكس هو الأفضلْ.
43
ليس ما اختبرتَهُ آناءَ الحياة هو ما قد يُصيِّرُكَ أعظمَ قَدرَاً وإنَّما ما قد يُصيِّرُكَ كذلكَ هو ما قد واجهتَهُ في الحياة، ما قد تجاوزْتَهُ فيها، ما قد نسيتَ تَعلُّمَهُ آناءَهَا.
44
أفضلَ الأشياء كائنةً فيما وراءَ الكَلِمَاتْ
45
الجِّنْسُ البَشَرِيُّ ليسَ بَعْدَ حُرَّاً.
حاشية:
* من كتاب بين أوكري المُسمَّى (طريقةٌ في أن تكُنْ حرَّاً A Way of Being Free)، دار فونيكس للنشر، لندن، 1998م.
[اكتملت هذه التَّرجمة في نهار 29 أبريل، 2022م]
khalifa618@yahoo.co.uk
//////////////////////
بقلم: بين أوكريBen Okri
ترجمة: إبراهيم جعفر
إهداء الكاتب: إلى سلمان رُشدي
1
إنَّ أسوأ حقائق عصرنا هذا حقائقٌ مُصنُوعة. عليه مهمَّتنا، كمشاركين خلَّاقين في هذا الكون، كائنةً في سعينا على سبيلِ مُعافاةِ هذا العالم. وحقيقةُ أنَّنَا على امتلاكٍ للخيال تعني أنَّ كُلَّ شيءٍ في هذا العالم بِوُسْعِهِ أن يُعَافَىْ. كُلُّ حقيقةٍ، أو واقعةٍ، في إمكانِها الانطواء- ضِمنِيَّاً- على إمكاناتٍ بديلةٍ لها. إنَّ الكائنات الإنسانيَّة مُبارَكَةٌ بضرورةِ التَّحَوُّلْ.
2
الكُتَّابُ هُم ميكانيزماتِ حُلُمِ الجِّنسِ البَشَرِيِّ والسَّردُ يُؤثِّرُ فِينا على ذاتِ النَّحوِ الذي تُؤَثِّرُ فِينا وِفْقَهُ الأحلام. والسَّردُ والأحلام مُتَّسِمَان، معاً، بذاتِ السِّمتِ الحُلُمِيِّ المُتَجَاوِزْ. إنَّهُمَا، معاً، يمتلكان القُدرة على تبديل الواقع وحقائقِهِ الماثلة. والأحلامُ قد تَكُن، على ذَاكَ السَّبيل، أوفرَ حُرِّيَّةً من السَّرد، سَيَّمَا وأنَّها ليست مُرَكَّبَةً من الكلمات. لكنَّهُ آنَ ما يَلِجُنَا السَّردُ القَصَصِيُّ التَّخيِيلِيُّ لا يَعُدْ ذاكَ السَّردُ موجُودَاً، في ما بيننا، على هيئةِ كلماتٍ، فَحَسْبْ.
3
بِوُسْعِنَا التَّحكُّم في رواياتنا ومختلف شكول سَردِنَا إلى حدٍّ ما، غير أنَّه ليس بإمكاننا التَّحكُّم في الآثار التي قد تترتَّب عليها في العالم. ثُمَّ إنَّنَا ليس بِوُسْعِنَا التَّحُّكم التَّام في أحلامنا. وأحياناً قد نحلُم، آناءَ اللَّيل، بأشياءٍ زِندِيقَةٍ وفاضحةٍ، باغتيالاتٍ ودمارٍ وتحوُّلاتْ. وفي أحيانٍ أخرى قد نحلُم حتَّى بأنفسنا وهي مُوغِلَةً في جُواءِ حقائقنَا الأعمق ومصائرنا التي قد تبدو لنا، آنذاك، غيرَ منظورةِ التَّحقُّق العِيانِي البَيَانِيْ.
4
ليست هنالك طريقةٌ واحدةٌ، فحسبْ، لتفسير الأحلام مقبُولةً لكُلِّ الكائنات الإنسانيَّةْ. إنَّ كاتبَاً ما أو آخر قد يُبدِعُ كِتاباً واحداً يصيرُ مائةً من الكُتُبِ المختلفة في أذهانِ وواعياتِ من يقرؤونهُ ولبعضِ أولئكَ قد يغدُو ذاكَ الكتاب الواحد سبيلاً للضُّوءِ، كَشفَاً، فِعلَ تحرير فيما هو قد يُرَىْ، مِن قِبَلِ آخرينَ منهُم، مثل وحشٍ شائن الخلقة والخُلقْ.
5
أحيانَاً نحلُمُ بأشياءٍ غريبةٍ تجعلنا نتساءل، مُتَعَجِّبِيْنْ، عمَّا إن تكن هنالك نفسٌ هَدَّامةٌ باطنةٌ فينا- روحٌ غيرَ مسؤولة ولعوبة ومشاغبة وماكرة بداخلنا- تبتهجُ بأن تُبدِي لنا كم هي زائفةً الأشكالُ والحدود والقواعد التي تسيرُ وفقها حياتُنا. تلك النَّفس الباطنة الهَدَّامة، المبتسمة بشقاوة، تبدُو مُتَعَمِّدَةً إظهارَ كونِنَا ليس بِمُسْتَطَاعِنَا أن نفلت من عواقب تقييد حرِّيَّتِنَا والطَّبيعة المُسْتَسِرَّة للكائنات الإنسانيَّةْ.
6
قد يكن الحال أحيانَاً أنَّ أحلامنا تزعجنا وتُشعِرُنا بالاستياءِ إلى حدِّ أنَّنا نبتغي لجم حريَّة مَلَكَةِ الحُلُم الإبليسيَّةِ تِلكْ. وقد تكن تلك المَلَكَةُ تنبؤنا حينذاكَ بشيءٍ عن أنفسنا أكثرَ صدقَاً من أن تتحمَّلَهُ تلكَ الأنفس. غير أنَّهُ كُلَّمَا أوغلنا في رفض الإصغاء إليها تغدُو مَلَكةُ الحُلُمِ الإبليسيَّةُ تِلك أكثرَ عصيانَاً وتمرُّدَاً علينا.
إنَّ الأشياء التي نرفض مواجهتها في الحياة تُطعِمُ شهيَّة مَلَكَةِ الحُلمِ الجُّوَّانيَّةِ تِلك، الخطرة المُنبئَة، أو قد تكن هي المُنذِرَة، بالأحرى، بالحقيقة ومن ثَمَّ تُمسي تلك الأشياء، والحالُ كذلكَ، وحوشَاً في آناتِ منامنا.
7
ولئن تكن الأشياء التي نواجهها في الحياةِ أكثرَ عِظَمَاً وأهمِّيَّةً من تِلك الأشياء التي قد نرفض مواجهتها في الحياة سنكن، حينذاك، على الأقل، قد شرعنا في إعادة تقييم عالمنا؛ سنكن حينذاكَ، على الأقل، قد بدأنا تَعَلُّمَ أن نَرَىْ ونحيَا، مرَّةً أُخرَىْ.
غيرَ أنَّنَا عندما نرفض مواجهة أيٍّ من حقائقنا الأعمق والأكثرَ إرباكَاً لنا سنصيرُ، عاجلاً أو آجلاً، صًمَّاً وعُميَانَا. وحينذاكَ سنُمضِي، في غايةِ الأمر، إلى حيثٍ قد يتوجَّبُ وعلينَا عِنْدَهُ إسكاتَ أصواتِ أحلامِنَا، كما أصوات أحلام الآخرين أيضَاً. بعبارةٍ أخرى، سنمُوتُ حينذاكْ؛ سنموتُ في، وقبل، انتهاء الحياةْ.
8
وعندما نموت قبل انتهاء الحياة يغدو من اليسير جداً علينا رؤية الآخرين وهم يموتون أيضاً، قبل انتهاء الحياة؛ يغدو من اليسير جداً علينا حينذاك اغتيال أحلام الآخرين، تسميم دفق حيواتهم، تسميم براءتهم، تسميم حبهم. وآنَ ما نكن أموات آناءَ الحياة لا يًعُدْ بِوُسْعِنَا التَّنَبُّه حينما تموت المعجزات الصغيرة حولنا وقُبَالَةَ تحديقنا المَوَاتْ.
9
هنالك عدة طرق للموت وليست كلها ذات صلة بفناء الجسد والنفس الحسيين في آخرِ هذه الحياة وإنما العديد منها على صلة بهذه الحياة، بعيشِ أكاذيبٍ كثيرةٍ في هذه الحياة، بالعيشِ دونَ طرحِ أسئلة، بعيشِ الإنسان الفرد، رجلاً كان أم امرأة، في كهفِ تَحَيُّزَاتِهِ، أو تَحيُّزَاتِهَا، الخاصَّة، بعيشِ الإنسان الفرد، رجلاً كان أم امرأة، حياةً مفروضةً عليه، أو عليها، بعيش الإنسان الفرد، رجلاً كان أم امرأة، بِكُلِّيَّتِهِ، أو كُلِّيَّتِهَا، في مجالي أحلام ورموز أسلافه، أو أسلافها.
10
إنَّ حقيقةَ ما قد يرتكبه كائنٌ بشريٌّ ما أو آخر من أفعالٍ بحقِّ كائنٍ بشريٍّ ما أو آخرٍ، أو كائناتٍ بشريَّةٍ ما أو أخرى، حقيقةٌ ملغُومَةٌ ومن ثَمَّ هي قابلةٌ للانفجار. والمحتويات السِّرِّيَّة لحيواتنا، كبشر، قد تنطوي على ما يُرعبْ. هنالك الكثيرُ ممَّا قد يدفعنا إلى رَفعِ الصَّوتِ أو الصِّياح بشأنِهِ. هنالك أكاذيبٌ كبيرةٌ قد تصبِغُ زماننا هذا بالتَّلَوُّث ووحوشٌ جاريةٌ عِند قعر بحر قرننا هذا. إنَّ النَّهرَ بداخلنا قد أضحى أكثرَ تَجَمُّدَاً ممَّا قد كان هو عليهِ أبدَاً من قبل. إنَّنَا مُحتاجُونَ الآنَ لأكثرِ بكثيرٍ من "فأسِ كافكا" مضرب الأمثال حتَّى نُقَصِّفُ ثَلجَ ذاكَ التَّجَمُّد ومِن ثَمَّ نُمَكِّنُ دمَ الإنسانيَّة المُجَمَّد من التَّدَفُّقِ، كَرَّةً أُخرَىْ.
إنَّنَا، بعبارةٍ واحدةٍ، مُحتاجُونَ- الآنَ- إلى شيءٍ يُوقِظُنَا من أعماقِ سُباتِنَا الأخلاقي.
11
تُنْشِئُ عِندي كلمة "أرثوذوكسي" عالمَاً فيه النَّاسُ قد وصلُوا إلى المحطَّةِ الأخيرةِ للكيفيَّةِ التي هم بها يُعرِّفُون أنفسهم.
12
في العالمِ الصَّامتِ، هُنالِكَ عِندَ الظِّلِّ، دومَاً أُناسٌ يحلُمُونَ بتبديلِ صُورةِ العالمِ الزَّمكَانِيِّ الذي نحيا نحنُ الآنَ عِنْدَهُ، وفِيهِ.
13
لم تعد هنالك أيُّ تُخُومٍ فيما بين الخيال والعالم.
14
حقائقُ العالم قد تكُن، أحياناً، أكثر خياليَّةً من مُنشئَاتِ خيالِنَا.
15
لئن يكن الواقع أيضاً معركةُ أحلامٍ مُتنافسةٍ سينبغي، والحال كذلك، على إنشاءاتنا، صمتنا وحُبِّنَا الأسمى خوضَ الكفاح عِندَ ساحتِهِ.
16
نحنُ نحيا في جُواءِ أحلامِ الآخرين. وقد نُسجُنُ في تلك الأحلامْ.
17
المنفى هربٌ من حُلُمٍ إلى حُلُمٍ آخرْ. وآناءَ تِلك الصَّيرورة نحنُ نتبدَّل، نتناسخ ولا تَقِرُّ هيئاتنا الجَّديدة، أبدَاً، على أيِّ مُسْتَقَرٍّ لها.
18
العيشُ تناسُخٌ مُستمر. وكُلُّ شيءٍ تَغَيُّرٌ؛ كُلُّ شيءٍ نِسبِيْ.
19
عندما نحيا مع أرثوذوكسيَّاتٍ طاغيةٍ تُضحي الانفجاراتُ بداخلنا أعظم. حينذاكَ تنفجرُ أحلامُنا على ضفافِ ما هو سائدٌ أو مقبولْ.
20
بقدرِ شدَّةِ استحكام النِّظامِ المرئيِّ للأشياء تكُن شِدَّةُ زخمِ الاضطراب اللامرئي.
21
لا يمكن أن تكن هنالك مُطْلَقَات: لا مُطلَقَ خيرٍ أو شرٍّ هناك؛ ليست هنالك طريقةٌ واحدةٌ مُطلقَةٌ للعيشْ. ليست هنالك حقيقةٌ واحدةٌ مُطلقةْ. كُلُّ الحقائق تُوصَلُ إلينا بوساطة حقيقة العيش. البقاءُ حيَّاً يُقيِّدُ كُلَّ الأشياءْ.
22
رُبَّما ذلك هو السَّبب في أنَّ اليونانيين والمصريين والأفارقة القدماء والهنود لديهم تلك الكثرة من الآلهة فكُلٌّ من الآلهةِ إيَّاهَا يُشكِّلُ تجريدَاً لصفاتنا المختلفة وأنفسنا المختلفة التي هي بحاجةٍ إلى أن يُعترَفَ بها وان يُعْتَنَىْ بها في انسجامٍ مع الكُلِّيَّةِ الإنسانيَّةِ فينَا. ينبغي علينا أن نقبل أنفسنا المختلفة ونفسنا الواحدة. نحنُ نحتاجُ إلى أن نُوَحِّدَ أنفسنا المنقسمة فينا لذا يجب أن يُتاحَ لأنفسنا المختلفة تلك حقُّ التَّنَفُّسِ والعافية؛ ينبغي أن يُتاحَ ذلك لِمَلَكَةِ الحُلُمِ فينا، لطَرَفِ النَّفْسِ مِنَّا الذي يحيا تحتَ تَيَّارِ النَّسَيَان، لحاجةِ الجَّسَدِ مِنَّا للاحتفال والنَّشوة، لحاجةِ النَّفسِ مِنَّا للعمل، لما هو إلهِيٌّ فينا- ذاكَ الذي يصبُو في هدوءٍ إلى التَّوَحُّدِ الأسمَىْ، لما هو شَبَقِيٌّ فينا وتائقٌ إلى تجريبِ البهجة الخالدة لما هو فان.
غَيرَ أنَّنَا عندما تأتِنَا أيُّ أيدولوجيَّةٍ أرثوذوكسيَّة وتُحاولُ أن تقمعَ أَيَّاً من تِلكَ الحاجاتِ أو الأُلُوهَةِ فينا ستعصِفُ الأحلامُ المُتمرِّدَة فينا بقيدِ القمعِ ذاكَ وتُزْعِجُ نومَ الأرثوذوكسيَّةِ العتيقةِ الوطيدَ في البلادْ.
23
أيُّ أملٍ هناك للحقيقة الفردية أو الأصالة حينما قوى العنف والأرثوذوكسية، تلك القوى المستحوذة على الأسلحة والقنابل والرأي العام المُسْتَغَل، تجعل في حكم المستحيل لنا أن نكن كائنات إنسانيَّة أصيلة ومُحقِّقَة لذواتِهَا؟
الأملُ الوحيدُ هنا كائنٌ في خلقِ قيمٍ بديلة، حقائق بديلة. الأملُ الوحيدُ هنا كائنٌ في اجتراء كُلِّ فردٍ مِنَّا على إعادةِ حُلْمِهِ بمكانهِ في هذا العالم- ذلكُم فعلُ خيالٍ جميلٍ وفعلُ صيرورةٍ ذاتيَّةٍ مُستَدَام ومُتماسِكْ. ذلك يعني، بعبارةٍ أخرى، أنَّنَا هنا، بطريقةٍ ما أو أُخرَىْ، نخرقُ ونزعزِعُ التِّخُومَ المقبُولة- التِّخُوم المُحدَّدَة سَلَفَاً وقَهرَاً- للأشياءْ.
24
الخيارُ الآخرُ هنا هو خيارُ المُضِيِّ على سبيلِ هجرةٍ تكامُلِيَّة، خيارُ أن يصير الإنسان الفرد مِنَّا منفيَّاً في دواخلِ النَّفس حيثُ قد يقبل ما هو عليهِ، يتغيَّر على نحوٍ ما أو آخر، أو حتَّى يُجَنْ. هنا يحيا الإنسان الفرد حياتين، يغدو إنسانين ومن ثَمَّ هو قد ينزاح، حينذاكَ، عن مكانِهِ الأصليِّ في هذا العالم أو حتَّى هو آنذاكَ قد ينفجر بجِماعِ ما هو في جُوائِهِ فتغدو حينذاكَ نفسُهُ ("أنفُسُهُ") السِّرِّيَّة أكثرَ حقيقيَّةً من نَفِسِهِ ("أنفُسِهِ") البَرَّانِيَّةْ.
25
الانتساخُ هو الشَّرطُ الجَّوهرِيُّ لأيِّ وضعيَّةٍ ما أو أخرى من وضعيَّاتِ مُختَلَفِ الشُّؤون. إنَّهُ الحقيقَةُ الصَّحيحةُ آنَ صيرُورتِهَا جَلِيَّةْ. إنَّ جوهر الأشياء أو النَّاس أكثرَ حقيقِيَّةً من شِكُولِها المرئيَّةْ. وفي حالِ الانتساخ تطغى الحقيقة الجَّوهريَّة على وهم الحقيقة البَرَّانِي فكما أنتَ كائنٌ في الحقِّ أنتَ تكون، وكما أنتِ كائنةٌ في الحقِّ أَنتِ تكُونينْ. وفي حالةِ الافتقار إلى الحساسيَّة يغدو الإنسان الفرد، امرأةً كان أم رجلاً، مثل الخِرتيت. وهنالك شيءٌ آخرٌ جديرٌ بالاعتبار مُتَّصِلٌ بما نحنُ بِصدَدِهِ هنا وهو أنَّ أُسَّ الانتساخ هو، في الأصل، أُسٌّ بسيطٌ إذ هو قد ينطوي إمَّا على اضِّطرامِ قلقٍ أو على انتشاءْ.
26
في عالمٍ كعالمنا هذا، عالمٌ يُجفِّفُهُ الموتُ والمَوات كثيراً من المعنى، تكمُنُ الأصالةُ الفرديَّةُ في ما قد نستطيع أن نَجِدْهُ مُستَحِقَّاً للحياةِ من أجلِهِ. والشَّيءُ الوحيدُ الذي تُستَحَقُّ الحياةُ من أجله هو الحب: حُبٌّ كُلٌّ مِنَّا للآخرين؛ حُبُّ كُلٌّ منَّا لنفسِهِ؛ حُبُّ كُلٍّ مِنَّا لعملِهِ؛ حُبُّ كُلٍّ مِنَّا لمصيرِهِ، مهما قد يكن عليهِ ذاكَ المصير؛ حُبُّنا لمصاعبنا ومتاعبنا؛ حُبُّ كُلٍّ مِنَّا للحياة. ذاكَ هو الحُبُّ الذي بِوُسْعِهِ تحريرَنَا من دوراتِ الكَبَدِ والمعاناة الغامضةَ الغاية بالنِّسْبَةِ لنا، هو الحُبُّ الذي يُحرِّرُنا من سجن الذَّات، من شعورنا بالمرارة، من جشعنا، من نزعتنا التَّنافُسِيَّة التي قد تُودِي بِنَا إلى الجِّنون. ذاكَ هو الحُبُّ الذي بإمكانِهِ أن يجعلنا نتنفَّس، كَرَّةً أُخرىْ، حُبُّ قضيَّةٍ جليلةٍ وعظيمة، حُبُّ رؤيا بديعة، حُبٌّ عظيمٌ للآخر أو للمُستقبَلْ. ثُمَّ ذاكَ هو الحُبُّ الذي يُصالِحُنَا مع أنفُسِنَا، مع بهجاتنا البسيطة، كما مع سُبُلِ إشباعِ حاجاتِنَا غير المُكْتَشَفَةْ. إنَّهُ حُبٌّ خالقٌ؛ حُبٌّ مَمْسُوسٌ بالتَّسَامِيْ.
27
ليست فأسُ كافكا هي ما نحتاجُهُ هُنَا فنحنُ، بالأحرى، بحاجةٍ هُنَا إلى نيران الحُبِّ كَيْ تُذيبَ أنهارنا الجُّوَّانِيَّة المُجَمَّدَةْ. نحنُ بحاجةٍ هنا إلى النَّظرِ، إلى بعضنا البعض، بعيونٍ جديدةْ. نحنُ بحاجةٍ هنا إلى المثابرة على فعلِ ذلكِ، يومَاً إِثرَ يومْ.
نحنُ بحاجةٍ هنا، بموجزِ العبارة، إلى كسرِ وهدمِ الحواجز بحِكمَة وإلَّا فإنَّنَا سوف لن يكُن بمُستطاعِنَا الخروج والخلاص من سجوننا الذَّاتيَّة، كما لا شيءَ سيكن بِوُسْعِهِ، حينَذَاك، الوُلوج إلى دواخلنا من فضاءِ الخارجِ الفسيحْ.
28
هذه الأيَّامُ أيَّامٌ غريبة فهنالِك فيها أشياءٌ كُثُرٌ تقمعُ أحلامنا. ونحنُ أيضاً قد نُضحِي، في ذاتِ الأيَّام، أصغر فأصغر في القيمةِ والمعنىْ. علينا إذاً، والحالُ كذلك، أن نحذر من أن نُمسَخَ ومن ثَمَّ نُجْعَلُ خراتيتٌ.
29
تجبُ علينا المُجاهرة، الصِّدُوع بالحقِّ من آرائنا. غير أنَّنَا لا ينبغي علينا، مع ذلك، المُغالاة والصِّراخ بما نحنُ فيهِ وعليهِ وإلَّا فإنَّنَا لن يُصْغَىْ إلينا بفعل رتابةِ إيقاعِ ذاكَ الصِّراخ. ومن عِندَ حيثٍ آخرٍ ينبغي غلينا أن نكن صامتين وعلى صفاءٍ وأن نُخطِّطَ بهدوءْ. غير أنَّنا يجب علينا، مع ذلك، ألَّا نُوغلُ، بإفراطٍ، في الصَّمت وإلَّا فإنَّنَا لن نُسْمَعَ أَبَدَاً.
30
قبل أن نتمكَّنَ من إنشاءِ عالمٍ جديدٍ يجبُ علينا، أوَّلَاً، كشف وهدم الأساطير والوقائع، الأكاذيب والدِّعاية التي استُغِلَّتْ لقمع واستعباد وسجن وحبس الكائنات الإنسانيَّة، كما وخنق وقتل أفرادها وجموعها بالغاز السَّام وتعذيبها وتجويعها. إنَّ مواجهة أكاذيب التَّاريخ مسؤوليَّة إنسانيَّة أساسيَّةْ. تلك هي مسؤوليَّةٌ قد نلقَىْ عَنَتَاً في تحمُّلِ أعبائها، لكن تأدية ما تستوجِبُهُ ليس فيها تحريرٌ لمن قد يؤُدُّونَ ذاكَ الواجب، فحسبْ، وإنَّمَا هو بِوُسْعِهِ تحرير الكائنات الإنسانيَّة جميعِهَا.
31
كُلُّ الدِّياناتِ الكُبرَىْ في هذا العالم انبعثت، في البدء، من أحلامٍ ورؤى عظيمة.
32
الدِّين ابن المُعاناة والتَّعاطف. بلى، إنَّ وضعيَّةَ المُعاناة وضعيَّةٌ بعيدةً جِدَّاً، في جوهرها، من حالِ الأُلُوهة. بيدَ أنَّا قد نرى، من عِندَ حيثٍ آخرٍ، كيف أنَّها تعتنِقُ مع كُلِّ الدِّيانات البشريَّة العظيمة. إنَّ الدِّيانات العظيمة، في حالةِ كونِهَا خالصةَ الصَّفاء من الأوشاب، قبل أن تنهمك في شأن التَّشريع للكيفيَّات التي ينبغي علينا- بحسبِهَا- أن نحيا وِفقَها ومن ثَمَّ فرضها لمختلفِ شكولِ تشريعها علينا قسرَاً وبِواسطةِ قوى أرضيَّة أجنبيَّةً عن مصدَرِهَا الجَّوهري المُحايث لصورتها البَرَّانيَّة، قد جلبت التَّعاطف الإلهيَّ اللامتناهي والرَّحمة الإلهيَّة اللامتناهية إلى حيثٍ أقربَ للإنسانيَّةْ.
33
لئن يُساءِلُ أيُّ شخصٍ صوابَ تلك الدِّيانات فذلك قد يكن بسبب أنَّ الدِّيانات إيَّاها قد خذلتنا، قد خيَّبت حسنَ ظَنِّنَا بها، قد صيَّرَتْنَا أصغرَ في قيمتِنَا. ولا أعني بضميرِ الجَّمعِ "نا" هنا المنتسبين لتلك الدِّيانات والمؤمنين الغيورين عليها من أهلها وإنَّما أعني به السُّلالة البشريَّة كُلَّها وذلكَ لأنَّ المؤسَّسات السَّلفيَّة الخاصَّة بالدِّيانات إيَّاها قد أطلقت، باسمها، بشفراتها ورموزها وطغيانها الدُّنيَوِيِّ الأرضِيِّ، كوابيس انقضَّت علينا تمثَّلَتْ في عمليَّاتِ تطهيرٍ عرقِيٍّ-دينِيٍّ، حروبٍ وحشيَّة، محاكم تفتيشٍ قميئة، كما هي قد أقرَّت، باسمها، الرِّق والاستعباد، الكراهيَّة العنصريَّة والقسوة والفظاظة.
34
رُبَّمَا الأمرُ أنَّهُ في حُلمِهَا بأرثوذوكسيَّاتها فقدت بعضُ الأديان العظيمة صلتها بالحُبِّ النَّبيل الذي كان هو، في الأصلِ والمقامِ الأوَّل، المُبشِّر والمُوحي بميلادها والصَّائن الحفيظ لاستدامتِها فيما بين النَّاسْ. هي، تلك الأديان، قد فقدت، فيما يبدُو، بِفعلِ إفراطِهَا في الحُلم بأرثوذوكسيَّاتِهَا، الوصلَ مع معاناةِ النَّاس، مع جُوعهم وكَبَدِهِم، مع تعاطُفِها ومرحمتها الأساسيَّين اللَّذينِ بدونِهِمَا تغدو حتَّى أكثر الدِّياناتِ جمالاً في وحيِهَا وإلهامِهَا مُجَرَّدَ قَوقَعَةٍ جوفاء ليس بها من شيءٍ سوى قشورِ عقيدةٍ دوغمائيَّةٍ جامِدةْ.
35
ورُبَّما الأمرُ هنا كائنٌ كذلكَ في أنَّ الكُتَّابَ أيضاً قد خيَّبُوا رجاءنا فيهم إذ هم، بفعل إغواءِ أنفسهم لأنفسهم بحُرِّيَّتِهِم- بِحُرِّيَّةِ وَوُسْعِ قدرتهم على الإمتاع والتَّرفيه، رُبَّما كانُوا غافلينَ ومتجاهلين لتلك الوحوش العاوية في نومنا، تلك الوحوش التي، في ذاتِ يومٍ ما أو آخرٍ، قد تلتهمُنَا.
36
إنَّ على الكُتَّابِ تقع مسؤوليَّةٌ عظيمةٌ واحدةٌ هي أن يُنشؤُوا كتابةَ جميلةً؛ أن يُنْشِؤُوا، بعبارةٍ بسيطةٍ أخرى، كتابةٍ جيِّدَةْ. وممَّا تنطوي عليهِ تلك المسؤوليَّة أن يَتِّسِمَ الكُتَّابُ، رجالاً كانوا أم نساء، بالصِّدقِ الحقيقيِّ الخلُوص. بلى، إنَّ الإبهار، التَّسرية والتَّسلية، سحر الكلمة المكتوبة وأخذَ الإنسان إلى عوالمٍ كائنةِ خارجَ أعتابِ نفسِهِ اليوميَّة المُباشرة، كُلًّ تِلكَ تُشكِّلُ أجزاءَ من إنشاء جمالِ الكلمة المكتوبة. غيرَ أنَّ هنالكَ، بخلافِهَا، مسؤوليَّةٌ مُوازِيَةٌ لها تُهيبُ بالكُتَّابِ، رجالاً ونساءً، بأن يغنُّوا ويُغنِّينَ قليلاً بشأنِ وقائع عصرهما، بأن يُخلِّفُوا ويُخَلِّفْنَ لعمومِ النَّاسِ ضَرْبَاً من السِجِلِّ السِّحرِيِّ لما رأُوا ورأينَ وحَلُمُوا وحَلُمْنَ فيما هم وهُنَّ ما يزالُوا وما يَزِلْنَ أحياء (فهُمْ وهُنَّ ليس بِوُسْعِهِم ووُسعُهِنَّ، في الحقِّ، فِعلَ ذلك آناءَ الموت)، بأن يشهدُوا ويَشْهَدْنَ، على نحوٍ مُفْرَدٍ، على الجَّمالاتِ وعاديات الأحوال، كما الفظائع، التي قد يشتملُ عليها العهدُ الذي هُنَّ وهُمْ عِنْدَهُ يَقِمْنَ ويَقِيمُونْ.
37
الكُتَّابُ يغدُونَ خَطِرِيْنَ آنَ ما هُم وهُنَّ يبُوحون بالحقيقةْ.
38
وهم وهُنَّ أيضاً يضحونَ خطرين آنَ ما هُم وهُنَّ ينطقون كذبَاً وزِيْفَا.
39
كُلًّنَا شِهُودْ.
40
امضْ بعيدَاً على سبيلِكَ ما تَدُمْ الحياةُ تدفعُكَ على ذاكَ السَّبيلْ.
41
إن لم تكُن قادراً على العطاء يُمكِنُكُ، من عِندَ حيثٍ آخرٍ، أن تكُن مُنفتِحَاً على التَّعَلُّمْ.
42
أحياناً يكن العكس هو الأفضلْ.
43
ليس ما اختبرتَهُ آناءَ الحياة هو ما قد يُصيِّرُكَ أعظمَ قَدرَاً وإنَّما ما قد يُصيِّرُكَ كذلكَ هو ما قد واجهتَهُ في الحياة، ما قد تجاوزْتَهُ فيها، ما قد نسيتَ تَعلُّمَهُ آناءَهَا.
44
أفضلَ الأشياء كائنةً فيما وراءَ الكَلِمَاتْ
45
الجِّنْسُ البَشَرِيُّ ليسَ بَعْدَ حُرَّاً.
حاشية:
* من كتاب بين أوكري المُسمَّى (طريقةٌ في أن تكُنْ حرَّاً A Way of Being Free)، دار فونيكس للنشر، لندن، 1998م.
[اكتملت هذه التَّرجمة في نهار 29 أبريل، 2022م]
khalifa618@yahoo.co.uk
//////////////////////