تأكيد المؤكد في الحرب السودانية 2023
علاء الدين أبومدين
5 September, 2023
5 September, 2023
تاريخ الحروب في كل نواحي الكرة الأرضية منذ نشأة البشر عليها وحتى الآن، يقول بأن الحرب تتوقف للسببين التاليين، وليس لأي سبب آخر:
أولاً، تتوقف الحرب نتيجة لانتصار أحد طرفي الحرب على الطرف الآخر؛
ثانياً، تتوقف الحرب نتيجة لوصول الطرفين المتقاتلين لقناعة بعدم الاستمرار فيها، سواء أحدث هذا جراء إنهاك واستنزاف الطرفين لدرجة لا تسمح لهما بالاستمرار في مواصلة القتال، أو بسبب إنهاك واستنزاف أحد طرفي الحرب وإعلانه وقف القتال من طرف واحد جراء هزيمته.. وذلك بغض النظر عن العوامل التي أدت بطرفي القتال أو أحدهما إلى قناعة بعدم الاستمرار في الحرب...
وحسب اهتماماتي ومعرفتي المتواضعة بالمجتمع السوداني وثقافته وقيمه الحاكمة، أرى أن ما صنعته الحرب من ضرر وتأثير ممتد على الصعيد النفسي والاجتماعي بالسودان، أضخم بكثير من الضرر المادي، لكنه كذلك قد يُمثل مدخلاً لبناء سودان جديد بما خلقته الحرب من هزة في بعض مُسلمات العقل السوداني.. وهذا ليس موضوع هذه المقالة... فهذه المقالة معنية بالتهيئة لتحديات ما بعد الحرب على صعيد مجابهة التحديات النفسية والاجتماعية.. لأن قناعتي الشخصية هي أن الحرب السودانية الجارية الآن تعيش فصولها الأخيرة إذا استمرت على نفس الوتيرة الجارية بدون تدخل خارجي كبير، وأن أساس بناء السودان الجديد هو الفرد والمجتمع السودانيين مصطحباً دور هزة وصدمة وترويع الحرب الجارية في توجهات العقل السوداني اللاحقة.. أقول ذلك على أساس من إيماني العالي بالمستوى العالي لدرجة سمة رباطة الجأش Resilience لدى الشخصية السودانية كسمة إيجابية..
المؤكد أن الكثيرين ممن لم يعايشوا حروباً مباشرة أو لم يتعاملوا مع ضحايا الحروب بشكل مباشر.. لا يمكنهم فهم أو تصُّور مدى التأثير الكبير والممتد للأضرار الاجتماعية والنفسية للحروب، خاصة التي تحدث للأفراد جراء إصابات جسدية في الحروب، عند مقارنة تلك الأضرار بالأضرار التي تصيب الممتلكات والتي قد تكون أضراراً مؤقتة...
في البداية فإن تخريب النسيج الاجتماعي (المهترئ أصلاً) جراء استثمار الإسلاميون السودانيون في بث الفرقة والانقسام في المجتمع السوداني بناءً على قاعدة فرِّق تسُد Divide to rule المعروفة، كان قد بعث حيويةً في النزعات القبلية والجهوية التي كانت في حالة هبوط، ووصل الأمر إلى مستوى تسييس النقابات والاتحادات والروابط القبلية والجهوية، ولتصل شواظ نيران ذلك (بدرجة أو بأخرى) إلى كل الأحزاب بما في ذلك حزب المؤتمر الوطني المحظور، الذي ابتدر تلك الممارسة الخطيرة لأول مرة في سياق سودان ما بعد جلاء الاستعمار .. ريثما ازداد الطين بِلة عبر ما عُرِّف باسم (كتائب الجهاد الالكتروني) لتفعل فعلها وتنقل الصراعات إلى مستويات جماهيرية أكبر.. وشكَّلت كتائب الجهاد الالكتروني مفهوماً وممارسات جديدة استعارها البعض عقب تشكيل حكومة حمدوك ليستخدمها الجميع ضد الجميع حسب توفر الموارد المالية وتدهور الأوضاع الاقتصادية ومن ثم مدى اهتزاز وتراجع الضوابط الأخلاقية.. وقد قامت عناصر معروفة من نظام البشير من القيادات الوسطى وأخرى غير معروفة بدور واضح ومفهوم في تلك الخلايا الالكترونية (الهجين) للجهاد الالكتروني عند بدء الصراع بين القوى الموقعة على إعلان الحرية والتغيير... ثم لعبت الأطماع الشخصية والحزبية الضيقة، خاصة تلك المدفوعة بأجندة وحوافز وتسهيلات أجنبية، دوراً كبيراً في انتشار ظاهرة (الردم في السوشيال ميديا).. فإن أردت تقديم تعريف لمعنى (الردم) كمصطلح، أستطيع أن أقول: هو الظاهرة التي تنهض أساساً على كيل سيل من دفعات مُتلاحقة الأمواج من الاتهامات والشتائم بما في ذلك الشتائم الشخصية بألفاظ نابية بحيث يغطي (يردم) سيل دفعات الأمواج المُتلاحقة على موضوع المادة المنشورة، ومن ثم يعجز صاحب المادة المنشورة عن الرد على سيل الهجوم الالكتروني المتواصل بسبب كثرته وتلاحقه أو بسبب الإحساس بالحرج الشخصي إزاء عملية تشويه سمعته ومحاولة اغتيال شخصيته المعنوية وتشويه صورة أسرته.. إلخ.. والهدف من كل ذلك هو أن يصاب صاحب المنشور بالإحباط ويكف عن معارضة آراء وخطط خصومه..
وقد ترافقت ظاهرة ازدياد ظاهرة الخلايا الالكترونية المدفوعة الأجر في السوشيال ميديا مع تفشي البطالة وتدهور الأجور وتداخل المصالح المحلية والأجنبية مع آمال نخبة صغيرة للغاية (مجهرية) يمكن وصفها بأنها أقل من محدودة وغير ديمقراطية ومحبطة وتسعى إلى تحقيق ما تراه اختراق ثوري سريع على غرار ما جرى في بعض الدول بحافز ووقود مادي ومالي لا علاقة له بأي مشروع سياسي أو فكري ويقوم أساس ترويجه على: سوف نبدأ صفحة جديدة في تاريخ السودان "على ميَّه بيضاء" فقط ساعدونا في التخلص من اللجنة الأمنية للبشير برئاسة (الكوز) البرهان وزمرته، وسوف نتفق لاحقاً على كل شيء!!!؟؟؟ بما يثبت فرضية أن العوامل الرئيسية التي حسمت هذا التوجه (الانقلابي) لديهم تتلخص في أربعة عوامل رئيسية، كالتالي:
1. عامل التفكير الشمولي غير الديمقراطي؛
2. عامل الاحباطات المتكررة؛
3. عامل الحافز المادي والمالي والمعنوي الفعلي أو المُتوقع؛
4. عامل الفهم السطحي لطبيعة المجتمع السوداني وثقافته وقيمه الحاكمة التي تشكَّلت عبر آلاف السنين.. تلك الثقافة والقيم الحاكمة التي استدعى الثوار بعضها في اعتصام القيادة العامة وغيره من اعتصامات شملت كافة أقاليم السودان.
الشاهد تلك الكثافة غير المعهودة للإنتاج الإعلامي ومستوى الوصولية العالي للجماهير عبر إعلام خلايا الجهاد الالكتروني (الجديدة) الهجينة ومنصاتها المتعددة التي احتوت منشورات متعددة المستويات من ناحية مستوى المصداقية Credibility والخطاب Discourse والتي يُنشر فيها النوع الأكثر تدنياً من ناحية مستوى المصداقية والخطاب بدون توقيع أو/ تحت توقيع "منقول".. وقد يشمل ذلك النوع مواداً تحتوي على تنميط عنصري.. بينما جرى استخدام أنظمة التزييف العميق Deep fake والذكاء الاصطناعي Artificial Intelligence من أجل التزييف والتزوير والاغتيال المعنوي للأفراد والشخصيات الاعتبارية مما يُصنف كصنف أول (درجة أولى) عند تجويده، وبالتالي يُمكن تمريره لتبثه عدة منصات إعلامية محسوبة على جهات داعمة.. وشمل هذا النوع الأخير تزوير خطابات رسمية صارت (تدريجياً) أكثر جودة وكذلك تزوير أحاديث.. وهذا أمر لم تشهد البشرية مثله من قبل من حيث كثافة الإنتاج الإعلامي ومستوى الوصولية للجماهير.. مما جعل السودان يبدو كمختبر كبير لتجربة تأثير تلك التقنيات والتطبيقات على شعوب شبيهة...
لكن الانتشار السريع لأنظمة ونماذج التزييف العميق والذكاء الاصطناعي على مستوى العالم، لفت الانتباه لخطرها ودفع (لاحقاً) مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بعد حوالي سنة على محاولة تشويه صورة القيادي السوداني/ مني أركو مناوي (بفيلم جنس إباحي) إلى عقد جلسة لمجلس الأمن حول خطر الذكاء الاصطناعي على الأمن والسلم الإقليمي والدولي... فمنذ تاريخ محاولة تشويه صورة مناوي قبل أكثر من سنة، حدث تطور ملحوظ فيما يُعرف باسم التزييف العميق والذكاء الاصطناعي تيقن على إثره جميع المعنيين وعلى رأسهم مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، أن تلك الأنظمة تُمثل خطراً كبيراً على الأمن والسلم الإقليمي والدولي، وليس مجرد أن ممارساته: "قد تسمم الحياة السياسية السودانية" أو "بما قد يؤدي إلى جرائم كبرى حسب تركيبة وثقافة المجتمع السوداني" كما قلت قبل أكثر من سنة بخصوص الفيديو الإباحي المزوَّر حول السيد/ مني أركو مناوي، قائد حركة تحرير السودان، على صفحتي بالفيسبوك... هكذا فإن الوعي بالخطر المحدق لأنظمة التزييف العميق والذكاء الاصطناعي عند إساءة استخدامهما، هو ما استدعى عقد جلسة لمجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة في 18 يوليو من السنة الجارية 2023 خصصها لنظام جمعهما وأنظمة أخرى، أُطلق عليه اسم أنظمة الذكاء الاصطناعي... وكان الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، قد قال في كلمته بتلك المناسبة: "إن الاستخدامات الضارة لأنظمة الذكاء الاصطناعي لأغراض إرهابية أو إجرامية أو لصالح دولة، يمكن أن تتسبب في مستويات مرعبة من الموت والدمار وتفشي الصدمات والضرر النفسي العميق على نطاق يفوق التصور".
لذا، وعلى صعيد السودان، فقد تُمسي معالجة آثار الصدمة النفسية أكثر صعوبة بما يوِّلده التزييف العميق والذكاء الاصطناعي من شعور (عميق) بالغبينة.. بل كيف أنه في أصل اضطرابات ما بعد الصدمة PTSDs في مجال ضحايا الحرب من المدنيين، أنها قد تحتاج إلى أكثر من عقود وعقود لمداواتها، بينما تظل هنالك نسبة من المصابين، غير قابلة للشفاء على غِرار ما كان يحدث حتى قبل اختراع تطبيقات التزييف العميق والذكاء الاصطناعي.. وتكفي كإشارة في هذا الصدد أن القول السوداني السائر: "إنتا قايل الدُنيا مهدية" في إشارة تاريخية لفوضى في فترة (معينة) لدولة المهدية قد وصل لعدة لأجيال وأجيال على صورة محنة بعد انتهاء دولة المهدية... بينما استدعى عدة كُتاب تجربة بعض فصول دولة المهدية قبل وإبان الحرب الجارية كمحنة يخشون تكرارها..
في تقديري أن الأضرار المادية في الممتلكات الناتجة عن الحرب الجارية، أقل وأخف بكثير من الأضرار الاجتماعية والنفسية والإصابات الجسدية جراء الحروب التي طالت أعداد مُقدَّرة من الشعب السوداني حتى الآن.. إذ كل من يعرف طبيعة التركيبة الاجتماعية للشعب السوداني وقيمه الثقافية والاجتماعية الحاكمة، يفهم ويُقدِّر ذلك تماماً... تكفي هنا أيضاً الإشارة إلى انكفاء غالبية قوى الهامش نحو أقاليمها فيما يُفهم كإزورار لتجنب تكرار تجربة الحرب أو تهيئة للانفصال في بعد آخر للإزورار (ما لهم وما للقراية أم دق) حسب إشارة تقليدية في السودان إلى تجنب مشاق لا لزوم لها.. ومن هؤلاء أقوى حركتين مسلحتين لقوى الهامش كما تمثلهما: حركة تحرير السودان بقيادة/ مني أركو مناوي، وحركة العدل والمساواة بقيادة/ جبريل إبراهيم.. وغير ذلك من محاولات القوات المشتركة بدارفور وكل قوى الهامش بدارفور (حتى الآن) لتجنب الحرب وتداعياتها في دارفور.. وهذا سلوك إيجابي ومفيد يأتي ممن خبِّر الحرب وحذَّر عدة مرات من خطر اشتعالها، سواء أكانت مساعي تجنب الحرب، قد بُذلت في دارفور أو في باقي عموم السودان؛ بشرط عدم سعي كلا طرفي الحرب أو أي طرف منهما لتمديد نطاق الحرب إلى دارفور مع سبق الإصرار والترصد، فلا يبقى أمام المحايدين سوى خوض الحرب دفاعاً عن أنفسهم وأهاليهم...
وذات الحرب التي يعني الكثيرون اليوم بعدم تمددها لولايات آمنة عن حق، ظن البعض أنها مجرد نزهة بسيارات الدفع الرباعي (التاتشرات) في مدينة مروي بشمال السودان وبالعاصمة السودانية بمدنها الثلاث، يعلنون بعدها اعتقال البرهان أو قتله وبداية نظام سياسي جديد.. كما أعلن ذلك محمد حمدان دقلو (حميدتي) في فجر اليوم الأول لانقلاب القصر بتاريخ 15 أبريل 2023 وبعد وقت قصير من بدء العمليات الحربية، مؤكداً أنه يُسيطر تماماً على 90% من المنشئات الاستراتيجية والقواعد والحاميات العسكرية..
وأعيد هنا تأكيد أن انكفاء حركات الهامش على أقاليمها الذي حدث بعد فترة قصيرة من اندلاع الحرب الجارية كان مما قد كتبت فيه بقروبات الواتساب وعلى الفيسبوك مستخدماً تعبيراً سودانياً تقليدياً للتدليل على ذلك بقولي: "ما لهم وما للقراية أم دق" وذلك منذ بداية الهجمة الشرسة على قيادات الهامش لأنهم لم يصطفوا إلى جانب المجلس المركزي للحرية والتغيير عقب انقلاب الجنرال عبد الفتاح البرهان والجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي) في 25 أكتوبر 2021 قبل حوالي سنتين من اليوم.. وتداخل معي البعض وقتها مستنكرين وقائلين إن هذه افتراضات غير صحيحة وأن هؤلاء لا يمثلون إلا أنفسهم وليس لهم جماهير!!! وأن شعار: يا عنصري ومغرور كل البلد دارفور.. إلخ، قد جَبَّ ما قبله!!!
المهم أن فصول الحرب الأخيرة تُكتب في هذه الأيام لصالح الجيش السوداني، ما لم يطرأ تدخل خارجي ضخم.. وترتيب المشهد بعد الحرب لصالح وحدة السودان الحالي وتحقيق انتقال سلس يُوصِلنا إلى انتخابات حرة ونزيهة، يتطلب بالإضافة للمداواة من آثار الصدمة النفسية Trauma على مستوى الضرر الاجتماعي والنفسي لبعض الأفراد وربما بعض أفراد النخبة (المجهرية) الشمولية المحبطة التي تدرك حقيقة وضعها وتقبل العلاج... يتطلب أيضاً صيغة شاملة ووافية لغرض إحداث تطييب خواطر جماعي لكل المواطنين باعتذارات مكتوبة ومسموعة ومرئية ومنشورة وواضحة من طرف من تسببوا بشكل رئيسي بكل ما جرى ويجري حتى الآن، فالاعتذار بصيغة وافية، ربما يكون هو كل ما يطلبه غالبية الشعب الذين لم تقع عليهم جرائم جنائية.. وعلى رأس المعنيين بتقديم الاعتذار الواضح والمنشور، جماعة الاتفاق الإطاري بطرفيه المدني والعسكري.. دون أن يعني ذلك بأي حال، أي إعفاء من الجرائم الجنائية لكل من تورط فيها، خاصةً جرائم الحرب...
abumedian123@gmail.com
أولاً، تتوقف الحرب نتيجة لانتصار أحد طرفي الحرب على الطرف الآخر؛
ثانياً، تتوقف الحرب نتيجة لوصول الطرفين المتقاتلين لقناعة بعدم الاستمرار فيها، سواء أحدث هذا جراء إنهاك واستنزاف الطرفين لدرجة لا تسمح لهما بالاستمرار في مواصلة القتال، أو بسبب إنهاك واستنزاف أحد طرفي الحرب وإعلانه وقف القتال من طرف واحد جراء هزيمته.. وذلك بغض النظر عن العوامل التي أدت بطرفي القتال أو أحدهما إلى قناعة بعدم الاستمرار في الحرب...
وحسب اهتماماتي ومعرفتي المتواضعة بالمجتمع السوداني وثقافته وقيمه الحاكمة، أرى أن ما صنعته الحرب من ضرر وتأثير ممتد على الصعيد النفسي والاجتماعي بالسودان، أضخم بكثير من الضرر المادي، لكنه كذلك قد يُمثل مدخلاً لبناء سودان جديد بما خلقته الحرب من هزة في بعض مُسلمات العقل السوداني.. وهذا ليس موضوع هذه المقالة... فهذه المقالة معنية بالتهيئة لتحديات ما بعد الحرب على صعيد مجابهة التحديات النفسية والاجتماعية.. لأن قناعتي الشخصية هي أن الحرب السودانية الجارية الآن تعيش فصولها الأخيرة إذا استمرت على نفس الوتيرة الجارية بدون تدخل خارجي كبير، وأن أساس بناء السودان الجديد هو الفرد والمجتمع السودانيين مصطحباً دور هزة وصدمة وترويع الحرب الجارية في توجهات العقل السوداني اللاحقة.. أقول ذلك على أساس من إيماني العالي بالمستوى العالي لدرجة سمة رباطة الجأش Resilience لدى الشخصية السودانية كسمة إيجابية..
المؤكد أن الكثيرين ممن لم يعايشوا حروباً مباشرة أو لم يتعاملوا مع ضحايا الحروب بشكل مباشر.. لا يمكنهم فهم أو تصُّور مدى التأثير الكبير والممتد للأضرار الاجتماعية والنفسية للحروب، خاصة التي تحدث للأفراد جراء إصابات جسدية في الحروب، عند مقارنة تلك الأضرار بالأضرار التي تصيب الممتلكات والتي قد تكون أضراراً مؤقتة...
في البداية فإن تخريب النسيج الاجتماعي (المهترئ أصلاً) جراء استثمار الإسلاميون السودانيون في بث الفرقة والانقسام في المجتمع السوداني بناءً على قاعدة فرِّق تسُد Divide to rule المعروفة، كان قد بعث حيويةً في النزعات القبلية والجهوية التي كانت في حالة هبوط، ووصل الأمر إلى مستوى تسييس النقابات والاتحادات والروابط القبلية والجهوية، ولتصل شواظ نيران ذلك (بدرجة أو بأخرى) إلى كل الأحزاب بما في ذلك حزب المؤتمر الوطني المحظور، الذي ابتدر تلك الممارسة الخطيرة لأول مرة في سياق سودان ما بعد جلاء الاستعمار .. ريثما ازداد الطين بِلة عبر ما عُرِّف باسم (كتائب الجهاد الالكتروني) لتفعل فعلها وتنقل الصراعات إلى مستويات جماهيرية أكبر.. وشكَّلت كتائب الجهاد الالكتروني مفهوماً وممارسات جديدة استعارها البعض عقب تشكيل حكومة حمدوك ليستخدمها الجميع ضد الجميع حسب توفر الموارد المالية وتدهور الأوضاع الاقتصادية ومن ثم مدى اهتزاز وتراجع الضوابط الأخلاقية.. وقد قامت عناصر معروفة من نظام البشير من القيادات الوسطى وأخرى غير معروفة بدور واضح ومفهوم في تلك الخلايا الالكترونية (الهجين) للجهاد الالكتروني عند بدء الصراع بين القوى الموقعة على إعلان الحرية والتغيير... ثم لعبت الأطماع الشخصية والحزبية الضيقة، خاصة تلك المدفوعة بأجندة وحوافز وتسهيلات أجنبية، دوراً كبيراً في انتشار ظاهرة (الردم في السوشيال ميديا).. فإن أردت تقديم تعريف لمعنى (الردم) كمصطلح، أستطيع أن أقول: هو الظاهرة التي تنهض أساساً على كيل سيل من دفعات مُتلاحقة الأمواج من الاتهامات والشتائم بما في ذلك الشتائم الشخصية بألفاظ نابية بحيث يغطي (يردم) سيل دفعات الأمواج المُتلاحقة على موضوع المادة المنشورة، ومن ثم يعجز صاحب المادة المنشورة عن الرد على سيل الهجوم الالكتروني المتواصل بسبب كثرته وتلاحقه أو بسبب الإحساس بالحرج الشخصي إزاء عملية تشويه سمعته ومحاولة اغتيال شخصيته المعنوية وتشويه صورة أسرته.. إلخ.. والهدف من كل ذلك هو أن يصاب صاحب المنشور بالإحباط ويكف عن معارضة آراء وخطط خصومه..
وقد ترافقت ظاهرة ازدياد ظاهرة الخلايا الالكترونية المدفوعة الأجر في السوشيال ميديا مع تفشي البطالة وتدهور الأجور وتداخل المصالح المحلية والأجنبية مع آمال نخبة صغيرة للغاية (مجهرية) يمكن وصفها بأنها أقل من محدودة وغير ديمقراطية ومحبطة وتسعى إلى تحقيق ما تراه اختراق ثوري سريع على غرار ما جرى في بعض الدول بحافز ووقود مادي ومالي لا علاقة له بأي مشروع سياسي أو فكري ويقوم أساس ترويجه على: سوف نبدأ صفحة جديدة في تاريخ السودان "على ميَّه بيضاء" فقط ساعدونا في التخلص من اللجنة الأمنية للبشير برئاسة (الكوز) البرهان وزمرته، وسوف نتفق لاحقاً على كل شيء!!!؟؟؟ بما يثبت فرضية أن العوامل الرئيسية التي حسمت هذا التوجه (الانقلابي) لديهم تتلخص في أربعة عوامل رئيسية، كالتالي:
1. عامل التفكير الشمولي غير الديمقراطي؛
2. عامل الاحباطات المتكررة؛
3. عامل الحافز المادي والمالي والمعنوي الفعلي أو المُتوقع؛
4. عامل الفهم السطحي لطبيعة المجتمع السوداني وثقافته وقيمه الحاكمة التي تشكَّلت عبر آلاف السنين.. تلك الثقافة والقيم الحاكمة التي استدعى الثوار بعضها في اعتصام القيادة العامة وغيره من اعتصامات شملت كافة أقاليم السودان.
الشاهد تلك الكثافة غير المعهودة للإنتاج الإعلامي ومستوى الوصولية العالي للجماهير عبر إعلام خلايا الجهاد الالكتروني (الجديدة) الهجينة ومنصاتها المتعددة التي احتوت منشورات متعددة المستويات من ناحية مستوى المصداقية Credibility والخطاب Discourse والتي يُنشر فيها النوع الأكثر تدنياً من ناحية مستوى المصداقية والخطاب بدون توقيع أو/ تحت توقيع "منقول".. وقد يشمل ذلك النوع مواداً تحتوي على تنميط عنصري.. بينما جرى استخدام أنظمة التزييف العميق Deep fake والذكاء الاصطناعي Artificial Intelligence من أجل التزييف والتزوير والاغتيال المعنوي للأفراد والشخصيات الاعتبارية مما يُصنف كصنف أول (درجة أولى) عند تجويده، وبالتالي يُمكن تمريره لتبثه عدة منصات إعلامية محسوبة على جهات داعمة.. وشمل هذا النوع الأخير تزوير خطابات رسمية صارت (تدريجياً) أكثر جودة وكذلك تزوير أحاديث.. وهذا أمر لم تشهد البشرية مثله من قبل من حيث كثافة الإنتاج الإعلامي ومستوى الوصولية للجماهير.. مما جعل السودان يبدو كمختبر كبير لتجربة تأثير تلك التقنيات والتطبيقات على شعوب شبيهة...
لكن الانتشار السريع لأنظمة ونماذج التزييف العميق والذكاء الاصطناعي على مستوى العالم، لفت الانتباه لخطرها ودفع (لاحقاً) مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بعد حوالي سنة على محاولة تشويه صورة القيادي السوداني/ مني أركو مناوي (بفيلم جنس إباحي) إلى عقد جلسة لمجلس الأمن حول خطر الذكاء الاصطناعي على الأمن والسلم الإقليمي والدولي... فمنذ تاريخ محاولة تشويه صورة مناوي قبل أكثر من سنة، حدث تطور ملحوظ فيما يُعرف باسم التزييف العميق والذكاء الاصطناعي تيقن على إثره جميع المعنيين وعلى رأسهم مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، أن تلك الأنظمة تُمثل خطراً كبيراً على الأمن والسلم الإقليمي والدولي، وليس مجرد أن ممارساته: "قد تسمم الحياة السياسية السودانية" أو "بما قد يؤدي إلى جرائم كبرى حسب تركيبة وثقافة المجتمع السوداني" كما قلت قبل أكثر من سنة بخصوص الفيديو الإباحي المزوَّر حول السيد/ مني أركو مناوي، قائد حركة تحرير السودان، على صفحتي بالفيسبوك... هكذا فإن الوعي بالخطر المحدق لأنظمة التزييف العميق والذكاء الاصطناعي عند إساءة استخدامهما، هو ما استدعى عقد جلسة لمجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة في 18 يوليو من السنة الجارية 2023 خصصها لنظام جمعهما وأنظمة أخرى، أُطلق عليه اسم أنظمة الذكاء الاصطناعي... وكان الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، قد قال في كلمته بتلك المناسبة: "إن الاستخدامات الضارة لأنظمة الذكاء الاصطناعي لأغراض إرهابية أو إجرامية أو لصالح دولة، يمكن أن تتسبب في مستويات مرعبة من الموت والدمار وتفشي الصدمات والضرر النفسي العميق على نطاق يفوق التصور".
لذا، وعلى صعيد السودان، فقد تُمسي معالجة آثار الصدمة النفسية أكثر صعوبة بما يوِّلده التزييف العميق والذكاء الاصطناعي من شعور (عميق) بالغبينة.. بل كيف أنه في أصل اضطرابات ما بعد الصدمة PTSDs في مجال ضحايا الحرب من المدنيين، أنها قد تحتاج إلى أكثر من عقود وعقود لمداواتها، بينما تظل هنالك نسبة من المصابين، غير قابلة للشفاء على غِرار ما كان يحدث حتى قبل اختراع تطبيقات التزييف العميق والذكاء الاصطناعي.. وتكفي كإشارة في هذا الصدد أن القول السوداني السائر: "إنتا قايل الدُنيا مهدية" في إشارة تاريخية لفوضى في فترة (معينة) لدولة المهدية قد وصل لعدة لأجيال وأجيال على صورة محنة بعد انتهاء دولة المهدية... بينما استدعى عدة كُتاب تجربة بعض فصول دولة المهدية قبل وإبان الحرب الجارية كمحنة يخشون تكرارها..
في تقديري أن الأضرار المادية في الممتلكات الناتجة عن الحرب الجارية، أقل وأخف بكثير من الأضرار الاجتماعية والنفسية والإصابات الجسدية جراء الحروب التي طالت أعداد مُقدَّرة من الشعب السوداني حتى الآن.. إذ كل من يعرف طبيعة التركيبة الاجتماعية للشعب السوداني وقيمه الثقافية والاجتماعية الحاكمة، يفهم ويُقدِّر ذلك تماماً... تكفي هنا أيضاً الإشارة إلى انكفاء غالبية قوى الهامش نحو أقاليمها فيما يُفهم كإزورار لتجنب تكرار تجربة الحرب أو تهيئة للانفصال في بعد آخر للإزورار (ما لهم وما للقراية أم دق) حسب إشارة تقليدية في السودان إلى تجنب مشاق لا لزوم لها.. ومن هؤلاء أقوى حركتين مسلحتين لقوى الهامش كما تمثلهما: حركة تحرير السودان بقيادة/ مني أركو مناوي، وحركة العدل والمساواة بقيادة/ جبريل إبراهيم.. وغير ذلك من محاولات القوات المشتركة بدارفور وكل قوى الهامش بدارفور (حتى الآن) لتجنب الحرب وتداعياتها في دارفور.. وهذا سلوك إيجابي ومفيد يأتي ممن خبِّر الحرب وحذَّر عدة مرات من خطر اشتعالها، سواء أكانت مساعي تجنب الحرب، قد بُذلت في دارفور أو في باقي عموم السودان؛ بشرط عدم سعي كلا طرفي الحرب أو أي طرف منهما لتمديد نطاق الحرب إلى دارفور مع سبق الإصرار والترصد، فلا يبقى أمام المحايدين سوى خوض الحرب دفاعاً عن أنفسهم وأهاليهم...
وذات الحرب التي يعني الكثيرون اليوم بعدم تمددها لولايات آمنة عن حق، ظن البعض أنها مجرد نزهة بسيارات الدفع الرباعي (التاتشرات) في مدينة مروي بشمال السودان وبالعاصمة السودانية بمدنها الثلاث، يعلنون بعدها اعتقال البرهان أو قتله وبداية نظام سياسي جديد.. كما أعلن ذلك محمد حمدان دقلو (حميدتي) في فجر اليوم الأول لانقلاب القصر بتاريخ 15 أبريل 2023 وبعد وقت قصير من بدء العمليات الحربية، مؤكداً أنه يُسيطر تماماً على 90% من المنشئات الاستراتيجية والقواعد والحاميات العسكرية..
وأعيد هنا تأكيد أن انكفاء حركات الهامش على أقاليمها الذي حدث بعد فترة قصيرة من اندلاع الحرب الجارية كان مما قد كتبت فيه بقروبات الواتساب وعلى الفيسبوك مستخدماً تعبيراً سودانياً تقليدياً للتدليل على ذلك بقولي: "ما لهم وما للقراية أم دق" وذلك منذ بداية الهجمة الشرسة على قيادات الهامش لأنهم لم يصطفوا إلى جانب المجلس المركزي للحرية والتغيير عقب انقلاب الجنرال عبد الفتاح البرهان والجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي) في 25 أكتوبر 2021 قبل حوالي سنتين من اليوم.. وتداخل معي البعض وقتها مستنكرين وقائلين إن هذه افتراضات غير صحيحة وأن هؤلاء لا يمثلون إلا أنفسهم وليس لهم جماهير!!! وأن شعار: يا عنصري ومغرور كل البلد دارفور.. إلخ، قد جَبَّ ما قبله!!!
المهم أن فصول الحرب الأخيرة تُكتب في هذه الأيام لصالح الجيش السوداني، ما لم يطرأ تدخل خارجي ضخم.. وترتيب المشهد بعد الحرب لصالح وحدة السودان الحالي وتحقيق انتقال سلس يُوصِلنا إلى انتخابات حرة ونزيهة، يتطلب بالإضافة للمداواة من آثار الصدمة النفسية Trauma على مستوى الضرر الاجتماعي والنفسي لبعض الأفراد وربما بعض أفراد النخبة (المجهرية) الشمولية المحبطة التي تدرك حقيقة وضعها وتقبل العلاج... يتطلب أيضاً صيغة شاملة ووافية لغرض إحداث تطييب خواطر جماعي لكل المواطنين باعتذارات مكتوبة ومسموعة ومرئية ومنشورة وواضحة من طرف من تسببوا بشكل رئيسي بكل ما جرى ويجري حتى الآن، فالاعتذار بصيغة وافية، ربما يكون هو كل ما يطلبه غالبية الشعب الذين لم تقع عليهم جرائم جنائية.. وعلى رأس المعنيين بتقديم الاعتذار الواضح والمنشور، جماعة الاتفاق الإطاري بطرفيه المدني والعسكري.. دون أن يعني ذلك بأي حال، أي إعفاء من الجرائم الجنائية لكل من تورط فيها، خاصةً جرائم الحرب...
abumedian123@gmail.com