من أين جاء هؤلاء الشيوعيون؟ (2/2)

 


 

 

خضر عمر من يسار الاتحاديين: أول من فصله إسماعيل الأزهري بعبارة "إلى من يهمه الأمر سلام" (2-2).
عبد الله علي إبراهيم

استرعى انتباهي المهندس خضر عمر القيادي بمؤتمر الخريجين وسكرتير حزب الاشقاء بزعامة إسماعيل الأزهري في أوائل الخمسينات وأنا أطالع تاريخ تلك الفترة. ووجدت في سيرته باباً للدخول على مسألة خلافية ضربت التأرخة للحزب الشيوعي منذ ثارت في آخر الأربعينات وإلى يومنا. بدأها عوض عبد الرازق، السكرتير الثاني للحركة السودانية للتحرر الوطني (حستو) (1946). فاستنكر على أستاذنا عبد الخالق محجوب التحول من حستو إلى الحزب الشيوعي بعد توليه قيادة حستو بتزكية من عوض نفسه الذي طلب الرزق معلماً في مدينة بورتسودان. وكان من رأي عوض أن الأوان لم يحن لإعلان الحزب الشيوعي لأسباب ذكرها في تقرير بقلمه ذائع. وكان فهمه أن تواصل حستو نشاطها حركة وطنية تحت مظلة الحركة الاتحادية التي منها الأشقاء، وتربي عضويتها على الماركسية ليوم نزال اجتماعي قادم. وانطوى مشروعه على حسن ظن بالاتحاديين في قبول حركة يسارية وسطهم، أو من حولهم بأي صورة من الصور.
وكان فصل الأزهري لخضر عمر وجماعته من الأشقاء في 1951 ما أغراني بالانتباه لسيرة خضر. فقد حمل خضر بذرة من الجذرية السياسية التي نشأت في السودان بعد الحرب العالمية الثانية. وحاول أن ينفث روح هذه الجذرية في حزب الأشقاء بصور تطرقنا لها أمس ونعرض لها اليوم أيضاً. وضاق الأزهري بتلك الجذرية في داخل حزبه وفض حافلها. وساق ذلك الطرد من الأشقاء بعض شيعة خضر مثل أحمد محمد خير، الذي انتهى به الحال شيوعياً على النهج الصيني في الستينات، للبحث عن حزب بديل وجدوه في حستو ثم الحزب الشيوعي. بل غادر الحركة الاتحادية تباعاً أعضاء منها مثل حسن الطاهر زروق وحسن سلامة ليصيروا قادة في الحزب الشيوعي. فوفرت لي سيرة خضر عمر حجة للقول، خلافاً لمن أحسنوا الظن بالأشقاء ورحابته ليسار وطني، إن الأشقاء، الذي استأصل اليسار من صفوفه، يسار البيت، ما كان ليقبل بيسار الخلاء في حركة حستو. وكان الحزب الشيوعي بذلك حزباً أزف وقته استجمع غرس الجذرية الوطنية السياسة لما بعد الحرب العالمية الثانية كما لم يكن ليستوعبها حزب من أحزاب تلك الفترة.

كلنا مدينون للأستاذ نجيب نور الدين الذي ربما كان الوحيد الذي جلس إلى خضر عمر وأخذ شهادته عن زمنه. ولم أزد هنا عن تلخيص ما أدلى به خضر لنجيب للنفع العام.
بدا من حوار خضر أنه شديد الاعتزاز كعضو بمؤتمر الخريجين بخبرته في ممارسته السياسية والاجتماعية. فقال، وكان ما يزال في مدني، إن المؤتمر لم يطرح بعد تكوينه برنامجاً واضحاً، أو فكرة معلومة، لما على لجانه الإقليمية أن تقوم به. وكان خضر قد طلب من الأزهري بخطاب أن يوضح لهم سياسة المؤتمر وخططه ليسترشدوا بها في مواجهة العمد والمشائخ سادة الريف. فرد عليه الأزهري "وطنيتنا لم تستر~؟ بعد. أرجو المضي بالجهد المستطاع". وأشاد خضر بلجان الأقاليم التي تمسكت بالمؤتمر متجاوزة خطة حزب الأمة لأخذ المؤتمر تحت جناحه. وانضم كثير من أعضاء لجان المؤتمر في الأقاليم للأشقاء بعد قيام المؤتمر. واعتزلت اللجان الخلافات الحادة حول الاتحاد أو الاستقلال التي ضربت الخرطوم ودارت حول وفد الأحزاب إلى القاهرة في 1946. وانشغلت تلك اللجان يإقامة الأسواق الخيرية لجمع المال للمؤتمر ودعم خطه السياسي.
وأعان رفع مركز المؤتمر يده عن تدبير الخطط للأقاليم، في قول خضر، على تخصيب خيال لجان الأقاليم في المبادرة بما اتفق لها من مشروعات بقوة على أنه خطة للمؤتمر. فمن ذلك أن لجنة المؤتمر بمدني قررت بناء مدرسة أولية في قرية العديد بنواحي بلدة أبو عشر. ورحب بها يوسف متولي شيخ القرية وتبرع لها. ولم يوافق المفتش الإنجليزي على قيامها حتى جاءه التصديق من وزارة المعارف. فامتثل.
استنكر خضر، وهو سكرتير حزب الأشقاء، كلمة لإسماعيل الأزهري، رئيس الحزب ومؤتمر الخريجين، قال فيها إنه ينبغي للسودانيين ألا يركنوا للشعب المصري الذي وصفه جلاده إسماعيل صدقي، رئيس وزراء مصر، بأنه شعب كل حكومة. ورأى خضر أنها كلمة لا يجوز قولها بحق الشعب الشقيق. وبدا له أن تغيراً اعترى الأشقاء والمؤتمر حيال مصر. وشاركته لجان مؤتمر الخريجين في عدم الرضا من كلمة رئيسه. ولم يرض الأزهري بدوره من كلمة خضر عمر. واكتنفت تلك المخاشنة إثارة وسط الأشقاء مفادها أن الأزهري ويحي الفضلي كانا يجتمعان مع عبد الله خليل، سكرتير حزب الأمة، في منزله من وراء الحزب والمؤتمر. ولم يكن حتى خضر، سكرتير الحزب، مطلعاً على مجرى تلك اللقاءات بين الخصمين اللدودين. وطفح خبر تلك اللقاءات في الصحف وأثارت أشقاء الأقاليم. وتوالت أسئلتهم عما يدور في الخفاء.
ووقع جفاء بين الأزهري وخضر من جراء كل ذلك. واتفق للأزهري فصل خضر عمر من الحزب. ووقع الفصل في اجتماع ببيت الأزهري لينقسم الحزب نتيجة لذلك. وتحركت مظاهرة لمنزل خضر حمد بالملازمين لم يُفصل خضر في صفتها. وأغلب الظن أنها كانت عدائية له. وكان على رأس الجناح المناوئ للأزهري أحمد خير ومحمد نور الدين. وصار الأخير رئيساً للحزب المنشق بعد فصله للأزهري سدة بسدة.
وكان للانقسام ردة فعل أسيفة في مصر. فبعثت وفداً من مجلس النواب المصري وصحفيين على رأسهم أحمد أبو الفتح، رئيس تحرير جريدة "المصري"، لإعادة المياه إلى مجاريها بين الطائفتين. ولم ينجح المسعي إلا أنها بذرة لمساعي مصر رأب الصدع الاتحادي التي انطوت بها انشقاقاتهم في مصر في 1953 بتكوين الحزب الوطني الاتحادي الذي فاز بانتخابات 1954، وكون الحكومة السودانية الأولى.
كانت لندن مثل القاهرة مقصد أحزاب السودان للدعوة لصورتها لما يكون عليه السودان بعد الحكم الذاتي. فسافر وفد من الأشقاء تكون من نور الدين وخضر من جناح نور الدين ومحمد أمين حسين ومبارك زروق ويحي الفضلي من جناح الأزهري، والدكتور علي عروة وميرغني حمزة من الجبهة الوطنية لبريطانيا لعرض مسألتهم عن مستقبل السودان. وكان ما أملى قيام ذلك الوفد زيارة سبقت للسيد عبد الرحمن المهدي، راعي حزب الأمة وذي الميل غير الخفي لبريطانيا في نزاعها مع مصر حول الوضع السوداني، لبريطانيا. وعقد الوفد الاتحادي مؤتمراً صحفياً في لندن للقول بأن السيد عبد الرحمن لا يمثل السودان وليستحثوا بريطانيا لمنح السودان الحكم الذاتي. وعرضوا على البريطانيين مدى وسع نفوذهم السياسي في المجالس المحلية والأندية مقارنة بنفوذ حزب الامة. وعلق ضابط إنجليزي كان عمل في السودان أن متى كان العمال من تابعيتهم حين قال الأشقاء إن العمال من ضمن مؤيديهم. وانتهز وفد الاتحاديين فرصة في البرلمان البريطاني لشكر الرأي العام البريطاني، لا الحكومة البريطانية، لأنه وفر لهم سانحة عرض وجهة نظرهم في النزاع السوداني من فوق منبر برلمانهم.
سافرت وفود الأحزاب الاتحادية إلى مصر بعد عودتها من بريطانيا بدعوة من الحكومة المصرية. وكانت مصر قبلت بحق السودانيين في الحكم الذاتي وتقرير مصيرهم بعد انقلاب 1952. وسيمارس السودانيون بعد انتخابات اتحاداً مع مصر أو استقلالاً عنها في استفتاء عام. وبالطبع حرصت مصر من فوق ذلك الموقف المستجد على وحدة الاتحاديين لترجيح كفة وحدة السودانيين معها. وكانت خصومات الاتحاديين مغلظة وتركت آثاراً سالبة في النفوس. ولكنهم تواثقوا مع ذلك معجلين على اندماجهم في حزب واحد. وتكونت لجنة ثلاثية لاقتراح اسم للحزب. وقبلت اللجنة اقتراح الدرديري أحمد إسماعيل بأن يسمى "الوطني الاتحادي". وتم بالتالي حل أجنحة الأشقاء لتتكون الهيئة العامة للحزب من ستين عضواً كان خضر عمر فيهم. وانعقد اجتماعها الأول في بيت اللواء محمد نجيب.
ظل خضر متمسكاً بموقفه الأول من الأزهري ما يزال. فاستقال من الحزب الجديد بعد توحيد الاتحاديين فيه. ونشر بيان استقالته في جريدة "المصري" ولكن تم نزعها من الجريدة في منتصف الليل. وغادر القاهرة. وتشكلت لجنة الحزب الجديد في دار محمد نجيب أيضاً. وصار الأزهري رئيساً له. وأبعد كل من خضر عمر ويحي الفضلي من اللجنة التنفيذية للحزب لأن وجودهما فيه كان سيكون خميرة عكننة. وكان أول اجتماع للستينية في الخرطوم. وامتنع خضر من حضوره. ولمح إلى أنه اختار ألا يكون فيه ولا أن يعارضه. فلو نجح الحزب في مقاصده كان ذلك يوم المنا. وإن فشل فلا يريد خضر أن يعزى الأمر إليه.
رحمه الله. رحمه الله. رحمه الله.

IbrahimA@missouri.edu

 

آراء