مغامرات شارب خمر التمر “وعاصر خمر تمره الميّت في بلدة الموتى”
رئيس التحرير: طارق الجزولي
3 November, 2023
3 November, 2023
مغامرات شارب خمر التمر
"وعاصر خمر تمره الميّت في بلدة الموتى"
أموس تيوتيولا
Amos Tutuola
ترجمة: إبراهيم جعفر
صدر الكتاب، للمرة الأولى، بالإنجليزيّة عن دار "فيبر آند فيبر". أعيد إصدار طبعة شعبيّة منه "فيبر للطبعات الشعبيّة-1961". ثمّ نُسخت منه طبعاتٌ في 1963، 1969، 1971، 1974، 1980، 1985.
صمّمت الغلاف دار بينتقرام Pentagram للتصميم الفنّيّ. رسمُ الغلاف بريشة جون كليمينتسون.John Clementson صورة الغلاف الخلفيّة من تصوير كارولين فوربس.
نبذة عن حياة المؤلف:-
أموس تيوتيولا، كاتبٌ نيجيريٌّ ولد في بلدة "أبيوكوتا" وتلقّى تعليمه في مدرسة لمنظّمة جيش الخلاص المسيحيّة. ثمّ، مؤخّراً، عمل مدرّساً في مدرسة لاغوس الثانوية العليا. وكتابه الموسوم شارب خمر التّمر... الخ [ذاتٌ المؤلّف الذي ترجمتٌه هنا إلى العربيّة]، الذي هو أكثر مؤلفاته شهرةً، قد كٌتِبَ في لهجة إنجليزيّة- نيجيريّة عاميّة وتناول مغامرات بطله وسط "الموتى"، أي أرواح الرّاحلين. من مؤلّفاته الأخرى حكاية موسومة بـ"مٌسغب، صيّاحة وخبيث (1987)" ومجموعة قصص قصيرة موسومة بـ"امرأة الرّيش الغابيّة".
يستلهم أموس تيوتيولا مؤلفاته من أساطير وخرافات قبيلة اليوروبا النيجيرية. فهو قد خلّق من هاتيك فانتازيات (متخيّلات) حيّة يتعايش، في جنابها، الواقعيّ (الطبيعيّ) وما فوق الطّبيعيّ.
............
[من:- 1. قاموس جامبارس للبيوغرافيا، النسخة القرنيّة، تحرير مالاني باري (طبعة 1997).
2. موسوعة ماكميلان (طبعة 1997)].
حكايات أخرى للمؤلّف:-
* حياتي في غابة الأشباح My Life In The Bush of The Ghosts
* إمرأة الريش الساكنةَ الغابة The Feather Woman of The Jungle
* أجايي وفقره الموروث Ajaiye And His Inherited Poverty
قيل عن هذه الرواية:-
"موجزة، محتشدة، مرعبة وآسرة ... كتبها، بالإنجليزيّة، "غربُ-إفريقيّ" ... لا شيء معجز جداً أو تافه جدّاً على أن يُسلك في مجرى هذه الرواية المولعة بالمبالغات الشديدة أو
اللا يُصدّق من الأشياء".
ديلان توماس
"صحيفة الأوبزيرفر البريطانيّة".
إهداء هذه الترجمة:-
* إلى الأستاذ الفاضل كبّاشي الذي أمتعني قديماً، بمجلّة "الإذاعة والتلفزيون والمسرح" السودانيّة، وبملاحق شتّى الصحف السودانيّة الثقافيّة، بترجماته الممتازة لكثيرٍ من الأدب الإفريقيّ ومقالاته وهوامشه على ذلك.
* إلى الصديق الفاتح فضل، عارف الأدب الإفريقيّ الصّامت عن الخوضِ الهشِّ فيه!
إبراهيم جعفر
***
"المُرْتَهَن الخفيّ"
في العاشرة من إحدى الليالي جاء رجلٌ بعينه إلى بيتي. أخبرني أنه كان دوماً يسمع كلمة "فقر" ولا يعرف له معنىً وأنه يريد معرفة معناها. وقال لي إنه راغبٌ في استلافِ مبلغٍ من المالِ منّي يعمل عندي في مقابله "مرتهناً" أو أجيراً زراعياً ثابتاً. سألته:- كم من المال تحبّ أن تستلف؟ أجاب أنه يريدني أن أُسلّفهُ ألفى "محارة" [مالُ تلك الأيّام، حسب المؤلّف- المترجم]. ذلك ما يعادل ستّة بينسات من المال البريطاني. استشرت زوجتي في ذلك الشأن فقالت لي إن الرجل سيكون "عاملاً مجداً مدهشاً" في الحاضر و"فناناً في النهب" في المستقبل. طبعاً ما فهمتُ قصدها بذلك وأعطيتُ الرجل، ببساطةٍ، الستة بينسات التي طلب. عندما أراد الذهاب سألتُهُ عن اسمه فأخبرني أنه "عطاءٌ وأخذٌ". وسألتُهُ أين يعيش فأجاب أنه يعيشُ في جوفِ غابةٍ لا أحدٌ قادرٌ على معرفةِ دروبها. حينما قال ذلك سألتُهُ، مرةً أخرى، عن الطريقة التي يستطيع العاملون الآخرون أن يصلوا بها إليه متى ما كانوا ذاهبينَ إلى المزرعةِ فأجابني أنهم، حين يطلعون في الصباح الباكر جداً قاصدين المزرعة، ينبغي عليهم أن ينادونه عالياً باسمه عند وصولهم إلى مفترقِ دروبٍ سيلاقيهم في الطريق إلى المزرعة. ثم مضى بعيداً. حين كان عمّالي في طريقهم إلى المزرعة في الصباح الباكرِ نادوه عالياً باسمه في مفترق الدروب المقصود فأجابهم بأغنية. ثم سألهم عن نوع العمل الذي سيقومون به في ذلك اليوم فأخبروه أنهم، فقط، سيحرثون الأرض. عندها قال لهم أن يذهبوا ويحرثوا الأرض الموكلين بها، أما هو فسيذهب ليحرث الأرض الموكّل بها في الليل لأن الأطفال الصغار والناس البالغون معاً محرّمٌ عليهم أن يروه. ذهب العمال إلى المزرعة بدونه وحرثوا حصّتهم من الأرض. في الصباح الباكر من اليوم التالي لذاك اليوم ذهبوا إلى المزرعة ثانيةً فوجدوها كلّها ومزارع الجيران المجاورة والغابات التي حولها محروثةً، فذلك "المُرْتَهَن الخفيّ" قد سوّى من الأرضِ ما يمتدّ لمسافةِ خمسينَ ميلاً. عند ذهاب العمال، كالمعتاد، إلى المزرعة في الصباح الباكر من اليوم الثالث قلتُ لهم أن يخبروا "المُرْتَهَنَ الخفيّ" أنّ عملَ ذاك اليوم هو قطع أخشاب الوقود وجلبها من المزرعة إلى بيتي. عندما وصلوا إلى مفترقِ الدروبِ نادوه وأخبروه أنّ عمل ذاك اليوم هو قطع أخشاب الوقود من المزرعةِ وحملها إلى بيتي فقال لهم أن يذهبوا إلى هناك ويفعلوا ما كلّفوا به، أما هو فسيقطع الأخشاب تلك ويوصلها إلى بيتي في الليل. ما كان، عندما ناداه العمال في المفترق، بادياً لهم مطلقاً.
في الصباح الباكرِ ما استطاع أحدٌ منّا أبداً، حين استيقاظنا من النوم مبكرين، أن يخرج من باب منزله، فـ"المُرْتَهَن الخفيّ"، لدهشتنا جميعاً، قد رحَّلَ، في وقتٍ ما من الليل لا ندريه، إلى البلدة ليس فقط أخشاب الوقود وإنما أيضاً كتلاً (مَرَائِنَاً) خشبيّةً وأشجارَ نخيلٍ بتمامها، ثمّ أشجاراً أخرى أيضاً فتغطّت البلدةُ، كلّها تقريباً، بالخشب والشجر وما عاد بمقدورِ أيِّ إنسانٍ الحركة في أنحائها. تعاون كلّ أهل البلدة على إزالة الأخشاب والشجّر عن دروبها وساحاتها بالفؤوسِ، المجرفات... الخ... الخ فاستغرقهم ذاك أسبوعاً تاماً. ولأنّني كنتُ متحرّقاً لرؤيةِ ذلك "المرتَهَن الخفيّ" أو "عطاء وأخذ" (كما سمّى نفسه) ومعرفة الطريقة التي كان يعمل بها أخبرتُ بقيّة عمال المزرعة أن يقولوا له إنّ شغله لليوم التالي هو حلاقة شعر رؤوس أطفالي. عندما قالوا له ذلك طلب منهم أن يذهبوا ويحلقوا ما كُلّفوا به من شعرٍ، أما هو فسيقوم بواجبه في الليل فانصرفوا عنه. جاء الليل فأوصيتُ العمال أن يراقبوه ويروا كيف سيقوم بحلاقةِ رؤوس أطفالي. لدهشتي نام جميع أهل تلك البلدة وكلّ حيواناتهم الأليفة قبل الساعة الثامنة من ليل ذاك اليوم فطاف عليهم "المرتَهَن الخفيّ" وحلق رؤوسهم جميعها دون أن يستثني منهم طفلاً، راشداً أو بالغاً، رجلاً أو امرأة، أو حيواناً أليفاً. كان يأخذ الواحد منهم خارج بيته قبل أن يحلق رأسه ويطليه طلاءاً أبيضاً. حين أتمّ عمله الشرير ذاك ما كان أحدٌ من الناس أو الحيوانات قد استيقظ بعد فعاد هو إلى غابته آمناً من عيونِ الرقيب.
في الصباح الباكر التالي لقي كلّ إنسانٍ في البلدة نفسه خارج البيت وحين مسّ رأسه وجده حليقاً ومطلياً طلاءاً أبيضاً، ثم ّرأى أهلُ تلك البلدةِ الناشئة، في ذات الوقتِ من الصبح الذي استيقظوا فيه من النوم، شعر رؤوس جميع حيواناتهم الأليفة حليقاً أيضاً فأُنذرُوا بذلك واعتبروه علامةً على وقوعهم في يد مخلوقٍ فظيعٍ آخرٍ. لكنّني هدّأتهم وأوضحتُ لهم كيف وقعت الواقعة فأرادوني جميعاً أن أرحل عن بلدتهم وباتَ عليّ أن أفعل شيئاً يرضيهم كي لا يطردوني من هناك. ذات يومٍ، عند ذهاب العمّال إلى المزرعة، أوصيتهم أن يخبروا "المُرتَهَنَ الخفيّ" أنّ عمل ذاك اليوم هو قتل جميع حيوانات الغابة والإتيان بها إلى منزلي. حين سمع منهم ذلك أجابهم عليه كما اعتاد. أشرقت شمس الصباح التالي فإذا بكلّ البلدة مليئة بحيوانات الغابة المفترسة وهي ميّتةً مما سرّ كلّ أهل البلدة وصيّرهم غير مريدين لي أن أغادرها ثانيةً.
بعد ذلك الحادث جلستُ، في يومٍ من الأيام، وبدأتُ أقلّب الفكر عمّا يعين ذلك الرجل على العمل الشاق الذي يؤديه دون أن يسألني طعاماً أو شراباً أو... الخ... الخ. عليه قلتُ للعمال، في موسم نضج الذرة، أن يقولوا له أن يأخذ لنفسه، وقت ذهابه إلى المزرعة، بعض يامٍ، ذرةٍ... الخ... الخ. طبعاً هم أخبروه بما قلتُ حينما وصلوا إلى المفترق المعتاد.
ما كنتُ أعلمُ أنّ "المرتهنَ الخفيّ" أو "عطاءٌ وأخذٌ" كان رئيساً لكلّ مخلوقاتِ الغابةِ وأنه كان الأقوى في عالم أولئك المخلوقات، فكلّهم- كما عرفتُ لاحقاً- كانوا تحت أمره وشغيلةً لديه كلّ ليلةٍ... بعد أن فرغ ذلك الكائن وأتباعه من شغلهم بمزرعتي في تلك الليلة أخذوا جميعهم كلّ اليام والذرة.... الخ... الخ، ليس من مزرعتي فحسب، بل ومن مزارع جيراني أيضاً.
حين رأيتُ منه، ومن أتباعه الذين ما كنتُ أعرفُ مطلقاً بوجودهم، ذلك العصف بيامِ وذرةِ مزرعتي ومزارع جيراني جميعاً تذكّرتُ ما تنبّأت به زوجتي حين قالت إن ذلك الرجل سيكون "عاملاً مجداً مدهشاً" في الحاضر و"فناناً في النّهبِ" في المستقبل... وهكذا عندما ذهب الناسُ إلى مزارعهم في الصباح التالي لذلك الذي قال فيه العمال لـ"عطاء وأخذ" أن يأخذ شيئاً من يامِ وذرةِ مزرعتي وجد كلٌّ منهم، لسوء الحظّ، مزرعته خاليةً من المحاصيل التي زرعها فيها، فجميع المزارع كانت قد سُوِّيَت وسُطِّحت كميدانِ كرةِ قدمٍ بفعلِ المخلوقاتِ الغابيّةِ إياها.
مرةً أخرى غضب منّي كلّ المزارعين والجيران الذين رأوا سلب "عطاء وأخذ" لمزارعهم، فما حدث كان كافياً لإفقادهم الاستطاعة على زراعة نفس أنواع المحاصيل، مرةً أخرى، خلال تلك السنة كلّها، كما وأنه حرمهم تماماً من أيّ شيءٍ يأكلونه هم وأطفالهم. طبعاً باتت حالتي كحالة جيراني ما دام "عطاء وأخذ" قد نهبني كما نهبهم، إلاّ أنني ما كنتُ قادراً على أن أحدّثهم بذلك.
أدت المحنة التي أدخل فيها "المرتهن الخفيّ" أو "أخذ وعطاء" وتابعيه أولئك الناس إلى اتّحادهم جميعاً وإنشائهم جيشاً ضدي عساي أغصب، بذلك، على مغادرة بلدتهم. أيضاً هم كانوا يرومون، بتكوينِ ذاك الجيش، الانتقام للفقد العظيم الذي أودى بهم إليه، بواسطتي،
"عطاءٌ وأخذ". بعد أن شكّل الجيش إياه وانضم إليه الجميع سألتُ زوجتي عمّا سينتهي إليه أمرنا في تلك البلدة فقالت إن ما سيحلّ بها من الحادثات سيكون فيه خُسرانَ حيواتٍ لأهلها ونجاةَ للشخصين الذين هم من غير أهلها. كنتُ، حينذاك، مخبئاً زوجتي ونفسي من عيون أهل البلدة، فكلهم كانوا، وقتها، يتصيدوننا في صعيدها وسافلها. طبعاً هم كانوا لا يريدون أن يضربوا نار بنادقهم داخل بلدتهم خوفاً على أطفالهم وزوجاتهم وما بقيتُ أنا وزوجتي في بلدتهم إلا لعلمنا أنهم لن يجرءوا على ذلك.
فكرتُ في كيف يتسنى لي وزوجتي السلامة من أولئك الناس فذكرتني زوجتي بأنني يمكن لي أن أسأل "المرتهن الخفيّ" ("عطاء وأخذ") المساعدة في محنتي فلربما قدّمها لي. ما أن نصحتني زوجتي بذلك حتى بعثتُ أحدَ عمّالي رسولاً إلى "المرتهن الخفي" كي يخبره أن أهل البلدة الناشئة (الجديدة) سوف يطلقون جيشاً في إثري خلال يومين وأنني ألتمسُ مجيئه إلى هناك في الصباح الباكر لليوم المشهود حتى يعينني عليهم.
"المرتَهن الخفيّ في الجبهة"
بما أن المرتهن الخفيّ ليس بقادرٍ على عملِ أيّ شيءٍ في النهار فإنه جاء وتابعوه أو مساعدوه إلى البلدة في الساعة الثانية من بعد منتصف الليل وانهمكوا جميعهم في حربِ أهلها فقتلوهم كلّهم وتركوني وزوجتي وحيدين هناك فتحقق ما قالته زوجتي وفُقدَت حيوات أهل البلدة وسلمت حياة الغريبين فيها. عاد، من بعد ذلك، "المرتهن الخفيّ" وأعوانه إلى غابتهم قبل طلوع الفجر. عندما رأيتُ أنني وزوجتي لن نقدرَ على العيش وحدنا في تلك البلدة حزمنا عفشنا وبندقيّتي ومنجلي وغادرناها حال أن هلك كلّ أهلها.
تلك كانت قصة حياتنا في البلدة الحمراء، مع الناس الحمر والملك الأحمر وكيف أننا شهدنا نهايتهم في بلدتهم الجديدة.
مضينا في رحلتنا إلى "بلدة الموتى" المجهولة حيثُ كان مقيماً عاصر خمر تمري الذي مات في بلدتي منذ زمانٍ طويلٍ. ظللنا، كما كنا سابقاً، منتقلينَ من بطنِ غابةٍ إلى بطنِ غابةٍ أخرى، غير أن الغابة التي كنّا سائرينَ فيها آنذاك ما كانت كثيفةً جداً ومخيفةً جداً كبعضِ سابقاتها. في أثناء سيرنا ذاك أوصتني زوجتي بأننا يجب ألَّا نتوقف هناك قبل أن نصل إلى المكان الذي قابلنا فيه "السيدة الحمراء" التي تبعناها إلى البلدةِ الحمراء، الشيء الذي يلزمنا بسفرِ يومين وليلتين نطوي خلالهم مسافة خمسةَ وخمسين ميلاً. بعد أن ارتحلنا نهاراً وليلاً لمدة يومين وصلنا إلى هناك فتوقفنا وارتحنا ليومين. ثم استأنفنا رحلتنا إلى البلدة المجهولة مباشرةً. حين طوينا تسعين ميلاً من رحلتنا تجاهها قبلنا رجلاً كان جالساً على الأرضِ وأمامه حقيبةٌ ملآنة بحملٍ ثقيلٍ. سألناه عن مكان "بلدة الموتى" فأجابنا أنه عارفٌ به، فهو ذات البلدة التي كان ذاهباً إليها حينذاك. عندما قال لنا ذلك أعلمناه برغبتنا في مصاحبته إلى تلك البلدة فتوسّل إلينا، حال سماعه ذلك منا، أن نساعده في حمل الحقيبة الثقيلة التي كانت أمامه- طبعاً نحنُ ما كنا عارفينَ بما في بطنها الملآنة. أوصى الرجل من يحمل الحقيبة منا ألا ينزلها عن رأسه قبل وصولنا إلى البلدة التي نقصدها. ثم هو أيضاً ما سمح لنا أن نختبر وزنها لنرى إن كانت أثقلَ مما نقدر على حمله أم لا. سألته زوجتي، وقتذاك، عما كيف يستطيع رجلٌ أن يشتري خنزيراً في حقيبةٍ! فأجابها أن لا داعي لاختبار محتويات الحقيبة إياها، فمتى ما وضعها الواحدُ منا فوق رأسه سيجدها إما أثقلَ مما يقدر على حمله أو لا. على كلٍّ نحنُ- كما قال- لا مفرّ لنا من حملها إلى البلدةِ المقصودةِ... وهكذا وقفنا متفكّرينَ أمام ذلك الرجل وحمله. تأملتُ أنا في أنني إن وضعتُ تلك الحقيبة السمينة على رأسي وما قدرتُ على حملها فإنني ينبغي لي أن أُنزلها في الحال وإن كان لذلك الرّجل أن يُغصبني على عدمِ إنزالها فعندي منجلٌ وبندقيّةٌ جاهزةٌ لإصابته في الحال.
قلتُ للرجلِ أن يضع الحقيبة فوق رأسي فقال لي إنها يجب ألا تمسّها يدا شخصين. عندما قال ذلك سألتُهُ:- أيُّ نوعٍ من المتاعِ هو هذا؟ أجاب أنه المتاع الذي لا ينبغي أن يعلم بمحتوياته شخصان. لذا علّقتُ أملي على بندقيّتي وآمنتُ بمنجلي كما أؤمن بالله. أخبرتُ زوجتي أن تضع الحمل على رأسي ففعلت ذلك. حينما استقر ذاك الحمل على رأسي بدا لي وكأنه، بالذات، جسدُ رجلٍ ميّتٍ. كان ثقيلاً جداً، لكنني استطعتُ حمله بسهولةٍ. مضى الرجل، من بعد ذلك، في مقدمتنا فتبعناه.
بعد مسيرةِ ستّة وثلاثين ميلاً دخلنا بلدةً ما. ما كنا عارفين أنه (الرجل) كان كاذباً في قوله لنا إنه ذاهبٌ إلى "بلدةِ الموتى". كذلك ما كنا داريين أن الحمل أو المتاع إياه كان الجسد الميّت لأميرِ البلدةِ التي دخلناها. فذاك الرجل قد قتله، في المزرعة، بالخطأ وبات يبحثُ عن شخصٍ ما يحلُّهُ محلَّهُ كقاتلِ الأمير.
نحنُ والملكُ الحكيمُ في البلدةِ الخطأ مع قاتل الأمير
كان قاتل الأمير غير راغبٍ في أن تثبت عليه تهمة القتل، فهو يدري أن ملك البلدة التي دخلناها، متى ما عرف من هو قاتل ابنه الأمير، سيقتص منه. لذا هو، عند دخولنا البلدة تلك معه رجانا أن ننتظره في زاوية أحد الشوارع ومضى إلى الملك وأطلعه على خبر مقتل ابنه في الغابة وعلى أنه أمسك بقاتليه وساقهما إلى البلدة. أرسل الملك، حينذاك، حوالي ثلاثين من خدمه مع قاتل الأمير كي يأخذونا، نحن والحقيبة الثقيلة، إليه. وصلنا إلى القصر ففتحوا الحقيبة ورأوا أن ما بها هو جسد ابن الملك (الأمير) الميت فأمر الملك خدمه بحبسنا داخل غرفةٍ مظلمة.
في الصباح الباكر التالي أمر الملك خدامه أن يُغسلوننا ويُلبسوننا أفخر الثياب ويُركبوننا على فرسٍ يطوفون به، ونحنُ عليه، في موكبٍ حول البلدةِ لسبعةِ أيامٍ في حياتنا قبل أن يقتلنا عقاباً لنا على قتلنا (المزعوم) لابنه الأمير. لكن أولئك الخدم وقاتل الأمير الحقيقي ما عرفوا مطلقاً مراد الملك من ذاك الموكب. غسلنا الخدّام، في الصباح الباكر، وألبسونا والفرس ثياباً غاليةً. صعدنا إلى ظهر الفرس فبدأ الاحتفال. طوّفونا في أرجاء البلدةِ وهم يضربون الطبول ويرقصون و يغنون أغنية الحداد لستة أيامٍ. حين أتى صباح اليوم السابع الباكر- الذي كان متوقعاً أن يفتك بنا فيه- طاف الخدامُ بنا، في جولةٍ نهائية، أنحاء البلدة. حين وصلنا منتصف البلدة رأينا القاتل الحقيقي للأمير والذي كان قد طلب منّا- دون أن ندري- أن نحمل جثّة الأمير ونصحبه إلى تلك البلدة. دفع بنا- ذلك القاتل- بعيداً عن ظهرِ الفرس وصعد بنفسه إلى هناك قائلاً للخدام إنه هو القاتل الحقيقي لابن الملك في الغابة. قال إنه كان يظنّ أن الملك سيقتله انتقاماً لاغتياله ابنه ولهذا أخبره أن قاتلي الأمير في الغابة هما أنا وزوجتي. هو قد اعتقد- حينذاك- أن الملك كان مسروراً من أنّ شخصاً ما (شخصين، في حالتنا المزعومة) قد قتل (قتلا) ابنه في الغابة مما دعاه إلى أن يأمر خدامه- حين سُلّمنا غليه على أننا قاتلَي الأمير- بأن يزيّنونا أحسن زينةً، ثمّ يطوفون بنا على صهوةِ فرسٍ في أرجاءِ البلدةِ.
ساق الخدمُ ذلك الرجل، بناءاً على طلبه، إلى الملك حتى يردد على مسامعه أنه هو الرجل الذي قتل الأمير في الغابة. حين وصلوا إلى قصر الملك ردد، في حضرته، اعترافه ذلك. في ذات الوقت الذي سمع الملك منه ما سمع أمر الخدام أن يُلبسوه كما ألبسوني وزوجتي. ثم صعد الرجل إلى ظهر الفرس فطاف به الفرس، بصحبة الخدّام وفي موكبٍ كموكبنا تماماً، أنحاء البلدة فراح يتواثب ضاحكاً مسروراً.
في الساعة الخامسة من مساء ذلك اليوم أخذ الرجل إلى غابة البلدة حيثُ فُتِكَ به لقتله الأمير وقُدّمَ جسده الميّت "قرباناً" لآلهة البلدةِ الساكنةَ في حرمِ الغابةِ إياها.
بعد أن قضينا خمسةَ عشرة يوماً في تلك البلدة أنبأنا ملكها أننا نريد مواصلة رحلتنا إلى "بلدةِ الموتى" فوهبنا هدايا ودلّنا على أقصر الدروب إليها. كانت زوجتي قد تنبّأت بما حدث حين قالت إن حقيبة ذاك الرجل (قاتل الأمير) المكتظّة ستجعلنا نرقصُ سبعةَ أيامٍ لكن سوف يكون هنالك "ملكٌ حكيمٌ" في البلدة الذاهبين إليها يغيّر مصيرنا!... تلك كانت نهاية قصة الحقيبة التي حملتها من الغابة إلى "البلدةِ الخطأ".
تابعنا، كالمعتاد، رحلتنا إلى "بلدةِ الموتى". بعد سفر عشرة أيام لاحت لنا، على مبعدةِ ما ظنّنا أنه حوالي أربعينَ ميلاً، البلدة المقصودة. لم يؤخّرنا، تلك المرة، شيءٌ عن السعي في طريقنا إليها. كنا قد ظنّنا، حين رأينا البلدة إياها، أننا سنصل إليها في نفس اليوم الذي بدت لنا فيه. لكن ذلك ما كان صحيحاً أبداً، فقد استغرق وصولنا إليها مسيرةَ ستة أيامٍ أخرى. ذلك لأنها، كما بدا لنا، كانت كلما اقتربنا منها ظلّت موغلةً في البعدِ الشّديد- كأنّها كانت، حينذاك، تهربُ بعيداً عنّا. ما كنّا عارفينَ أنّ لا أحد لم يمت بعد ليس بمقدوره الدخول إلى تلك البلدةِ نهاراً. عندما عرفت زوجتي ذلك السرّ أشارت عليَّ بأننا ينبغي علينا أن نتوقّف عن المسير ونرتاح حتى حلول اللّيل. حينما حلّ الليل أوصتني أن أنهضَ لنواصل رحلتنا مرةً أخرى. ما أن فعلنا ذلك حتى ظهر لنا أننا لا نحتاج إلى رحيلِ أكثرِ من ساعةٍ واحدةٍ كي نصل إلى هناك. طبعاً ما دخلنا "بلدةَ الموتى" تلكَ إلاّ عند الفجرِ، فهي كانت بلدةً مجهولةً لنا.
أنا وعاصرُ خمرِ تمري في بلدة الموتى
في الساعة السابعة من صباح اليوم التالي دخلنا "بلدة الموتى" واستعلمنا عن عاصر خمر تمري الذي كنتُ أبحثُ عنه منذ يومِ موته في بلدتي. سألني الموتى عن اسمه فقلتُ لهم إنّ اسمه، قبل أن يموتَ، كان "باتي"، لكنني لا أستطيع أن أعرف اسمه الحاضر لأنّه مات.
عندما سمعوا اسمه منّي وقولي إنّه مات في بلدتي ما قالوا أيَّ شيءٍ، بل بقوا ناظرين إلينا في صمتٍ. بعد خمسِ دقائقٍ، تقريباً، من نظرهم إلينا هكذا سألنا أحدهم عن من أين أتينا. أجبته أننا قد أتينا من بلدتي (وسمّيتُها له) فسألني عن موقعها فقلتُ له إنه بعيدٌ جداً عن بلدتهم. سألني، ثانيةً، عمّا إذا كان أهلها أحياءَ أم موتى. أجبته أن كلّ أهل بلدتنا تلك ما ماتوا أبداً. حين سمع منّي ذلك أوصانا بالعودةِ إلى بلدتنا حيثُ كان الأحياء فقط يعيشون، فمجيء الأحياء إلى "بلدة الموتى"- كما قال- محرّمٌ، لذا محرّمٌ، كذلك، السماح لنا برؤيةِ عاصر خمرِ تمري الميّت. بعد حينٍ من الأخذِ والرّدِّ سمح لنا بذلك ودلّنا على منزلٍ ليس بعيداً جداً من حيثُ وقفنا. قال لنا أن نذهبَ إلى هناك ونسأل عنه. ما أن أدرنا ظهرينا لذلك الرجل الميّت وتوجّهنا نحو المنزل الذي دلّنا عليه حتى صار جميع الموتى الواقفين في ذلك المكان، في وقتٍ واحدٍ، منزعجين من رؤيتنا ونحنُ نمشي أماماً أو من جهةِ وجوهنا، فهم هناك لا يمشونَ أماماً أبداً، لكنّا ما كنّا عارفينَ بذلك.
في نفسِ اللحظةِ التي رآنا فيها الرجل الميت الذي سألنا الأسئلة السابقة سائرينَ- على طريقةِ الأحياء- جرى نحونا وقال لنا إنه كان قد أوصانا بالعودةِ إلى بلدتنا لأنّ الأحياء ليس لهم أن يأتوا إلى "بلدة الموتى" ويزوروا بها أيَّ إنسانٍ ميّت. ثمّ حدّثنا، من بعد ذلك، بأننا، إن شئنا البقاء لأيّ وقتٍ هناك، فعلينا المشي خلفاً أو من ناحيةِ ظهرينا ففعلنا ما حدّثنا به. أثناء ما نحنُ ماشيان خلفاً، مثلما كانوا هم يفعلون هناك، تعثّرتُ فجأةً وأنا أحاول ألَّا أقع في حفرةٍ عميقةٍ كانت قريبةً منّي فأدرتُ رأسي بالخطأ ناحية المنزل الذي دلّنا على مكانه. عندما رآني، للمرة الثانية، وأنا مقبلٌ بوجهي نحو ذاك المنزل جاء إلينا، كما فعل من قبل، وقال لنا إنه سوف لا يسمح لنا بعد بالذهاب إلى المنزل المعنيّ بسبب مخالفتنا- مرةً معاً ومرةً أنا وحدي- لعرف المشي في "بلدة الموتى". توسلتُ إليه، مرةً أخرى، وأوضحتُ له أننا قد أتينا لرؤيةِ عاصرِ خمرِ تمري من بلدةٍ بعيدةٍ جداً. تعثّرتُ، مرةً أخرى، بحجرٍ سنينٍ في تلك الحفرةِ وانخدش جزءٌ منّي ونزف. توقفنا لمسحِ الدمِ عنّي، فنزفهُ كان غزيراً. عندما رآنا الرجل الميّت متوقفين عن المشي اقترب منا وسألنا عمّا أوقفنا. أشرتُ بإصبعي إلى الجزء النازف من جسدي. حينما رأى (ذاك الميّت) الدّم انزعج كثيراً وجرّنا، بالقوّة، إلى خارج البلدة. حاولنا، أثناء ما هو ساحبٌ لنا خارج البلدة، أن نتوسّل إليه ثالثةً، لكنّه قال إن ليس لنا، بعد، عذرٌ. ما كنا ندري أنّ الموتى جميعهم ما أحبّوا مطلقاً رؤية الدم؛ عرفتُ ذلك فقط في ذاك اليوم. بعد أن جرّنا الرجل الميّت إلى خارجِ بلدتهم قال لنا أن نبقى هناك ففعلنا ما قال وذهب هو إلى منزل عاصر خمر تمري الميت وأخبره أن هنالك إنسانين حيّين في انتظاره. مضت دقائق قليلة جاء بعدها عاصر خمر تمري الميت إلينا. حال أن رآني توهّم أنني قد متُّ قبل مجيئي إلى "بلدة الموتى" فمثّل لنا إشارة الموتى، لكننا ما استطعنا الاستجابة لها، فنحنُ ما متنا أبداً. في نفس الوقتِ الذي وصل فيه إلى مكاننا أدركَ أننا لن نستطيع العيش في البلدة إياها ما دمنا عاجزين عن الاستجابة لإشارته فبنى لنا، قبل أن نبدأ أيّ حديثٍ معه، منزلاً صغيراً حيثُ كنّا (أي خارج "بلدة الموتى"). وضعنا عفشنا داخله فعاد عاصر خمر تمري الميّت إلى داخل "بلدة الموتى". أدهشني- طبعاً- أنه كان أيضاً إلى الوراء كسائر أهلِ البلدةِ تلك وليس كما كان يمشي، في بلدتنا، قبل موته. جلب لنا، من البلدةِ إياها، طعاماً وعشرة زِقاقٍ (دنانٍ) من خمرِ التمرِ. ولأننا كنا جائعين جداً قبل وصولنا إليها أكلنا الطعام بإفراطٍ. وحين ذقنا خمر التمر ما استطعتُ أنا أن أبعد رأسي عنها حتى شربتُ العشرةَ زِقاقٍ (دنانٍ) بتمامها. بعد ذلك استغرقنا حديثٌ مع عاصر خمر تمري الميت جرى كالآتي:- أخبرته أني، عند موته، أردتُ أن أموتَ معه واتبعهُ إلى "بلدةِ الموتى" فأنا مغرمٌ بخمرِ التمرِ التي كان يعصرها لي بطريقةٍ لا أحد غيره قادرٌ على مجاراتها، لكنني ما استطعتُ أن أموت. عليه دعوتُ، ذات يومٍ، اثنين من أصدقائي وذهبنا إلى المزرعة وبدأنا في عصر خمر التمر بأنفسنا، لكن مذاقها ما كان- أبداً- مثل مذاق خمر التمر التي كان يعصرها لي قبل موته.
عندما أدركَ "أصدقائي" أنهم، إن جاءوا إلى منزلي، فلن يجدوا، ثانيةً، خمر تمرٍ ليشربوها تخلّوا عنّي جميعهم واحداً إثر الآخر حتى تركوني وحدي. ثم صرتُ، من بعد ذلك، حتى لو رأيتُ واحداً منهم خارجَ منزلي وحيّيتُهُ فإنّهُ سيقولُ لي فقط إنه سيزورني قريباً ثم لا أراه، بعدها، زائرُني. ورغم أن بيت أبي كان، من قبلِ، مليئاً بالناسِ إلا أنّ لا أحد، حينذاك، كان يجيء إلى هناك... وهكذا فكرتُ، بيني وبين نفسي، عمّا عساي فاعله فتوصّلتُ إلى أنني ينبغي لي أن أجده (وأعني عاصر خمر تمري الميّت) حيثما يكون وأن أسأله اتِّباعي إلى بلدةِ أبي كي يبدأ، من جديد، عصرَ خمرِ التمرِ لي، كالمعتاد.
تابعتُ حكاية قصتي لعاصر خمر تمري الميّت فقلتُ له إن رحلتي من بلدتي إلى بلدتهم بدأت ذات صباحٍ باكرٍ وأخذتني إلى قرىً وبلداتٍ عديدةٍ كنتُ أسأل الناسَ في كلٍّ منها إن كانوا قد رأوه أو يعرفون مكانه فيجيبني بعضهم أنهم سوف لن يدلّوني على ما أردت إن لم أساعدهم على فعلِ هذا أو ذاك من الأشياء. ثمّ عرّفته على زوجتي وحكيتُ له كيف أنّي عندما ذهبتُ إلى بلدتهم قابلني أبوها، الذي كان شيخ تلك البلدة، كضيفٍ عليه وأنبأني أنّ ابنته (زوجتي) قد أخذها إلى مكانٍ بعيدٍ "جنتلمان" ردَّ، فيما بعد، إلى "جمجمة". قلتُ له، بعد ذلك، إنّي قد ذهبتُ في إثرِ ابنة ذلك الشيخ (زوجتي فيما بعد) وعدتُ بها إليه فزوّجني إيّاها امتناناً للعمل الرائع الذي قمتُ به من أجلهِ فقضيتُ عندهم سنةً ونصفٍ تقريباً، أو ما يزيد، صحبتها بعدها في رحلةِ بحثي عنه. واصلتُ حكايتي له وأنبأته كيف أنّي، قبل وصولي إلى "بلدةِ الموتى"، واجهتُ صعوباتٌ جمّةٌ في الغابات التي اضطررتُ إلى الرحيلِ عبرها، غابةً فغابةً، نهاراً وليلاً، بسبب عدم وجودِ دربٍ بعينه إلى "بلدةِ الموتى". كنّا، أحياناً كثيرةً، نضطرُّ إلى الرحيلِ من غصونِ أشجارٍ إلى غصونِ أشجارٍ أخرى، في داخل تلك الغابات، لأيامٍ عديدةٍ قبل أن نمسَّ الأرض. مضت الآن عشرُ سنينٍ- قلتُ لعاصرِ خمرِ تمري الميّت- منذ أن غادرتُ بلدتي، ثمّ عبّرتُ له عن سروري المفرط بلقائه في "بلدةِ الموتى" وعن عرفاني الشّديد له إن هو اتّبعني في رحلةِ العودةِ إلى بلدتي.
بعد أن أتممتُ حكايةَ رحلتي إلى "بلدة الموتى" لعاصر خمر تمري الميّت ما فاه العاصر بكلمةٍ واحدةٍ، بل عاد إلى بلدته. غاب وهلةً ثمّ عاد لي، من هناك، بحوالي عشرين زقَّاً (دنّاً) من خمر التمر شرعتُ، حالاً، في شربها فبدأ هو في رواية قصته. قال لي إنه، بعد أن مات في بلدتي، مضى إلى مكانٍ معيّنٍ يجب أن يمضي إليه، أوّلاً، كلّ ميّتٍ جديدٍ، فالموتى الجدد لا يأتون، مباشرةً، إلى "بلدةِ الموتى". ثمّ أخبرني أنه قضى هناك عامين تدريبيّين تأهّل بعدهما كرجلٍ ميّتٍ كاملٍ قبل أن يذهب، أخيراً، إلى "بلدةِ الموتى" ويعيش بين أهلها. قال لي أيضاً إنه لا يستطيع معرفة ما حدث له قبل أن يموت في بلدتي فأخبرتهُ أنه وقع من فوق شجرةِ نخيلٍ في مساء يومِ "أحدٍ" أثناء ما كان يعصرُ خمرَ تمرٍ وأنّنا دفنّاهُ في ذاتِ البقعةِ تحت جذعِ الشجرة التي سقط منها. حين سمع منّي ذلك قال لي إنه لا بدّ أن يكون أسرفَ في الشّرب في ذلك اليومِ.
حكى لي العاصر أخباراً أخرى عنه فقال إنه عاد إلى بيتي في نفس الليلة التي سقط فيها من الشجرة ومات في المزرعة ونظر إلى كلّ فردٍ منّا، لكنّه ما رآني، وتحدّث إلينا فما أجبناه، فذهبَ بعيداً. ثم أخبرنا العاصر أنّ الموتى البيض والسود يعيشون معاً في "بلدةِ الموتى" وأن لا فردَاً حياً كان هناك أبداً، فكلّ شيءٍ كان يفعله الموتى في بلدتهم كان، في نظر الأحياء، خاطئاً ومعكوساً، كما كان كلُّ شيءٍ يفعله الأحياء، في نظرهم، خاطئاً ومعكوساً أيضاً. ثم سألني العاصر إن ما كنتُ لاحظتُ أنّ الموتى وحيواناتهم الأليفة معاً يمشون إلى الوراء. أجبته:- نعم. عندها قال لي إنه لا يستطيع أن يتبعني إلى بلدتي لأنّ الإنسان الميّت لا يستطيع العيش مع الناس الأحياء، فطباعُ الجماعتين مختلفة. ثم وعدني أن يعطيني أيّ شيءٍ أحببته في "بلدة الموتى". عندما قال ذلك تدبّرتُ ما حدث لنا في الغابة فشعرتُ بالأسف الشّديد على زوجتي وعلى نفسي وما استطعتُ شربَ خمر التمر التي قدمها لي في تلك اللحظة... حقاً الموتى لا يستطيعون العيش مع الأحياء. أنا نفسي عرفتُ ذلك حتى قبل أن يقوله لي العاصرُ إذ أنني راقبتُ أفعالهم فما تطابقت، أبداً، مع أفعالنا. في الخامسة من مساء ذلك اليوم عاد العاصر الميّت إلى بيته وأتى لنا، مرةً أخرى، بطعامٍ. بقي، بعد ذلك، معنا لثلاث ساعات قبل أن يرجع، ثانيةً، إلى بيته. بات الليلة في بيته ثم عاد إلينا في الصباح الباكر حاملاً معه خمسين زقّاً من خمر التمر بادرتُ بشربها كلّها في نفس الصباح. فكّرتُ مجدداً في أنه ليس بمقدوره مصاحبتنا في الرحلةِ إلى بلدتي. ثمّ أنّ زوجتي، آنذاك، كانت ملحّةً إلحاحاً شديداً على مغادرتنا "بلدة الموتى" مبكّرين. لذا، عندما جاء إلينا، أخبرتُهُ أنّنا يجب أن نغادر بلدتهم في صباحِ الغدِ فأعطاني "بيضةً" وأوصاني أن أحافظَ عليها آمنةً كما أحافظَ على ذهبٍ. قال لي إن وصلتَ إلى بلدتي ينبغي عليَّ أن أصونها داخلِ صندوق مقتنياتي الخاصّة جداً فهي، كما حدّثني، قادرةً على منحي أيَّ شيءٍ أريده في الدّنيا. شرح لي طريقة تسخيرها فقال لي أنني إن أردتُ ذلك التسخير فعليَّ بوضعها داخل إناءِ ماءٍ كبيرٍ (أو كَوْرِيّة ماءٍ كبيرة)، ثمّ ذِكر اسم أيّ شيءٍ أرغبُ فيه. بعد أن سلّمني البيضة تهيّأنا للمغادرة في الصباح التالي الذي كان فاتحة ثالث يوم من أيام وصولنا إلى "بلدةِ الموتى" فدلّنا على أقصرِ الطرقِ إلى بلدتي- كان ذلك طريقاً حقاً وليس غابةً كما في السابق.
بدأنا- إذاً- رحلة العودة من "بلدة الموتى" مباشرةً إلى بلدةِ أهلي التي غبتُ عنها سنينا. وبينما نحن ماضيان في سبيلنا ذاك قابلنا اكثرَ من ألفِ ميّتٍ ذاهبين إلى "بلدةِ الموتى". كانوا، إذا رأونا قادمين على الطريق تجاههم، ينحرفون عنه ويدخلون الغابة، ثم يعودون إليه بعد أن يتجاوزوننا. وكلّما رأونا كانوا، أيضاً، يُحدثونَ ضجّةً مُنْكَرَةً يعبرون بها عن كرههم لنا وعن انزعاجهم لرؤية الأحياء. ما كان أولئك الموتى يتحدّثون إلى بعضهم البعض أبداً، بل هم ما كانوا حتى- إن تحدّثوا مع أنفسهم أو مع غيرهم- يتكلّمون كلماتٍ واضحةً، فشأنهم ما كان إلاّ غمغمةً. كانوا دوماً يبدونَ وكأنّهم في حدادٍ، فعيونهم مستوحشةً جداً وبُنّيّة. لكن- على خلافِ من هم في حدادٍ- كانت ملابسُ كلُّ واحدٍ منهم بيضاءَ من غيرِ شائبةٍ.
ليس من بين الموتى من هو أصغرَ من أن يعتدي على غيرِهِ. أطفالٌ رُضّعٌ على الطريق، ميِّتون. زحفٌ إلى "بلدةِ الموتى".
قابلنا حوالي أربعمائة طفلاً رضيعاً ميّتاً على ذلك الطّريق. كانوا يغنّون أغنية الحداد ويزحفون نحو "بلدة الموتى". كانت الساعة، حينذاك، الثانية من بعد منتصف الليل وكان أولئك الأطفال يزحفون نحو البلدةِ إياها كجنودٍ. ما انحرفوا عن الطريقِ وإلى داخلِ الغابةِ، كما كان يفعل كبارُ الموتى حين يقابلوننا. كانوا كلّهم يحملون عِصِيّاً بأيديهم. حين توقفنا على جانب الطريق تاركين لهم فسحةً منه كي يعبروا منها بسلامٍ ما اكترثوا بالانحرافِ بعيداً عنّا. بدلاً عن ذلك رأيناهم يرفعوا عِصِيَّهُم وينهالون علينا بها ضرباً. جرينا بعيداً إلى داخل الغابة هرباً من أولئك الأطفال وما بالينا بأيِّ خطرٍ قد يأتينا منها، خاصّةً وأنَّ الوقتَ كان ليلاً، فأولئك الأطفال الميتون كانوا، حينذاك، أكثر المخلوقات إفزاعاً لنا. ما كفوا عن ملاحقتنا في جوفِ الغابةِ رغم أننا كنّا جرينا بعيداً جداً عن ذاك الطريق. ثمّ لاقينا رجلاً ضخماً جداً كان معلقاً حقيبةً ضخمةً جداً على كتفه. في ذات الوقتِ الذي رآنا فيه أمسكَ بنا ورمانا داخل الحقيبة كصيّادِ سمكٍ يقبض على السمك داخل شبكته. حينما شاهده الأطفال الرضّع الميّتون يفعل بنا ذلك فروا بعيداً عائدينَ إلى الطريق. قابلنا، داخل حقيبة ذلك الرجل، مخلوقات كثيرة أخرى لا أستطيع أن أصفها هنا. أخذنا ومن معنا بعيداً، بعيداً في بطنِ الغابةِ. حاولنا، بقدرِ قوتنا، أن نخرج من الحقيبة الضخمة، لكنّا ما استطعنا ذلك، فالحقيبة إياها كانت منسوجةً بحبالٍ غليظةٍ وقويّةٍ. كان قطرها حوالي مائة وخمسين قدماً وكانت تسع خمسة وأربعينَ شخصاً.. ما كنّا ندري، في تلك الليلة، إلى أين يمضي بنا ذلك المخلوق الضخم ونحنُ بداخل حقيبته الكبيرة الموضوعة على كتفه، بل وما كنّا ندري حتّى ما، أو من، هو ذاك الذي يأخذنا بعيداً وما إذا كان كائناً إنسانيّاً، روحاً أو خلافه. ثمّ أننا، لمصيبتنا، ما عرفنا- حتى حينذاك- إن كان حاملنا سيقتلنا، أو سيأكلنا،... أو... أو...
خائفٌ من مسِّ مخلوقاتٍ مفزعةٍ في الحقيبةِ
كنا خائفينَ من مسِّ المخلوقاتِ الأخرى التي قابلناها في داخل الحقيبة تلك. فكلّ جزءٍ من أجسادها كان بارداً كالثّلجِ ومشعراً وحاداً كالصنفرة. أما أنوفها وفيها (جمع "فاه") فكان يخرجُ منها هواءٌ حارٌّ كبخارٍ. صامتةً كانت تلك المخلوقات، وصامتاً أيضاً كان حاملها وحاملنا. وفيما كان ذلك الحامل (المخلوق الضخم) يوغل في جوف الغابة كانت الحقيبة المعلقة على كتفه والتي نحن بداخلها دوماً تصطدم بالأشجار وبالأرضِ، لكنه ما كان يكترث لذلك أو يتوقّف. أثناء حمله لنا بعيداً في باطن الغابة لاقى مخلوقاً من نوعه فتوقف وبدأ الاثنان يتقاذفان الحقيبة بينهما هنا وهناك وأسفلاً وأعلى. بعد وهلةٍ توقفا عن ذلك واستمرّ المخلوق الذي أسرنا في سيره كما كان قبلاً فارتحل بنا مسافةَ ثلاثينَ ميلاً من الطريق الذي كنّا مسافرينَ عليه. كان الفجرُ، حينذاك، موشكاً على الطّلوعِ.
صعبٌ أن يُحيّي أحدنا الآخر. صعبٌ أن يصفَ أحدنا الآخر. والأصعب أن ننظر، قصداً، إلى بعضنا البعض.
صعبٌ أن يُحيّي أحدنا الآخر. صعبٌ أن يصفَ أحدنا الآخر. والأصعب أن ننظر، قصداً، إلى بعضنا البعض... في الساعةِ الثامنةِ صباحاً وصل المخلوق الضخم إلى حيثُ كان ذاهباً فتوقف وقلب الحقيبة رأساً على عقب فسقطنا منها كلنا، دون سابقِ إنذارٍ إلى الأرضِ. في ذلك المكان عرفنا أنه كانت هنالك، بداخل الحقيبة، قبل أن يُقبَضَ علينا، تسع مخلوقاتٍ بشعة. حين نزلنا إلى الأرضِ رأينا بعضنا البعض فكانت رؤية المخلوقات التسع البشعة أصعبَ الأشياء علينا. ثمّ رأينا المخلوق الضخم الذي كان حائماً بنا في أنحاء الغابةِ خلال كلّ تلك الليلة، للمرة الثانية. كان تماماً كعملاقٍ، جسيماً جداً وطويلاً. رأسه كان يماثلُ جرّةً كبيرةً قطرها حوالي عشرة أقدام. أما عيناه، الكائنتان على جبهته، فكانتا كبيرتين جداً كطاسين (كوريَّتَين) وكانتا تستديران في كلّ حينٍ ينظر فيه إلى شخصٍ أو كائنٍ ما. كان يستطيعُ أن يرى دبّوساً على مبعدةِ ثلاثة أميالٍ منه. قدماه كانتا طويلتين وسميكتين كعموديّ منزلٍ ولا تناسبهما أيُّ أحذيةٍ في هذه الدّنيا. وصفُ المخلوقات التسعة الفظيعة التي كانت معنا في الحقيبة هو ما يلي:- كانت تلك المخلوقات قصيرة ولا يزيد طولها عن ثلاثة أقدامٍ، وكانت جلودها خشنةً كصنفرةٍ، كما وكانت لها أشواكٌ صغيرةٌ قصيرةٌ على راحاتِ أيديها. كان بخارٌ حارٌّ جداً يتصاعد من أنوفها وفيها آن ما تنفّست. أجسادها كانت باردةً كثلجٍ. ما فهمنا لغتها، فصوتُ حديثها كان كجرسِ كنيسة. كانت أياديها حوالي خمسة أقدامٍ في السّمكِ وشديدة القِصر ولها أصابع. وأقدامها كانت، بالضبط، مثل الأعمدة. ما كان شكلها يشبه شكل الإنسان أو أيّ مخلوقاتِ غابةٍ قابلناها في الماضي. رؤوسها كانت مغطّاة بنوعٍ من الشّعر يحاكي الإسفنج. ورغم أنّ تلك المخلوقات كانت بارعةً حين تمشي إلا أنّ أقدامها كانت- حينذاك- تبعثُ أصواتاً على الأرضِ، صلدةً كانت أو ليّنةً، تماثل تلك التي يحدثها مشي شخصٍ ما فوق حفرةٍ عميقةٍ مغطّاة أو اصطدامه بها فجأةً. حال نزولنا من الحقيبة إلى الأرض ورؤيتنا لتلك المخلوقات المرعبة أغلقنا عيوننا فزعاً من منظرهم الفظيع المخيف. ساقنا المخلوق المهيب، بعد وهلةٍ، إلى مكانٍ آخرٍ "فتح" فيه جحراً في مرتفعٍ جبليٍّ قال لنا أن ندخلهُ جميعاً. تبعنا هو، من بعد ذلك، إلى داخل ذاك الجحر وأغلقه خلفنا. ما كنّا عارفينَ أنه لن يقتلنا، بل فقط أسرنا كي نصيرَ خداماً له. في باطنِ الجحرِ قابلنا مخلوقات أخرى اكثرَ إرعاباً من سابقاتها لا أستطيع أن أصفها هنا. في الصباح الباكر لليوم التالي أخرجنا المخلوق الضخم من الحفرة وأرانا مزرعته التي أمرنا بأن نحرثها، معاً والمخلوقات الأخرى التي أسرها قبلنا. ذات يومٍ، بينما كنتُ أعملُ في المزرعة مع المخلوقات التسعة التي كانت معي في الحقيبة، أساء إليَّ أحدهم بكلماتٍ بذيئةٍ قالها بلغتهم التي لا أفهمها (أحسستُ ببذاءةِ ما قال من خلال الطريقةِ التي قاله بها) فتشاجرنا. حين رأى الباقون أنّني كدتُ أن أقتُلَ صاحبهم هبُّوا جميعاً لقتالي واحداً بعد الآخر. قتلتُ أول من واجهني منهم فجاءني ثانيهم فقتلته أيضاً... هكذا أفنيتهم الواحد بعد الآخر إلى أن بقي آخرهم، الذي كان بطلهم ورئيسهم. عندما بادرتُ بقتالِ ذلك البطل أو الرئيس بدأ يخدشُ جسدي بجسده الخشن الصَّنفَرِيِّ [من "صَنْفَرَة "- المترجم] وبالأشواكِ الصغيرةِ القصيرةِ التي على راحتي يديه فنزف كلُّ جزءٍ من جسدي. حاولتُ، بكلّ قوّتي، أن أركله أرضاً فما استطعتُ ذلك لأنّني ما قدرتُ أن أُمَكِّنَ في جسده قبضتي يديَّ فطرحني أرضاً وأغميَ عليَّ. طبعاً ما كان ممكناً لي أن أموت ما دمت وزوجتي قد بعنا موتينا. ما كنتُ أعلمُ أنّ زوجتي قد اندسّت، آنذاك، وراءَ شجرةٍ وراحت تراقبنا أثناء قتالنا.
حينما رأى كبيرُ المخلوقات التسعة المفزعة، الذي بقي حياً من دونها، أنّني أُغميَ عليَّ مضى إلى نباتٍ ما بالمزرعةِ وقطع ثمان ورقات. كانت زوجتي ناظرةً إليه في ذلك الأوان. عاد بالأوراقِ إلى حيثُ أهلهِ فعصرهنَّ (الأوراق) واحدةً بعد الأخرى بكلتَي راحتي يديه حتى نزّ من كلٍّ منهنَّ الماء. ثمّ سرّب ماء كلِّ ورقةٍ في عينيِّ أحدٍ من أهله فاستيقظوا جميعهم، في الحال، من موتهم (نومهم؟) وذهبوا إلى ربّ عملنا (المخلوق الضخم الذي أتى بنا إلى ذلك المكان) ليطلعوه على ما حدث في المزرعة. في نفس الوقت الذي غادروا فيه المزرعة ذهبت زوجتي إلى حيثُ النبات إياه فقطعت منه ورقةً واحدةً عالجتني بها كما عالج كبيرُ تلك المخلوقات أهله فعصرت ماءها داخل عينيَّ. استفقتُ، في الحال، من إغمائي. كانت زوجتي- لحسن الحظِّ- قد دبرت حمل أمتعتنا معها قبل مغادرتها للجحر ومتابعتها لنا إلى المزرعة. وقبل وصول المخلوقات التسعة الفظيعة إلى جحرِ ربّ عملنا كنّا قد هربنا بعيداً جداً من المزرعة... تلكَ كانت حكاية خلاصنا من المخلوق الضخم الذي أمسكَ بنا في داخلِ حقيبته.
ارتحلنا مرةً أخرى، نهاراً وليلاً، حتى لا يأسرنا المخلوق الضخم. مضى يومان ونصفٌ على مسيرتنا قبل وصولنا إلى "طريق الموتى" الذي كان الأطفالُ الميّتون قد دفعوا بنا بعيداً عنه. حين عدنا إلى ذلك الطريق ما استطعنا أن نسافرَ عليه، فالأطفالُ الميِّتون الفظيعون... الخ...الخ كانوا حينَها ما يزالونَ مرتحلينَ عليه.
"السّفرُ في الغابةِ كان خطراً جداً، والسّفرُ على "طريقِ الموتى" كان الأخطر..."
بدأنا السفر في جوفِ الغابةِ، لكن قريباً من "طريقِ الموتى" عسانا ألا نضيع، ثانيةً، فيها. بعد رحلةِ أسبوعين بدأتُ أرى أوراقَ شجرٍ مناسبةٍ لإعدادِ "جُوجُو" خاص بي. توقفنا حيثُ وجدناها فجهّزتُ أربعةَ أنواعٍ من "الجّوجُو" بمقدورها أن تخلّصنا أينما ومتى قابلنا أيّ مخلوقٍ خطر.
بعد تحضير "الجّوجُوات" ما عدنا خائفين من أيِّ شيءٍ قد يحدث لنا في داخل الغابة فجرؤنا على الرحيل هناك نهاراً وليلاً، كما نريد. ذات ليلةٍ قابلنا "مخلوقاً جائعاً" كان يصيح دوماً "أنا جائعٌ!!... أنا جائعٌ!!..." ما أن رآنا ذلك المخلوق حتى سار نحونا مباشرةً. حين اقترب منّا بمسافةِ خمسةِ أقدامٍ تقريباً توقفنا ونظرنا إليه بلا خوفٍ أو تهيّبٍ من مواجهته، فأنا كنتُ، وقتها، لديَّ "جوجو" حاضر لخدمتي، ثمّ أنّي وزوجتي قد بعنا "موتينا"- كما يذكر القارئ- قبل دخولنا إلى جوف الشجرة البيضاء حيثُ مسكن "الأمّ الوفيّة".
كان، وقت تقدّمه في السير نحونا، يسائلنا، مراراً، عما إذا كان لدينا أيَّ شيءٍ له ليأكله. ما كانت معنا، في ذلك الحين، سوى موزاتٍ غير ناضجة. أعطيناها له فالتهمها كلّها في لحظةٍ وبدأ يسأل عن شيءٍ آخرٍ يأكله وهو لا يكفُّ عن الصياح:- "... جائعٌ!!... جائعٌ!!... جائعٌ!!...". عندما ضقنا ذرعاً بصياحه حللنا أمتعتنا آملين أن نلقى هناك شيئاً آخرَ يؤكل كي نعطيه له. ما وجدنا، بين الأمتعة، غير فلقات لوبيا. وقبل أن نعطيه إياها أخذها منّا (ما عرفنا أنّ ذاك "المخلوق الجائع" لا يُشبعهُ أيُّ طعامٍ في هذه الدنيا، فهو قد يأكلُ كلَّ طعامِ هذا العالم ويظلُّ، بعد ذلك، شاعراً بالجوع وكأنه ما ذاق أكلاً منذ عامٍ. فتشنا، ثانيةً، بين أمتعتنا عسانا نجد له شيئاً يأكله فسقطت، خلال ذلك، البيضةُ التي أعطاني لها عاصرُ خمرِ تمري الميّت في "بلدةِ الموتى" من بين يديّ زوجتي. رأى المخلوق الجائع البيضة فأراد أن يبتلعها، لكن زوجتي كانت نبيهةً جداً فالتقطتها من الأرضِ قبله.
حين فشل المخلوق الجائع في التقاط البيضة قبل زوجتي بدأ يصارعها قائلاً إنّه يريد أن يبتلعها. أثناء ذلك الصراع ما توقف مرّةً عن الصّياح:- "جائعٌ!! جائعٌ!! جائعٌ!!...". فكّرتُ، حينها، بيني وبين نفسي، في أن ذلك المخلوق قد يؤذينا. "مارستُ" واحداً من "جوجُواتي" فحوّل زوجتي وأمتعتنا إلى دميةٍ خشبيّةٍ وضعتُها في جيبي. عندما اختفت زوجتي عن عيون المخلوق الجائع طلب مني أن أريه الدّمية الخشبية ليعاينها. أريتُها له فأخذ يسائلني بنفسٍ شاكّةٍ:- هل هذه ليست زوجتك وأمتعتكم؟ أجبته أنها ليست أولئك، بل هي فقط شيءٌ يُشبه زوجتي فردّها إليَّ وأعدتُها إلى جيبي كما في السابق. واصلتُ، من بعدِ ذلك، مسيري فتابعني وهو ما يزالُ يصيحُ:- "جائعٌ!!.. جائعٌ!!.. جائعٌ!!...". طبعاً تجاهلتُهُ حينذاك. بعد أن ارتحل معي لمسافةِ ميلٍ تقريباً سألني، مرةً أخرى، عن الدمية الخشبية التي في جيبي وطلب مني أن أناولها له كي يُعايُنها أكثر. أخرجتُها له فنظر إليها لما يزيد عن عشرِ دقائقٍ سألني، بعدها، للمرة الثانية:- هل هذه ليست زوجتك؟ أجبتُهُ، للمرة الثانية، أنها ليست زوجتي... الخ... الخ، بل هي فقط شيءٌ يُشاكلُها. ردّها إليَّ فاستمررتُ في المسير، كالمعتاد، لكنه ما زال متابعاً لي وهو يصيحُ:- "جائعٌ!! جائعٌ!! جائعٌ!!...". بعد أن ارتحلَ معي لمسافةِ ميلين آخرين تقريباً سألني، للمرة الثالثة، عن البيضة فأعطيتُها له. نظر إليها، في ذلك الأوان، لأكثرِ من ساعةٍ، ثمَّ قال عنها إنها "زوجتي" وابتلعها دونما توقُّعٍ منّي. بابتلاعه المفاجئ لها كان قد ابتلع زوجتي، بندقيّتي، منجلي، البيضة وباقي أمتعتنا وما ترك لي شيئاً سوى "الجُّوجُوات" الخاصّة بي.
ما أن ابتلع المخلوق الجائع الدّمية الخشبيّة حتى ذهبَ بعيداً جداً عنّي وهو يصيحُ:- "جائعٌ!!... جائعٌ!! جائعٌ!!...". الآن قد ضاعت زوجتي، فكيف لي أن أرجعها من بطنِ المخلوق الجائع؟ من أجل سلامةِ بيضةٍ باتت زوجتي في جوفِ مخلوقٍ جائعٍ شره. فيما أنا واقفٌ هناك أراقبُهُ وهو يُمضي بعيداً جداً عنّي رأيتُهُ وهو يكادُ يتلاشى عن بصري في المسافةِ فتأمّلتُ في معاناةِ زوجتي التي أتعبتُها كثيراً معي حين دفعتُها إلى متابعتي إلى "بلدةِ الموتى" وقلتُ لنفسي إنَّ زوجةً صابرةً معي على المَكَارِهِ كهذه لا ينبغي لي أن أُفارقها على هذا النحو وأتركها لذاك "المخلوق الجائع" كي يحملها بعيداً عنّي. تبعتُ المخلوق الجائع، إذاً. حين لحقتُ به قلتُ له أن يتقيّا الدمية الخشبية التي ابتلعها فرفض ذلكَ تماماً.
الزوج والزوجة معاً في جوفِ المخلوقِ الجّائع
قلتُ لنفسي إنني لن أتركَ له زوجتي وسأقاتلهُ حتى الموت. انهمكتُ في قتاله لكنّه، بسبب كونه ليس كائناً إنسانياً، ابتلعني أنا أيضاً وظلّ يصيح "جائعٌ!! جائعٌ!!.. جائعٌ..." وهو يمضي بنا بعيداً. أمرتُ، وأنا في بطنه، "الجّوجُو" الخاص بي أن يُعيدَ الدّمية الخشبيّة إلى ما كانت عليه قبل أن تُصيرَ كذلك ففعل ما أمرتُهُ به واستعدتُ، في الحال، زوجتي، بندقيّتي، البيضة، منجلي ومتاعنا. عبّأتُ بندقيّتي وأطلقتُها في بطنِ المخلوق الجائع فمشى لبضعةِ يارداتٍ قبل أن يسقطَ أرضاً. عبّأتُ البندقيّة، ثانيةً، وأطلقتُها على جوفه. ثمّ مزّقتُ بطنه (جوفه) بالمنجلِ حتى انفتحت لنا هوّةٌ فيها مكّنتنا من الخروجِ منها- نحنُ وأشياؤنا كلّها. تلك هي الطريقة التي تحررنا بها من المخلوق الجائع الذي ما استطعتُ- آنذاك- أن أراه بوضوحٍ كي أصفهُ وصفاً كاملاً، فالساعةُ كانت الرابعة صباحاً والظّلامُ كان، في ذلك الوقت، حالكاً جدّاً. على كلِّ حالٍ تركناه ومضينا بسلامٍ شاكرين الله على ذلك.
استأنفنا الرحلة إلى بلدتي. ولأن المخلوق الجائع كان قد حملنا بعيداً في داخل الغابةِ فإننا عجزنا، مرةً أخرى، عن التعرّف على السبيل إلى "طريق الموتى" فبقينا مسافِرَيْنَ في وسطِ الغابةِ. ارتحلنا تسعةَ أيامٍ قبل دخولنا إلى بلدةٍ قابلنا فيها أناساً "مختلطةً هيئاتهم". كانت زوجتي، قبل وصولنا إلى البلادةِ إياها، مريضةً جداً فذهبنا إلى كائنٍ كان يماثلُ، في هيئته، كائناً إنسانياً. استقبلنا ذاك الكائن في بيته كضيوفٍ غرباءٍ فشرعتُ هناك في معالجة زوجتي. كانت لديهم، في "البلدةِ المختَلَطَةِ" محكمةٌ أهليّةٌ كنتُ دوماً أحضرُ جلساتها. لدهشتي دعوني يوماً لأفصلُ في دعوى رفعها رجلٌ أعار صديقاً له ما يعادلُ جنيهاً إسترلينيّاً.
فحوى الدعوى هي أنّ ذلك المستلف قد استلفَ، ذاتَ يومٍ، ما يعادلُ جنيهاً إسترلينيّاً من صديقه. ثمّ بعد سنةٍ طالبه صديقه الذي أعاره المال أن يعيدَ له المبلغ الذي استلفه منه (ما مقداره جنيهاً إسترلينيّاً واحداً) فأبى المستلف عليه ذلك قائلاً له إنه منذ أن بدأ استلاف المال من الدائنين، بل ومنذُ يومِ ميلاده، ما سدّدَ أيَّ دينٍ عليه. عندما سمع منه صديقُهُ الدائنُ ذلك ما قال شيئاً ومضى إلى بيته بهدوء. ذات يومٍ سمع الدائن أن هنالك جابي ديونٍ له من الجرأة والشدّة ما يؤهّله لاستخلاصِ أيّ دينٍ من أيِّ مدينٍ، مهما كانت حججه لتجنّب دينه. ذهب الدائنُ إلى جابي الديونِ ذاكَ وروى له قصتهما كالآتي:- أحد أولئك الصديقين كان "مستدينَ" أموال. ما كان له شُغلٌ سوى أن يستلف المال وعليه أنّ شخصاً مدينٌ له، منذ عامٍ، بما يُعادلُ جنيهاً إسترلينياً واحداً رفضَ أن يردَّ له دينه. عندما سمع الجابي منه ذلك ذهبا معاً إلى منزلِ المدينِ. انصرف الدّائن إلى بيته حين وصلا هناك وترك الجابي وحده ليتصرّف مع المدينِ بما يراه مناسباً.
سأل الجابي المدينَ عن المبلغِ المعادلِ لجنيهٍ إسترلينيٍّ واحدٍ الذي استلفه من صديقه الدائن منذ عامٍ. أجاب المدين على سؤاله بأنه ما ردّ مطلقاً ديناً لدائنٍ منذ ميلاده فقال له الجابي إنه، أيضاً، ما فشل أبداً في جمعِ دينٍ من أيِّ مدينٍ مهما كانت مهنته التي يعيشُ عليها. حين سمع منهُ المدينُ ذلك قال له إنه، أيضاً، يعيشُ فقط على المال المستدانِ وعلى مهنةٍ وحيدةٍ هي أن يكن- دوماً- مديناً لدائنين. ختامِ المقابلةِ بدأ الاثنان يتعاركان. في معمعةِ شجارهِما رآهما رجلٌ كان عابراً، آنذاك، على الطريقِ فاقتربَ منهما ووقف خلفهما ينظُرُ إليهما، فهو قد جذب انتباهه ذاك الشّجار وموضوعه فما استطاعَ أن يتركهما ويمضي في سبيله. في غمرةِ شجارِ أولئكَ المتنازعين انتزع المدينُ سكّيناً ضخمةً من جيبه وطعن بها بطنه فسقط هناك ميّتاً- كان ذلك بعدَ ساعةٍ من بدءِ العراك. حينما شهد جابي الديون موت المدين فكّر، بينه وبين نفسه، في أنه ما فشلَ أبداً، من قبل، في استخلاصِ أيّ دينٍ من أيّ مدينٍ في هذه الدنيا منذ أن بدأ عمله كجابي ديونٍ. ثمّ قال، في خلاصةِ تفكيره ذاك، بما أنه ما استطاع ردّ المبلغ المعادل لجنيهٍ إسترلينيٍّ من المدينِ في هذه الدّنيا فإنه سيردّه منه في الآخرة. لذا نزع سكينه الكبيرة، أيضاً، من جيبه وطعن بها نفسه فسقط ومات في ذاتِ البقعةِ التي مات فيها المدين.
ولما كان الشاهدُ العابرُ للشجار مستغرقاً جداً فيه ومهتماً تماماً به فإنه قال لنفسه إنه يريد أن يرى نهايته فقفز عالياً وسقط في ذات الموقعِ الذي سقط فيه المتعاركان السابقان ومات مثلهما وهو آملٌ في أن يشهدَ نهايةَ عراكهما في الآخرةِ.
بعد أن رُوِيَت لي حيثيّاتُ تلك القضيّة على النحوِ أعلاه سئلتُ، في المحكمةِ الأهليّةِ، أن أُفصلَ في من هو المذنب فيها:- هل هو جابي الديون؟ أهو المدين؟ أم هو الرّجل الذي وقف متفرجاً عليهما وهما يتعاركان؟ أم هو الدّائن؟
في الوهلةِ الأولى كنتُ على وشك أن أخبرَ المحكمة أن الرجل الذي وقف متفرجاً عليهما هو المذنب، فهو كان عليه أن يستفسر عن الأمرِ ثمّ يتركهما وشأنهما. لكنني تذكّرتُ أن المدين والدائن كانا يقومان بعمليهما الذين يرتزقان منهما فما قدرتُ أن ألومَ من وقف مشاهداً لهما، وما قدرتُ أيضاً على لومِ جابي الديونِ، فهو كان يؤدّي عمله، ثمّ ما استطعتُ لومَ المدين نفسه كذلك، لأنه كان يسعى في سبيلِ معاشهِ. لكنّ ذلك ما حلّني من الأمرِ، فقد أصرَّ جميع من حضروا إلى المحكمةِ على أن أقطعَ برأيٍ معيّنٍ في من هو المذنب. تفكّرتُ مليّاً في القضيّة لما يقارب الساعتين ثمّ أجّلتُ النّظرَ فيها لمدةِ سنةٍ وفُضَّت جلسةُ المحكمةِ لذلك اليومِ.
بعد تأجيل الحكم في تلك القضيّة لمدةِ عامٍ رجعتُ إلى بيتي وواصلتُ تطبيب زوجتي. عندما بقيت أربعةُ أشهرٍ على موعدِ الحكمِ في القضيّة إياها دعيتُ، مرةً أخرى، إلى المحكمة للنظر في قضيّةٍ أخرى حيثيّاتها كالآتي:- كان هنالك رجلٌ له ثلاث زوجات كنّ يحببنه حباً عظيماً ولا يُفارقنهُ أينما ذهب أو أراد أن يذهب، وكان هو يحبّهُنَّ أيضاً. ذات يومٍ سافر ذلك الرجل إلى بلدةٍ بعيدةٍ جداً فتبعته إليها زوجاته الثلاث. أثناء ما كانوا مرتحلين من غابةٍ إلى أخرى تعثّر الرجل وسقط على الأرضِ، فجأةً، ومات في الحال. ومن شدةِ حبِّ الزوجاتِ الثلاث له قالت زوجته الكبرى إنها لا ترغب في العيش بعده وإنها يجب أن تموت معه فماتت معه. بقيت، بعد ذلك، الزوجة الوسطى والزوجة الصغرى من بين الزوجات الثلاث. قالت الزوجة الوسطى إنها تعرفُ ساحراً يعيشُ في تلك البلاد له قدرةً على "إيقاظِ" الموتى من موتهم وإنها سوف تذهب إلى بيته وتستدعيه كي يجيء و"يوقظ" زوجهم والزوجة الكبرى من موتهم. لما سمعت الزوجة الصغرى (الثالثة) منها ذلك قالت لها إنها ستبقى مع الجسدين الميّتين حتى وقت مجيء الساحر حتى تحميهما من الحيوانات المتوحّشة التي ربما أكلتهما إن هي غادرت المكان معها... هكذا انتظرت الزوجة الثالثة وبقيت في حراسةِ الجسدين الميّتين حتى عادت الزوجة الثانية والساحر بصحبتها، في أقلِّ من ساعةٍ، إلى مكانهم. أوقظ الساحر الزّوج والزوجة الكبرى من موتهما فشكره الزوج شكراً عظيماً وسأله عن أيّ مبلغٍ من المالِ سيأخذه مقابل العمل المدهش الذي قام به. أجابه الساحر أنه لا يريد مالاً، بل يريد له أن يتنازل له عن إحدى زوجاته الثلاث. حين سمع الزوج ذلك من الساحر اختار له زوجةً زوجته الكبرى التي قامت من الموت، لكنّها رفضتهُ كلّياً. ثم اختار له الزوجة الثانية (التي استدعته ليوقظ الزوج والزوجة الأولى من موتهما) زوجةً فرفضته أيضاً. أخيراً اختارَ الزوج للساحر زوجةً زوجته الثالثة (التي بقيت مع الجسدين الميتين منتظرةً عودة الزوجة الثانية بالساحرِ إلى مكانهم) فرفضتهُ أيضاً. حين رأى الزوج أنه ليس هنالك، من بين زوجاته الثلاث، من هي راغبةً في صحبةِ الساحرِ إلى بيته قال للساحرِ أن يأخذهُنَّ معه جميعاً. عندما سمعت الزوجات الثلاث ذلك الكلام من زوجهنَّ تعاركنَ فيما بينهُنَّ. لسوءِ الحظِّ كان هنالك رجلُ بوليسٍ عابرٌ للدربِ في ذلك الوقتِ فبادر باعتقالهنَّ وسوقهُنَّ إلى المحكمةِ كي تفضَّ نزاعهُنَّ. وكما يعلم القارئ فإنّ المحكمة عهدت إليَّ بالفصلِ في قضيّتَهُنَّ التي كان محورها السؤال التالي:- مَنْ مِنْ بينِ الزوجات الثلاث يمكنُ إلزامُها بصحبةِ الساحرِ إلى بيته والعيش معه كزوجةٍ له؟ جميع من كانوا حاضرين، آنذاك، في المحكمة أرادوني أن أختار من بين الثلاث زوجات تلك التي كان الساحر أحقَّ بها. لكنّني ما استطعت أن أختارَ أياً منهنَّ للساحرِ، فهنَّ، كلٌّ على طريقتها الخاصّة، أبدينَ حبّاً ووفاءاً لزوجيهنَّ فشاءت الزوجة الأولى أن تموت معه، وذهبت الزوجة الثانية، بعد موته وموت الزوجة الأولى، إلى الساحرِ وأتت به إلى مكانِ الجسدينِ الميتين كي يُحييهُما من موتهما. أما الزوجةُ الثالثةُ والأخيرةُ فهي أظهرت حبّها للزوجِ في بقائها مع الجّسدين الميّتين في الغابةِ وحمايتها لهما من الحيوانات المتوحّشة حتى عودة الزوجة الثانية (الوسطى) إليها وإليهما بصحبةِ الساحرِ. كلّ ما سبق دعاني لـتأجيلِ الحكمِ في تلك القضيّةِ أيضاً لمدّةِ عامٍ. قبل أن يأتي موعد الفصل في أيٍّ من تلكم القضيّتين تعافت زوجتي من مرضها فغادرنا البلدةَ إياها (البلدة المُخْتَلَطَة) متوجِّهَيْنَ إلى بلدتي. قبل وصولنا إلى هناك أرسل لي أهلُ "البلدةِ المُختَلَطَة" أكثرَ من أربعِ رسائلٍ- لقيتُها في انتظاري في بيتي وبلدتي- تدعوني كلّها إلى المجيء إلى بلدتهم والفصل في القضيّتين إياهما، فهما ما زالتا، وقتها، معلّقتين أو في انتظاري. لذا سأكون ممتناً جداً إن فصلَ أحد قراء هذه الحكاية في أيٍّ منهما أو في كليهما وأرسلَ لي نصَّ حكمه في أسرعِ وقتٍ ممكنٍ، فكلُّ أهلِ "البلدةِ المُخْتَلَطَة"- كما ولا شكّ أحسستُم- ما زالوا يريدون منّي أن آتي لهم عاجلاً أو حالاً لأنطق بالحكم الفصل فيها.
بعد مغادرتنا "البلدة المختَلَطَة" ارتحلنا أكثرَ من خمسِ عشرِ يوماً فرأينا جبلاً وتسلقناه وقابلنا فوق قمته أكثر من مليونٍ من "المخلوقاتِ الجّبليّةِ"، على حدِّ تسميتي لهم.
نحنُ ومخلوقاتُ الجّبل على قمّةِ الجّبلِ المجهول
عندما وصلنا إلى قمة ذاك الجبل ولاقينا فوقها "المخلوقات الجّبليّة" تلك ماثلت لنا، في مظهرها، كائنات إنسانيّة، لكنها ما كانت، في حقيقتها، كائنات إنسانيّة. كانت قمة الجبل مسطّحةً كميدانِ كرةِ قدمٍ. وأيّ جزءٍ منه كان مُضاءاً بأنوارٍ شتى ملونة ومزدانة كنت كأنها صالةُ مهرجانٍ أو احتفالٍ ما. كان أولئك القوم الجبليّون يرقصون في حلقاتٍ ودوائرٍ حينما قابلناهم. لكنهم ما أن رأونا في منتصفهم حتى توقفوا عن الرقص فوقفنا بينهم ناظرينَ إلى الغابةِ البعيدةِ جداً من ذلك المكان. ولأنهم كانوا دوماً يحبّون الرقص فإنهم دعوا زوجتي لمشاركتهم الرقص فاستجابت لهم.
ليس خطيراً جداً أن ترى مخلوقات الجّبل، بل الخطيرُ حقاً هو أن ترقصَ معهم!
فرحت مخلوقات الجبل جداً لرقص زوجتي معهم. لكنها عندما شعرت بالتعب وتوقفت عن الرقص انزعجوا انزعاجاً شديداً وجرّوها إلى حلبةِ الرّقص كي تُعاودَ رقصها معهم- هم ما تعبوا من الرقص لذا استغربوا تعبها. مضت ترقص معهم مجدداً فتعبت قبلهم وتوقّفت، ثانيةً، عن الرقص. أتوا إليها، تلك المرة، وقالوا لها إنها يجب أن ترقص حتى يخلوا هم سبيلها. عادت إلى الرقص، للمرة الثالثة، فلاحظتُ أنا، حين راقبتُها عن كثبٍ، أنّها تعبةٌ تعباً شديداً وتلك المخلوقات ما كفّت عن الرقص أبداً. ذهبتُ إليها وقلتُ لها:- "دعينا نذهب". تبعتني في مسيري فانزعجت المخلوقات إياها منّي وأرادت أن تعيدها، بالقوة، إلى حلبة الرقص. "مارستُ"، مرةً أخرى، "الجوجو" الخاص بي فحوّل زوجتي إلى الدمية الخشبيّة التي كانتها في وقتٍ سابقٍ. وضعتُها، من بعد ذلك، في جيبي فما عادوا يرونها.
حين رأى أولئك القوم أنّ زوجتي قد اختفت عن عيونهم وأرادوا منّي أن أجدها في الحال وباتوا، حينذاك، منزعجين فررتُ منهم بعيداً ناجياً بجلدي، فأنا لا قدرةَ لي أبداً على قتالهم. ما استطعتُ أن أجري أكثرَ من ثلاثمائة ياردة قبل أن يمسك بي جمعهم ويحيطُ بي هناك. طبعاً، قبل أن يتمكنوا من فعلِ أيِّ شيءٍ لي غيّرتُ نفسي إلى فقاعةٍ مسطّحةٍ ورميتُ نفسي على الطريقِ الذاهبِ إلى بلدتي. لكن مخلوقات الجبل ما زالت تتابعني وتجرّب كلّ الحيل البارعة للإمساكِ بي إذ أنّي كنتُ أزوغُ منهم هنا وهناك مستعيناً بصغرِ حجمي ومرونتي الفقاعية. رغم كلّ ما جربوا فشلوا في القبضِ عليّ حتى أشرفتُ على النهرِ الذي يتقاطع مع الطريقِ إلى بلدتي والذي كان قريباً منها. لكن، قبل أن أصل إلى ذلك النهر، غدوتُ مرهقاً جداً وكنتُ على وشك الانقسام إلى نصفين، فأنا كنتُ، عند قذفي نفسي على الدرب، تفلقني حجارةٌ صلدةٌ أنخدشُ بها. أوشكت المخلوقات المطاردة لي أن تمسك بي هناك فقذفتُ نفسي، دون أيِّ تهيّبٍ، نحو الجانب الآخر للنهر. قبل أن أمسَّ الأرض هناك أعدتُ نفسي إلى رجلٍ وأعدتُ زوجتي إلى امرأةٍ وأعدتُ بندقيّتي، البيضة، منجلي ومتاعنا إلى طبيعتهم الأصلية. في نفس الوقت الذي مسسنا الأرض فيه لوّحنا بأيدينا إلى مخلوقات الجبل مودّعين فباتوا ينظرونَ إلينا ونحنُ مبتعدان، فعبور النهر ليس من حقّهم بتاتاً... تلك كانت قصة نجاتنا من عَسف محلوقات الجبل.
من ذلك النهر إلى بلدة أهلي ما كانت المسافةُ تحتاجُ لسوى دقائقٍ قليلةٍ لعبورها. دخلنا إذاً، بسلامٍ، أرضَ آبائي وما عاد الأذى يلحقنا أو تلاقينا مخلوقات شرّيرة.
باكراً في الساعةِ السابعةِ صباحاً وصلنا إلى بلدتي. في نفس الوقت الذي عبرنا فيه عتبةَ ديواني تدافعَ نحونا أهل بلدتي، الذين عرفوا أنني عدتُ إليها، مرحّبين ومحيّين... هكذا وصلت وزوجتي إلى بلدتي سالمينَ آمنينَ وقابلنا آلَ بيتي، كذلكَ، في سلامٍ وأمانٍ وبحضورِ أصدقائي القدامى جميعاً والذين اعتادوا، في الماضي، على المجيء لبيتي وشرب خمر التمر معي.
أرسلتُ في طلبِ مائتين زقاً من خمرِ التمرِ شربناها أنا وأصدقائي القدامى معاً، كما كنّا نفعل قبل رحيلي من البلد. حال وصولي إلى بيتي دخلتُ حجرتي وفتحتُ صندوقَ أماناتي "صندوقي الشّخصي" وخبّأتُ فيه البيضةَ التي أعطاني لها عاصرُ خمرِ تمري الميّت حينما كنتُ معهُ وزوجتي في منزلٍ بجوارِ "بلدةِ الموتى"... ما كسبنا- إذاً- من كلّ أسفارنا الطويلة السنين والبعيدة المسافات، بكلّ ما فيها من امتحاناتٍ ومصاعبٍ ومصائبٍ، سوى "بيضةٍ". في اليومِ الثالثِ من وصولنا إلى بلدتي ذهبتُ وزوجتي إلى أبيها وأمّها في بلدتهم واطمأنّنا على أنهم في بخيرٍ وحسنِ حالٍ، ثمّ رجعنا إلى بلدتي بعد قضائنا ثلاثة أيام معهم هناك [...... ذلكم كان الكيف الذي سارت به أحداثُ حكاية شارب خمر التمر وعاصر خمر تمره الميّت...].
قبل رجوعي إلى بلدتي (والحديثُ هنا، طبعاً، للراوي وشارب خمر التّمر) كانت هنالك مجاعةٌ عظيمةٌ أهلكت الملايين من العجائز وأعداد لا تُحصى من الأطفال، الشباب، النساء والرجال. وساءت الأحوال، آنذاك، حتى اغتال كثيرٌ من الأمّهات والآباء أطفالهم كي يأكلوهم حفاظاً على بقائهم بعد أن أكلوا حيواناتهم الأليفة، الجّراذين (الضَّببة)... الحشرات... الخ... الخ. كلّ النباتات، الأشجار والأنهار كانت، آنذاك، قد جفّت لانقطاعِ نزولِ المطر وما بقي شيءٌ للناس ليأكلوه.
سببُ المجاعةِ
في الأيام الغابرة كان "أرضٌ"* و"سماءٌ"** [* و ** شاء المؤلف، في حكايته، أن يُذَكّر "الأرضَ" و"السّماءَ" معاً فاحتفظنا، في الترجمة، بحقّه في ذلك رغم مخالفته الواضحةِ لقواعدِ اللغة العربيّةِ. عذرنا في ذلك، على كلٍّ، هو ضرورةٌ تُشبه ما سمّاه قدامى النَّقدَةَ "الضرورة الشعريّة"، فهي محكومةٌ بسعيٍ فنِّيٍّ ناشدٍ لصونِ "نكهةِ" التشخيصِ عنده التي مالت إلى اعتبارِ أولئكَ (أي "الأرض" و"السماء") "رجلين" وليس "امرأتين" كما سنميلُ، وفقاً للُّغة والنحو العربيين، إلى تصورهما، إن شئنا ذلك- المترجم] صديقين حميمين إذ أنّهما كانا، ذات حينٍ، كائنين إنسانيّين. في يومٍ من الأيامِ نزل "سماء" من الأعالي إلى "أرضِ" صديقه والتمس منه أن يوافقَ على ذهابهما معاً إلى غابةٍ قريبةٍ ليصطادا ما استطاعا من حيواناتها فقبل "أرضُ" ما التمسه "سماء" منه. ذهبا معاً إلى الغابةِ وهما مزوّدان بقوسيهما وسهامهما. في الغابةِ انهمكا في صيدِ الحيواناتِ من الصباحِ وحتى الثانية عشرة ليلاً (منتصف الليل) فما أفلحا في إصابةِ أيِّ حيوانٍ من حيواناتها في مقتلٍ. تركاها ومضيا إلى حقلٍ فسيحٍ مارسا فيه الصيد حتى الخامسة مساءاً فما قتلا، أيضاً، أيَّ شيءٍ هناك. ثم غادرا الحقل وذهبا بعيداً إلى غابةٍ كبرى جرّبا الصيد فيها حتى الساعة السابعة مساءاً قبل أن يعثرا على فأرٍ ويصطاداه ومن ثمّ يبتدئان في البحثِ عن خلافه من فئران (أو حيوانات). كان هدفهما من ذلك البحث هو أن يصطادا فئران (أو حيوانات) أخرى يستطيعان تقاسمهما فيما بينهما، فالفأر الذي اصطاداه كان صغيراً جداً على أن يُقسّم. لكنهما ما أفلحا في اصطيادِ أيِّ شيءٍ آخرٍ (فأراً كان أو غير فأر). يئسا من سعيهما وعادا إلى مكانٍ اختاراه كي يتقاسما فيه ذلك الفأر الذي اصطاداه. كان كلٌّ منهما، في أثناء ذلك، يفكّر في الطريقةِ التي يمكنُ لهما بها أن يُقسّما ذاك المخلوق (الفأر) الصغير جداً إلى نصفين فقال "أرضٌ" إنه سيأخذه بعيداً لنفسه وقال "سماءٌ"، أيضاً، إنه سيأخذهُ بعيداً لنفسه وحده.
من الذي سيأخذ الفأر؟
من الذي سيأخذ الفأر؟ فقد رفض "أرضٌ" تماماً أن يأخذه "سماء"، ورفض "سماء" تماماً أن يأخذه "أرض". وقال "أرضٌ" إنه أعرق وأقدم من "سماء"، وقال "سماء" نفس الشيء. تجاذبا الحجج هكذا لساعاتٍ عديدةٍ حتى سئما من الخلافِ والشّقاق فمضى كلٌّ منهما في حال سبيله تاركينَ الفأر وراءهما. رجع "سماء" إلى موطنه في السماء، ورجع "أرضٌ" إلى منزله في الأرضِ.
عندما وصل "سماءٌ" إلى السماء أوقف المطر عن النزول إلى الأرضِ وأبى أن يُرسل النَّدى إليها (إليه) أبداً فجفَّ كلُّ شيءٍ على الأرضِ وما بقي شيءٌ لناسِ الدنيا لُطعموا أنفسهم عليه وبدأت الكائناتُ الأرضيّةُ جميعُها، من أنسٍ وحيوانٍ ونباتٍ وجمادٍ وخلافهم، في الذّبول، التّلاشي والموت.
بيضةٌ أطعمت الدنيا كلّها
عند معرفتي بأخبار المجاعة ورؤيتي خرابها للديارِ ذهبتُ إلى حجرتي وسكبتُ ماءاً في كوريّةٍ (طاسٍ)، ثمّ زلقتُ البيضةَ، على مهلٍ، في جوفه. أمرتُ البيضةَ أن تأتي لبيتنا بطعامٍ وشرابٍ لتأكل منه زوجتي ويأكلُ منه أهلُ بيتي وأنا. قبل أن تنقضي ثانيةٌ واحدةٌ رأيتُ الحجرةَ ملآنةً بأنواعٍ من الأطعمةِ والمشروباتِ أكلنا منها كلّنا وشربنا حتى شبعنا. بعد ذلك بعثتُ رسولاً (مُرسالاً) إلى جميع أصدقائي القدامى فجاءوا إليَّ وأعطيتهم بقية الطعام والشراب. طربنا، من بعدِ ذلك، ورقصنا جميعاً حتى رغب أصدقائي في المزيدِ من الشّراب فأمرتُ البيضةَ، ثانيةً، فأتت لنا بالكثيرِ من زِقاقِ (دِنانِ) خمرِ التمرِ شربناها كلّها. سألني أصدقائي عن الطريقة التي استطعتُ بها الإتيان بالأشياءِ تلك إليهم وقالوا إنهم ما ذاقوا، منذ ستِّ سنينٍ، لا ماء ولا خمر تمرٍ فأخبرتهم أنني قد جلبتُ خمر التمر و... الخ... الخ من "بلدةِ الموتى".
مكث أصدقائي معي حتى ساعةٍ متأخّرةٍ من الليلِ قبل أن يعودوا إلى بيوتهم. لدهشتي، ما قمتُ من النوم مبكراً، بل ظللتُ على سريري حتى جاءوا وأيقظوني. كان عددهم قد زاد بنسبةِ ستّين بالمائة (60%). عندما رأيتُ منهم تلك الكثرة دخلتُ حجرتي حيثُ دسستُ البيضة وأنزلتٌها، بهدوءٍ، في بطنِ طاسٍ مليئةٍ بالماء وأمرتُها، كالمعتاد، بمدّي وأصدقائي وأهل بيتي بالطعام والشّراب. أتانا منها مددُ طعامٍ وشرابٍ عميمٍ لي، لأصدقائي ولأهلِ بيتي ولمن قد يحلّ علينا، فجأةً، من ضيوفٍ. تركتُ أصدقائي وحدهم، بعد حينٍ، في الديوانِ، فهم قد استكانوا به وأبوا العودة المبكّرة إلى بيوتهم... الآن باتت أنباء البيضة المدهشة منتشرةً من بلدةٍ إلى بلدةٍ ومن قريةٍ إلى قريةٍ. ذات صباحٍ، وقت استيقاظي من رقادي، صعُبَ عليَّ أن أفتح بابَ بيتي، فالناسُ قد جاءوا، جماعاتٍ فجماعاتٍ، من بلداتٍ وقرىً شتى وانتظروني هناك كي أطعمهم. كان عددهم كثيراً وفائتاً للحدّ بحيثُ أن بلدتي ما عادت، قبل التاسعة صباحاً، قادرةً على استيعابِ أيِّ غرباءٍ آخرين. عند الساعةِ العاشرةِ صباحاً جلس جميع أولئك الناس، هادئين، على الأرضِ عساهم ينالوا من "بيضتي" منّاً وسلوى. أمرتُ البيضةَ بما أمرتها به من قبلِ مضاعفاً آلافاً فآلافاً فأتت لنا كلّنا، في الحال، بطعامٍ وشرابٍ أكلوا وشربوا منهما، جمعاً فجمعاً وفرداً ففردا، حتى استكفَوا كلّهم، بل وأخذوا ما فاض من ذلكم الطعام والشراب إلى بلداتهم، قراهم ومنازلهم. بعد أن ذهبوا جميعهم- مؤقتاً- إلى بلداتهم وقراهم وبيوتهم أمرتُ، في الخلوةِ، البيضةَ العجيبةَ أن تأتي لي بمالٍ وفيرٍ فأتت به في الحال وخبّأتُهُ في مكانٍ أمينٍ بحجرتي.
بما أنّ جميع الناس في بلادي كانوا يعرفون، حينذاك، أنهم متى ما جاءوا إلى بيتي وبلدتي فإنهم سوف يأكلون ويشربون كما يشتهون دأبوا، منذ تلك الوليمة الضخمة الأولى، على المجيء إلى هناك حتى قبل الساعة الثانية من بعدِ منتصفِ الليل. كانوا، حينما يجيئون إلىَّ من قراهم وبلداتهم العديدة تلك، يصطحبون معهم أطفالهم ونساءهم وكبار السنِّ منهم. كلّ الملوك وخدّامهم كانوا قد جاءوا أيضاً إليَّ في بلدتي لذات الغرضِ الذي ساق غيرهم إلى هناك. عندما فارقني النوم بسبب ضجيجهم نهضتُ من فوقِ سريري وأردتُ أن أفتح باب بيتي لكنهم، قبل أن أفعلَ ذلك، حطّموا الباب وانفلتوا إلى داخلِ البيتِ. حاولتُ، بكلّ قوّتي، أن أصدّهم إلى الوراء ففشلتُ. عندها أخبرتهم أن لا أحدَ منهم سينالُ طعاماً أو شراباً ما لم يبقوا جميعاً خارجَ البيتِ وينتظروا أمامه حتى يُخدموا. ثم نهضتُ وخرجتُ إليهم وأمرتُ، تحت سمعهم وبصرهم، البيضةَ أن تمدّهم بالطعامِ والشّرابِ.
في ذلك الوقتِ بات الناس يتكاثرون في بلدتي، بسرعةٍ، ويتقاطرون عليها من مختلف البلدات أو الأماكن المجهولة. وأسوأ ما في الأمرِ أنهم، متى ما جاءوا إلى هناك، كانوا لا يرجعوا، مرةً أخرى، إلى بلداتهم مما فوّت عليَّ أيَّ فرصةٍ للنومِ أو الراحة، ولو لمرّةٍ واحدةٍ، ولم يترك لي شيئاً أفعله سوى أمر البيضة، خلال كلّ النهار والليل، بالإتيان لهم بالطعام والشراب الذي يشتهون... كلُّ تلكَ الظروف أدّت بي إلى متاعبٍ جعلتني أحسُّ بأنّ حفظَ البيضةِ إياها داخل حجرتي ليس بالشيء المريح فأبعدتُها هي والطاس من هناك إلى خارجِ البيتِ وإلى وسطِ جمهرةِ أولئكَ الناس.
حياةٌ طائشةُ في البلدةِ
صيرتني حكايةُ البيضةِ أعظمَ رجلٍ في بلدتي، رجل لا شغل له سوى أمر "بيضته" أن تأتي للناس بالطعامِ والشراب. عليه أمرتُ البيضة المعجزة، ذات يومٍ، أن تمدّ الجمع البشرىّ المحتشد بأطيبِ طعامٍ وشرابٍ في هذه الدنيا ففعلت ذلك في لحظةٍ خاطفةٍ. أكل الناس الملتمّون التماماً شديداً الطعام والشراب فشبعوا وفرحوا ولعبوا وتصارعوا مع بعضهم البعض حتى هشموا البيضة المدهشة الجالسة في وسطهم وكسروا الطاس. انقسمت البيضة العزيزة، بسبب طيشهم ذاك، إلى نصفين فأخذتُها من بينهم ولزقتُ نصفيها، بعضاً على بعضٍ، بالصّمغِ. بقي الناس، رغم تهشّم البيضة وانكسار الطاس، في بلدتي وقرب بيتي، إلا أنهم كفوا عن اللعب، التصارع... الخ... الخ وأبدوا أسفهم على انقسامِ البيضةِ إلى جزأين اثنين. طبعاً ذلك ما منعهم، حين شعروا بالجّوعِ، من السؤال عن الطعام والشراب، كالمعتاد... جئتُ بالبيضةِ وأمرتها بالإتيان بما اشتهوا، على ذاتِ النحو الذي كنتُ آمرها به دائماً، لكنها ما أتت في تلك المرة بأيِّ شيء. كرّرتُ الأمر ثلاث مراتٍ أخرى بحضرتهم فما نفع ذلك. انتظر الناس المحتشدون هناك أربعة أيامٍ دون أن يأكلوا ويشربوا عسى البيضةُ ترضى، في النهاية، وتُوافيهُم بما أرادوا، لكنّها أبت عليهم ذاك المراد فيئسوا منها وانصرفوا إلى قراهم وبلداتهم، واحداً بعد الآخر، وهم يسبُّونني سبّاً قبيحا.
ادفع لي ما أنتَ مدينٌ به لي وتقيّأ ما أكلت
عادت الجموع البشرية التي كانت ببلدتي وعند بيتي إلى الأماكن التي أتت منها فخلا بيتي وما حوله من أيّ أنسيٍّ سواي وزوجتي وعائلتي. أيضاً كفّ كلُّ من كانوا في زمرةِ أصدقائي عن زيارتي، بل صاروا حتى لا يردون تحيتي مطلقاً إذا ما رأيتهم على الطريقِ وحيّيتهم. لكني ما اهتممتُ بذلك، فأنا لديَّ مالٌ كثيرٌ في حجرتي. ذات يومٍ دخلتُ حجرتي وأعدتُ تصميغ البيضة على مهلٍ فصارت سليمةً. ثم أمرتها، كالمعتاد، أن تأتيني بطعامٍ وشرابٍ عساها لا تُخيّب رجائي فيها. لدهشتي، أعدّت لي البيضة المدهشة، بدلاً عن الطعامِ والشرابِ، ملايين من السياطِ الجلديّة ولا غير. ما أن رأيتُ ما جاءت به، حينذاك، حتى سارعتُ وأمرتُها بردِّ السياطِ الجلديّةِ إلى "عدمها" الذي أتت منه ففعلت ذلك في الحال. مضت أيامٌ قليلةٌ فذهبتُ إلى الملكِ وقلتُ له أن يُخبرَ ضاربي جرسه (نُحاسه) أن يضربوا ذلك الجرس (النّحاس) في كلّ القرى والبلدات ويدعوا جميع ناسها للمجيء إلى بيتي ليأكلوا ويشربوا... الخ... الخ، كما كانوا يفعلون من قبل، فعاصر خمر تمري الميّت قد أرسل لي- .. هكذا أنبأتهم- بيضةً أخرى جديدةً من "بلدةِ الموتى" أكثرَ قدرةً على خلقِ المعجزاتِ من البيضةِ الأولى التي انكسرت.
حين سمع الناس ذلك من ضاربي جرس (نحاس) الملك تدفقوا جميعاً إلى بلدتي وبيتي. عندما رأيتُ أنّ لا أحدَ منهم قد تخلّف أو غاب عن الحضورِ إلى هناك وضعتُ البيضةَ في منتصفهم تماماً. ثمّ أوصيتُ أحدَ أصدقائي بأن يأمرها بإنتاجِ أيّ شيءٍ تستطيعه لهم. دخلتُ، بعدها، بيتي وأغلقتُ كلَّ نوافذه وأبوابه. حينما أمر صديقي البيضة بما قلتُ له أن يأمرها به أوجدت البيضة فقط ملايين من السياط الجّلديّة شرعت، في الحال، في جلدهم جميعاً بحيثُ أنّ أولئك الذين أتوا معهم، إلى بلدتي، بأطفالهم وشيوخهم أو مسنّيهم، نسوا أن يأخذوهم بعيداً عن المكان قبل أن يهربوا منه. كلّ خدّام الملك كانوا، آنذاك، قد جُلدوا بالسياط شرَّ جلدة. كذلك جُلدَ كلُّ ملوك البلداتِ وخدّام ملوك البلدات والمناطق البعيدة الذين أتوا ليُطعموا ويُشرَبُوا عندي... كثيرٌ ممن حضروا تلك الواقعة فرّوا إلى الغابةِ، كما ومات أيضاً كثيرٌ منهم، خاصّةً من كانوا أطفالاً أو عجائزَ. كذلك مات، في الحادثة، كثيرٌ ممن كانوا– زعماً- أصدقائي. ثمّ أنّ البقية الناجية من كلّ ما جرى لاقت صعوبةً شديدةً في أن تعثرَ على الدروبِ إلى بيوتها، رغم أنّ ما من أحدٍ منها بقي، في ظرفِ ساعةٍ، أمام بيتي.
عندما "رأت" السياطُ أنّ جميع الناس قد ذهبوا بعيداً عن بيتي تجمّعت في مكانٍ واحدٍ وكوّنت بيضةً واحدةً. ولدهشتي، اختفت البيضة إياها في نفسِ وقتِ ظهورها... هكذا فقدتُ البيضةَ المدهشةَ قبل أن تزولَ كُربةُ المجاعةِ عن الناس، فكلّ جزءٍ من بلدتي (وبلداتٍ وقرىً أخرى) ظلّ مصاباً بمجاعةٍ شديدةٍ وعظيمةٍ مات بسببها، يومياً، كثيرٌ من كبارِ السنِّ من الناس. حين رأيتُ هلاك النفوسِ المفزع دعوتُ إليَّ الشيوخَ والمسنّينَ من الناسِ الذين ما زالوا على قيدِ الحياةِ ودللتُهُم على طريقةٍ نقدرُ بها على إنهاءِ المجاعةِ فقمنا بالتدبيرِ الآتي:- أنشأنا قرباناً مكوّناً من دجاجتين بلديّتين، ستّةَ حبّات كولا، زجاجة زيت نخيل وستّة حبات كولا مرة. قتلنا الدجاجتين البلديّتين وأدخلناهما في جرّةٍ مكسورةٍ، ثمّ وضعنا معهما هناك حبّات الكولا وسكبنا الزيت خلل ذلك الخليط أو المزيج. كان علينا، من بعدِ ذلك، أن نحمل القربان (الأضحية) إلى "سماءٍ" في سمائه.
لكن من الذي يحملُ القُربانَ إلى "سماءٍ" في السّماء؟
اخترنا، لذلك، في البدءِ، أحد خدّام الملك، لكنه رفض الذهاب إلى "سماء" في سمائه. ثمّ انتقينا، لذات الغرض، أحد أفقر سكّان البلدة، لكنّه رفض أيضاً القيام بما أردناهُ منه. أخيراً اخترنا أحد عبيد الملك ليحمل قربان "سماءٍ" إلى السماء فأخذه ومضى به إلى هناك. كان القربان إشارةً لقبولِ "أرضٍ" لعلوِّ مقامِ "سماء" عليه وعلى السماء، التي هي بيته، أيضاً. لذا رضي به "سماء" وتسلّمه مسروراً، خاصّةً وأنّ فيه معني استسلام "أرض" له واعترافه بأنّ مقامه "ثانويّ" عند مضاهاته بمقامِ "سماء".
صعد العبدُ الملكيُّ بالقربان إلى السماء وأعطاهُ إلى "سماء". لكن، قبل أن يقطع نصف مسافة دربِ رجعته إلى الأرضِ، هطل مطرٌ غزيرٌ أشبعهُ جلداً وبللاً. وحين وصل إلى الأرضِ وإلى البلدةِ أرادَ- تلقائياً- أن ينجو بنفسه من البللِ، لكن ما سمح له إنسانٌ أبداً أن يدخُلَ بيته اتِّقاءاً للمطر. فكلُّ أهلِ البلدةِ باتوا يعتقدون أنه، إذا دَخَلَ بيوتهم، فسيحملهم أيضاً إلى "سماء" كما حملَ قربان "سماء" إليه فخافوا منه خوفاً شديداً.
هطلت الأمطار لثلاثةِ أشهرٍ متسلسلةٍ فما حلّت بالناسِ، من بعدِ ذلك، مجاعةٌ.
******
*****
***
**
*
[أُكْمِلَتْ هذه التَّرجمة في صيف العام 2011م]
khalifa618@yahoo.co.uk
///////////////////////
"وعاصر خمر تمره الميّت في بلدة الموتى"
أموس تيوتيولا
Amos Tutuola
ترجمة: إبراهيم جعفر
صدر الكتاب، للمرة الأولى، بالإنجليزيّة عن دار "فيبر آند فيبر". أعيد إصدار طبعة شعبيّة منه "فيبر للطبعات الشعبيّة-1961". ثمّ نُسخت منه طبعاتٌ في 1963، 1969، 1971، 1974، 1980، 1985.
صمّمت الغلاف دار بينتقرام Pentagram للتصميم الفنّيّ. رسمُ الغلاف بريشة جون كليمينتسون.John Clementson صورة الغلاف الخلفيّة من تصوير كارولين فوربس.
نبذة عن حياة المؤلف:-
أموس تيوتيولا، كاتبٌ نيجيريٌّ ولد في بلدة "أبيوكوتا" وتلقّى تعليمه في مدرسة لمنظّمة جيش الخلاص المسيحيّة. ثمّ، مؤخّراً، عمل مدرّساً في مدرسة لاغوس الثانوية العليا. وكتابه الموسوم شارب خمر التّمر... الخ [ذاتٌ المؤلّف الذي ترجمتٌه هنا إلى العربيّة]، الذي هو أكثر مؤلفاته شهرةً، قد كٌتِبَ في لهجة إنجليزيّة- نيجيريّة عاميّة وتناول مغامرات بطله وسط "الموتى"، أي أرواح الرّاحلين. من مؤلّفاته الأخرى حكاية موسومة بـ"مٌسغب، صيّاحة وخبيث (1987)" ومجموعة قصص قصيرة موسومة بـ"امرأة الرّيش الغابيّة".
يستلهم أموس تيوتيولا مؤلفاته من أساطير وخرافات قبيلة اليوروبا النيجيرية. فهو قد خلّق من هاتيك فانتازيات (متخيّلات) حيّة يتعايش، في جنابها، الواقعيّ (الطبيعيّ) وما فوق الطّبيعيّ.
............
[من:- 1. قاموس جامبارس للبيوغرافيا، النسخة القرنيّة، تحرير مالاني باري (طبعة 1997).
2. موسوعة ماكميلان (طبعة 1997)].
حكايات أخرى للمؤلّف:-
* حياتي في غابة الأشباح My Life In The Bush of The Ghosts
* إمرأة الريش الساكنةَ الغابة The Feather Woman of The Jungle
* أجايي وفقره الموروث Ajaiye And His Inherited Poverty
قيل عن هذه الرواية:-
"موجزة، محتشدة، مرعبة وآسرة ... كتبها، بالإنجليزيّة، "غربُ-إفريقيّ" ... لا شيء معجز جداً أو تافه جدّاً على أن يُسلك في مجرى هذه الرواية المولعة بالمبالغات الشديدة أو
اللا يُصدّق من الأشياء".
ديلان توماس
"صحيفة الأوبزيرفر البريطانيّة".
إهداء هذه الترجمة:-
* إلى الأستاذ الفاضل كبّاشي الذي أمتعني قديماً، بمجلّة "الإذاعة والتلفزيون والمسرح" السودانيّة، وبملاحق شتّى الصحف السودانيّة الثقافيّة، بترجماته الممتازة لكثيرٍ من الأدب الإفريقيّ ومقالاته وهوامشه على ذلك.
* إلى الصديق الفاتح فضل، عارف الأدب الإفريقيّ الصّامت عن الخوضِ الهشِّ فيه!
إبراهيم جعفر
***
"المُرْتَهَن الخفيّ"
في العاشرة من إحدى الليالي جاء رجلٌ بعينه إلى بيتي. أخبرني أنه كان دوماً يسمع كلمة "فقر" ولا يعرف له معنىً وأنه يريد معرفة معناها. وقال لي إنه راغبٌ في استلافِ مبلغٍ من المالِ منّي يعمل عندي في مقابله "مرتهناً" أو أجيراً زراعياً ثابتاً. سألته:- كم من المال تحبّ أن تستلف؟ أجاب أنه يريدني أن أُسلّفهُ ألفى "محارة" [مالُ تلك الأيّام، حسب المؤلّف- المترجم]. ذلك ما يعادل ستّة بينسات من المال البريطاني. استشرت زوجتي في ذلك الشأن فقالت لي إن الرجل سيكون "عاملاً مجداً مدهشاً" في الحاضر و"فناناً في النهب" في المستقبل. طبعاً ما فهمتُ قصدها بذلك وأعطيتُ الرجل، ببساطةٍ، الستة بينسات التي طلب. عندما أراد الذهاب سألتُهُ عن اسمه فأخبرني أنه "عطاءٌ وأخذٌ". وسألتُهُ أين يعيش فأجاب أنه يعيشُ في جوفِ غابةٍ لا أحدٌ قادرٌ على معرفةِ دروبها. حينما قال ذلك سألتُهُ، مرةً أخرى، عن الطريقة التي يستطيع العاملون الآخرون أن يصلوا بها إليه متى ما كانوا ذاهبينَ إلى المزرعةِ فأجابني أنهم، حين يطلعون في الصباح الباكر جداً قاصدين المزرعة، ينبغي عليهم أن ينادونه عالياً باسمه عند وصولهم إلى مفترقِ دروبٍ سيلاقيهم في الطريق إلى المزرعة. ثم مضى بعيداً. حين كان عمّالي في طريقهم إلى المزرعة في الصباح الباكرِ نادوه عالياً باسمه في مفترق الدروب المقصود فأجابهم بأغنية. ثم سألهم عن نوع العمل الذي سيقومون به في ذلك اليوم فأخبروه أنهم، فقط، سيحرثون الأرض. عندها قال لهم أن يذهبوا ويحرثوا الأرض الموكلين بها، أما هو فسيذهب ليحرث الأرض الموكّل بها في الليل لأن الأطفال الصغار والناس البالغون معاً محرّمٌ عليهم أن يروه. ذهب العمال إلى المزرعة بدونه وحرثوا حصّتهم من الأرض. في الصباح الباكر من اليوم التالي لذاك اليوم ذهبوا إلى المزرعة ثانيةً فوجدوها كلّها ومزارع الجيران المجاورة والغابات التي حولها محروثةً، فذلك "المُرْتَهَن الخفيّ" قد سوّى من الأرضِ ما يمتدّ لمسافةِ خمسينَ ميلاً. عند ذهاب العمال، كالمعتاد، إلى المزرعة في الصباح الباكر من اليوم الثالث قلتُ لهم أن يخبروا "المُرْتَهَنَ الخفيّ" أنّ عملَ ذاك اليوم هو قطع أخشاب الوقود وجلبها من المزرعة إلى بيتي. عندما وصلوا إلى مفترقِ الدروبِ نادوه وأخبروه أنّ عمل ذاك اليوم هو قطع أخشاب الوقود من المزرعةِ وحملها إلى بيتي فقال لهم أن يذهبوا إلى هناك ويفعلوا ما كلّفوا به، أما هو فسيقطع الأخشاب تلك ويوصلها إلى بيتي في الليل. ما كان، عندما ناداه العمال في المفترق، بادياً لهم مطلقاً.
في الصباح الباكرِ ما استطاع أحدٌ منّا أبداً، حين استيقاظنا من النوم مبكرين، أن يخرج من باب منزله، فـ"المُرْتَهَن الخفيّ"، لدهشتنا جميعاً، قد رحَّلَ، في وقتٍ ما من الليل لا ندريه، إلى البلدة ليس فقط أخشاب الوقود وإنما أيضاً كتلاً (مَرَائِنَاً) خشبيّةً وأشجارَ نخيلٍ بتمامها، ثمّ أشجاراً أخرى أيضاً فتغطّت البلدةُ، كلّها تقريباً، بالخشب والشجر وما عاد بمقدورِ أيِّ إنسانٍ الحركة في أنحائها. تعاون كلّ أهل البلدة على إزالة الأخشاب والشجّر عن دروبها وساحاتها بالفؤوسِ، المجرفات... الخ... الخ فاستغرقهم ذاك أسبوعاً تاماً. ولأنّني كنتُ متحرّقاً لرؤيةِ ذلك "المرتَهَن الخفيّ" أو "عطاء وأخذ" (كما سمّى نفسه) ومعرفة الطريقة التي كان يعمل بها أخبرتُ بقيّة عمال المزرعة أن يقولوا له إنّ شغله لليوم التالي هو حلاقة شعر رؤوس أطفالي. عندما قالوا له ذلك طلب منهم أن يذهبوا ويحلقوا ما كُلّفوا به من شعرٍ، أما هو فسيقوم بواجبه في الليل فانصرفوا عنه. جاء الليل فأوصيتُ العمال أن يراقبوه ويروا كيف سيقوم بحلاقةِ رؤوس أطفالي. لدهشتي نام جميع أهل تلك البلدة وكلّ حيواناتهم الأليفة قبل الساعة الثامنة من ليل ذاك اليوم فطاف عليهم "المرتَهَن الخفيّ" وحلق رؤوسهم جميعها دون أن يستثني منهم طفلاً، راشداً أو بالغاً، رجلاً أو امرأة، أو حيواناً أليفاً. كان يأخذ الواحد منهم خارج بيته قبل أن يحلق رأسه ويطليه طلاءاً أبيضاً. حين أتمّ عمله الشرير ذاك ما كان أحدٌ من الناس أو الحيوانات قد استيقظ بعد فعاد هو إلى غابته آمناً من عيونِ الرقيب.
في الصباح الباكر التالي لقي كلّ إنسانٍ في البلدة نفسه خارج البيت وحين مسّ رأسه وجده حليقاً ومطلياً طلاءاً أبيضاً، ثم ّرأى أهلُ تلك البلدةِ الناشئة، في ذات الوقتِ من الصبح الذي استيقظوا فيه من النوم، شعر رؤوس جميع حيواناتهم الأليفة حليقاً أيضاً فأُنذرُوا بذلك واعتبروه علامةً على وقوعهم في يد مخلوقٍ فظيعٍ آخرٍ. لكنّني هدّأتهم وأوضحتُ لهم كيف وقعت الواقعة فأرادوني جميعاً أن أرحل عن بلدتهم وباتَ عليّ أن أفعل شيئاً يرضيهم كي لا يطردوني من هناك. ذات يومٍ، عند ذهاب العمّال إلى المزرعة، أوصيتهم أن يخبروا "المُرتَهَنَ الخفيّ" أنّ عمل ذاك اليوم هو قتل جميع حيوانات الغابة والإتيان بها إلى منزلي. حين سمع منهم ذلك أجابهم عليه كما اعتاد. أشرقت شمس الصباح التالي فإذا بكلّ البلدة مليئة بحيوانات الغابة المفترسة وهي ميّتةً مما سرّ كلّ أهل البلدة وصيّرهم غير مريدين لي أن أغادرها ثانيةً.
بعد ذلك الحادث جلستُ، في يومٍ من الأيام، وبدأتُ أقلّب الفكر عمّا يعين ذلك الرجل على العمل الشاق الذي يؤديه دون أن يسألني طعاماً أو شراباً أو... الخ... الخ. عليه قلتُ للعمال، في موسم نضج الذرة، أن يقولوا له أن يأخذ لنفسه، وقت ذهابه إلى المزرعة، بعض يامٍ، ذرةٍ... الخ... الخ. طبعاً هم أخبروه بما قلتُ حينما وصلوا إلى المفترق المعتاد.
ما كنتُ أعلمُ أنّ "المرتهنَ الخفيّ" أو "عطاءٌ وأخذٌ" كان رئيساً لكلّ مخلوقاتِ الغابةِ وأنه كان الأقوى في عالم أولئك المخلوقات، فكلّهم- كما عرفتُ لاحقاً- كانوا تحت أمره وشغيلةً لديه كلّ ليلةٍ... بعد أن فرغ ذلك الكائن وأتباعه من شغلهم بمزرعتي في تلك الليلة أخذوا جميعهم كلّ اليام والذرة.... الخ... الخ، ليس من مزرعتي فحسب، بل ومن مزارع جيراني أيضاً.
حين رأيتُ منه، ومن أتباعه الذين ما كنتُ أعرفُ مطلقاً بوجودهم، ذلك العصف بيامِ وذرةِ مزرعتي ومزارع جيراني جميعاً تذكّرتُ ما تنبّأت به زوجتي حين قالت إن ذلك الرجل سيكون "عاملاً مجداً مدهشاً" في الحاضر و"فناناً في النّهبِ" في المستقبل... وهكذا عندما ذهب الناسُ إلى مزارعهم في الصباح التالي لذلك الذي قال فيه العمال لـ"عطاء وأخذ" أن يأخذ شيئاً من يامِ وذرةِ مزرعتي وجد كلٌّ منهم، لسوء الحظّ، مزرعته خاليةً من المحاصيل التي زرعها فيها، فجميع المزارع كانت قد سُوِّيَت وسُطِّحت كميدانِ كرةِ قدمٍ بفعلِ المخلوقاتِ الغابيّةِ إياها.
مرةً أخرى غضب منّي كلّ المزارعين والجيران الذين رأوا سلب "عطاء وأخذ" لمزارعهم، فما حدث كان كافياً لإفقادهم الاستطاعة على زراعة نفس أنواع المحاصيل، مرةً أخرى، خلال تلك السنة كلّها، كما وأنه حرمهم تماماً من أيّ شيءٍ يأكلونه هم وأطفالهم. طبعاً باتت حالتي كحالة جيراني ما دام "عطاء وأخذ" قد نهبني كما نهبهم، إلاّ أنني ما كنتُ قادراً على أن أحدّثهم بذلك.
أدت المحنة التي أدخل فيها "المرتهن الخفيّ" أو "أخذ وعطاء" وتابعيه أولئك الناس إلى اتّحادهم جميعاً وإنشائهم جيشاً ضدي عساي أغصب، بذلك، على مغادرة بلدتهم. أيضاً هم كانوا يرومون، بتكوينِ ذاك الجيش، الانتقام للفقد العظيم الذي أودى بهم إليه، بواسطتي،
"عطاءٌ وأخذ". بعد أن شكّل الجيش إياه وانضم إليه الجميع سألتُ زوجتي عمّا سينتهي إليه أمرنا في تلك البلدة فقالت إن ما سيحلّ بها من الحادثات سيكون فيه خُسرانَ حيواتٍ لأهلها ونجاةَ للشخصين الذين هم من غير أهلها. كنتُ، حينذاك، مخبئاً زوجتي ونفسي من عيون أهل البلدة، فكلهم كانوا، وقتها، يتصيدوننا في صعيدها وسافلها. طبعاً هم كانوا لا يريدون أن يضربوا نار بنادقهم داخل بلدتهم خوفاً على أطفالهم وزوجاتهم وما بقيتُ أنا وزوجتي في بلدتهم إلا لعلمنا أنهم لن يجرءوا على ذلك.
فكرتُ في كيف يتسنى لي وزوجتي السلامة من أولئك الناس فذكرتني زوجتي بأنني يمكن لي أن أسأل "المرتهن الخفيّ" ("عطاء وأخذ") المساعدة في محنتي فلربما قدّمها لي. ما أن نصحتني زوجتي بذلك حتى بعثتُ أحدَ عمّالي رسولاً إلى "المرتهن الخفي" كي يخبره أن أهل البلدة الناشئة (الجديدة) سوف يطلقون جيشاً في إثري خلال يومين وأنني ألتمسُ مجيئه إلى هناك في الصباح الباكر لليوم المشهود حتى يعينني عليهم.
"المرتَهن الخفيّ في الجبهة"
بما أن المرتهن الخفيّ ليس بقادرٍ على عملِ أيّ شيءٍ في النهار فإنه جاء وتابعوه أو مساعدوه إلى البلدة في الساعة الثانية من بعد منتصف الليل وانهمكوا جميعهم في حربِ أهلها فقتلوهم كلّهم وتركوني وزوجتي وحيدين هناك فتحقق ما قالته زوجتي وفُقدَت حيوات أهل البلدة وسلمت حياة الغريبين فيها. عاد، من بعد ذلك، "المرتهن الخفيّ" وأعوانه إلى غابتهم قبل طلوع الفجر. عندما رأيتُ أنني وزوجتي لن نقدرَ على العيش وحدنا في تلك البلدة حزمنا عفشنا وبندقيّتي ومنجلي وغادرناها حال أن هلك كلّ أهلها.
تلك كانت قصة حياتنا في البلدة الحمراء، مع الناس الحمر والملك الأحمر وكيف أننا شهدنا نهايتهم في بلدتهم الجديدة.
مضينا في رحلتنا إلى "بلدة الموتى" المجهولة حيثُ كان مقيماً عاصر خمر تمري الذي مات في بلدتي منذ زمانٍ طويلٍ. ظللنا، كما كنا سابقاً، منتقلينَ من بطنِ غابةٍ إلى بطنِ غابةٍ أخرى، غير أن الغابة التي كنّا سائرينَ فيها آنذاك ما كانت كثيفةً جداً ومخيفةً جداً كبعضِ سابقاتها. في أثناء سيرنا ذاك أوصتني زوجتي بأننا يجب ألَّا نتوقف هناك قبل أن نصل إلى المكان الذي قابلنا فيه "السيدة الحمراء" التي تبعناها إلى البلدةِ الحمراء، الشيء الذي يلزمنا بسفرِ يومين وليلتين نطوي خلالهم مسافة خمسةَ وخمسين ميلاً. بعد أن ارتحلنا نهاراً وليلاً لمدة يومين وصلنا إلى هناك فتوقفنا وارتحنا ليومين. ثم استأنفنا رحلتنا إلى البلدة المجهولة مباشرةً. حين طوينا تسعين ميلاً من رحلتنا تجاهها قبلنا رجلاً كان جالساً على الأرضِ وأمامه حقيبةٌ ملآنة بحملٍ ثقيلٍ. سألناه عن مكان "بلدة الموتى" فأجابنا أنه عارفٌ به، فهو ذات البلدة التي كان ذاهباً إليها حينذاك. عندما قال لنا ذلك أعلمناه برغبتنا في مصاحبته إلى تلك البلدة فتوسّل إلينا، حال سماعه ذلك منا، أن نساعده في حمل الحقيبة الثقيلة التي كانت أمامه- طبعاً نحنُ ما كنا عارفينَ بما في بطنها الملآنة. أوصى الرجل من يحمل الحقيبة منا ألا ينزلها عن رأسه قبل وصولنا إلى البلدة التي نقصدها. ثم هو أيضاً ما سمح لنا أن نختبر وزنها لنرى إن كانت أثقلَ مما نقدر على حمله أم لا. سألته زوجتي، وقتذاك، عما كيف يستطيع رجلٌ أن يشتري خنزيراً في حقيبةٍ! فأجابها أن لا داعي لاختبار محتويات الحقيبة إياها، فمتى ما وضعها الواحدُ منا فوق رأسه سيجدها إما أثقلَ مما يقدر على حمله أو لا. على كلٍّ نحنُ- كما قال- لا مفرّ لنا من حملها إلى البلدةِ المقصودةِ... وهكذا وقفنا متفكّرينَ أمام ذلك الرجل وحمله. تأملتُ أنا في أنني إن وضعتُ تلك الحقيبة السمينة على رأسي وما قدرتُ على حملها فإنني ينبغي لي أن أُنزلها في الحال وإن كان لذلك الرّجل أن يُغصبني على عدمِ إنزالها فعندي منجلٌ وبندقيّةٌ جاهزةٌ لإصابته في الحال.
قلتُ للرجلِ أن يضع الحقيبة فوق رأسي فقال لي إنها يجب ألا تمسّها يدا شخصين. عندما قال ذلك سألتُهُ:- أيُّ نوعٍ من المتاعِ هو هذا؟ أجاب أنه المتاع الذي لا ينبغي أن يعلم بمحتوياته شخصان. لذا علّقتُ أملي على بندقيّتي وآمنتُ بمنجلي كما أؤمن بالله. أخبرتُ زوجتي أن تضع الحمل على رأسي ففعلت ذلك. حينما استقر ذاك الحمل على رأسي بدا لي وكأنه، بالذات، جسدُ رجلٍ ميّتٍ. كان ثقيلاً جداً، لكنني استطعتُ حمله بسهولةٍ. مضى الرجل، من بعد ذلك، في مقدمتنا فتبعناه.
بعد مسيرةِ ستّة وثلاثين ميلاً دخلنا بلدةً ما. ما كنا عارفين أنه (الرجل) كان كاذباً في قوله لنا إنه ذاهبٌ إلى "بلدةِ الموتى". كذلك ما كنا داريين أن الحمل أو المتاع إياه كان الجسد الميّت لأميرِ البلدةِ التي دخلناها. فذاك الرجل قد قتله، في المزرعة، بالخطأ وبات يبحثُ عن شخصٍ ما يحلُّهُ محلَّهُ كقاتلِ الأمير.
نحنُ والملكُ الحكيمُ في البلدةِ الخطأ مع قاتل الأمير
كان قاتل الأمير غير راغبٍ في أن تثبت عليه تهمة القتل، فهو يدري أن ملك البلدة التي دخلناها، متى ما عرف من هو قاتل ابنه الأمير، سيقتص منه. لذا هو، عند دخولنا البلدة تلك معه رجانا أن ننتظره في زاوية أحد الشوارع ومضى إلى الملك وأطلعه على خبر مقتل ابنه في الغابة وعلى أنه أمسك بقاتليه وساقهما إلى البلدة. أرسل الملك، حينذاك، حوالي ثلاثين من خدمه مع قاتل الأمير كي يأخذونا، نحن والحقيبة الثقيلة، إليه. وصلنا إلى القصر ففتحوا الحقيبة ورأوا أن ما بها هو جسد ابن الملك (الأمير) الميت فأمر الملك خدمه بحبسنا داخل غرفةٍ مظلمة.
في الصباح الباكر التالي أمر الملك خدامه أن يُغسلوننا ويُلبسوننا أفخر الثياب ويُركبوننا على فرسٍ يطوفون به، ونحنُ عليه، في موكبٍ حول البلدةِ لسبعةِ أيامٍ في حياتنا قبل أن يقتلنا عقاباً لنا على قتلنا (المزعوم) لابنه الأمير. لكن أولئك الخدم وقاتل الأمير الحقيقي ما عرفوا مطلقاً مراد الملك من ذاك الموكب. غسلنا الخدّام، في الصباح الباكر، وألبسونا والفرس ثياباً غاليةً. صعدنا إلى ظهر الفرس فبدأ الاحتفال. طوّفونا في أرجاء البلدةِ وهم يضربون الطبول ويرقصون و يغنون أغنية الحداد لستة أيامٍ. حين أتى صباح اليوم السابع الباكر- الذي كان متوقعاً أن يفتك بنا فيه- طاف الخدامُ بنا، في جولةٍ نهائية، أنحاء البلدة. حين وصلنا منتصف البلدة رأينا القاتل الحقيقي للأمير والذي كان قد طلب منّا- دون أن ندري- أن نحمل جثّة الأمير ونصحبه إلى تلك البلدة. دفع بنا- ذلك القاتل- بعيداً عن ظهرِ الفرس وصعد بنفسه إلى هناك قائلاً للخدام إنه هو القاتل الحقيقي لابن الملك في الغابة. قال إنه كان يظنّ أن الملك سيقتله انتقاماً لاغتياله ابنه ولهذا أخبره أن قاتلي الأمير في الغابة هما أنا وزوجتي. هو قد اعتقد- حينذاك- أن الملك كان مسروراً من أنّ شخصاً ما (شخصين، في حالتنا المزعومة) قد قتل (قتلا) ابنه في الغابة مما دعاه إلى أن يأمر خدامه- حين سُلّمنا غليه على أننا قاتلَي الأمير- بأن يزيّنونا أحسن زينةً، ثمّ يطوفون بنا على صهوةِ فرسٍ في أرجاءِ البلدةِ.
ساق الخدمُ ذلك الرجل، بناءاً على طلبه، إلى الملك حتى يردد على مسامعه أنه هو الرجل الذي قتل الأمير في الغابة. حين وصلوا إلى قصر الملك ردد، في حضرته، اعترافه ذلك. في ذات الوقت الذي سمع الملك منه ما سمع أمر الخدام أن يُلبسوه كما ألبسوني وزوجتي. ثم صعد الرجل إلى ظهر الفرس فطاف به الفرس، بصحبة الخدّام وفي موكبٍ كموكبنا تماماً، أنحاء البلدة فراح يتواثب ضاحكاً مسروراً.
في الساعة الخامسة من مساء ذلك اليوم أخذ الرجل إلى غابة البلدة حيثُ فُتِكَ به لقتله الأمير وقُدّمَ جسده الميّت "قرباناً" لآلهة البلدةِ الساكنةَ في حرمِ الغابةِ إياها.
بعد أن قضينا خمسةَ عشرة يوماً في تلك البلدة أنبأنا ملكها أننا نريد مواصلة رحلتنا إلى "بلدةِ الموتى" فوهبنا هدايا ودلّنا على أقصر الدروب إليها. كانت زوجتي قد تنبّأت بما حدث حين قالت إن حقيبة ذاك الرجل (قاتل الأمير) المكتظّة ستجعلنا نرقصُ سبعةَ أيامٍ لكن سوف يكون هنالك "ملكٌ حكيمٌ" في البلدة الذاهبين إليها يغيّر مصيرنا!... تلك كانت نهاية قصة الحقيبة التي حملتها من الغابة إلى "البلدةِ الخطأ".
تابعنا، كالمعتاد، رحلتنا إلى "بلدةِ الموتى". بعد سفر عشرة أيام لاحت لنا، على مبعدةِ ما ظنّنا أنه حوالي أربعينَ ميلاً، البلدة المقصودة. لم يؤخّرنا، تلك المرة، شيءٌ عن السعي في طريقنا إليها. كنا قد ظنّنا، حين رأينا البلدة إياها، أننا سنصل إليها في نفس اليوم الذي بدت لنا فيه. لكن ذلك ما كان صحيحاً أبداً، فقد استغرق وصولنا إليها مسيرةَ ستة أيامٍ أخرى. ذلك لأنها، كما بدا لنا، كانت كلما اقتربنا منها ظلّت موغلةً في البعدِ الشّديد- كأنّها كانت، حينذاك، تهربُ بعيداً عنّا. ما كنّا عارفينَ أنّ لا أحد لم يمت بعد ليس بمقدوره الدخول إلى تلك البلدةِ نهاراً. عندما عرفت زوجتي ذلك السرّ أشارت عليَّ بأننا ينبغي علينا أن نتوقّف عن المسير ونرتاح حتى حلول اللّيل. حينما حلّ الليل أوصتني أن أنهضَ لنواصل رحلتنا مرةً أخرى. ما أن فعلنا ذلك حتى ظهر لنا أننا لا نحتاج إلى رحيلِ أكثرِ من ساعةٍ واحدةٍ كي نصل إلى هناك. طبعاً ما دخلنا "بلدةَ الموتى" تلكَ إلاّ عند الفجرِ، فهي كانت بلدةً مجهولةً لنا.
أنا وعاصرُ خمرِ تمري في بلدة الموتى
في الساعة السابعة من صباح اليوم التالي دخلنا "بلدة الموتى" واستعلمنا عن عاصر خمر تمري الذي كنتُ أبحثُ عنه منذ يومِ موته في بلدتي. سألني الموتى عن اسمه فقلتُ لهم إنّ اسمه، قبل أن يموتَ، كان "باتي"، لكنني لا أستطيع أن أعرف اسمه الحاضر لأنّه مات.
عندما سمعوا اسمه منّي وقولي إنّه مات في بلدتي ما قالوا أيَّ شيءٍ، بل بقوا ناظرين إلينا في صمتٍ. بعد خمسِ دقائقٍ، تقريباً، من نظرهم إلينا هكذا سألنا أحدهم عن من أين أتينا. أجبته أننا قد أتينا من بلدتي (وسمّيتُها له) فسألني عن موقعها فقلتُ له إنه بعيدٌ جداً عن بلدتهم. سألني، ثانيةً، عمّا إذا كان أهلها أحياءَ أم موتى. أجبته أن كلّ أهل بلدتنا تلك ما ماتوا أبداً. حين سمع منّي ذلك أوصانا بالعودةِ إلى بلدتنا حيثُ كان الأحياء فقط يعيشون، فمجيء الأحياء إلى "بلدة الموتى"- كما قال- محرّمٌ، لذا محرّمٌ، كذلك، السماح لنا برؤيةِ عاصر خمرِ تمري الميّت. بعد حينٍ من الأخذِ والرّدِّ سمح لنا بذلك ودلّنا على منزلٍ ليس بعيداً جداً من حيثُ وقفنا. قال لنا أن نذهبَ إلى هناك ونسأل عنه. ما أن أدرنا ظهرينا لذلك الرجل الميّت وتوجّهنا نحو المنزل الذي دلّنا عليه حتى صار جميع الموتى الواقفين في ذلك المكان، في وقتٍ واحدٍ، منزعجين من رؤيتنا ونحنُ نمشي أماماً أو من جهةِ وجوهنا، فهم هناك لا يمشونَ أماماً أبداً، لكنّا ما كنّا عارفينَ بذلك.
في نفسِ اللحظةِ التي رآنا فيها الرجل الميت الذي سألنا الأسئلة السابقة سائرينَ- على طريقةِ الأحياء- جرى نحونا وقال لنا إنه كان قد أوصانا بالعودةِ إلى بلدتنا لأنّ الأحياء ليس لهم أن يأتوا إلى "بلدة الموتى" ويزوروا بها أيَّ إنسانٍ ميّت. ثمّ حدّثنا، من بعد ذلك، بأننا، إن شئنا البقاء لأيّ وقتٍ هناك، فعلينا المشي خلفاً أو من ناحيةِ ظهرينا ففعلنا ما حدّثنا به. أثناء ما نحنُ ماشيان خلفاً، مثلما كانوا هم يفعلون هناك، تعثّرتُ فجأةً وأنا أحاول ألَّا أقع في حفرةٍ عميقةٍ كانت قريبةً منّي فأدرتُ رأسي بالخطأ ناحية المنزل الذي دلّنا على مكانه. عندما رآني، للمرة الثانية، وأنا مقبلٌ بوجهي نحو ذاك المنزل جاء إلينا، كما فعل من قبل، وقال لنا إنه سوف لا يسمح لنا بعد بالذهاب إلى المنزل المعنيّ بسبب مخالفتنا- مرةً معاً ومرةً أنا وحدي- لعرف المشي في "بلدة الموتى". توسلتُ إليه، مرةً أخرى، وأوضحتُ له أننا قد أتينا لرؤيةِ عاصرِ خمرِ تمري من بلدةٍ بعيدةٍ جداً. تعثّرتُ، مرةً أخرى، بحجرٍ سنينٍ في تلك الحفرةِ وانخدش جزءٌ منّي ونزف. توقفنا لمسحِ الدمِ عنّي، فنزفهُ كان غزيراً. عندما رآنا الرجل الميّت متوقفين عن المشي اقترب منا وسألنا عمّا أوقفنا. أشرتُ بإصبعي إلى الجزء النازف من جسدي. حينما رأى (ذاك الميّت) الدّم انزعج كثيراً وجرّنا، بالقوّة، إلى خارج البلدة. حاولنا، أثناء ما هو ساحبٌ لنا خارج البلدة، أن نتوسّل إليه ثالثةً، لكنّه قال إن ليس لنا، بعد، عذرٌ. ما كنا ندري أنّ الموتى جميعهم ما أحبّوا مطلقاً رؤية الدم؛ عرفتُ ذلك فقط في ذاك اليوم. بعد أن جرّنا الرجل الميّت إلى خارجِ بلدتهم قال لنا أن نبقى هناك ففعلنا ما قال وذهب هو إلى منزل عاصر خمر تمري الميت وأخبره أن هنالك إنسانين حيّين في انتظاره. مضت دقائق قليلة جاء بعدها عاصر خمر تمري الميت إلينا. حال أن رآني توهّم أنني قد متُّ قبل مجيئي إلى "بلدة الموتى" فمثّل لنا إشارة الموتى، لكننا ما استطعنا الاستجابة لها، فنحنُ ما متنا أبداً. في نفس الوقتِ الذي وصل فيه إلى مكاننا أدركَ أننا لن نستطيع العيش في البلدة إياها ما دمنا عاجزين عن الاستجابة لإشارته فبنى لنا، قبل أن نبدأ أيّ حديثٍ معه، منزلاً صغيراً حيثُ كنّا (أي خارج "بلدة الموتى"). وضعنا عفشنا داخله فعاد عاصر خمر تمري الميّت إلى داخل "بلدة الموتى". أدهشني- طبعاً- أنه كان أيضاً إلى الوراء كسائر أهلِ البلدةِ تلك وليس كما كان يمشي، في بلدتنا، قبل موته. جلب لنا، من البلدةِ إياها، طعاماً وعشرة زِقاقٍ (دنانٍ) من خمرِ التمرِ. ولأننا كنا جائعين جداً قبل وصولنا إليها أكلنا الطعام بإفراطٍ. وحين ذقنا خمر التمر ما استطعتُ أنا أن أبعد رأسي عنها حتى شربتُ العشرةَ زِقاقٍ (دنانٍ) بتمامها. بعد ذلك استغرقنا حديثٌ مع عاصر خمر تمري الميت جرى كالآتي:- أخبرته أني، عند موته، أردتُ أن أموتَ معه واتبعهُ إلى "بلدةِ الموتى" فأنا مغرمٌ بخمرِ التمرِ التي كان يعصرها لي بطريقةٍ لا أحد غيره قادرٌ على مجاراتها، لكنني ما استطعتُ أن أموت. عليه دعوتُ، ذات يومٍ، اثنين من أصدقائي وذهبنا إلى المزرعة وبدأنا في عصر خمر التمر بأنفسنا، لكن مذاقها ما كان- أبداً- مثل مذاق خمر التمر التي كان يعصرها لي قبل موته.
عندما أدركَ "أصدقائي" أنهم، إن جاءوا إلى منزلي، فلن يجدوا، ثانيةً، خمر تمرٍ ليشربوها تخلّوا عنّي جميعهم واحداً إثر الآخر حتى تركوني وحدي. ثم صرتُ، من بعد ذلك، حتى لو رأيتُ واحداً منهم خارجَ منزلي وحيّيتُهُ فإنّهُ سيقولُ لي فقط إنه سيزورني قريباً ثم لا أراه، بعدها، زائرُني. ورغم أن بيت أبي كان، من قبلِ، مليئاً بالناسِ إلا أنّ لا أحد، حينذاك، كان يجيء إلى هناك... وهكذا فكرتُ، بيني وبين نفسي، عمّا عساي فاعله فتوصّلتُ إلى أنني ينبغي لي أن أجده (وأعني عاصر خمر تمري الميّت) حيثما يكون وأن أسأله اتِّباعي إلى بلدةِ أبي كي يبدأ، من جديد، عصرَ خمرِ التمرِ لي، كالمعتاد.
تابعتُ حكاية قصتي لعاصر خمر تمري الميّت فقلتُ له إن رحلتي من بلدتي إلى بلدتهم بدأت ذات صباحٍ باكرٍ وأخذتني إلى قرىً وبلداتٍ عديدةٍ كنتُ أسأل الناسَ في كلٍّ منها إن كانوا قد رأوه أو يعرفون مكانه فيجيبني بعضهم أنهم سوف لن يدلّوني على ما أردت إن لم أساعدهم على فعلِ هذا أو ذاك من الأشياء. ثمّ عرّفته على زوجتي وحكيتُ له كيف أنّي عندما ذهبتُ إلى بلدتهم قابلني أبوها، الذي كان شيخ تلك البلدة، كضيفٍ عليه وأنبأني أنّ ابنته (زوجتي) قد أخذها إلى مكانٍ بعيدٍ "جنتلمان" ردَّ، فيما بعد، إلى "جمجمة". قلتُ له، بعد ذلك، إنّي قد ذهبتُ في إثرِ ابنة ذلك الشيخ (زوجتي فيما بعد) وعدتُ بها إليه فزوّجني إيّاها امتناناً للعمل الرائع الذي قمتُ به من أجلهِ فقضيتُ عندهم سنةً ونصفٍ تقريباً، أو ما يزيد، صحبتها بعدها في رحلةِ بحثي عنه. واصلتُ حكايتي له وأنبأته كيف أنّي، قبل وصولي إلى "بلدةِ الموتى"، واجهتُ صعوباتٌ جمّةٌ في الغابات التي اضطررتُ إلى الرحيلِ عبرها، غابةً فغابةً، نهاراً وليلاً، بسبب عدم وجودِ دربٍ بعينه إلى "بلدةِ الموتى". كنّا، أحياناً كثيرةً، نضطرُّ إلى الرحيلِ من غصونِ أشجارٍ إلى غصونِ أشجارٍ أخرى، في داخل تلك الغابات، لأيامٍ عديدةٍ قبل أن نمسَّ الأرض. مضت الآن عشرُ سنينٍ- قلتُ لعاصرِ خمرِ تمري الميّت- منذ أن غادرتُ بلدتي، ثمّ عبّرتُ له عن سروري المفرط بلقائه في "بلدةِ الموتى" وعن عرفاني الشّديد له إن هو اتّبعني في رحلةِ العودةِ إلى بلدتي.
بعد أن أتممتُ حكايةَ رحلتي إلى "بلدة الموتى" لعاصر خمر تمري الميّت ما فاه العاصر بكلمةٍ واحدةٍ، بل عاد إلى بلدته. غاب وهلةً ثمّ عاد لي، من هناك، بحوالي عشرين زقَّاً (دنّاً) من خمر التمر شرعتُ، حالاً، في شربها فبدأ هو في رواية قصته. قال لي إنه، بعد أن مات في بلدتي، مضى إلى مكانٍ معيّنٍ يجب أن يمضي إليه، أوّلاً، كلّ ميّتٍ جديدٍ، فالموتى الجدد لا يأتون، مباشرةً، إلى "بلدةِ الموتى". ثمّ أخبرني أنه قضى هناك عامين تدريبيّين تأهّل بعدهما كرجلٍ ميّتٍ كاملٍ قبل أن يذهب، أخيراً، إلى "بلدةِ الموتى" ويعيش بين أهلها. قال لي أيضاً إنه لا يستطيع معرفة ما حدث له قبل أن يموت في بلدتي فأخبرتهُ أنه وقع من فوق شجرةِ نخيلٍ في مساء يومِ "أحدٍ" أثناء ما كان يعصرُ خمرَ تمرٍ وأنّنا دفنّاهُ في ذاتِ البقعةِ تحت جذعِ الشجرة التي سقط منها. حين سمع منّي ذلك قال لي إنه لا بدّ أن يكون أسرفَ في الشّرب في ذلك اليومِ.
حكى لي العاصر أخباراً أخرى عنه فقال إنه عاد إلى بيتي في نفس الليلة التي سقط فيها من الشجرة ومات في المزرعة ونظر إلى كلّ فردٍ منّا، لكنّه ما رآني، وتحدّث إلينا فما أجبناه، فذهبَ بعيداً. ثم أخبرنا العاصر أنّ الموتى البيض والسود يعيشون معاً في "بلدةِ الموتى" وأن لا فردَاً حياً كان هناك أبداً، فكلّ شيءٍ كان يفعله الموتى في بلدتهم كان، في نظر الأحياء، خاطئاً ومعكوساً، كما كان كلُّ شيءٍ يفعله الأحياء، في نظرهم، خاطئاً ومعكوساً أيضاً. ثم سألني العاصر إن ما كنتُ لاحظتُ أنّ الموتى وحيواناتهم الأليفة معاً يمشون إلى الوراء. أجبته:- نعم. عندها قال لي إنه لا يستطيع أن يتبعني إلى بلدتي لأنّ الإنسان الميّت لا يستطيع العيش مع الناس الأحياء، فطباعُ الجماعتين مختلفة. ثم وعدني أن يعطيني أيّ شيءٍ أحببته في "بلدة الموتى". عندما قال ذلك تدبّرتُ ما حدث لنا في الغابة فشعرتُ بالأسف الشّديد على زوجتي وعلى نفسي وما استطعتُ شربَ خمر التمر التي قدمها لي في تلك اللحظة... حقاً الموتى لا يستطيعون العيش مع الأحياء. أنا نفسي عرفتُ ذلك حتى قبل أن يقوله لي العاصرُ إذ أنني راقبتُ أفعالهم فما تطابقت، أبداً، مع أفعالنا. في الخامسة من مساء ذلك اليوم عاد العاصر الميّت إلى بيته وأتى لنا، مرةً أخرى، بطعامٍ. بقي، بعد ذلك، معنا لثلاث ساعات قبل أن يرجع، ثانيةً، إلى بيته. بات الليلة في بيته ثم عاد إلينا في الصباح الباكر حاملاً معه خمسين زقّاً من خمر التمر بادرتُ بشربها كلّها في نفس الصباح. فكّرتُ مجدداً في أنه ليس بمقدوره مصاحبتنا في الرحلةِ إلى بلدتي. ثمّ أنّ زوجتي، آنذاك، كانت ملحّةً إلحاحاً شديداً على مغادرتنا "بلدة الموتى" مبكّرين. لذا، عندما جاء إلينا، أخبرتُهُ أنّنا يجب أن نغادر بلدتهم في صباحِ الغدِ فأعطاني "بيضةً" وأوصاني أن أحافظَ عليها آمنةً كما أحافظَ على ذهبٍ. قال لي إن وصلتَ إلى بلدتي ينبغي عليَّ أن أصونها داخلِ صندوق مقتنياتي الخاصّة جداً فهي، كما حدّثني، قادرةً على منحي أيَّ شيءٍ أريده في الدّنيا. شرح لي طريقة تسخيرها فقال لي أنني إن أردتُ ذلك التسخير فعليَّ بوضعها داخل إناءِ ماءٍ كبيرٍ (أو كَوْرِيّة ماءٍ كبيرة)، ثمّ ذِكر اسم أيّ شيءٍ أرغبُ فيه. بعد أن سلّمني البيضة تهيّأنا للمغادرة في الصباح التالي الذي كان فاتحة ثالث يوم من أيام وصولنا إلى "بلدةِ الموتى" فدلّنا على أقصرِ الطرقِ إلى بلدتي- كان ذلك طريقاً حقاً وليس غابةً كما في السابق.
بدأنا- إذاً- رحلة العودة من "بلدة الموتى" مباشرةً إلى بلدةِ أهلي التي غبتُ عنها سنينا. وبينما نحن ماضيان في سبيلنا ذاك قابلنا اكثرَ من ألفِ ميّتٍ ذاهبين إلى "بلدةِ الموتى". كانوا، إذا رأونا قادمين على الطريق تجاههم، ينحرفون عنه ويدخلون الغابة، ثم يعودون إليه بعد أن يتجاوزوننا. وكلّما رأونا كانوا، أيضاً، يُحدثونَ ضجّةً مُنْكَرَةً يعبرون بها عن كرههم لنا وعن انزعاجهم لرؤية الأحياء. ما كان أولئك الموتى يتحدّثون إلى بعضهم البعض أبداً، بل هم ما كانوا حتى- إن تحدّثوا مع أنفسهم أو مع غيرهم- يتكلّمون كلماتٍ واضحةً، فشأنهم ما كان إلاّ غمغمةً. كانوا دوماً يبدونَ وكأنّهم في حدادٍ، فعيونهم مستوحشةً جداً وبُنّيّة. لكن- على خلافِ من هم في حدادٍ- كانت ملابسُ كلُّ واحدٍ منهم بيضاءَ من غيرِ شائبةٍ.
ليس من بين الموتى من هو أصغرَ من أن يعتدي على غيرِهِ. أطفالٌ رُضّعٌ على الطريق، ميِّتون. زحفٌ إلى "بلدةِ الموتى".
قابلنا حوالي أربعمائة طفلاً رضيعاً ميّتاً على ذلك الطّريق. كانوا يغنّون أغنية الحداد ويزحفون نحو "بلدة الموتى". كانت الساعة، حينذاك، الثانية من بعد منتصف الليل وكان أولئك الأطفال يزحفون نحو البلدةِ إياها كجنودٍ. ما انحرفوا عن الطريقِ وإلى داخلِ الغابةِ، كما كان يفعل كبارُ الموتى حين يقابلوننا. كانوا كلّهم يحملون عِصِيّاً بأيديهم. حين توقفنا على جانب الطريق تاركين لهم فسحةً منه كي يعبروا منها بسلامٍ ما اكترثوا بالانحرافِ بعيداً عنّا. بدلاً عن ذلك رأيناهم يرفعوا عِصِيَّهُم وينهالون علينا بها ضرباً. جرينا بعيداً إلى داخل الغابة هرباً من أولئك الأطفال وما بالينا بأيِّ خطرٍ قد يأتينا منها، خاصّةً وأنَّ الوقتَ كان ليلاً، فأولئك الأطفال الميتون كانوا، حينذاك، أكثر المخلوقات إفزاعاً لنا. ما كفوا عن ملاحقتنا في جوفِ الغابةِ رغم أننا كنّا جرينا بعيداً جداً عن ذاك الطريق. ثمّ لاقينا رجلاً ضخماً جداً كان معلقاً حقيبةً ضخمةً جداً على كتفه. في ذات الوقتِ الذي رآنا فيه أمسكَ بنا ورمانا داخل الحقيبة كصيّادِ سمكٍ يقبض على السمك داخل شبكته. حينما شاهده الأطفال الرضّع الميّتون يفعل بنا ذلك فروا بعيداً عائدينَ إلى الطريق. قابلنا، داخل حقيبة ذلك الرجل، مخلوقات كثيرة أخرى لا أستطيع أن أصفها هنا. أخذنا ومن معنا بعيداً، بعيداً في بطنِ الغابةِ. حاولنا، بقدرِ قوتنا، أن نخرج من الحقيبة الضخمة، لكنّا ما استطعنا ذلك، فالحقيبة إياها كانت منسوجةً بحبالٍ غليظةٍ وقويّةٍ. كان قطرها حوالي مائة وخمسين قدماً وكانت تسع خمسة وأربعينَ شخصاً.. ما كنّا ندري، في تلك الليلة، إلى أين يمضي بنا ذلك المخلوق الضخم ونحنُ بداخل حقيبته الكبيرة الموضوعة على كتفه، بل وما كنّا ندري حتّى ما، أو من، هو ذاك الذي يأخذنا بعيداً وما إذا كان كائناً إنسانيّاً، روحاً أو خلافه. ثمّ أننا، لمصيبتنا، ما عرفنا- حتى حينذاك- إن كان حاملنا سيقتلنا، أو سيأكلنا،... أو... أو...
خائفٌ من مسِّ مخلوقاتٍ مفزعةٍ في الحقيبةِ
كنا خائفينَ من مسِّ المخلوقاتِ الأخرى التي قابلناها في داخل الحقيبة تلك. فكلّ جزءٍ من أجسادها كان بارداً كالثّلجِ ومشعراً وحاداً كالصنفرة. أما أنوفها وفيها (جمع "فاه") فكان يخرجُ منها هواءٌ حارٌّ كبخارٍ. صامتةً كانت تلك المخلوقات، وصامتاً أيضاً كان حاملها وحاملنا. وفيما كان ذلك الحامل (المخلوق الضخم) يوغل في جوف الغابة كانت الحقيبة المعلقة على كتفه والتي نحن بداخلها دوماً تصطدم بالأشجار وبالأرضِ، لكنه ما كان يكترث لذلك أو يتوقّف. أثناء حمله لنا بعيداً في باطن الغابة لاقى مخلوقاً من نوعه فتوقف وبدأ الاثنان يتقاذفان الحقيبة بينهما هنا وهناك وأسفلاً وأعلى. بعد وهلةٍ توقفا عن ذلك واستمرّ المخلوق الذي أسرنا في سيره كما كان قبلاً فارتحل بنا مسافةَ ثلاثينَ ميلاً من الطريق الذي كنّا مسافرينَ عليه. كان الفجرُ، حينذاك، موشكاً على الطّلوعِ.
صعبٌ أن يُحيّي أحدنا الآخر. صعبٌ أن يصفَ أحدنا الآخر. والأصعب أن ننظر، قصداً، إلى بعضنا البعض.
صعبٌ أن يُحيّي أحدنا الآخر. صعبٌ أن يصفَ أحدنا الآخر. والأصعب أن ننظر، قصداً، إلى بعضنا البعض... في الساعةِ الثامنةِ صباحاً وصل المخلوق الضخم إلى حيثُ كان ذاهباً فتوقف وقلب الحقيبة رأساً على عقب فسقطنا منها كلنا، دون سابقِ إنذارٍ إلى الأرضِ. في ذلك المكان عرفنا أنه كانت هنالك، بداخل الحقيبة، قبل أن يُقبَضَ علينا، تسع مخلوقاتٍ بشعة. حين نزلنا إلى الأرضِ رأينا بعضنا البعض فكانت رؤية المخلوقات التسع البشعة أصعبَ الأشياء علينا. ثمّ رأينا المخلوق الضخم الذي كان حائماً بنا في أنحاء الغابةِ خلال كلّ تلك الليلة، للمرة الثانية. كان تماماً كعملاقٍ، جسيماً جداً وطويلاً. رأسه كان يماثلُ جرّةً كبيرةً قطرها حوالي عشرة أقدام. أما عيناه، الكائنتان على جبهته، فكانتا كبيرتين جداً كطاسين (كوريَّتَين) وكانتا تستديران في كلّ حينٍ ينظر فيه إلى شخصٍ أو كائنٍ ما. كان يستطيعُ أن يرى دبّوساً على مبعدةِ ثلاثة أميالٍ منه. قدماه كانتا طويلتين وسميكتين كعموديّ منزلٍ ولا تناسبهما أيُّ أحذيةٍ في هذه الدّنيا. وصفُ المخلوقات التسعة الفظيعة التي كانت معنا في الحقيبة هو ما يلي:- كانت تلك المخلوقات قصيرة ولا يزيد طولها عن ثلاثة أقدامٍ، وكانت جلودها خشنةً كصنفرةٍ، كما وكانت لها أشواكٌ صغيرةٌ قصيرةٌ على راحاتِ أيديها. كان بخارٌ حارٌّ جداً يتصاعد من أنوفها وفيها آن ما تنفّست. أجسادها كانت باردةً كثلجٍ. ما فهمنا لغتها، فصوتُ حديثها كان كجرسِ كنيسة. كانت أياديها حوالي خمسة أقدامٍ في السّمكِ وشديدة القِصر ولها أصابع. وأقدامها كانت، بالضبط، مثل الأعمدة. ما كان شكلها يشبه شكل الإنسان أو أيّ مخلوقاتِ غابةٍ قابلناها في الماضي. رؤوسها كانت مغطّاة بنوعٍ من الشّعر يحاكي الإسفنج. ورغم أنّ تلك المخلوقات كانت بارعةً حين تمشي إلا أنّ أقدامها كانت- حينذاك- تبعثُ أصواتاً على الأرضِ، صلدةً كانت أو ليّنةً، تماثل تلك التي يحدثها مشي شخصٍ ما فوق حفرةٍ عميقةٍ مغطّاة أو اصطدامه بها فجأةً. حال نزولنا من الحقيبة إلى الأرض ورؤيتنا لتلك المخلوقات المرعبة أغلقنا عيوننا فزعاً من منظرهم الفظيع المخيف. ساقنا المخلوق المهيب، بعد وهلةٍ، إلى مكانٍ آخرٍ "فتح" فيه جحراً في مرتفعٍ جبليٍّ قال لنا أن ندخلهُ جميعاً. تبعنا هو، من بعد ذلك، إلى داخل ذاك الجحر وأغلقه خلفنا. ما كنّا عارفينَ أنه لن يقتلنا، بل فقط أسرنا كي نصيرَ خداماً له. في باطنِ الجحرِ قابلنا مخلوقات أخرى اكثرَ إرعاباً من سابقاتها لا أستطيع أن أصفها هنا. في الصباح الباكر لليوم التالي أخرجنا المخلوق الضخم من الحفرة وأرانا مزرعته التي أمرنا بأن نحرثها، معاً والمخلوقات الأخرى التي أسرها قبلنا. ذات يومٍ، بينما كنتُ أعملُ في المزرعة مع المخلوقات التسعة التي كانت معي في الحقيبة، أساء إليَّ أحدهم بكلماتٍ بذيئةٍ قالها بلغتهم التي لا أفهمها (أحسستُ ببذاءةِ ما قال من خلال الطريقةِ التي قاله بها) فتشاجرنا. حين رأى الباقون أنّني كدتُ أن أقتُلَ صاحبهم هبُّوا جميعاً لقتالي واحداً بعد الآخر. قتلتُ أول من واجهني منهم فجاءني ثانيهم فقتلته أيضاً... هكذا أفنيتهم الواحد بعد الآخر إلى أن بقي آخرهم، الذي كان بطلهم ورئيسهم. عندما بادرتُ بقتالِ ذلك البطل أو الرئيس بدأ يخدشُ جسدي بجسده الخشن الصَّنفَرِيِّ [من "صَنْفَرَة "- المترجم] وبالأشواكِ الصغيرةِ القصيرةِ التي على راحتي يديه فنزف كلُّ جزءٍ من جسدي. حاولتُ، بكلّ قوّتي، أن أركله أرضاً فما استطعتُ ذلك لأنّني ما قدرتُ أن أُمَكِّنَ في جسده قبضتي يديَّ فطرحني أرضاً وأغميَ عليَّ. طبعاً ما كان ممكناً لي أن أموت ما دمت وزوجتي قد بعنا موتينا. ما كنتُ أعلمُ أنّ زوجتي قد اندسّت، آنذاك، وراءَ شجرةٍ وراحت تراقبنا أثناء قتالنا.
حينما رأى كبيرُ المخلوقات التسعة المفزعة، الذي بقي حياً من دونها، أنّني أُغميَ عليَّ مضى إلى نباتٍ ما بالمزرعةِ وقطع ثمان ورقات. كانت زوجتي ناظرةً إليه في ذلك الأوان. عاد بالأوراقِ إلى حيثُ أهلهِ فعصرهنَّ (الأوراق) واحدةً بعد الأخرى بكلتَي راحتي يديه حتى نزّ من كلٍّ منهنَّ الماء. ثمّ سرّب ماء كلِّ ورقةٍ في عينيِّ أحدٍ من أهله فاستيقظوا جميعهم، في الحال، من موتهم (نومهم؟) وذهبوا إلى ربّ عملنا (المخلوق الضخم الذي أتى بنا إلى ذلك المكان) ليطلعوه على ما حدث في المزرعة. في نفس الوقت الذي غادروا فيه المزرعة ذهبت زوجتي إلى حيثُ النبات إياه فقطعت منه ورقةً واحدةً عالجتني بها كما عالج كبيرُ تلك المخلوقات أهله فعصرت ماءها داخل عينيَّ. استفقتُ، في الحال، من إغمائي. كانت زوجتي- لحسن الحظِّ- قد دبرت حمل أمتعتنا معها قبل مغادرتها للجحر ومتابعتها لنا إلى المزرعة. وقبل وصول المخلوقات التسعة الفظيعة إلى جحرِ ربّ عملنا كنّا قد هربنا بعيداً جداً من المزرعة... تلكَ كانت حكاية خلاصنا من المخلوق الضخم الذي أمسكَ بنا في داخلِ حقيبته.
ارتحلنا مرةً أخرى، نهاراً وليلاً، حتى لا يأسرنا المخلوق الضخم. مضى يومان ونصفٌ على مسيرتنا قبل وصولنا إلى "طريق الموتى" الذي كان الأطفالُ الميّتون قد دفعوا بنا بعيداً عنه. حين عدنا إلى ذلك الطريق ما استطعنا أن نسافرَ عليه، فالأطفالُ الميِّتون الفظيعون... الخ...الخ كانوا حينَها ما يزالونَ مرتحلينَ عليه.
"السّفرُ في الغابةِ كان خطراً جداً، والسّفرُ على "طريقِ الموتى" كان الأخطر..."
بدأنا السفر في جوفِ الغابةِ، لكن قريباً من "طريقِ الموتى" عسانا ألا نضيع، ثانيةً، فيها. بعد رحلةِ أسبوعين بدأتُ أرى أوراقَ شجرٍ مناسبةٍ لإعدادِ "جُوجُو" خاص بي. توقفنا حيثُ وجدناها فجهّزتُ أربعةَ أنواعٍ من "الجّوجُو" بمقدورها أن تخلّصنا أينما ومتى قابلنا أيّ مخلوقٍ خطر.
بعد تحضير "الجّوجُوات" ما عدنا خائفين من أيِّ شيءٍ قد يحدث لنا في داخل الغابة فجرؤنا على الرحيل هناك نهاراً وليلاً، كما نريد. ذات ليلةٍ قابلنا "مخلوقاً جائعاً" كان يصيح دوماً "أنا جائعٌ!!... أنا جائعٌ!!..." ما أن رآنا ذلك المخلوق حتى سار نحونا مباشرةً. حين اقترب منّا بمسافةِ خمسةِ أقدامٍ تقريباً توقفنا ونظرنا إليه بلا خوفٍ أو تهيّبٍ من مواجهته، فأنا كنتُ، وقتها، لديَّ "جوجو" حاضر لخدمتي، ثمّ أنّي وزوجتي قد بعنا "موتينا"- كما يذكر القارئ- قبل دخولنا إلى جوف الشجرة البيضاء حيثُ مسكن "الأمّ الوفيّة".
كان، وقت تقدّمه في السير نحونا، يسائلنا، مراراً، عما إذا كان لدينا أيَّ شيءٍ له ليأكله. ما كانت معنا، في ذلك الحين، سوى موزاتٍ غير ناضجة. أعطيناها له فالتهمها كلّها في لحظةٍ وبدأ يسأل عن شيءٍ آخرٍ يأكله وهو لا يكفُّ عن الصياح:- "... جائعٌ!!... جائعٌ!!... جائعٌ!!...". عندما ضقنا ذرعاً بصياحه حللنا أمتعتنا آملين أن نلقى هناك شيئاً آخرَ يؤكل كي نعطيه له. ما وجدنا، بين الأمتعة، غير فلقات لوبيا. وقبل أن نعطيه إياها أخذها منّا (ما عرفنا أنّ ذاك "المخلوق الجائع" لا يُشبعهُ أيُّ طعامٍ في هذه الدنيا، فهو قد يأكلُ كلَّ طعامِ هذا العالم ويظلُّ، بعد ذلك، شاعراً بالجوع وكأنه ما ذاق أكلاً منذ عامٍ. فتشنا، ثانيةً، بين أمتعتنا عسانا نجد له شيئاً يأكله فسقطت، خلال ذلك، البيضةُ التي أعطاني لها عاصرُ خمرِ تمري الميّت في "بلدةِ الموتى" من بين يديّ زوجتي. رأى المخلوق الجائع البيضة فأراد أن يبتلعها، لكن زوجتي كانت نبيهةً جداً فالتقطتها من الأرضِ قبله.
حين فشل المخلوق الجائع في التقاط البيضة قبل زوجتي بدأ يصارعها قائلاً إنّه يريد أن يبتلعها. أثناء ذلك الصراع ما توقف مرّةً عن الصّياح:- "جائعٌ!! جائعٌ!! جائعٌ!!...". فكّرتُ، حينها، بيني وبين نفسي، في أن ذلك المخلوق قد يؤذينا. "مارستُ" واحداً من "جوجُواتي" فحوّل زوجتي وأمتعتنا إلى دميةٍ خشبيّةٍ وضعتُها في جيبي. عندما اختفت زوجتي عن عيون المخلوق الجائع طلب مني أن أريه الدّمية الخشبية ليعاينها. أريتُها له فأخذ يسائلني بنفسٍ شاكّةٍ:- هل هذه ليست زوجتك وأمتعتكم؟ أجبته أنها ليست أولئك، بل هي فقط شيءٌ يُشبه زوجتي فردّها إليَّ وأعدتُها إلى جيبي كما في السابق. واصلتُ، من بعدِ ذلك، مسيري فتابعني وهو ما يزالُ يصيحُ:- "جائعٌ!!.. جائعٌ!!.. جائعٌ!!...". طبعاً تجاهلتُهُ حينذاك. بعد أن ارتحل معي لمسافةِ ميلٍ تقريباً سألني، مرةً أخرى، عن الدمية الخشبية التي في جيبي وطلب مني أن أناولها له كي يُعايُنها أكثر. أخرجتُها له فنظر إليها لما يزيد عن عشرِ دقائقٍ سألني، بعدها، للمرة الثانية:- هل هذه ليست زوجتك؟ أجبتُهُ، للمرة الثانية، أنها ليست زوجتي... الخ... الخ، بل هي فقط شيءٌ يُشاكلُها. ردّها إليَّ فاستمررتُ في المسير، كالمعتاد، لكنه ما زال متابعاً لي وهو يصيحُ:- "جائعٌ!! جائعٌ!! جائعٌ!!...". بعد أن ارتحلَ معي لمسافةِ ميلين آخرين تقريباً سألني، للمرة الثالثة، عن البيضة فأعطيتُها له. نظر إليها، في ذلك الأوان، لأكثرِ من ساعةٍ، ثمَّ قال عنها إنها "زوجتي" وابتلعها دونما توقُّعٍ منّي. بابتلاعه المفاجئ لها كان قد ابتلع زوجتي، بندقيّتي، منجلي، البيضة وباقي أمتعتنا وما ترك لي شيئاً سوى "الجُّوجُوات" الخاصّة بي.
ما أن ابتلع المخلوق الجائع الدّمية الخشبيّة حتى ذهبَ بعيداً جداً عنّي وهو يصيحُ:- "جائعٌ!!... جائعٌ!! جائعٌ!!...". الآن قد ضاعت زوجتي، فكيف لي أن أرجعها من بطنِ المخلوق الجائع؟ من أجل سلامةِ بيضةٍ باتت زوجتي في جوفِ مخلوقٍ جائعٍ شره. فيما أنا واقفٌ هناك أراقبُهُ وهو يُمضي بعيداً جداً عنّي رأيتُهُ وهو يكادُ يتلاشى عن بصري في المسافةِ فتأمّلتُ في معاناةِ زوجتي التي أتعبتُها كثيراً معي حين دفعتُها إلى متابعتي إلى "بلدةِ الموتى" وقلتُ لنفسي إنَّ زوجةً صابرةً معي على المَكَارِهِ كهذه لا ينبغي لي أن أُفارقها على هذا النحو وأتركها لذاك "المخلوق الجائع" كي يحملها بعيداً عنّي. تبعتُ المخلوق الجائع، إذاً. حين لحقتُ به قلتُ له أن يتقيّا الدمية الخشبية التي ابتلعها فرفض ذلكَ تماماً.
الزوج والزوجة معاً في جوفِ المخلوقِ الجّائع
قلتُ لنفسي إنني لن أتركَ له زوجتي وسأقاتلهُ حتى الموت. انهمكتُ في قتاله لكنّه، بسبب كونه ليس كائناً إنسانياً، ابتلعني أنا أيضاً وظلّ يصيح "جائعٌ!! جائعٌ!!.. جائعٌ..." وهو يمضي بنا بعيداً. أمرتُ، وأنا في بطنه، "الجّوجُو" الخاص بي أن يُعيدَ الدّمية الخشبيّة إلى ما كانت عليه قبل أن تُصيرَ كذلك ففعل ما أمرتُهُ به واستعدتُ، في الحال، زوجتي، بندقيّتي، البيضة، منجلي ومتاعنا. عبّأتُ بندقيّتي وأطلقتُها في بطنِ المخلوق الجائع فمشى لبضعةِ يارداتٍ قبل أن يسقطَ أرضاً. عبّأتُ البندقيّة، ثانيةً، وأطلقتُها على جوفه. ثمّ مزّقتُ بطنه (جوفه) بالمنجلِ حتى انفتحت لنا هوّةٌ فيها مكّنتنا من الخروجِ منها- نحنُ وأشياؤنا كلّها. تلك هي الطريقة التي تحررنا بها من المخلوق الجائع الذي ما استطعتُ- آنذاك- أن أراه بوضوحٍ كي أصفهُ وصفاً كاملاً، فالساعةُ كانت الرابعة صباحاً والظّلامُ كان، في ذلك الوقت، حالكاً جدّاً. على كلِّ حالٍ تركناه ومضينا بسلامٍ شاكرين الله على ذلك.
استأنفنا الرحلة إلى بلدتي. ولأن المخلوق الجائع كان قد حملنا بعيداً في داخل الغابةِ فإننا عجزنا، مرةً أخرى، عن التعرّف على السبيل إلى "طريق الموتى" فبقينا مسافِرَيْنَ في وسطِ الغابةِ. ارتحلنا تسعةَ أيامٍ قبل دخولنا إلى بلدةٍ قابلنا فيها أناساً "مختلطةً هيئاتهم". كانت زوجتي، قبل وصولنا إلى البلادةِ إياها، مريضةً جداً فذهبنا إلى كائنٍ كان يماثلُ، في هيئته، كائناً إنسانياً. استقبلنا ذاك الكائن في بيته كضيوفٍ غرباءٍ فشرعتُ هناك في معالجة زوجتي. كانت لديهم، في "البلدةِ المختَلَطَةِ" محكمةٌ أهليّةٌ كنتُ دوماً أحضرُ جلساتها. لدهشتي دعوني يوماً لأفصلُ في دعوى رفعها رجلٌ أعار صديقاً له ما يعادلُ جنيهاً إسترلينيّاً.
فحوى الدعوى هي أنّ ذلك المستلف قد استلفَ، ذاتَ يومٍ، ما يعادلُ جنيهاً إسترلينيّاً من صديقه. ثمّ بعد سنةٍ طالبه صديقه الذي أعاره المال أن يعيدَ له المبلغ الذي استلفه منه (ما مقداره جنيهاً إسترلينيّاً واحداً) فأبى المستلف عليه ذلك قائلاً له إنه منذ أن بدأ استلاف المال من الدائنين، بل ومنذُ يومِ ميلاده، ما سدّدَ أيَّ دينٍ عليه. عندما سمع منه صديقُهُ الدائنُ ذلك ما قال شيئاً ومضى إلى بيته بهدوء. ذات يومٍ سمع الدائن أن هنالك جابي ديونٍ له من الجرأة والشدّة ما يؤهّله لاستخلاصِ أيّ دينٍ من أيِّ مدينٍ، مهما كانت حججه لتجنّب دينه. ذهب الدائنُ إلى جابي الديونِ ذاكَ وروى له قصتهما كالآتي:- أحد أولئك الصديقين كان "مستدينَ" أموال. ما كان له شُغلٌ سوى أن يستلف المال وعليه أنّ شخصاً مدينٌ له، منذ عامٍ، بما يُعادلُ جنيهاً إسترلينياً واحداً رفضَ أن يردَّ له دينه. عندما سمع الجابي منه ذلك ذهبا معاً إلى منزلِ المدينِ. انصرف الدّائن إلى بيته حين وصلا هناك وترك الجابي وحده ليتصرّف مع المدينِ بما يراه مناسباً.
سأل الجابي المدينَ عن المبلغِ المعادلِ لجنيهٍ إسترلينيٍّ واحدٍ الذي استلفه من صديقه الدائن منذ عامٍ. أجاب المدين على سؤاله بأنه ما ردّ مطلقاً ديناً لدائنٍ منذ ميلاده فقال له الجابي إنه، أيضاً، ما فشل أبداً في جمعِ دينٍ من أيِّ مدينٍ مهما كانت مهنته التي يعيشُ عليها. حين سمع منهُ المدينُ ذلك قال له إنه، أيضاً، يعيشُ فقط على المال المستدانِ وعلى مهنةٍ وحيدةٍ هي أن يكن- دوماً- مديناً لدائنين. ختامِ المقابلةِ بدأ الاثنان يتعاركان. في معمعةِ شجارهِما رآهما رجلٌ كان عابراً، آنذاك، على الطريقِ فاقتربَ منهما ووقف خلفهما ينظُرُ إليهما، فهو قد جذب انتباهه ذاك الشّجار وموضوعه فما استطاعَ أن يتركهما ويمضي في سبيله. في غمرةِ شجارِ أولئكَ المتنازعين انتزع المدينُ سكّيناً ضخمةً من جيبه وطعن بها بطنه فسقط هناك ميّتاً- كان ذلك بعدَ ساعةٍ من بدءِ العراك. حينما شهد جابي الديون موت المدين فكّر، بينه وبين نفسه، في أنه ما فشلَ أبداً، من قبل، في استخلاصِ أيّ دينٍ من أيّ مدينٍ في هذه الدنيا منذ أن بدأ عمله كجابي ديونٍ. ثمّ قال، في خلاصةِ تفكيره ذاك، بما أنه ما استطاع ردّ المبلغ المعادل لجنيهٍ إسترلينيٍّ من المدينِ في هذه الدّنيا فإنه سيردّه منه في الآخرة. لذا نزع سكينه الكبيرة، أيضاً، من جيبه وطعن بها نفسه فسقط ومات في ذاتِ البقعةِ التي مات فيها المدين.
ولما كان الشاهدُ العابرُ للشجار مستغرقاً جداً فيه ومهتماً تماماً به فإنه قال لنفسه إنه يريد أن يرى نهايته فقفز عالياً وسقط في ذات الموقعِ الذي سقط فيه المتعاركان السابقان ومات مثلهما وهو آملٌ في أن يشهدَ نهايةَ عراكهما في الآخرةِ.
بعد أن رُوِيَت لي حيثيّاتُ تلك القضيّة على النحوِ أعلاه سئلتُ، في المحكمةِ الأهليّةِ، أن أُفصلَ في من هو المذنب فيها:- هل هو جابي الديون؟ أهو المدين؟ أم هو الرّجل الذي وقف متفرجاً عليهما وهما يتعاركان؟ أم هو الدّائن؟
في الوهلةِ الأولى كنتُ على وشك أن أخبرَ المحكمة أن الرجل الذي وقف متفرجاً عليهما هو المذنب، فهو كان عليه أن يستفسر عن الأمرِ ثمّ يتركهما وشأنهما. لكنني تذكّرتُ أن المدين والدائن كانا يقومان بعمليهما الذين يرتزقان منهما فما قدرتُ أن ألومَ من وقف مشاهداً لهما، وما قدرتُ أيضاً على لومِ جابي الديونِ، فهو كان يؤدّي عمله، ثمّ ما استطعتُ لومَ المدين نفسه كذلك، لأنه كان يسعى في سبيلِ معاشهِ. لكنّ ذلك ما حلّني من الأمرِ، فقد أصرَّ جميع من حضروا إلى المحكمةِ على أن أقطعَ برأيٍ معيّنٍ في من هو المذنب. تفكّرتُ مليّاً في القضيّة لما يقارب الساعتين ثمّ أجّلتُ النّظرَ فيها لمدةِ سنةٍ وفُضَّت جلسةُ المحكمةِ لذلك اليومِ.
بعد تأجيل الحكم في تلك القضيّة لمدةِ عامٍ رجعتُ إلى بيتي وواصلتُ تطبيب زوجتي. عندما بقيت أربعةُ أشهرٍ على موعدِ الحكمِ في القضيّة إياها دعيتُ، مرةً أخرى، إلى المحكمة للنظر في قضيّةٍ أخرى حيثيّاتها كالآتي:- كان هنالك رجلٌ له ثلاث زوجات كنّ يحببنه حباً عظيماً ولا يُفارقنهُ أينما ذهب أو أراد أن يذهب، وكان هو يحبّهُنَّ أيضاً. ذات يومٍ سافر ذلك الرجل إلى بلدةٍ بعيدةٍ جداً فتبعته إليها زوجاته الثلاث. أثناء ما كانوا مرتحلين من غابةٍ إلى أخرى تعثّر الرجل وسقط على الأرضِ، فجأةً، ومات في الحال. ومن شدةِ حبِّ الزوجاتِ الثلاث له قالت زوجته الكبرى إنها لا ترغب في العيش بعده وإنها يجب أن تموت معه فماتت معه. بقيت، بعد ذلك، الزوجة الوسطى والزوجة الصغرى من بين الزوجات الثلاث. قالت الزوجة الوسطى إنها تعرفُ ساحراً يعيشُ في تلك البلاد له قدرةً على "إيقاظِ" الموتى من موتهم وإنها سوف تذهب إلى بيته وتستدعيه كي يجيء و"يوقظ" زوجهم والزوجة الكبرى من موتهم. لما سمعت الزوجة الصغرى (الثالثة) منها ذلك قالت لها إنها ستبقى مع الجسدين الميّتين حتى وقت مجيء الساحر حتى تحميهما من الحيوانات المتوحّشة التي ربما أكلتهما إن هي غادرت المكان معها... هكذا انتظرت الزوجة الثالثة وبقيت في حراسةِ الجسدين الميّتين حتى عادت الزوجة الثانية والساحر بصحبتها، في أقلِّ من ساعةٍ، إلى مكانهم. أوقظ الساحر الزّوج والزوجة الكبرى من موتهما فشكره الزوج شكراً عظيماً وسأله عن أيّ مبلغٍ من المالِ سيأخذه مقابل العمل المدهش الذي قام به. أجابه الساحر أنه لا يريد مالاً، بل يريد له أن يتنازل له عن إحدى زوجاته الثلاث. حين سمع الزوج ذلك من الساحر اختار له زوجةً زوجته الكبرى التي قامت من الموت، لكنّها رفضتهُ كلّياً. ثم اختار له الزوجة الثانية (التي استدعته ليوقظ الزوج والزوجة الأولى من موتهما) زوجةً فرفضته أيضاً. أخيراً اختارَ الزوج للساحر زوجةً زوجته الثالثة (التي بقيت مع الجسدين الميتين منتظرةً عودة الزوجة الثانية بالساحرِ إلى مكانهم) فرفضتهُ أيضاً. حين رأى الزوج أنه ليس هنالك، من بين زوجاته الثلاث، من هي راغبةً في صحبةِ الساحرِ إلى بيته قال للساحرِ أن يأخذهُنَّ معه جميعاً. عندما سمعت الزوجات الثلاث ذلك الكلام من زوجهنَّ تعاركنَ فيما بينهُنَّ. لسوءِ الحظِّ كان هنالك رجلُ بوليسٍ عابرٌ للدربِ في ذلك الوقتِ فبادر باعتقالهنَّ وسوقهُنَّ إلى المحكمةِ كي تفضَّ نزاعهُنَّ. وكما يعلم القارئ فإنّ المحكمة عهدت إليَّ بالفصلِ في قضيّتَهُنَّ التي كان محورها السؤال التالي:- مَنْ مِنْ بينِ الزوجات الثلاث يمكنُ إلزامُها بصحبةِ الساحرِ إلى بيته والعيش معه كزوجةٍ له؟ جميع من كانوا حاضرين، آنذاك، في المحكمة أرادوني أن أختار من بين الثلاث زوجات تلك التي كان الساحر أحقَّ بها. لكنّني ما استطعت أن أختارَ أياً منهنَّ للساحرِ، فهنَّ، كلٌّ على طريقتها الخاصّة، أبدينَ حبّاً ووفاءاً لزوجيهنَّ فشاءت الزوجة الأولى أن تموت معه، وذهبت الزوجة الثانية، بعد موته وموت الزوجة الأولى، إلى الساحرِ وأتت به إلى مكانِ الجسدينِ الميتين كي يُحييهُما من موتهما. أما الزوجةُ الثالثةُ والأخيرةُ فهي أظهرت حبّها للزوجِ في بقائها مع الجّسدين الميّتين في الغابةِ وحمايتها لهما من الحيوانات المتوحّشة حتى عودة الزوجة الثانية (الوسطى) إليها وإليهما بصحبةِ الساحرِ. كلّ ما سبق دعاني لـتأجيلِ الحكمِ في تلك القضيّةِ أيضاً لمدّةِ عامٍ. قبل أن يأتي موعد الفصل في أيٍّ من تلكم القضيّتين تعافت زوجتي من مرضها فغادرنا البلدةَ إياها (البلدة المُخْتَلَطَة) متوجِّهَيْنَ إلى بلدتي. قبل وصولنا إلى هناك أرسل لي أهلُ "البلدةِ المُختَلَطَة" أكثرَ من أربعِ رسائلٍ- لقيتُها في انتظاري في بيتي وبلدتي- تدعوني كلّها إلى المجيء إلى بلدتهم والفصل في القضيّتين إياهما، فهما ما زالتا، وقتها، معلّقتين أو في انتظاري. لذا سأكون ممتناً جداً إن فصلَ أحد قراء هذه الحكاية في أيٍّ منهما أو في كليهما وأرسلَ لي نصَّ حكمه في أسرعِ وقتٍ ممكنٍ، فكلُّ أهلِ "البلدةِ المُخْتَلَطَة"- كما ولا شكّ أحسستُم- ما زالوا يريدون منّي أن آتي لهم عاجلاً أو حالاً لأنطق بالحكم الفصل فيها.
بعد مغادرتنا "البلدة المختَلَطَة" ارتحلنا أكثرَ من خمسِ عشرِ يوماً فرأينا جبلاً وتسلقناه وقابلنا فوق قمته أكثر من مليونٍ من "المخلوقاتِ الجّبليّةِ"، على حدِّ تسميتي لهم.
نحنُ ومخلوقاتُ الجّبل على قمّةِ الجّبلِ المجهول
عندما وصلنا إلى قمة ذاك الجبل ولاقينا فوقها "المخلوقات الجّبليّة" تلك ماثلت لنا، في مظهرها، كائنات إنسانيّة، لكنها ما كانت، في حقيقتها، كائنات إنسانيّة. كانت قمة الجبل مسطّحةً كميدانِ كرةِ قدمٍ. وأيّ جزءٍ منه كان مُضاءاً بأنوارٍ شتى ملونة ومزدانة كنت كأنها صالةُ مهرجانٍ أو احتفالٍ ما. كان أولئك القوم الجبليّون يرقصون في حلقاتٍ ودوائرٍ حينما قابلناهم. لكنهم ما أن رأونا في منتصفهم حتى توقفوا عن الرقص فوقفنا بينهم ناظرينَ إلى الغابةِ البعيدةِ جداً من ذلك المكان. ولأنهم كانوا دوماً يحبّون الرقص فإنهم دعوا زوجتي لمشاركتهم الرقص فاستجابت لهم.
ليس خطيراً جداً أن ترى مخلوقات الجّبل، بل الخطيرُ حقاً هو أن ترقصَ معهم!
فرحت مخلوقات الجبل جداً لرقص زوجتي معهم. لكنها عندما شعرت بالتعب وتوقفت عن الرقص انزعجوا انزعاجاً شديداً وجرّوها إلى حلبةِ الرّقص كي تُعاودَ رقصها معهم- هم ما تعبوا من الرقص لذا استغربوا تعبها. مضت ترقص معهم مجدداً فتعبت قبلهم وتوقّفت، ثانيةً، عن الرقص. أتوا إليها، تلك المرة، وقالوا لها إنها يجب أن ترقص حتى يخلوا هم سبيلها. عادت إلى الرقص، للمرة الثالثة، فلاحظتُ أنا، حين راقبتُها عن كثبٍ، أنّها تعبةٌ تعباً شديداً وتلك المخلوقات ما كفّت عن الرقص أبداً. ذهبتُ إليها وقلتُ لها:- "دعينا نذهب". تبعتني في مسيري فانزعجت المخلوقات إياها منّي وأرادت أن تعيدها، بالقوة، إلى حلبة الرقص. "مارستُ"، مرةً أخرى، "الجوجو" الخاص بي فحوّل زوجتي إلى الدمية الخشبيّة التي كانتها في وقتٍ سابقٍ. وضعتُها، من بعد ذلك، في جيبي فما عادوا يرونها.
حين رأى أولئك القوم أنّ زوجتي قد اختفت عن عيونهم وأرادوا منّي أن أجدها في الحال وباتوا، حينذاك، منزعجين فررتُ منهم بعيداً ناجياً بجلدي، فأنا لا قدرةَ لي أبداً على قتالهم. ما استطعتُ أن أجري أكثرَ من ثلاثمائة ياردة قبل أن يمسك بي جمعهم ويحيطُ بي هناك. طبعاً، قبل أن يتمكنوا من فعلِ أيِّ شيءٍ لي غيّرتُ نفسي إلى فقاعةٍ مسطّحةٍ ورميتُ نفسي على الطريقِ الذاهبِ إلى بلدتي. لكن مخلوقات الجبل ما زالت تتابعني وتجرّب كلّ الحيل البارعة للإمساكِ بي إذ أنّي كنتُ أزوغُ منهم هنا وهناك مستعيناً بصغرِ حجمي ومرونتي الفقاعية. رغم كلّ ما جربوا فشلوا في القبضِ عليّ حتى أشرفتُ على النهرِ الذي يتقاطع مع الطريقِ إلى بلدتي والذي كان قريباً منها. لكن، قبل أن أصل إلى ذلك النهر، غدوتُ مرهقاً جداً وكنتُ على وشك الانقسام إلى نصفين، فأنا كنتُ، عند قذفي نفسي على الدرب، تفلقني حجارةٌ صلدةٌ أنخدشُ بها. أوشكت المخلوقات المطاردة لي أن تمسك بي هناك فقذفتُ نفسي، دون أيِّ تهيّبٍ، نحو الجانب الآخر للنهر. قبل أن أمسَّ الأرض هناك أعدتُ نفسي إلى رجلٍ وأعدتُ زوجتي إلى امرأةٍ وأعدتُ بندقيّتي، البيضة، منجلي ومتاعنا إلى طبيعتهم الأصلية. في نفس الوقت الذي مسسنا الأرض فيه لوّحنا بأيدينا إلى مخلوقات الجبل مودّعين فباتوا ينظرونَ إلينا ونحنُ مبتعدان، فعبور النهر ليس من حقّهم بتاتاً... تلك كانت قصة نجاتنا من عَسف محلوقات الجبل.
من ذلك النهر إلى بلدة أهلي ما كانت المسافةُ تحتاجُ لسوى دقائقٍ قليلةٍ لعبورها. دخلنا إذاً، بسلامٍ، أرضَ آبائي وما عاد الأذى يلحقنا أو تلاقينا مخلوقات شرّيرة.
باكراً في الساعةِ السابعةِ صباحاً وصلنا إلى بلدتي. في نفس الوقت الذي عبرنا فيه عتبةَ ديواني تدافعَ نحونا أهل بلدتي، الذين عرفوا أنني عدتُ إليها، مرحّبين ومحيّين... هكذا وصلت وزوجتي إلى بلدتي سالمينَ آمنينَ وقابلنا آلَ بيتي، كذلكَ، في سلامٍ وأمانٍ وبحضورِ أصدقائي القدامى جميعاً والذين اعتادوا، في الماضي، على المجيء لبيتي وشرب خمر التمر معي.
أرسلتُ في طلبِ مائتين زقاً من خمرِ التمرِ شربناها أنا وأصدقائي القدامى معاً، كما كنّا نفعل قبل رحيلي من البلد. حال وصولي إلى بيتي دخلتُ حجرتي وفتحتُ صندوقَ أماناتي "صندوقي الشّخصي" وخبّأتُ فيه البيضةَ التي أعطاني لها عاصرُ خمرِ تمري الميّت حينما كنتُ معهُ وزوجتي في منزلٍ بجوارِ "بلدةِ الموتى"... ما كسبنا- إذاً- من كلّ أسفارنا الطويلة السنين والبعيدة المسافات، بكلّ ما فيها من امتحاناتٍ ومصاعبٍ ومصائبٍ، سوى "بيضةٍ". في اليومِ الثالثِ من وصولنا إلى بلدتي ذهبتُ وزوجتي إلى أبيها وأمّها في بلدتهم واطمأنّنا على أنهم في بخيرٍ وحسنِ حالٍ، ثمّ رجعنا إلى بلدتي بعد قضائنا ثلاثة أيام معهم هناك [...... ذلكم كان الكيف الذي سارت به أحداثُ حكاية شارب خمر التمر وعاصر خمر تمره الميّت...].
قبل رجوعي إلى بلدتي (والحديثُ هنا، طبعاً، للراوي وشارب خمر التّمر) كانت هنالك مجاعةٌ عظيمةٌ أهلكت الملايين من العجائز وأعداد لا تُحصى من الأطفال، الشباب، النساء والرجال. وساءت الأحوال، آنذاك، حتى اغتال كثيرٌ من الأمّهات والآباء أطفالهم كي يأكلوهم حفاظاً على بقائهم بعد أن أكلوا حيواناتهم الأليفة، الجّراذين (الضَّببة)... الحشرات... الخ... الخ. كلّ النباتات، الأشجار والأنهار كانت، آنذاك، قد جفّت لانقطاعِ نزولِ المطر وما بقي شيءٌ للناس ليأكلوه.
سببُ المجاعةِ
في الأيام الغابرة كان "أرضٌ"* و"سماءٌ"** [* و ** شاء المؤلف، في حكايته، أن يُذَكّر "الأرضَ" و"السّماءَ" معاً فاحتفظنا، في الترجمة، بحقّه في ذلك رغم مخالفته الواضحةِ لقواعدِ اللغة العربيّةِ. عذرنا في ذلك، على كلٍّ، هو ضرورةٌ تُشبه ما سمّاه قدامى النَّقدَةَ "الضرورة الشعريّة"، فهي محكومةٌ بسعيٍ فنِّيٍّ ناشدٍ لصونِ "نكهةِ" التشخيصِ عنده التي مالت إلى اعتبارِ أولئكَ (أي "الأرض" و"السماء") "رجلين" وليس "امرأتين" كما سنميلُ، وفقاً للُّغة والنحو العربيين، إلى تصورهما، إن شئنا ذلك- المترجم] صديقين حميمين إذ أنّهما كانا، ذات حينٍ، كائنين إنسانيّين. في يومٍ من الأيامِ نزل "سماء" من الأعالي إلى "أرضِ" صديقه والتمس منه أن يوافقَ على ذهابهما معاً إلى غابةٍ قريبةٍ ليصطادا ما استطاعا من حيواناتها فقبل "أرضُ" ما التمسه "سماء" منه. ذهبا معاً إلى الغابةِ وهما مزوّدان بقوسيهما وسهامهما. في الغابةِ انهمكا في صيدِ الحيواناتِ من الصباحِ وحتى الثانية عشرة ليلاً (منتصف الليل) فما أفلحا في إصابةِ أيِّ حيوانٍ من حيواناتها في مقتلٍ. تركاها ومضيا إلى حقلٍ فسيحٍ مارسا فيه الصيد حتى الخامسة مساءاً فما قتلا، أيضاً، أيَّ شيءٍ هناك. ثم غادرا الحقل وذهبا بعيداً إلى غابةٍ كبرى جرّبا الصيد فيها حتى الساعة السابعة مساءاً قبل أن يعثرا على فأرٍ ويصطاداه ومن ثمّ يبتدئان في البحثِ عن خلافه من فئران (أو حيوانات). كان هدفهما من ذلك البحث هو أن يصطادا فئران (أو حيوانات) أخرى يستطيعان تقاسمهما فيما بينهما، فالفأر الذي اصطاداه كان صغيراً جداً على أن يُقسّم. لكنهما ما أفلحا في اصطيادِ أيِّ شيءٍ آخرٍ (فأراً كان أو غير فأر). يئسا من سعيهما وعادا إلى مكانٍ اختاراه كي يتقاسما فيه ذلك الفأر الذي اصطاداه. كان كلٌّ منهما، في أثناء ذلك، يفكّر في الطريقةِ التي يمكنُ لهما بها أن يُقسّما ذاك المخلوق (الفأر) الصغير جداً إلى نصفين فقال "أرضٌ" إنه سيأخذه بعيداً لنفسه وقال "سماءٌ"، أيضاً، إنه سيأخذهُ بعيداً لنفسه وحده.
من الذي سيأخذ الفأر؟
من الذي سيأخذ الفأر؟ فقد رفض "أرضٌ" تماماً أن يأخذه "سماء"، ورفض "سماء" تماماً أن يأخذه "أرض". وقال "أرضٌ" إنه أعرق وأقدم من "سماء"، وقال "سماء" نفس الشيء. تجاذبا الحجج هكذا لساعاتٍ عديدةٍ حتى سئما من الخلافِ والشّقاق فمضى كلٌّ منهما في حال سبيله تاركينَ الفأر وراءهما. رجع "سماء" إلى موطنه في السماء، ورجع "أرضٌ" إلى منزله في الأرضِ.
عندما وصل "سماءٌ" إلى السماء أوقف المطر عن النزول إلى الأرضِ وأبى أن يُرسل النَّدى إليها (إليه) أبداً فجفَّ كلُّ شيءٍ على الأرضِ وما بقي شيءٌ لناسِ الدنيا لُطعموا أنفسهم عليه وبدأت الكائناتُ الأرضيّةُ جميعُها، من أنسٍ وحيوانٍ ونباتٍ وجمادٍ وخلافهم، في الذّبول، التّلاشي والموت.
بيضةٌ أطعمت الدنيا كلّها
عند معرفتي بأخبار المجاعة ورؤيتي خرابها للديارِ ذهبتُ إلى حجرتي وسكبتُ ماءاً في كوريّةٍ (طاسٍ)، ثمّ زلقتُ البيضةَ، على مهلٍ، في جوفه. أمرتُ البيضةَ أن تأتي لبيتنا بطعامٍ وشرابٍ لتأكل منه زوجتي ويأكلُ منه أهلُ بيتي وأنا. قبل أن تنقضي ثانيةٌ واحدةٌ رأيتُ الحجرةَ ملآنةً بأنواعٍ من الأطعمةِ والمشروباتِ أكلنا منها كلّنا وشربنا حتى شبعنا. بعد ذلك بعثتُ رسولاً (مُرسالاً) إلى جميع أصدقائي القدامى فجاءوا إليَّ وأعطيتهم بقية الطعام والشراب. طربنا، من بعدِ ذلك، ورقصنا جميعاً حتى رغب أصدقائي في المزيدِ من الشّراب فأمرتُ البيضةَ، ثانيةً، فأتت لنا بالكثيرِ من زِقاقِ (دِنانِ) خمرِ التمرِ شربناها كلّها. سألني أصدقائي عن الطريقة التي استطعتُ بها الإتيان بالأشياءِ تلك إليهم وقالوا إنهم ما ذاقوا، منذ ستِّ سنينٍ، لا ماء ولا خمر تمرٍ فأخبرتهم أنني قد جلبتُ خمر التمر و... الخ... الخ من "بلدةِ الموتى".
مكث أصدقائي معي حتى ساعةٍ متأخّرةٍ من الليلِ قبل أن يعودوا إلى بيوتهم. لدهشتي، ما قمتُ من النوم مبكراً، بل ظللتُ على سريري حتى جاءوا وأيقظوني. كان عددهم قد زاد بنسبةِ ستّين بالمائة (60%). عندما رأيتُ منهم تلك الكثرة دخلتُ حجرتي حيثُ دسستُ البيضة وأنزلتٌها، بهدوءٍ، في بطنِ طاسٍ مليئةٍ بالماء وأمرتُها، كالمعتاد، بمدّي وأصدقائي وأهل بيتي بالطعام والشّراب. أتانا منها مددُ طعامٍ وشرابٍ عميمٍ لي، لأصدقائي ولأهلِ بيتي ولمن قد يحلّ علينا، فجأةً، من ضيوفٍ. تركتُ أصدقائي وحدهم، بعد حينٍ، في الديوانِ، فهم قد استكانوا به وأبوا العودة المبكّرة إلى بيوتهم... الآن باتت أنباء البيضة المدهشة منتشرةً من بلدةٍ إلى بلدةٍ ومن قريةٍ إلى قريةٍ. ذات صباحٍ، وقت استيقاظي من رقادي، صعُبَ عليَّ أن أفتح بابَ بيتي، فالناسُ قد جاءوا، جماعاتٍ فجماعاتٍ، من بلداتٍ وقرىً شتى وانتظروني هناك كي أطعمهم. كان عددهم كثيراً وفائتاً للحدّ بحيثُ أن بلدتي ما عادت، قبل التاسعة صباحاً، قادرةً على استيعابِ أيِّ غرباءٍ آخرين. عند الساعةِ العاشرةِ صباحاً جلس جميع أولئك الناس، هادئين، على الأرضِ عساهم ينالوا من "بيضتي" منّاً وسلوى. أمرتُ البيضةَ بما أمرتها به من قبلِ مضاعفاً آلافاً فآلافاً فأتت لنا كلّنا، في الحال، بطعامٍ وشرابٍ أكلوا وشربوا منهما، جمعاً فجمعاً وفرداً ففردا، حتى استكفَوا كلّهم، بل وأخذوا ما فاض من ذلكم الطعام والشراب إلى بلداتهم، قراهم ومنازلهم. بعد أن ذهبوا جميعهم- مؤقتاً- إلى بلداتهم وقراهم وبيوتهم أمرتُ، في الخلوةِ، البيضةَ العجيبةَ أن تأتي لي بمالٍ وفيرٍ فأتت به في الحال وخبّأتُهُ في مكانٍ أمينٍ بحجرتي.
بما أنّ جميع الناس في بلادي كانوا يعرفون، حينذاك، أنهم متى ما جاءوا إلى بيتي وبلدتي فإنهم سوف يأكلون ويشربون كما يشتهون دأبوا، منذ تلك الوليمة الضخمة الأولى، على المجيء إلى هناك حتى قبل الساعة الثانية من بعدِ منتصفِ الليل. كانوا، حينما يجيئون إلىَّ من قراهم وبلداتهم العديدة تلك، يصطحبون معهم أطفالهم ونساءهم وكبار السنِّ منهم. كلّ الملوك وخدّامهم كانوا قد جاءوا أيضاً إليَّ في بلدتي لذات الغرضِ الذي ساق غيرهم إلى هناك. عندما فارقني النوم بسبب ضجيجهم نهضتُ من فوقِ سريري وأردتُ أن أفتح باب بيتي لكنهم، قبل أن أفعلَ ذلك، حطّموا الباب وانفلتوا إلى داخلِ البيتِ. حاولتُ، بكلّ قوّتي، أن أصدّهم إلى الوراء ففشلتُ. عندها أخبرتهم أن لا أحدَ منهم سينالُ طعاماً أو شراباً ما لم يبقوا جميعاً خارجَ البيتِ وينتظروا أمامه حتى يُخدموا. ثم نهضتُ وخرجتُ إليهم وأمرتُ، تحت سمعهم وبصرهم، البيضةَ أن تمدّهم بالطعامِ والشّرابِ.
في ذلك الوقتِ بات الناس يتكاثرون في بلدتي، بسرعةٍ، ويتقاطرون عليها من مختلف البلدات أو الأماكن المجهولة. وأسوأ ما في الأمرِ أنهم، متى ما جاءوا إلى هناك، كانوا لا يرجعوا، مرةً أخرى، إلى بلداتهم مما فوّت عليَّ أيَّ فرصةٍ للنومِ أو الراحة، ولو لمرّةٍ واحدةٍ، ولم يترك لي شيئاً أفعله سوى أمر البيضة، خلال كلّ النهار والليل، بالإتيان لهم بالطعام والشراب الذي يشتهون... كلُّ تلكَ الظروف أدّت بي إلى متاعبٍ جعلتني أحسُّ بأنّ حفظَ البيضةِ إياها داخل حجرتي ليس بالشيء المريح فأبعدتُها هي والطاس من هناك إلى خارجِ البيتِ وإلى وسطِ جمهرةِ أولئكَ الناس.
حياةٌ طائشةُ في البلدةِ
صيرتني حكايةُ البيضةِ أعظمَ رجلٍ في بلدتي، رجل لا شغل له سوى أمر "بيضته" أن تأتي للناس بالطعامِ والشراب. عليه أمرتُ البيضة المعجزة، ذات يومٍ، أن تمدّ الجمع البشرىّ المحتشد بأطيبِ طعامٍ وشرابٍ في هذه الدنيا ففعلت ذلك في لحظةٍ خاطفةٍ. أكل الناس الملتمّون التماماً شديداً الطعام والشراب فشبعوا وفرحوا ولعبوا وتصارعوا مع بعضهم البعض حتى هشموا البيضة المدهشة الجالسة في وسطهم وكسروا الطاس. انقسمت البيضة العزيزة، بسبب طيشهم ذاك، إلى نصفين فأخذتُها من بينهم ولزقتُ نصفيها، بعضاً على بعضٍ، بالصّمغِ. بقي الناس، رغم تهشّم البيضة وانكسار الطاس، في بلدتي وقرب بيتي، إلا أنهم كفوا عن اللعب، التصارع... الخ... الخ وأبدوا أسفهم على انقسامِ البيضةِ إلى جزأين اثنين. طبعاً ذلك ما منعهم، حين شعروا بالجّوعِ، من السؤال عن الطعام والشراب، كالمعتاد... جئتُ بالبيضةِ وأمرتها بالإتيان بما اشتهوا، على ذاتِ النحو الذي كنتُ آمرها به دائماً، لكنها ما أتت في تلك المرة بأيِّ شيء. كرّرتُ الأمر ثلاث مراتٍ أخرى بحضرتهم فما نفع ذلك. انتظر الناس المحتشدون هناك أربعة أيامٍ دون أن يأكلوا ويشربوا عسى البيضةُ ترضى، في النهاية، وتُوافيهُم بما أرادوا، لكنّها أبت عليهم ذاك المراد فيئسوا منها وانصرفوا إلى قراهم وبلداتهم، واحداً بعد الآخر، وهم يسبُّونني سبّاً قبيحا.
ادفع لي ما أنتَ مدينٌ به لي وتقيّأ ما أكلت
عادت الجموع البشرية التي كانت ببلدتي وعند بيتي إلى الأماكن التي أتت منها فخلا بيتي وما حوله من أيّ أنسيٍّ سواي وزوجتي وعائلتي. أيضاً كفّ كلُّ من كانوا في زمرةِ أصدقائي عن زيارتي، بل صاروا حتى لا يردون تحيتي مطلقاً إذا ما رأيتهم على الطريقِ وحيّيتهم. لكني ما اهتممتُ بذلك، فأنا لديَّ مالٌ كثيرٌ في حجرتي. ذات يومٍ دخلتُ حجرتي وأعدتُ تصميغ البيضة على مهلٍ فصارت سليمةً. ثم أمرتها، كالمعتاد، أن تأتيني بطعامٍ وشرابٍ عساها لا تُخيّب رجائي فيها. لدهشتي، أعدّت لي البيضة المدهشة، بدلاً عن الطعامِ والشرابِ، ملايين من السياطِ الجلديّة ولا غير. ما أن رأيتُ ما جاءت به، حينذاك، حتى سارعتُ وأمرتُها بردِّ السياطِ الجلديّةِ إلى "عدمها" الذي أتت منه ففعلت ذلك في الحال. مضت أيامٌ قليلةٌ فذهبتُ إلى الملكِ وقلتُ له أن يُخبرَ ضاربي جرسه (نُحاسه) أن يضربوا ذلك الجرس (النّحاس) في كلّ القرى والبلدات ويدعوا جميع ناسها للمجيء إلى بيتي ليأكلوا ويشربوا... الخ... الخ، كما كانوا يفعلون من قبل، فعاصر خمر تمري الميّت قد أرسل لي- .. هكذا أنبأتهم- بيضةً أخرى جديدةً من "بلدةِ الموتى" أكثرَ قدرةً على خلقِ المعجزاتِ من البيضةِ الأولى التي انكسرت.
حين سمع الناس ذلك من ضاربي جرس (نحاس) الملك تدفقوا جميعاً إلى بلدتي وبيتي. عندما رأيتُ أنّ لا أحدَ منهم قد تخلّف أو غاب عن الحضورِ إلى هناك وضعتُ البيضةَ في منتصفهم تماماً. ثمّ أوصيتُ أحدَ أصدقائي بأن يأمرها بإنتاجِ أيّ شيءٍ تستطيعه لهم. دخلتُ، بعدها، بيتي وأغلقتُ كلَّ نوافذه وأبوابه. حينما أمر صديقي البيضة بما قلتُ له أن يأمرها به أوجدت البيضة فقط ملايين من السياط الجّلديّة شرعت، في الحال، في جلدهم جميعاً بحيثُ أنّ أولئك الذين أتوا معهم، إلى بلدتي، بأطفالهم وشيوخهم أو مسنّيهم، نسوا أن يأخذوهم بعيداً عن المكان قبل أن يهربوا منه. كلّ خدّام الملك كانوا، آنذاك، قد جُلدوا بالسياط شرَّ جلدة. كذلك جُلدَ كلُّ ملوك البلداتِ وخدّام ملوك البلدات والمناطق البعيدة الذين أتوا ليُطعموا ويُشرَبُوا عندي... كثيرٌ ممن حضروا تلك الواقعة فرّوا إلى الغابةِ، كما ومات أيضاً كثيرٌ منهم، خاصّةً من كانوا أطفالاً أو عجائزَ. كذلك مات، في الحادثة، كثيرٌ ممن كانوا– زعماً- أصدقائي. ثمّ أنّ البقية الناجية من كلّ ما جرى لاقت صعوبةً شديدةً في أن تعثرَ على الدروبِ إلى بيوتها، رغم أنّ ما من أحدٍ منها بقي، في ظرفِ ساعةٍ، أمام بيتي.
عندما "رأت" السياطُ أنّ جميع الناس قد ذهبوا بعيداً عن بيتي تجمّعت في مكانٍ واحدٍ وكوّنت بيضةً واحدةً. ولدهشتي، اختفت البيضة إياها في نفسِ وقتِ ظهورها... هكذا فقدتُ البيضةَ المدهشةَ قبل أن تزولَ كُربةُ المجاعةِ عن الناس، فكلّ جزءٍ من بلدتي (وبلداتٍ وقرىً أخرى) ظلّ مصاباً بمجاعةٍ شديدةٍ وعظيمةٍ مات بسببها، يومياً، كثيرٌ من كبارِ السنِّ من الناس. حين رأيتُ هلاك النفوسِ المفزع دعوتُ إليَّ الشيوخَ والمسنّينَ من الناسِ الذين ما زالوا على قيدِ الحياةِ ودللتُهُم على طريقةٍ نقدرُ بها على إنهاءِ المجاعةِ فقمنا بالتدبيرِ الآتي:- أنشأنا قرباناً مكوّناً من دجاجتين بلديّتين، ستّةَ حبّات كولا، زجاجة زيت نخيل وستّة حبات كولا مرة. قتلنا الدجاجتين البلديّتين وأدخلناهما في جرّةٍ مكسورةٍ، ثمّ وضعنا معهما هناك حبّات الكولا وسكبنا الزيت خلل ذلك الخليط أو المزيج. كان علينا، من بعدِ ذلك، أن نحمل القربان (الأضحية) إلى "سماءٍ" في سمائه.
لكن من الذي يحملُ القُربانَ إلى "سماءٍ" في السّماء؟
اخترنا، لذلك، في البدءِ، أحد خدّام الملك، لكنه رفض الذهاب إلى "سماء" في سمائه. ثمّ انتقينا، لذات الغرض، أحد أفقر سكّان البلدة، لكنّه رفض أيضاً القيام بما أردناهُ منه. أخيراً اخترنا أحد عبيد الملك ليحمل قربان "سماءٍ" إلى السماء فأخذه ومضى به إلى هناك. كان القربان إشارةً لقبولِ "أرضٍ" لعلوِّ مقامِ "سماء" عليه وعلى السماء، التي هي بيته، أيضاً. لذا رضي به "سماء" وتسلّمه مسروراً، خاصّةً وأنّ فيه معني استسلام "أرض" له واعترافه بأنّ مقامه "ثانويّ" عند مضاهاته بمقامِ "سماء".
صعد العبدُ الملكيُّ بالقربان إلى السماء وأعطاهُ إلى "سماء". لكن، قبل أن يقطع نصف مسافة دربِ رجعته إلى الأرضِ، هطل مطرٌ غزيرٌ أشبعهُ جلداً وبللاً. وحين وصل إلى الأرضِ وإلى البلدةِ أرادَ- تلقائياً- أن ينجو بنفسه من البللِ، لكن ما سمح له إنسانٌ أبداً أن يدخُلَ بيته اتِّقاءاً للمطر. فكلُّ أهلِ البلدةِ باتوا يعتقدون أنه، إذا دَخَلَ بيوتهم، فسيحملهم أيضاً إلى "سماء" كما حملَ قربان "سماء" إليه فخافوا منه خوفاً شديداً.
هطلت الأمطار لثلاثةِ أشهرٍ متسلسلةٍ فما حلّت بالناسِ، من بعدِ ذلك، مجاعةٌ.
******
*****
***
**
*
[أُكْمِلَتْ هذه التَّرجمة في صيف العام 2011م]
khalifa618@yahoo.co.uk
///////////////////////