حكاية الشيخ عبد الله أحمد أبو جلحة: سوداني متعدد الولاءات (3-3) .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
بدر الدين حامد الهاشمي
22 November, 2023
22 November, 2023
حكاية الشيخ عبد الله أحمد أبو جلحة: سوداني متعدد الولاءات (3-3)
The Story of Sheikh Ahmed Abu Gelaha. A Sudanese Vicar of Bray
R. Salmon آر. سَلمون
مع بعض الحواشي بقلم د. نيوبوولد D. Newbold (من معلومات محلية)
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة للجزء الثالث والأخير لمعظم ما جاء في مقال للإداري والكاتب البريطاني آر. سَلمون عن الشيخ عبد الله أحمد أبو جلحة. نُشر المقال عام 1938م في العدد الأول من المجلد الحادي والعشرين من مجلة "السودان في رسائل ومدونات SNR" (ص 79 – 103).
وبحسب ما ورد في" معجم تراجم أعلام السودان" لريتشارد هيل (وترجمة سيف الدين عبد الحميد) فإن "الشيخ عبد الله أحمد أبو جلحة "وجيه ديني من الحوازمة، ولد في أبو حراز جنوب غرب الأبيض، ودرس لدى الشيخ محمد الصُّغيِّر ود الأمين في قريته ذاتها، وعلى الشيخ طه ود بشير في الرهد. عينته الحكومة المصرية قاضياً لكنه غير موقفه إلى القضية المهدوية عند شروع المهدي في حصار الأبيض. وقضى بعض الوقت قاضياً في دارفور تحت إمرة محمود ود أحمد. ثم غير ولاءه لحكومة السودان لدى انهيار النظام المهدوي. وتقاعد عن العمل عام ١٩٠٧م بعد أن عمل في محكمة الدلنج لأربع سنوات".
علق الإداري البريطاني دوجلاس نيوبوولد (1894م- 1945م) في الحواشي ببعض الشرح أو التصحيح (من معلومات محلية) على قليل مما ذكره الشيخ لكاتب المقال. وكان نيوبوولد قد بدأ عمله في خدمة حكومة السودان عام 1920م في دار الكبابيش، وشغل منصب حاكم كردفان بين عامي 1932 – 1938م، ثم تقلد منصب السكرتير الإداري بين عامي 1939 – 1945م.
الشكر موصول للدكتور خالد محمد فرح على قراءة المقال وتصويب الكثير من اسماء المناطق الواردة فيه.
المترجم
******** ******* ******
رافقت في تلك الأيام الأمير التعايشي محمود ود أحمد – باعتباري أحد قضاته - وهو يتقدم بجيشه غربا. وكان محمود ود أحمد رجلا طويلا قسيما وأسود اللون. وكان قد بلغ مبلغ الرجال لتوه، ولم تكن لحيته قد نبتت بعد. وكان معتادا على وضع عمامة ضخمة على رأسه، صار يضرب بها المثل عند العرب حتى الآن. وهو ابن أخ الخليفة عبد الله. ورغم أنني لا أعتبره رجلا شديد الحرص على العدالة، إلا أنه لا يمكن أن يُعَدَّ رجلاً ظالماً.
مر جيشنا بأماكن عديدة شملت "أبو حراز" و"فولة السنط" و"شق الدود" و"الخوي". وجَذَذْنَا في السير حتى بلغنا النهود.
وأمر محمود ود أحمد، ونحن في طريقنا الى "أبو حراز"، بإعدام عدد من الجنود السود. وسيتبين سبب اعدام أولئك الجنود في الحكاية التالية:
قبل أن يغادر الجيش أم درمان في طريقه للأبيض، سمعت أن الخليفة مر على فرقة من جيشه، ثم صرفهم وأصدر أوامره بألا يقوم أي أنصاري بالسطو على ممتلكات أي فرد من الناس، وألا يقدم الأنصار على اقتحام بيوت الناس بغرض التفتيش. كانت تلك الأوامر معروفة للكافة، وسُلمت مكتوبةً لأفراد الجيش. غير أن الأنصار لم يأبهوا لتلك الأوامر رغم تهديد الخليفة لهم بالعقاب الشديد.
ولما بلغنا "أبو حراز" جاءت نسوة إلى معسكر الجيش وهن يحملن اللبن والدجاج لبيعهما للجنود الأنصار. غير أن الجنود السود (وكنا نعدهم من كل قبائل الغرب مثل النوبة والمسترقين) لا يأبهون بما أصدره الأمير من أوامر، وكانوا ينامون في القرى الواقعة حول المعسكر. وقام هؤلاء الجنود بشرب اللبن وذبح الدجاج ولم يدفعوا شيئا للنساء اللواتي جلبنه للمعسكر للبيع.
وفي الصباح أتت النساء وقدمن شكواهن للأمير من أولئك الجنود. غضب الأمير مما سمع واستدعى "قادة أو رؤوس المئة" لأولئك الجنود وأمرهم بإحضار من قاموا بتلك الفعلة. أحضر هؤلاء وكانوا 12، كلهم من الجهادية (الجنود السود). ووُجِهَتْ التهمة لهؤلاء بشرب اللبن الذي أحضرته النساء للبيع وعدم دفع ثمنه. ونُفِخَ في البوق لاستدعاء الأمراء والجلوس للاستماع لما قرره الأمير محمود بشأن شكوى النساء. وكان قرار الأمير هو بَقَرَ بطون أولئك الرجال، فإذا وجد فيها اللبن، فقد حُسِمَ الأمر، وإن لم يوجد فيها لبن، فسيحكم على النسوة بالقتل لتقديمهن شكوى كاذبة اِفترين بها على أولئك الرجال. ووافقت النساء على قرار الأمير. أحضر الرجل الأول وقطعت رقبته وبُقِرَت بطنه فسال منها اللبن أبيضَ على الأرض (هنا ذكر نيوبوولد في الحاشية أن محمد بيه الدفتردار حكى نفس القصة). ولما رأى بقية الرجال ذلك المشهد أصابهم الرعب وأقروا بأنهم قد شربوا بالفعل ما جلبنه النساء لهم من لبن، وترجوا الأمير العفو عنهم. لم يُلْق الأمير بالاً لاستعطافهم، وأمر أحمد ود الشرتاي فوراوي بقطع رؤوسهم جميعاً.
وجُمِعَ الفرسان ليتحلقوا ويدوروا بخيولهم في خطوات بطيئة حول الأجساد المقطوعة الرؤوس. وأثار قتل أولئك الرجال الرعب في قلوب بقية الجند. وذاعَ خبر تلك الحادثة بين القبائل.
ثم سار جيشنا غرباً لأن قبائل دارفور رفضت الذهاب إلى أم درمان. وسرنا من "النهود" ومررنا في طريقنا بـ "عد بروش" و"عد البياض" و"ديرات الحمر" إلى أن وصلنا الفاشر، التي قضينا فيها عامين. وفي إبان وجودنا في الفاشر، أُرْسِلَ الخليفة علي دينار ليساعد الأمير محمود ود أحمد.
لم يكن علي دينار في تلك الفترة سلطاناً بعد. ونصحه وحثه رجال قبائل البرتي والبيرقد والزغاوة والمساليت على الثورة ضد الأنصار وأن يقتل الأمير محمود ود أحمد. ولما سمع الأمير بذلك أرسل في طلب علي دينار، وكنا جميعا جلوسا في مجلسه. قال الأمير لعلي دينار مخادعا: "لقد طلب منك الخليفة أن تسافر له بأسرع ما يمكن، وسيمنحك هناك الخيول والأسلحة، وستعود سلطاناً على كل أراضي الغرب. وعند عودتك، سأسحب جيشي وأعود للخرطوم" (المقصود بالطبع أم درمان. المترجم). وانطلت الحيلة على علي دينار، وسافر حاملا معه رسائل للخليفة. لامه الخليفة عندما وقف أمامه وأتهمه بالخيانة، وجعله خادما لولده عثمان شيخ الدين. غير أن عثمان أحسن معاملته واتخذه صديقا له.
ولاحقا، لم يقاتل علي دينار في "كرري"، ولكنه نفذ خطة كان يدبر لها منذ فترة بالتعاون مع رجال من البديرية والهبانية والجوامعة والرزيقات والمسيرية، وهرب علي دينار من المعركة قاصداً ترك التعايشة ليلقوا مصيرهم المحتوم، فقد كانوا قد أساءوا معاملته لحد بعيد. وغادر علي دينار وجماعته ساحة معركة كرري ومعهم الكثير من الأسلحة والذخائر و15 أو 16 من رايات لجيش عثمان شيخ الدين. وبلغ علي دينار دارفور حيث اُعْتُرِفَ به سلطانا عليها.
وفي أيام سفر علي دينار للقاء الخليفة تحركنا إلى "كوبي" ومنها إلى "كبكابية" وفيها وضعنا أربعين من راياتنا في مكان واحد، وكان العدو على بعد مسيرة يوم واحد منا. وأتت نحونا في منتصف الليل ضباع من جهة معسكر العدو لتتجسس وتعلم ما يدور في معسكرنا. وكانت الضباع تحسب عدد راياتنا وأسلحتنا وذخائرنا، ثم عادت لقائدها سلطان إدريس هاشم القمراوي. وبعد طلوع الشمس تبينا آثار أقدامها. وكنا نعلم أن بمقدور بعض الأشخاص أن يتحولوا لضباع، فقد كان في جيشنا مثل أولئك الرجال (مثل غريب ود موسى وإخوانه وآخرين)، وكانوا على معرفة بآثار كل ضبع من ضباع العدو (ذكر نيوبوولد في الحاشية أن ذلك كان اعتقادا شائعا في السودان، وأن حمراوي في المجلد ذكر في عام 1921م بأن من رجال الزريقات من له القدرة على التحول لضباع. وكان السلطان علي دينار يستخدمهم رسلاً. واشتكت امرأة من المساليت في الأبيض عام 1932م من أن زوجها اِعْتادَ على التحول لضبع في الليل، وهي ترغب في أن تقوم السلطات بالقبض عليه، إذ أنها تخشى أن يلتهمها هي وأطفالها في إحدى الليالي.
ولما سمع الأمير محمود بخبر الضباع التي زارت معسكر جيشنا، أصدر أوامره لغريب ود موسى وآخرين بالذهاب والتجسس على معسكر الأعداء. ومضوا في طريقهم لذلك المعسكر كرجال، وفي الطريق وجدوا تل (قنطور) "مملكة نمل ant-hill" فتَمَرَّغَوا في ترابه وخَفْخَفوا (أي أطلقوا أصوات الضباع) – وسمعت بنفسي تلك الأصوات – وقاموا وهم ضباعٌ وتقدموا بسرعة نحو معسكر الأعداء. وكان هؤلاء من البرتي والقمر وبني حسين والزغاوة والتاما. وبعد انتهاء مهمتهم عادوا لذلك التل، وخَفْخَفوا مرة أخرى وعادوا لمعسكرهم في هيئة بشر، وأبلغوا قادتهم عما شاهدوه في معسكر الأعداء. وكنت قد قمت شخصيا بتنفيذ أمر لمحمود ود أحمد بمنح غريب ود موسى عشرة ثياب من الدمور قبل أن يبدأ مهمته.
وكان أولئك "الضباع" من قبيلة البرتي، ولا يزالوا يعيشون في "جبل الحلة"، وشهرتهم في هذا الجانب معروفة بين سكان المنطقة. وأسفر القتال بيننا وبين العدو عن هزيمتهم وقتل الكثير منهم. وغنمنا منهم الكثير من الإبل والمعز والأبقار والخيول والرقيق.
وعقب انتهاء المعركة أُقِيمَ مزاد بيعت فيه الغنائم: المعزة بقرش واحد، والبقرة الحلوب مع عجلها بريال واحد. وعقب انتهاء المزاد قدنا ما لم يُبَعْ في المزاد من بهائم، ولكن هرب منا أسرانا من جنود العدو. واستسلم هؤلاء لنا لاحقا، وأعطى الأمير رايات لقادتهم وضمهم لجيشنا.
وعندما كنت في دارفور، صحبت الجيش في سيره نحو جبل مرة وزالنجي. وهزمنا رجال التاما في "براك". وخضنا معركة أخرى في خيمة (Kheima) وأخرى في بالي (Bali)، وقُتل في تلك المعارك الكثير من أعدائنا.
وعندما كان محمود في دارفور، كان هنالك جمل في جيشه، اسموه "تقل لفات" عُرِفَ بسرعته الفائقة. وكان مالك الجمل هو رجل من الأبيض يقال له علوبة ود محمد، وكان يعمل ملاحظا مع حسن باشا. وكان ذلك الجمل من سلالة جمال أبو سن شيخ الشكرية. كان ذلك الجمل فائق السرعة لدرجة أنه خُصِّصَ لنقل الرسائل العاجلة. وكان ينقلها من الفاشر إلى أم درمان ويعود للفاشر في أسبوعين فقط.
وبعد معركة (بالي) سرنا إلى (نيرا) لمطاردة السلطان سليمان ود إبراهيم التاماوي، غير أنه فر من أمامنا ولجأ إلى سلطان البرقو.
وفي أيامنا في دار تاما، بلغتنا أخبار تفيد بأن الإنجليز قد وصلوا إلى "أبو حمد"، وأن الجعليين قد ثاروا على الخليفة، وانضموا للغزاة. واستدعى الخليفة محمود ود أحمد ليعود للخرطوم (المقصود بالطبع أم درمان. المترجم). لذا غادرنا الأمير في (نيرا) وتركني في دار تاما.
لم يكن معي (في دار تاما) سوى ثلاثين فارسا، وكانت التعليمات التي أُصْدِرَتْ إلى تقضي بقيامي بتدريس الراتب لسكان المنطقة. وقضيت هنالك فصل الأمطار. غير أن الخوف قد أصابني عندما علمت من بعض رجال التاما أن الأمير محمود كان قد ترك تعليمات تقضي أن أُقْتَلَ فورا إن ارتحلت عن دار التاما. وعند سماعي في (نيرا) عن وجود مؤامرة لقتلي، قررت الرحيل عن دار تاما واتجهت شرقا نحو الأبيض.
وكان السبب الذي من أجله تركني محمود ود أحمد في الغرب هو اختلاف بيني وبينه حول قضية تتعلق بأحكام الشريعة كان نسيبه (واسمه الحسين ود شيخة) طرفاً فيها. كان ذلك الرجل قد قام بسرقة رقيق من بعض الناس، وباع عشرة منهم لشراء فرس من (بُرْ المقلي؟Bur El Maggli) في أم دم. وتقدم مالك أولئك الرقيق بشكوى للخليفة في أم درمان. وأحال الخليفة الأمر لي للفصل فيه. وقضيت بأن يقوم الحسين ود شيخة بتعويض بور بعشرة من المسترقين الآخرين، أو أن يدفع له ثمن أولئك المسترقين (وهي مئة ريال). ولم يكن لي أن أغير ذلك الحكم لأي مخلوق. وهذا ما أغضب محمود ود أحمد مني.
كنا في الأبيض – أنا وسبعة عشر من القضاة الآخرين – عندما اجتمع بنا عثمان (ابن الخليفة عبد الله) في وجود الأمير محمود ود أحمد، وأخبرنا بأن الخليفة عبد الله يأمرنا بأن نقطع رأس كل من يخالف الشريعة، حتى لو كان هو الأمير محمود ود أحمد نفسه.
وكنت أنا كبير القضاة (ويشاركني في ذلك محمد ود الريح). وكان من العادة في القضايا العادية أن يفصل فيها قاضيان. إلا أننا كنا نشارك مجتمعين في الفصل في القضايا المعقدة.
وكانت هناك قضية أخرى أغضبت مني الأمير محمود. كنا في دار تاما عندما وضع بعض رقيق الأمير محمود كمية من التبغ في بيت رجل غني، وذلك بغرض ابتزازه وأخذ ماله.، إذ أن الأمير محمود (بناءً على أوامر الخليفة) كان يصادر ممتلكات كل من يُعثر على تبغ معه. وكان ذلك يشمل الرقيق والخيول والحمير.
وفي اليوم التالي تم تفتيش البيت ووجدوا فيه التبغ، فألقوا القبض على صاحب البيت وهددوه بمصادرة جميع ممتلكاته إن لم يقدم لهم رشوة. لذا قدم لهم الرجل مئة ريال، أخذها كبيرهم وذهب بها لدار نائب الأمير محمود ليستخدمها في بيت الأمير محمود نفسه.
لم يكن الأمير محمود على علم بما فعله رقيقه إلى أن دخل عليه صاحب ذلك البيت وهو كَظِيم، وانحنى وهو يقدم شكواه التي قال فيها ما معناه: "يا سيدي ... أنت رجل عادل. رُدَّ إليّ مالي الذي سرقه عبيدك". أرسل الأمير ذلك الرجل لي لبحث الأمر.
لم أجد شاهدا على وجود التبغ في بيت الرجل. لذا أمرت قائد أولئك الرقيق بإرجاع المال الذي أخذوه من صاحب البيت. وعد الرجل بإحضار المال في صبيحة اليوم التالي. وعاد بالفعل في اليوم التالي ولكنه لم يحضر ما طلب منه. خاطبته بحدة وسألته عن المال الذي أخذه فرد بالقول إنه لم يستطع العثور عليه. وفي اليوم التالي مثل أمامي وقال بمثل ما قال به في اليوم السابق. حذرته هذه المرة بأنه إن لم يَرْجِع ما أخذه من مال، فسوف ألقيه في السجن. ولما لم ينفذ الرجل ما طلبته منه أمرت خفيري – وهو رجل قوي وواسع الحيلة – بالقبض على ذلك الرَّقِيق. غير أن العبد هرب وهرول نحو مجلس الأمير محمود وهو يضع سلاحه خلف ظهره ليحميه من الخفير. ولما رأيت ما حدث، أمرت خفيري بجره من قدمه بعيدا عن سيده. وأحضر الخفير الرجل ليمثل أمامي.
أغضب ما قمت به الأمير محمود والذي قال في مجلسه: "كيف للقاضي أن يقبض على رجل اسْتَعْطَفَني واستغاث بي؟". غير أن كبراء المجلس لاموه بكلمات صارمة: "لقد خالفت أوامر الخليفة وحدت عن طريق العدالة المستقيم". وبالفعل أُلْقِيَ ذلك الرَّقِيق في السجن وبقي فيه حتى أعاد المال الذي أخذه من صاحب البيت. غير أن محمود لم يغفر لي ما فعلته. وكان هذا هو السبب الثاني لإبقائي في دار تاما.
وعندي هروبي من الغرب مررت بقرية الجِكّة (القريبة من الأبيض) وصادفت فيها الأمير محمود، الذي كان يسير ببطء من الغرب ويجمع رجال القبائل في جيشه وهو يتقدم (لأم درمان). وفي الأبيض أمر محمود بتدمير سبع قرى للمشيشة Mashisha القريبة من خور أبو حبل، ولا تبعد كثيرا عن السنجكاية. وكانت تسكن في تلك القرى العديد من القبائل مثل الفلاتة والبديرية والتكارير والتُمام والجوامعة. وكان هؤلاء قد تمردوا / ثاروا ضد الأنصار، وامتهنوا السرقة والنهب وترويع الناس. وكانوا يغزون جيرانهم للحصول على الرقيق والأبقار والخيول، وقتلوا الكثير من الخلق. لذا قدم السكان شكاوى للأمير محمود بأنه إن لم يقض تماما على المشيشة قبل مغادرته للغرب وذهابه لأم درمان، فسوف يقضي عليهم رجال المشيشة. تأثر الأمير بتلك الشكاوى، وأرسل الشيخ البديري جندي زين ود محمود ليتحرك نحو المشيشة في رفقة مجموعة كنت واحدا منهم، ومعنا عبد القادر ود إبراهيم التلب، والبلة ود أحمد من "جعيبات" (ذكر نيوبوولد في الحاشية أن الرجل الأخير كان ما يزال حيا، وأنه قابله ووجده طاعنا في السن ومُشوَّش التفكير).
وذهبنا إلى المشيشة ونحن نحمل شروط الأمير التي شملت إما الاستسلام في خلال ثمانية أيام، أو أن يحكم عليهم بالموت. وعندما عرضنا عليهم تلك الرسالة، استسلمت واحدة من القرى، غير أن بقية القرى لم تلق بالا لتهديدات الأمير.
تكلمنا مع هؤلاء المخدوعين ونصحناهم وقلنا لهم: "أطيعوا أوامر الأمير وتعالوا معنا للأبيض. وإن لم تفعلوا وقررتم تجاهل تلك الأوامر، فالأفضل لكم أن تفروا من هذا المكان. أذهبوا إلى الجبال الحصينة أو أخفوا أنفسكم في غابات السهول. وأعلموا بأنكم إن لم تفعلوا ذلك فسيقتلكم محمود لا محالة ويهدم قراكم". قضينا معهم ثلاثة أيام، عاملونا في خلالها ضيوفاً عليهم، وأحضروا لنا خمسين من المَعْز لإعاشتنا. غير أنه عندما مر علينا شيخهم (طه ود ميرمي) وأولاد غبوش، شاهدوا تلك المَعْز سألونا عمن نكون وعما نفعله هنا. ولما أخبره أهل القرية بمهمتنا أمرهم شيخهم بعدم تنفيذ ما أمر به الأمير محمود، وقال له إنه سيكتب رسالة للأمير يعده فيها بالسمع والطاعة، واللحاق به بعد الحصاد، فقد كان المحصول وقتها قد بلغ اثنين أو ثلاثة أقدام.
وعندما عدنا للأبيض وجدنا أن الجيش قد تجمع حول "فولة صافية" خارج المدينة. وذهب جندي زين إلى الأمير محمود ليخبره بفشل مهمتنا، وقال له: "يا سيدي. لقد رفضوا الطاعة".
لم أعلم سبب تجمع الجيش عند تلك الفولة، وسألت عن السبب، ولكن لم أجد جوابا صادقا عند أحد.
وفي أثناء وجودنا هناك غادر الجيش المكان. وذكر لنا الأمير محمود أنهم سيقومون بمهاجمة "الدباب". غير أنه كان قد قال لنا ذلك على سبيل الخداع لأنه كان يعلم أن لنا أصحاب كثر من رجال المشيشة، وكان يخشى إن أخبرنا بحقيقة وجهته أن نجد وسيلة ما لإبلاغهم بتحرك جيشه ضدهم، وهذا مما يسهل عليهم الفرار.
وأرسل الأمير بعض الفرسان لتلك القرى لخداع سكانها بكلمات مطمئنة مفادها أن كل شيء على ما يرام، وأن الأمير محمود سيحضر إليهم، وليس في نيته إيذائهم، ويجب ألا يخافوا على أنفسهم من مقدمه وألا يفروا من قراهم. وعند سماعهم لتلك الكلمات بدأوا في التجمع. ثم هجم عليهم جيش محمود بأعداد أكبر وقتل أكثرهم، بينما فر البعض إلى منطقة خور أبو حبل، واختبأوا بين الأشجار، بينما هام البعض الآخر على وجوهم في البوادي. غير أنها كان مقتلة عظيمة تم فيها تدمير كل تلك القرى بصورة كاملة، وسبيت النساء والأطفال وبيعوا رقيقا.
لم يشهد الأمير محمود بنفسه تلك المعركة التي تم فيها تدمير قرى المشيشة، وكان قائدها هو ملازمه أحمد ود علي التعايشي. وكان معه أيضا النور ود القوزة الرزيقي، وصلاح ود أبوه التعايشي.
وفي ذلك الوقت أثار المسيرية أيضا بعض القلاقل في "أبو حراز". غير أن محمود استطاع أن يخمد تلك القلاقل دون اللجوء للسلاح. وشرع بعد ذلك في تجميع قوات أتت من الغرب وسار بها نحو أم درمان بعد أن تلقى رسالة أخرى من الخليفة. أما أنا فقد ودعته في الأبيض وعدت إلى "أبو حراز".
وساد بين الناس خوف شديد بسبب مجزرة سكان مشيشة. وفوق ذلك ترك الأمير محمود في المنطقة الأمير الختيم ود موسى، الذي أشتهر بممارسات شيطانية مؤذية. وتلقيت من الأمير محمود رسالة يأمرني فيها باللحاق به. ورددت عليه برسالة خادعة قلت له فيها بأني سأكون مع الختيم في الأبيض بعد ثلاثة أيام. غير أن ذلك الرد لم يكن إلا من باب الخداع، إذ لم يكن في نيتي أن أنضم له.
ثم أعلنت للشيوخ بأن سلطة المهدي قد انفرط عقدها، وأنني سألجأ للجبال، ومن يريد أن ينضم لي فليفعل. وكان العرب قد لجأوا قبلي إلى الجبال. وبلغنا الدلنج وبقينا مع النوبة. وسار البقارة شمالا وغزوا المنطقة وطردوا الختيم من الأبيض. والتحق الختيم هذا بالخليفة لاحقا في جبل كوني بعد معركة كرري (هنا أضاف نيوبوولد في الحاشية أنه قيل أن تحركات الختيم كانت كما يلي: الأبيض – الجفيل -أم عرق – التيارة – شمقتا – أم روابة – أم خيرين – الغبشة – عقيلة – ود بُر وأم تابة شمال تندلتي، حيث التقى بالخليفة. وربما يكون قد زار جبل كون لاحقا).
وبعد حين استلم عبد الرحمن ود الخليفة في خورسي (بالقرب من بارا) رسائل من كتشنر تطلب من الجميع أن يعودوا لقراهم وأن يمارسوا أشغالهم الأصلية. وأرسلت لنا تلك الرسائل في الدلنج. وكنت في ذلك الوقت بين الدلنج والنيمانق.
وكنت أنا شخصيا من أحضرت للدلنج أول مدير هو "أوكني OcKney". (صحح نيوبوولد هنا الاسم وهو O’Conner، وهو ثاني مدير لكردفان). وبعد فترة قليلة من وصولنا هرب العرب إلى الجبال، وأراد المدير تعقبهم والقضاء عليهم، غير أن عبد الصمد شيخ البديرية أثناه عن ذلك وأقنعه بأن يرسل إليهم وفدا مكونا مني وعمر دبيكة وموسى باجون لنكون لهم من الناصحين. وعند مقابلتنا لهم وجدناهم في غاية الانزعاج والضيق من المفتش بطران الذي تشاجر مع موسى باجون وضربه بالعصا، مما دعا العرب للفرار من المنطقة وهم يصيحون بأن موسى قد قتله الترك (المقصود بـ "بطران" بحسب حاشية نيوبوولد هو بتلر Butler بيه).
وبلغنا "أبو سيبة" ووجدنا أن كل العرب قد تجمعوا مع بعضهم البعض، وكذلك أتى النوبة من جبالهم وهم مسلحون. وبينما كنا نسير على ظهور خيولنا صوب أحدهم بندقيته نحوي، ولكنه لم يطلق رصاصة منها، فقد كانوا يعرفونني. وصاح به أحدهم بألا يطلق النار.
ثم أتى المدير وقابل العرب في أبو سيبة، وقبل باستسلامهم. وانتقل بعد ذلك لكادوقلي وتلودي. وعند عودته عين السيد ليال مفتشا على المنطقة، وأمرني بالبقاء في الدلنج مع المفتش وأن أكون قاضيه. لذا قمت مع السيد ليال ببناء الدلنج، وبقيت فيها قاضيا لأربعة أعوام حتى تقاعدت.
وقضيت بعد ذلك سنوات كثيرة دون منصب رسمي، إلى أن تم تعييني في الأيام الأخيرة في وظيفة "عالم" في محكمة الحوازمة أولاد عبد العال.
alibadreldin@hotmail.com
The Story of Sheikh Ahmed Abu Gelaha. A Sudanese Vicar of Bray
R. Salmon آر. سَلمون
مع بعض الحواشي بقلم د. نيوبوولد D. Newbold (من معلومات محلية)
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة للجزء الثالث والأخير لمعظم ما جاء في مقال للإداري والكاتب البريطاني آر. سَلمون عن الشيخ عبد الله أحمد أبو جلحة. نُشر المقال عام 1938م في العدد الأول من المجلد الحادي والعشرين من مجلة "السودان في رسائل ومدونات SNR" (ص 79 – 103).
وبحسب ما ورد في" معجم تراجم أعلام السودان" لريتشارد هيل (وترجمة سيف الدين عبد الحميد) فإن "الشيخ عبد الله أحمد أبو جلحة "وجيه ديني من الحوازمة، ولد في أبو حراز جنوب غرب الأبيض، ودرس لدى الشيخ محمد الصُّغيِّر ود الأمين في قريته ذاتها، وعلى الشيخ طه ود بشير في الرهد. عينته الحكومة المصرية قاضياً لكنه غير موقفه إلى القضية المهدوية عند شروع المهدي في حصار الأبيض. وقضى بعض الوقت قاضياً في دارفور تحت إمرة محمود ود أحمد. ثم غير ولاءه لحكومة السودان لدى انهيار النظام المهدوي. وتقاعد عن العمل عام ١٩٠٧م بعد أن عمل في محكمة الدلنج لأربع سنوات".
علق الإداري البريطاني دوجلاس نيوبوولد (1894م- 1945م) في الحواشي ببعض الشرح أو التصحيح (من معلومات محلية) على قليل مما ذكره الشيخ لكاتب المقال. وكان نيوبوولد قد بدأ عمله في خدمة حكومة السودان عام 1920م في دار الكبابيش، وشغل منصب حاكم كردفان بين عامي 1932 – 1938م، ثم تقلد منصب السكرتير الإداري بين عامي 1939 – 1945م.
الشكر موصول للدكتور خالد محمد فرح على قراءة المقال وتصويب الكثير من اسماء المناطق الواردة فيه.
المترجم
******** ******* ******
رافقت في تلك الأيام الأمير التعايشي محمود ود أحمد – باعتباري أحد قضاته - وهو يتقدم بجيشه غربا. وكان محمود ود أحمد رجلا طويلا قسيما وأسود اللون. وكان قد بلغ مبلغ الرجال لتوه، ولم تكن لحيته قد نبتت بعد. وكان معتادا على وضع عمامة ضخمة على رأسه، صار يضرب بها المثل عند العرب حتى الآن. وهو ابن أخ الخليفة عبد الله. ورغم أنني لا أعتبره رجلا شديد الحرص على العدالة، إلا أنه لا يمكن أن يُعَدَّ رجلاً ظالماً.
مر جيشنا بأماكن عديدة شملت "أبو حراز" و"فولة السنط" و"شق الدود" و"الخوي". وجَذَذْنَا في السير حتى بلغنا النهود.
وأمر محمود ود أحمد، ونحن في طريقنا الى "أبو حراز"، بإعدام عدد من الجنود السود. وسيتبين سبب اعدام أولئك الجنود في الحكاية التالية:
قبل أن يغادر الجيش أم درمان في طريقه للأبيض، سمعت أن الخليفة مر على فرقة من جيشه، ثم صرفهم وأصدر أوامره بألا يقوم أي أنصاري بالسطو على ممتلكات أي فرد من الناس، وألا يقدم الأنصار على اقتحام بيوت الناس بغرض التفتيش. كانت تلك الأوامر معروفة للكافة، وسُلمت مكتوبةً لأفراد الجيش. غير أن الأنصار لم يأبهوا لتلك الأوامر رغم تهديد الخليفة لهم بالعقاب الشديد.
ولما بلغنا "أبو حراز" جاءت نسوة إلى معسكر الجيش وهن يحملن اللبن والدجاج لبيعهما للجنود الأنصار. غير أن الجنود السود (وكنا نعدهم من كل قبائل الغرب مثل النوبة والمسترقين) لا يأبهون بما أصدره الأمير من أوامر، وكانوا ينامون في القرى الواقعة حول المعسكر. وقام هؤلاء الجنود بشرب اللبن وذبح الدجاج ولم يدفعوا شيئا للنساء اللواتي جلبنه للمعسكر للبيع.
وفي الصباح أتت النساء وقدمن شكواهن للأمير من أولئك الجنود. غضب الأمير مما سمع واستدعى "قادة أو رؤوس المئة" لأولئك الجنود وأمرهم بإحضار من قاموا بتلك الفعلة. أحضر هؤلاء وكانوا 12، كلهم من الجهادية (الجنود السود). ووُجِهَتْ التهمة لهؤلاء بشرب اللبن الذي أحضرته النساء للبيع وعدم دفع ثمنه. ونُفِخَ في البوق لاستدعاء الأمراء والجلوس للاستماع لما قرره الأمير محمود بشأن شكوى النساء. وكان قرار الأمير هو بَقَرَ بطون أولئك الرجال، فإذا وجد فيها اللبن، فقد حُسِمَ الأمر، وإن لم يوجد فيها لبن، فسيحكم على النسوة بالقتل لتقديمهن شكوى كاذبة اِفترين بها على أولئك الرجال. ووافقت النساء على قرار الأمير. أحضر الرجل الأول وقطعت رقبته وبُقِرَت بطنه فسال منها اللبن أبيضَ على الأرض (هنا ذكر نيوبوولد في الحاشية أن محمد بيه الدفتردار حكى نفس القصة). ولما رأى بقية الرجال ذلك المشهد أصابهم الرعب وأقروا بأنهم قد شربوا بالفعل ما جلبنه النساء لهم من لبن، وترجوا الأمير العفو عنهم. لم يُلْق الأمير بالاً لاستعطافهم، وأمر أحمد ود الشرتاي فوراوي بقطع رؤوسهم جميعاً.
وجُمِعَ الفرسان ليتحلقوا ويدوروا بخيولهم في خطوات بطيئة حول الأجساد المقطوعة الرؤوس. وأثار قتل أولئك الرجال الرعب في قلوب بقية الجند. وذاعَ خبر تلك الحادثة بين القبائل.
ثم سار جيشنا غرباً لأن قبائل دارفور رفضت الذهاب إلى أم درمان. وسرنا من "النهود" ومررنا في طريقنا بـ "عد بروش" و"عد البياض" و"ديرات الحمر" إلى أن وصلنا الفاشر، التي قضينا فيها عامين. وفي إبان وجودنا في الفاشر، أُرْسِلَ الخليفة علي دينار ليساعد الأمير محمود ود أحمد.
لم يكن علي دينار في تلك الفترة سلطاناً بعد. ونصحه وحثه رجال قبائل البرتي والبيرقد والزغاوة والمساليت على الثورة ضد الأنصار وأن يقتل الأمير محمود ود أحمد. ولما سمع الأمير بذلك أرسل في طلب علي دينار، وكنا جميعا جلوسا في مجلسه. قال الأمير لعلي دينار مخادعا: "لقد طلب منك الخليفة أن تسافر له بأسرع ما يمكن، وسيمنحك هناك الخيول والأسلحة، وستعود سلطاناً على كل أراضي الغرب. وعند عودتك، سأسحب جيشي وأعود للخرطوم" (المقصود بالطبع أم درمان. المترجم). وانطلت الحيلة على علي دينار، وسافر حاملا معه رسائل للخليفة. لامه الخليفة عندما وقف أمامه وأتهمه بالخيانة، وجعله خادما لولده عثمان شيخ الدين. غير أن عثمان أحسن معاملته واتخذه صديقا له.
ولاحقا، لم يقاتل علي دينار في "كرري"، ولكنه نفذ خطة كان يدبر لها منذ فترة بالتعاون مع رجال من البديرية والهبانية والجوامعة والرزيقات والمسيرية، وهرب علي دينار من المعركة قاصداً ترك التعايشة ليلقوا مصيرهم المحتوم، فقد كانوا قد أساءوا معاملته لحد بعيد. وغادر علي دينار وجماعته ساحة معركة كرري ومعهم الكثير من الأسلحة والذخائر و15 أو 16 من رايات لجيش عثمان شيخ الدين. وبلغ علي دينار دارفور حيث اُعْتُرِفَ به سلطانا عليها.
وفي أيام سفر علي دينار للقاء الخليفة تحركنا إلى "كوبي" ومنها إلى "كبكابية" وفيها وضعنا أربعين من راياتنا في مكان واحد، وكان العدو على بعد مسيرة يوم واحد منا. وأتت نحونا في منتصف الليل ضباع من جهة معسكر العدو لتتجسس وتعلم ما يدور في معسكرنا. وكانت الضباع تحسب عدد راياتنا وأسلحتنا وذخائرنا، ثم عادت لقائدها سلطان إدريس هاشم القمراوي. وبعد طلوع الشمس تبينا آثار أقدامها. وكنا نعلم أن بمقدور بعض الأشخاص أن يتحولوا لضباع، فقد كان في جيشنا مثل أولئك الرجال (مثل غريب ود موسى وإخوانه وآخرين)، وكانوا على معرفة بآثار كل ضبع من ضباع العدو (ذكر نيوبوولد في الحاشية أن ذلك كان اعتقادا شائعا في السودان، وأن حمراوي في المجلد ذكر في عام 1921م بأن من رجال الزريقات من له القدرة على التحول لضباع. وكان السلطان علي دينار يستخدمهم رسلاً. واشتكت امرأة من المساليت في الأبيض عام 1932م من أن زوجها اِعْتادَ على التحول لضبع في الليل، وهي ترغب في أن تقوم السلطات بالقبض عليه، إذ أنها تخشى أن يلتهمها هي وأطفالها في إحدى الليالي.
ولما سمع الأمير محمود بخبر الضباع التي زارت معسكر جيشنا، أصدر أوامره لغريب ود موسى وآخرين بالذهاب والتجسس على معسكر الأعداء. ومضوا في طريقهم لذلك المعسكر كرجال، وفي الطريق وجدوا تل (قنطور) "مملكة نمل ant-hill" فتَمَرَّغَوا في ترابه وخَفْخَفوا (أي أطلقوا أصوات الضباع) – وسمعت بنفسي تلك الأصوات – وقاموا وهم ضباعٌ وتقدموا بسرعة نحو معسكر الأعداء. وكان هؤلاء من البرتي والقمر وبني حسين والزغاوة والتاما. وبعد انتهاء مهمتهم عادوا لذلك التل، وخَفْخَفوا مرة أخرى وعادوا لمعسكرهم في هيئة بشر، وأبلغوا قادتهم عما شاهدوه في معسكر الأعداء. وكنت قد قمت شخصيا بتنفيذ أمر لمحمود ود أحمد بمنح غريب ود موسى عشرة ثياب من الدمور قبل أن يبدأ مهمته.
وكان أولئك "الضباع" من قبيلة البرتي، ولا يزالوا يعيشون في "جبل الحلة"، وشهرتهم في هذا الجانب معروفة بين سكان المنطقة. وأسفر القتال بيننا وبين العدو عن هزيمتهم وقتل الكثير منهم. وغنمنا منهم الكثير من الإبل والمعز والأبقار والخيول والرقيق.
وعقب انتهاء المعركة أُقِيمَ مزاد بيعت فيه الغنائم: المعزة بقرش واحد، والبقرة الحلوب مع عجلها بريال واحد. وعقب انتهاء المزاد قدنا ما لم يُبَعْ في المزاد من بهائم، ولكن هرب منا أسرانا من جنود العدو. واستسلم هؤلاء لنا لاحقا، وأعطى الأمير رايات لقادتهم وضمهم لجيشنا.
وعندما كنت في دارفور، صحبت الجيش في سيره نحو جبل مرة وزالنجي. وهزمنا رجال التاما في "براك". وخضنا معركة أخرى في خيمة (Kheima) وأخرى في بالي (Bali)، وقُتل في تلك المعارك الكثير من أعدائنا.
وعندما كان محمود في دارفور، كان هنالك جمل في جيشه، اسموه "تقل لفات" عُرِفَ بسرعته الفائقة. وكان مالك الجمل هو رجل من الأبيض يقال له علوبة ود محمد، وكان يعمل ملاحظا مع حسن باشا. وكان ذلك الجمل من سلالة جمال أبو سن شيخ الشكرية. كان ذلك الجمل فائق السرعة لدرجة أنه خُصِّصَ لنقل الرسائل العاجلة. وكان ينقلها من الفاشر إلى أم درمان ويعود للفاشر في أسبوعين فقط.
وبعد معركة (بالي) سرنا إلى (نيرا) لمطاردة السلطان سليمان ود إبراهيم التاماوي، غير أنه فر من أمامنا ولجأ إلى سلطان البرقو.
وفي أيامنا في دار تاما، بلغتنا أخبار تفيد بأن الإنجليز قد وصلوا إلى "أبو حمد"، وأن الجعليين قد ثاروا على الخليفة، وانضموا للغزاة. واستدعى الخليفة محمود ود أحمد ليعود للخرطوم (المقصود بالطبع أم درمان. المترجم). لذا غادرنا الأمير في (نيرا) وتركني في دار تاما.
لم يكن معي (في دار تاما) سوى ثلاثين فارسا، وكانت التعليمات التي أُصْدِرَتْ إلى تقضي بقيامي بتدريس الراتب لسكان المنطقة. وقضيت هنالك فصل الأمطار. غير أن الخوف قد أصابني عندما علمت من بعض رجال التاما أن الأمير محمود كان قد ترك تعليمات تقضي أن أُقْتَلَ فورا إن ارتحلت عن دار التاما. وعند سماعي في (نيرا) عن وجود مؤامرة لقتلي، قررت الرحيل عن دار تاما واتجهت شرقا نحو الأبيض.
وكان السبب الذي من أجله تركني محمود ود أحمد في الغرب هو اختلاف بيني وبينه حول قضية تتعلق بأحكام الشريعة كان نسيبه (واسمه الحسين ود شيخة) طرفاً فيها. كان ذلك الرجل قد قام بسرقة رقيق من بعض الناس، وباع عشرة منهم لشراء فرس من (بُرْ المقلي؟Bur El Maggli) في أم دم. وتقدم مالك أولئك الرقيق بشكوى للخليفة في أم درمان. وأحال الخليفة الأمر لي للفصل فيه. وقضيت بأن يقوم الحسين ود شيخة بتعويض بور بعشرة من المسترقين الآخرين، أو أن يدفع له ثمن أولئك المسترقين (وهي مئة ريال). ولم يكن لي أن أغير ذلك الحكم لأي مخلوق. وهذا ما أغضب محمود ود أحمد مني.
كنا في الأبيض – أنا وسبعة عشر من القضاة الآخرين – عندما اجتمع بنا عثمان (ابن الخليفة عبد الله) في وجود الأمير محمود ود أحمد، وأخبرنا بأن الخليفة عبد الله يأمرنا بأن نقطع رأس كل من يخالف الشريعة، حتى لو كان هو الأمير محمود ود أحمد نفسه.
وكنت أنا كبير القضاة (ويشاركني في ذلك محمد ود الريح). وكان من العادة في القضايا العادية أن يفصل فيها قاضيان. إلا أننا كنا نشارك مجتمعين في الفصل في القضايا المعقدة.
وكانت هناك قضية أخرى أغضبت مني الأمير محمود. كنا في دار تاما عندما وضع بعض رقيق الأمير محمود كمية من التبغ في بيت رجل غني، وذلك بغرض ابتزازه وأخذ ماله.، إذ أن الأمير محمود (بناءً على أوامر الخليفة) كان يصادر ممتلكات كل من يُعثر على تبغ معه. وكان ذلك يشمل الرقيق والخيول والحمير.
وفي اليوم التالي تم تفتيش البيت ووجدوا فيه التبغ، فألقوا القبض على صاحب البيت وهددوه بمصادرة جميع ممتلكاته إن لم يقدم لهم رشوة. لذا قدم لهم الرجل مئة ريال، أخذها كبيرهم وذهب بها لدار نائب الأمير محمود ليستخدمها في بيت الأمير محمود نفسه.
لم يكن الأمير محمود على علم بما فعله رقيقه إلى أن دخل عليه صاحب ذلك البيت وهو كَظِيم، وانحنى وهو يقدم شكواه التي قال فيها ما معناه: "يا سيدي ... أنت رجل عادل. رُدَّ إليّ مالي الذي سرقه عبيدك". أرسل الأمير ذلك الرجل لي لبحث الأمر.
لم أجد شاهدا على وجود التبغ في بيت الرجل. لذا أمرت قائد أولئك الرقيق بإرجاع المال الذي أخذوه من صاحب البيت. وعد الرجل بإحضار المال في صبيحة اليوم التالي. وعاد بالفعل في اليوم التالي ولكنه لم يحضر ما طلب منه. خاطبته بحدة وسألته عن المال الذي أخذه فرد بالقول إنه لم يستطع العثور عليه. وفي اليوم التالي مثل أمامي وقال بمثل ما قال به في اليوم السابق. حذرته هذه المرة بأنه إن لم يَرْجِع ما أخذه من مال، فسوف ألقيه في السجن. ولما لم ينفذ الرجل ما طلبته منه أمرت خفيري – وهو رجل قوي وواسع الحيلة – بالقبض على ذلك الرَّقِيق. غير أن العبد هرب وهرول نحو مجلس الأمير محمود وهو يضع سلاحه خلف ظهره ليحميه من الخفير. ولما رأيت ما حدث، أمرت خفيري بجره من قدمه بعيدا عن سيده. وأحضر الخفير الرجل ليمثل أمامي.
أغضب ما قمت به الأمير محمود والذي قال في مجلسه: "كيف للقاضي أن يقبض على رجل اسْتَعْطَفَني واستغاث بي؟". غير أن كبراء المجلس لاموه بكلمات صارمة: "لقد خالفت أوامر الخليفة وحدت عن طريق العدالة المستقيم". وبالفعل أُلْقِيَ ذلك الرَّقِيق في السجن وبقي فيه حتى أعاد المال الذي أخذه من صاحب البيت. غير أن محمود لم يغفر لي ما فعلته. وكان هذا هو السبب الثاني لإبقائي في دار تاما.
وعندي هروبي من الغرب مررت بقرية الجِكّة (القريبة من الأبيض) وصادفت فيها الأمير محمود، الذي كان يسير ببطء من الغرب ويجمع رجال القبائل في جيشه وهو يتقدم (لأم درمان). وفي الأبيض أمر محمود بتدمير سبع قرى للمشيشة Mashisha القريبة من خور أبو حبل، ولا تبعد كثيرا عن السنجكاية. وكانت تسكن في تلك القرى العديد من القبائل مثل الفلاتة والبديرية والتكارير والتُمام والجوامعة. وكان هؤلاء قد تمردوا / ثاروا ضد الأنصار، وامتهنوا السرقة والنهب وترويع الناس. وكانوا يغزون جيرانهم للحصول على الرقيق والأبقار والخيول، وقتلوا الكثير من الخلق. لذا قدم السكان شكاوى للأمير محمود بأنه إن لم يقض تماما على المشيشة قبل مغادرته للغرب وذهابه لأم درمان، فسوف يقضي عليهم رجال المشيشة. تأثر الأمير بتلك الشكاوى، وأرسل الشيخ البديري جندي زين ود محمود ليتحرك نحو المشيشة في رفقة مجموعة كنت واحدا منهم، ومعنا عبد القادر ود إبراهيم التلب، والبلة ود أحمد من "جعيبات" (ذكر نيوبوولد في الحاشية أن الرجل الأخير كان ما يزال حيا، وأنه قابله ووجده طاعنا في السن ومُشوَّش التفكير).
وذهبنا إلى المشيشة ونحن نحمل شروط الأمير التي شملت إما الاستسلام في خلال ثمانية أيام، أو أن يحكم عليهم بالموت. وعندما عرضنا عليهم تلك الرسالة، استسلمت واحدة من القرى، غير أن بقية القرى لم تلق بالا لتهديدات الأمير.
تكلمنا مع هؤلاء المخدوعين ونصحناهم وقلنا لهم: "أطيعوا أوامر الأمير وتعالوا معنا للأبيض. وإن لم تفعلوا وقررتم تجاهل تلك الأوامر، فالأفضل لكم أن تفروا من هذا المكان. أذهبوا إلى الجبال الحصينة أو أخفوا أنفسكم في غابات السهول. وأعلموا بأنكم إن لم تفعلوا ذلك فسيقتلكم محمود لا محالة ويهدم قراكم". قضينا معهم ثلاثة أيام، عاملونا في خلالها ضيوفاً عليهم، وأحضروا لنا خمسين من المَعْز لإعاشتنا. غير أنه عندما مر علينا شيخهم (طه ود ميرمي) وأولاد غبوش، شاهدوا تلك المَعْز سألونا عمن نكون وعما نفعله هنا. ولما أخبره أهل القرية بمهمتنا أمرهم شيخهم بعدم تنفيذ ما أمر به الأمير محمود، وقال له إنه سيكتب رسالة للأمير يعده فيها بالسمع والطاعة، واللحاق به بعد الحصاد، فقد كان المحصول وقتها قد بلغ اثنين أو ثلاثة أقدام.
وعندما عدنا للأبيض وجدنا أن الجيش قد تجمع حول "فولة صافية" خارج المدينة. وذهب جندي زين إلى الأمير محمود ليخبره بفشل مهمتنا، وقال له: "يا سيدي. لقد رفضوا الطاعة".
لم أعلم سبب تجمع الجيش عند تلك الفولة، وسألت عن السبب، ولكن لم أجد جوابا صادقا عند أحد.
وفي أثناء وجودنا هناك غادر الجيش المكان. وذكر لنا الأمير محمود أنهم سيقومون بمهاجمة "الدباب". غير أنه كان قد قال لنا ذلك على سبيل الخداع لأنه كان يعلم أن لنا أصحاب كثر من رجال المشيشة، وكان يخشى إن أخبرنا بحقيقة وجهته أن نجد وسيلة ما لإبلاغهم بتحرك جيشه ضدهم، وهذا مما يسهل عليهم الفرار.
وأرسل الأمير بعض الفرسان لتلك القرى لخداع سكانها بكلمات مطمئنة مفادها أن كل شيء على ما يرام، وأن الأمير محمود سيحضر إليهم، وليس في نيته إيذائهم، ويجب ألا يخافوا على أنفسهم من مقدمه وألا يفروا من قراهم. وعند سماعهم لتلك الكلمات بدأوا في التجمع. ثم هجم عليهم جيش محمود بأعداد أكبر وقتل أكثرهم، بينما فر البعض إلى منطقة خور أبو حبل، واختبأوا بين الأشجار، بينما هام البعض الآخر على وجوهم في البوادي. غير أنها كان مقتلة عظيمة تم فيها تدمير كل تلك القرى بصورة كاملة، وسبيت النساء والأطفال وبيعوا رقيقا.
لم يشهد الأمير محمود بنفسه تلك المعركة التي تم فيها تدمير قرى المشيشة، وكان قائدها هو ملازمه أحمد ود علي التعايشي. وكان معه أيضا النور ود القوزة الرزيقي، وصلاح ود أبوه التعايشي.
وفي ذلك الوقت أثار المسيرية أيضا بعض القلاقل في "أبو حراز". غير أن محمود استطاع أن يخمد تلك القلاقل دون اللجوء للسلاح. وشرع بعد ذلك في تجميع قوات أتت من الغرب وسار بها نحو أم درمان بعد أن تلقى رسالة أخرى من الخليفة. أما أنا فقد ودعته في الأبيض وعدت إلى "أبو حراز".
وساد بين الناس خوف شديد بسبب مجزرة سكان مشيشة. وفوق ذلك ترك الأمير محمود في المنطقة الأمير الختيم ود موسى، الذي أشتهر بممارسات شيطانية مؤذية. وتلقيت من الأمير محمود رسالة يأمرني فيها باللحاق به. ورددت عليه برسالة خادعة قلت له فيها بأني سأكون مع الختيم في الأبيض بعد ثلاثة أيام. غير أن ذلك الرد لم يكن إلا من باب الخداع، إذ لم يكن في نيتي أن أنضم له.
ثم أعلنت للشيوخ بأن سلطة المهدي قد انفرط عقدها، وأنني سألجأ للجبال، ومن يريد أن ينضم لي فليفعل. وكان العرب قد لجأوا قبلي إلى الجبال. وبلغنا الدلنج وبقينا مع النوبة. وسار البقارة شمالا وغزوا المنطقة وطردوا الختيم من الأبيض. والتحق الختيم هذا بالخليفة لاحقا في جبل كوني بعد معركة كرري (هنا أضاف نيوبوولد في الحاشية أنه قيل أن تحركات الختيم كانت كما يلي: الأبيض – الجفيل -أم عرق – التيارة – شمقتا – أم روابة – أم خيرين – الغبشة – عقيلة – ود بُر وأم تابة شمال تندلتي، حيث التقى بالخليفة. وربما يكون قد زار جبل كون لاحقا).
وبعد حين استلم عبد الرحمن ود الخليفة في خورسي (بالقرب من بارا) رسائل من كتشنر تطلب من الجميع أن يعودوا لقراهم وأن يمارسوا أشغالهم الأصلية. وأرسلت لنا تلك الرسائل في الدلنج. وكنت في ذلك الوقت بين الدلنج والنيمانق.
وكنت أنا شخصيا من أحضرت للدلنج أول مدير هو "أوكني OcKney". (صحح نيوبوولد هنا الاسم وهو O’Conner، وهو ثاني مدير لكردفان). وبعد فترة قليلة من وصولنا هرب العرب إلى الجبال، وأراد المدير تعقبهم والقضاء عليهم، غير أن عبد الصمد شيخ البديرية أثناه عن ذلك وأقنعه بأن يرسل إليهم وفدا مكونا مني وعمر دبيكة وموسى باجون لنكون لهم من الناصحين. وعند مقابلتنا لهم وجدناهم في غاية الانزعاج والضيق من المفتش بطران الذي تشاجر مع موسى باجون وضربه بالعصا، مما دعا العرب للفرار من المنطقة وهم يصيحون بأن موسى قد قتله الترك (المقصود بـ "بطران" بحسب حاشية نيوبوولد هو بتلر Butler بيه).
وبلغنا "أبو سيبة" ووجدنا أن كل العرب قد تجمعوا مع بعضهم البعض، وكذلك أتى النوبة من جبالهم وهم مسلحون. وبينما كنا نسير على ظهور خيولنا صوب أحدهم بندقيته نحوي، ولكنه لم يطلق رصاصة منها، فقد كانوا يعرفونني. وصاح به أحدهم بألا يطلق النار.
ثم أتى المدير وقابل العرب في أبو سيبة، وقبل باستسلامهم. وانتقل بعد ذلك لكادوقلي وتلودي. وعند عودته عين السيد ليال مفتشا على المنطقة، وأمرني بالبقاء في الدلنج مع المفتش وأن أكون قاضيه. لذا قمت مع السيد ليال ببناء الدلنج، وبقيت فيها قاضيا لأربعة أعوام حتى تقاعدت.
وقضيت بعد ذلك سنوات كثيرة دون منصب رسمي، إلى أن تم تعييني في الأيام الأخيرة في وظيفة "عالم" في محكمة الحوازمة أولاد عبد العال.
alibadreldin@hotmail.com