كيف كانت أشكال المعارضة للمهدية؟ ( 3 / 3)
تاج السر عثمان بابو
6 February, 2024
6 February, 2024
بقلم: تاج السر عثمان
ما يهمنا هنا أن بداية التصفيات الداخلية أو الصراع الداخلي في القيادة بدأ بمقتل اثنين من كبار قيادات الأنصار : وهما المنا إسماعيل وعجيل ود الجنقاويه لمنافسة على مراكز القيادة والنفوذ حصلت بينهما وبين التعايشى وقومه.
هذه هي نقطة البداية السلبية في إدارة الصراع التي اعتمدت على التصفية الجسدية، وهذا راجع إلى أن المهدي يمتلك الحقيقة المطلقة ولا يجوز معارضته أو معارضة الخليفة عبد الله الذي ينفذ أوامر المهدي المعصومة، وفي خطاب الإمام المهدي المذكور إشارة لهذه الحقيقة حينما قال : إن أفعال الخليفة عبد الله وإحكامه محمولة على الصواب لأنه أُوتى الحكمة وفصل الخطاب، وأكد على أنه خليفة الصديق، وهذا الخطاب كما سنرى لاحقا قوّى مركز الخليفة في الصراع، وقوّى من دوره ووزنه في قيادة الثورة المهدية، وكان من الطبيعي أن يعيد الخليفة نشر هذا الخطاب وكل الخطابات التي أشار فيها إلى مركز الخليفة في المهدية لتأمين موقعه في الصراع على السلطة بعد وفاة المهدي، وفي ذلك يقول د . ابوسليم : ( وفي سنة 1307 ه صدر عن المطبعة ( مطبعة الحجر ) مصنف يحتوى على عدد من المنشورات التي كتبها المهدي عن الخليفة عبد الله، وكان القصد من ذلك هو بيان مكانة الخليفة عبد الله وتعزيز مقامه ردا على هجوم الأشراف عليه، وقد تلت هذا المصنف على مر الأيام طبعات متعددة أعدت على نمطه ، وفي رمضان سنة 1314 ه صدر مصنف يحتوى على عدد من المنشورات إلتي كتبها المهدي عن الخليفة عبد الله ومنصبه وعلى عدد من المحررات التي وجهها إليه، وكان ذلك ردا على معاودة الأشراف نزاعهم مع الخليفة ( ابوسليم : الحركة الفكرية ، 62 ) .
من القيادات البارزة في المهدية التي تم إبعادها أو سجنها أو نفيها أو عزلها أو إعدامها هي : المنا إسماعيل ( من أعيان الجوامعة )، محمد شريف، احمد سليمان ( محسي ) أمين بيت المال، عجيل ود الجنقاوى ( من كبار مشايخ الرزيقات )، محمد خالد زقل، كرم الله محمد كركساوى، محمد عثمان ابوقرجة ، إبراهيم عدلان ، احمد على قاضى الإسلام .
نلاحظ من المعلومات التي أوردناها سابقا، أن هذه القيادات جاءت من قبائل مختلفة : كواهله، رزيقات ، جوامعه، دناقلة، محس، تعايشه ، وأولاد ريف ( احمد على قاضى الإسلام )، مما يشير إلى أن الصراع لم يكن قبليا بالمعنى الضيق أو صراع ضيق بين أولاد البحر وأولاد العرب، بل كان صراعا سياسيا من أجل السلطة ومن أجل تامين مراكز النفوذ.
صحيح أن صراع الأشراف ( الدناقلة ) مع الخليفة كان هو الغالب، ولكن الخليفة قتل الزاكى طمل الذي من التعايشه ( قبيلة الخليفة عبد الله ) وأعدم احمد سليمان ( محسى ) ، كما أعدم إبراهيم عدلان ( كواهله ) ، واحمد على قاضى الإسلام ( أولاد الريف ) ، وعجيل الجنقاوى ( رزيقات ) والمنا إسماعيل ( جوامعه ) ..
الملاحظة الثانية التي يجب أخذها في الاعتبار، أن هذه القيادات كانت بمستوى متقدم اجتماعيا، بمعنى أنها انحدرت من الطبقة التجارية أو جاءت من جهاز الدولة التركي السابق، بحكم عملها في السلك الكتابي والقضاء . الخ، مما يشير إلى أنها كانت ذات أفق واسع ولها نظرات وتقديرات تختلف عن تقدير الخليفة أو مجموعته الأخرى في القيادة ، ونفصل ذلك بالأمثله التالية :
أ – قيادات انحدرت من الطبقة التجارية مثل : كرم الله محمد كركساوى، ومحمد عثمان وابوقرجه، وإبراهيم عدلان.
ب – قيادات جاءت من السلك الوظيفي السابق : أحمد على،حسين الزهراء ، محمد خالد زقل ( عمل موظفا بعد أن كان تاجرا أول الأمر) ، وأحمد سليمان، كما نأخذ في الاعتبار أن أحمد سليمان كانت له خبرة بالحسابات والشؤون المالية عندما استلم أمانة بيت المال، كما نلاحظ أن أمانة بيت المال كان يتعاقب عليها أشخاص كلهم من فئة التجار أو من الموظفين، وبعد احمد سليمان جاء إبراهيم عدلان الذي كان تاجرا في التركية، وقام بمهام مالية في عهد المهدي قبل استلام أمانة بيت المال، إذ نظم بيت مال القضارف وأشرف على غنائم منطقتي (دوكة) و(القلابات) ، كما عمل لفترة أمينا لبيت مال (القضارف) ، وعندما تولى أمانة بيت المال قدم اقتراحات أسهمت في توسيع بيت المال وتفرعت منه إدارات متخصصة، كما ارتبط اسمه بفتح التجارة مع مصر وإصدار عملة في عهد الخليفة، وأعاد توظيف الأتراك والمصريين ( أولاد الريف ) في وظائف الحسابات ومسك الدفاتر في دقة العمل الحسابي ( قدال : 179 ) .
ج – قيادات عسكرية بارزة مثل ابوقرجة وزقل وكركساوى والزاكى طمل ..
وخلاصة الأمر، يمكن القول انه بإبعاد هذه القيادات فقدت الثورة المهدية قيادات ذات تجربة وخبرة واسعة، مما كان له الأثر في إضعاف الثورة المهدية وسقوط النظام، فالسقوط بالأثر الخارجي يأتي دائما مكملا للضعف والتفكك الداخلي للنظام. وفي ظل نظام شمولي ديني - إذا جاز التعبير – مثل نظام المهدية لايعرف المعارضة والآراء المخالفة للخليفة، وفي ظل الحروبات الداخلية والخارجية، وفي ظل الصراع والتنافس على السلطة والمراكز تكون الاتهامات هي وسيلة الإبعاد أو السجن أو الإعدام خاصة عندما تغيب التحقيقات الدقيقة في تلك الاتهامات، ولسنا هنا بصدد إثبات أو نفى تلك الاتهامات، ولكن نشير إلى أنها في إطار الصراع الداخلي والتنافس على السلطة، فنجد أن احمد سليمان أُتهم بالاختلاس بعد انحيازه للأشراف في صراعهم ضد الخليفة، وتم اتهام إبراهيم عدلان بالفساد واستغلال منصبه، ونلحظ أن هذه الاتهامات برزت بعد أن حدث بينه وبين الخليفة وشقيقه يعقوب خلاف في الآراء، فقد عارض هجرة التعايشه إلى أم درمان كما عارض فتح "شونة" للغلال في دنقلا، كما اتهم بالفشل في إدارة مهمة أرسل لها في الجزيرة لجمع الذرة إبان المجاعة، وكان سبب فشله أنه لم يستعمل العنف رفقا بأهله الكواهله، كما اتهم بوجود صلات بينه وبين الحكومة المصرية، ويقال أنه عند تفتيش منزله وجدت بحوزته أوراق تثبت تلك التهمة، وأدعى هو أنه تقدم باستقالته من منصبه الذي خلق له مشاكل مع قبيلته، وفي ذلك يقول قدال ( ويبدو أن سقوط ودعدلان ليس سببه الخلافات الشخصية وحدها ولا فشله الادارى إذ كان شخصا مقتدرا، بل لعل سقوطه كان أيضا نتيجة لأخطاء إدارية ومالية وتنظيمية بجانب أسباب أخرى، فكان لابد من تحميل المسئولية لشخص مسئول، فوقع الفأس على رأس أمين بيت المال ( قدال : 179 – 180 ) . وكانت نهاية إبراهيم عدلان هي الاعتقال والإعدام شنقا، ومثال آخر الزاكى طمل الذي وشي به الوشاة فقُبض عليه ومات جوعا وعطشا في سنة 1892 م . كما أُعدم المنا إسماعيل وعجيل الجنقاوى لأنهما عارضا أو اختلفا مع المهدي والخليفة في الرأي، أما احمد على قاضي الإسلام فقد سُجن ومات في السجن بعد أن حقد الخليفة عليه اثر وشاية من يعقوب، وتم اتهام محمد عثمان ابوقرجة بالاتصال مع الايطاليين ونُفى إلى الرجاف، كما سُجن محمد شريف بعد اختلافه مع الخليفة عبد الله التعايشي بعد وفاة المهدي، وبعد صراع الأشراف مع الخليفة وقتل معظم أعوانه الكبار، وهكذا كانت الاتهامات هي وسيلة الإبعاد أو السجن أو الإعدام.
وأخيرا، إذا كانت هذه القيادات فاشلة أو مرتشية أو عميله للمصريين أو الايطاليين ، فكيف كان انتصار الثورة المهدية العظيم في سنواتها الأولى وعلى رأسها تلك القيادات العسكرية والمدنية التي أبلت بلاءً حسنا وكان لها وزنها وثقلها في الثورة المهدية ؟؟؟!!! .
نلاحظ من القيادات الأساسية إلتى اعتمد عليها الخليفة في تصفية المعارضين له حمدان ابوعنجه، والذي كان قائدا للمهدية وارتبط اسمه بقيادة فرقة الأسلحة النارية، وكان على دراية باستخدام الأسلحة النارية وتولى قيادتها، لعب دورا كبيرا في حصار وسقوط الأبيض، و لعب دورا في القضاء على حملة هكس وقواته، كما اشترك في حرب الداير، وتولى القيادة المباشرة في معركة أمدرمان، كما أسهم في القضاء على تمرد قبائل جبال النوبا على المهدية، و تولى قيادة الجبهة الشرقية في القلابات وغزا الحبشة في سنة 1887 م ودخل مدينة غندار وغنمها ..
ما يهمنا هنا هو أنه ( حمدان ) قابل محمد خالد زقل في بارا بناءً على أمر الخليفة وصفى قيادته وأرسله مسجونا إلى الخليفة، وقد يتصور البعض أن الخليفة اعتمد على حمدان لأنه من البقارة أو التعايشه، ولكن هذا التصور يهتز ويضعف، إذا علمنا أن الخليفة اعتمد على المدثر إبراهيم الحجاز كاتب المهدي وأمين سر الخليفة الذي أصله جعلي، أرسله الخليفة في مهمة سرية إلى حمدان أثناء صراع الأشراف الأول مع الخليفة ، فاشترك معه في تصفية قوة محمد خالد زقل في بارا وإرساله إلى أمدرمان، وبعض المؤرخين مثل شقير يرون أن حمدان كانت له ضغائن قديمة مع محمد خالد زقل عندما كان مديرا لشكا في دارفور في عام 1879 م، كما أن حمدان كانت له مشاكل أو ضغائن قديمة مع مادبو زعيم الرزيقات الذي أرسله الخليفة بعد اعتقاله لحمدان الذي أعدمه، ولكن ما يهمنا هنا، أن الصراع كان من أجل السلطة وتأمين مركز الخليفة فيها.
يبرز أيضا في الصراع إلى جانب الخليفة الأمير يعقوب بن محمد اخو الخليفة عبد الله وأمير الراية الزرقاء وساعد الخليفة الأيمن الذي اشترك في معظم الوقائع الكبيرة في كردفان وتولى قيادة الهجوم على أمدرمان ، وبعد وفاة المهدي تولى القيادة العامة للجيش، بالإضافة إلى قيادة الراية الزرقاء ( قيادة الأسلحة النارية الضاربة )، لعب يعقوب دورا خطيرا في حوادث التصفيات الداخلية ويعزى د . ابوسليم ذلك إلى أنه ( كان شخصا متوجسا )( الحركة الفكرية : 36 – 38 ) .
و هذا لايكفى في تفسير ذلك، لكن طابع الصراع وتأمين موقع الخليفة في السلطة هو الذي أدى إلى ذلك ، وإذا كان الخليفة وأخيه يعقوب قابضين على المفاتيح الرئيسية في السلطة : الجيش والراية الزرقاء. الخ، فمن الطبيعي أن يكون لهما الغلبة في ذلك الصراع، هذا إضافة إلى ذكاء وحذر الخليفة الذي شهد بهما الأعداء قبل الأصدقاء، كما أن الأمير يعقوب وُصف بالمقدرة الفائقة الكفاءة، إضافة لسند وشرعية الخليفة من خطابات ومنشورات المهدي، كل ذلك قوى مركز الخليفة، وتمكن من تصفية المعارضين والمخالفين له في الرأي : إما جسديا أو بالإبعاد أو بالسجن ..
لكن حسب قوانين الصراع الداخلي والتنافس على السلطة، فانه لايتوقف عند نقطة معينة، بل يستمر، وبالفعل استمر الصراع الداخلي حتى بعد أن قضى الخليفة على كل المعارضين له، وعلى كل القيادات الأساسية في الثورة المهدية من القبائل النيلية وغير النيلية، لكن الصراع استمر ودخل بيت الخليفة نفسه، فنسمع عن الصراع بين الأمير يعقوب شقيق الخليفة وعثمان شيخ الدين الإبن البكر للخليفة عبد الله وقائد الملازمين في السنوات الأخيرة للمهدية. ( ابوسليم : 36 – 37 ) . ويقال أن الخليفة عبد الله كان يمهد لكي يحل ابنه عثمان.
نلاحظ أنه لم يبق من القيادات القديمة التي عينها المهدي حتى النهاية مع الخليفة سوى عثمان دقنة وعلى ودحلو خليفة الراية الخضراء والمدثر الحجاز، كما نلاحظ أن ابن المك آدم عمر، اى عمر آدم عمر قد احتل مكانا مرموقا في عهد الخليفة عبد الله ، تم هذا في الوقت الذي كان فيه الخليفة عبد الله بواسطة حمدان ابوعنجة يقمع في انتفاضة قبائل النوبا ضد الدولة المهدية والذين أطلق عليهم الخوارج، مما يشير هنا إلى رابطة المصلحة والاستفادة من النظام والوزن القليل للطابع القبلي للصراع . أي أن المهدية ضمت مؤيدين لهم مصلحة في النظام ومعارضين لها من قبائل جبال النوبا ..
من القيادات التي ماتت في المعارك أو بشكل طبيعي عبد الرحمن النجومي الذي استشهد في واقعة توشكي في أغسطس 1889 م، ويبدو أن عبد الرحمن النجومي كانت له صراعات مع الخليفة كما يظهر أثناء قيامه بقيادة قوات دنقلا ، إذ أن القيادة لم تكن مريحة نسبة إلى أن سياسة الخليفة تجاه أبناء النيل، ونسبة إلى الصراعات التي خاضها مع مساعد قيدوم ثم يونس الدكيم . وعبد الله النور الذي كان من القيادات العسكرية البارزة في المهدية الذي استشهد قرب بوابة برى في أواخر أيام حصار الخرطوم 1885 م ومحمد الخير عبد الله أستاذ المهدي وأمير أمرائه ، الذي ظل عاملا على بربر حتى وفاته في سنة 1888 م وأحمد ود محمد جبارة الذي استشهد في واقعة الأبيض في سبتمبر 1882 م وحمدان ابوعنجه الذي توفي في سنة 1888 م .
والخلاصة لم يبق مع الخليفة من القيادات القديمة غير عثمان دقنه الخليفة وعلى ودحلو، وكما يقولون إن الثورة مثل "الهرة تأكل بنيها"، وإذا جاز التعبير حدثت (ثورة مضادة) نتج عنها تركيب قيادي جديد للمهدية في عهد الخليفة يتكون من الموالين للخليفة أو أهل الثقة عند الخليفة سواء كانوا من التعايشه أو غيرهم، وأصبحت السلطة الفعلية في يد الخليفة وشقيقه يعقوب قائد الجيش وهى سلطة دينية ودنيوية في وقت واحد وبتركيب وصورة قيادية جديدة تختلف عما كان عليه الحال أيام المهدي .
بعض المؤرخين وصفوا هذا الصراع، بأنه صراع بين أهل الغرب وأهل البحر (النيل) ، وعلى سبيل المثال يقول د . ابوسليم ( إن العلاقات غير الودية بين أهل الغرب وأهل البحر قد دخلت طورا جديدا بعد أن ارتقى الخليفة عبد الله ، وقد زادت حدتها اثر نزاع الأشراف وإحلال البقارة في المناصب الكبيرة التي يحتلها أولاد البلد في عهد المهدي، وقد تمكن الخليفة عبد الله من المضي في هذه السياسة إلى حد أنه تخلص منهم جميعا ما عدا واحد في بحر سنة . ولما كان الخليفة عبد الله يريد أن يطمئن إلى عصبية حقيقية يواجه بها عصبية الأشراف وأهل البحر، فانه بدأ بغرض هجرات جماعية على أهله البقارة، ومن الإنصاف أن نقول أن فكرة الهجرات الجماعية ترجع إلى عهد المهدي، ولكن الخليفة استغل ذلك لأغراض سياسية واضحة ( ابوسليم : 36 ) . وفي فقرة أخرى يقول ابوسليم ( لقد ابدي البقارة معارضة شديدة لهذه الهجرة ، ولكنهم دفعوا إليها بالقوة ) يواصل ويقول ( إن مجئ البقارة قد جعل الخليفة يطمئن إلى عصبيتهم إلى الحد الذي جعله يحاول إرضاء أهل البحر بإعطائهم بعض المناصب بعد هزيمة النجومي ( ص : 36 ) .
وهناك بحث محمد سيد داؤد عن الصراع بين أولاد البلد وأولاد الغرب ( 1885 – 1898 ) ( رسالة ماجستير – جامعة الخرطوم 1971 م ) .
وبدون التقليل من أهمية الصراع ألاثني بين أولاد البحر وأولاد الغرب في فترة الخليفة، إلا أنه يعطى تفسيرا ظاهريا للصراع، ولكنه لايعطى البعد الحقيقي للصراع، والذي إلى جانب الصراع القبلي، كان صراعا طبقيا وصراعا من أجل الحراك الاجتماعي أو الصعود إلى مراكز السلطة والنفوذ، فالخليفة عبد الله سجن الزاكى طمل حتى مات عطشا في السجن رغم أنه تعايشي، أي أن تفسير الصراع بين أولاد الغرب والبحر لايسعفنا في هذه الحالة المحددة، كما أن الخليفة عبد الله قتل زعيم الزريقات ( مادبو ) وهو من أبناء الغرب عندما عارض سياسة الخليفة، كما أنه قمع البقارة ( بما فيهم التعايشة ) بوحشية عندما عارضوا الهجرة إلى أم درمان ودفعهم إليها بالقوة ..
في غرب السودان كانت هناك حركة معارضة أو حركات انفصالية ضد الخليفة مثل ثورة السلطان يوسف إبراهيم التي قمعها الخليفة وقُتل يوسف إبراهيم في يناير 1888 م، وهناك حركة أبي جميزة ضد الخليفة التي فشلت، وبنظرة سريعة إلى القبائل وزعماء القبائل الذين قتلهم الخليفة عبد الله في ثورة القبائل نرى أنها شملت : الشكرية ، الحمدة ، الضباينه ، بنو حسان ، العقليين ، العلاطيين ،البطاحين ،الكبابيش ، الشلك، الجعليين ، قبائل جبال النوبا، والدناقلة ، والبقارة ( الرزيقات ، التعايشه ، المعاليا ، الهبانيه ، بنو هلبه ) . اى أنه شملت قبائل أولاد البحر وأولاد الغرب ، وهنا أيضا لايسعفنا تفسير الصراع بين أولاد الغرب وأولاد البحر .
حتى داخل القبائل نفسها، فمنها من عارض الخليفة، ومنها من أيّد الخليفة حسب المصالح والمواقع الطبقية، بل وحتى داخل عصبية أو قبيلة الخليفة عبد الله نفسها ( التعايشه ) كان هناك صراع من أجل مراكز النفوذ والسلطة، وفي هذا يقول د . ابوسليم ( وفي سنة 1893 م بدأ الخليفة تقوية الملازمين وجعل قيادتهم لابنه شيخ الدين، وكان الغرض من ذلك هو تكوين قوة تابعة له شخصيا يستطيع بها أن يحافظ على التوازن بين القوى المختلفة وتأكيد عليته عليها، ولما حل عام 1895 م، كانت قوة الملازمين قد بلغت تسعة ألفا، ، إن مرحلة ما بعد 1891 م قد شاهدت تركيزا في السلطة ، كما صارت السمة الظاهرة هي التصفيات الداخلية بدل صراع القوى القبلية أو المجموعات كالأشراف وأولاد البلد ، وفي أواخر عصر الخليفة نجم تنافس خطير بين أخيه يعقوب وابنه عثمان، وقد قيل أن الخليفة كان يهيئ ابنه ليكون بعده في الأمر ( ابوسليم : الحركة الفكرية ، ص 37 ) . اى أن الصراع كما يقولون – دخل حوش الخليفة نفسه – بين شقيقه يعقوب وابنه عثمان.
إن مفهوم الصراع على السلطة هو مفهوم اشمل من مفهوم الصراع بين أولاد العرب وأولاد البحر ، بمعنى أنه كان صراعا من أجل مراكز النفوذ والسلطة، وبالطبع يدخل في هذا الصراع الجانب القبلي – أولاد البحر وأولاد الغرب – ويدخل فيه الصراع الطبقي والاجتماعي، ويدخل فيه الصراع الديني ..
ولكن الخليفة عندما يشعر بأن هناك خطرا على سلطته ونفوذه ، كان يقمع ذلك الخطر أيا كان مصدره ، سواء كان من أولاد البحر أو أولاد الغرب.
رابعا : المعارضة الخارجية: :
كانت المعارضة الخارجية من شقين :
الأول : كانت تنبع من عقيدة وايديولوجية المهدية نفسها على المستوى النظري كما ورد في الفتوحات المكية لإبن عربي والتي جاء فيها ما يلى عن المهدى المنتظر ( يفعل ما يقول ويقول ما يعلم ويعلم ما يشهد ويفتح الرومية بالتكبير في سبعين الفا من المسلمين ، من ولد يشهد الملحمة العظمي مأدبة الله بمرج عكا ( ابن عربي : الفتوحات المكية ، ص 429 – 430 ) .
وفي فقرة ثانية عن أنصار المهدي يرد أنهم : ( يفتحون مدينة الروم فيكبرون التكبيرة الأولى فيسقط ثلثا سورها ويكبرون التكبيرة الثانية فيسقط الثلث الثالث فيفتحونها من غير سيف ) .
كما يرد في فقرة أخرى ( إن المهدي والسيف إخوان ) ( نفسه: 432 – 433 ). إذن الجهاد كان دعامة من أهم دعامات المهدية الأساسية، وقد قدم المهدي الجهاد على إحدى شعائر الإسلام الخمسة وهو الحج ( ابوسليم : 35 ) .
أي أنه حتى لو ترك العالم الخارجي الثورة المهدية وشأنها ولم ينشغل بها، فان الدعوة المهدية سوف لن تتركه، لأن المهدي يجب أن يشهد الملحمة العظمى، وقد أعلن الخليفة عبد الله والخليفتان الحلو وشريف عن عزمهم على مواصلة الجهاد وفتح الأمصار وتحقيق الملحمة العظمى عشية وفاة المهدي، ومن هنا، فان المضي قدما في سياسة الجهاد وإلحاحه عليه كان متفقا عليه، بل كان من الشروط المفروضة على الخليفة بحكم منصبه ( نفسه : 35 ) .
الشق الثاني : إن الثورة المهدية قامت في الربع الأخير من القرن التاسع عشر في وقت تحولت فيه الرأسمالية إلى مرحلة الاستعمار أو الامبريالية، والتي تعنى تصدير نمط الإنتاج الرأسمالي لبلدان المستعمرات، والصراع من أجل أسواق جديدة لمنتجاتها ، ومصادر رخيصة للمواد الخام اللازمة لصناعات الدول الرأسمالية، وفي وقت ازداد فيه التنافس بين الدول الاستعمارية ( انجلترا ، ايطاليا ، البرتغال ، بلجيكا ، هولندا .) على اقتسام بلدان المستعمرات.
منذ عام 1882 م ، نسمع عن احتلال انجلترا لمصر بعد فشل الثورة العرابية، وبعد إغراقها في ديون كبيرة، وبالتالي ، فان حروبات المهدية مع مصر أصبحت عمليا مع انجلترا، وانجلترا نفسها ما كانت تطيق قيام دولة مستقلة مثل دولة المهدية، لأنها كانت تبحث عن مستعمرات جديدة لزراعة القطن الخام، وخاصة بعد أن تعثر إمدادها من أمريكا نتيجة للحرب الأهلية في النصف الأول من ثمانينيات القرن التاسع عشر وتوقف مصدرها المضمون من خام القطن اللازم لمصانع الغزل والنسيج في لانكشير ، وبالتالي كانت انجلترا تفكر في إقامة مزارع كبيرة للقطن في كل من مصر والسودان ويوغندا لضمان استمرارية تدفق خام القطن إليها .
وبالتالي ، فان دولة المهدية وجدت نفسها في قلب الصراع والتنافس الدولي: انجلترا من الشمال، وايطاليا من الشرق،وفرنسا من الجنوب والجنوب الغربي، وتلك الدول كان لها مصلحة في خنق الدولة المستقلة الوليدة بأسرع ما يمكن حتى لاتتكرر أمثالها في مستعمرات أخرى، هذا إضافة للتقدم العلمي والتقني الذي أنجزته الرأسمالية في آخر القرن التاسع عشر الذي نتج عنه صناعة أسلحة متقدمة مثل الرشاشات التي كانت عاملا حاسما في هزيمة الأنصار..
وعندما حسم الخليفة كل الصراعات الداخلية بالقمع، كانت المخاطر من الخارج تتفاقم وتزداد ..
- ففي سنة 1889 م ، تمكن الجيش المصري من وقف غزو النجومى لمصر.
- وفي فبراير 1891 طُرد الأنصار من طوكر اثر هزيمة افافيت.
- وفي سنة 1893 م هزم الايطاليون الأنصار في واقعة اغردات ثم احتلوا كسلا في يوليو سنة 1894 م.
- في الوقت نفسه شهد الجنوب قوات انجليزية وبلجيكية وفرنسية تزحف إليه.
- في مارس سنة 1896 بدأ الجيش المصري يتحرك نحو عكاشة تأييدا للايطاليين الذين اندحروا في واقعة عدوا في الحبشة والذين كان يخشى عليهم إذا ما القي الخليفة بثقله ضدهم، واستمر غزو المصريين جنوبا فسقطت فركة في 7 / يونيو / 1896 م وتلتها دنقلا ثم هُزمت القوة الرئيسية التي أرسلت لصد الغزو بقيادة محمود ود احمد في أتبرا في 8 / ابريل / 1898 م.
وأخيرا دخلت قوات كتشنر قرب امدرمان، وانهزم جيش الخليفة في واقعة كرري الشهيرة في 2 / 9 / 1898 م التي على أثرها سقطت العاصمة امدرمان . واستمرت قوات الخليفة تقاوم حتى لقي مصرعه في واقعة امدبيكرات في 24 / 11 / 1899 م.
هكذا زالت دولة المهدية التي رفعت رآية الاستقلال والسيادة الوطنية في السودان لمدة 13 عاما، وفي محيط استعماري متلاطم في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر.
ما يهمنا هنا أن بداية التصفيات الداخلية أو الصراع الداخلي في القيادة بدأ بمقتل اثنين من كبار قيادات الأنصار : وهما المنا إسماعيل وعجيل ود الجنقاويه لمنافسة على مراكز القيادة والنفوذ حصلت بينهما وبين التعايشى وقومه.
هذه هي نقطة البداية السلبية في إدارة الصراع التي اعتمدت على التصفية الجسدية، وهذا راجع إلى أن المهدي يمتلك الحقيقة المطلقة ولا يجوز معارضته أو معارضة الخليفة عبد الله الذي ينفذ أوامر المهدي المعصومة، وفي خطاب الإمام المهدي المذكور إشارة لهذه الحقيقة حينما قال : إن أفعال الخليفة عبد الله وإحكامه محمولة على الصواب لأنه أُوتى الحكمة وفصل الخطاب، وأكد على أنه خليفة الصديق، وهذا الخطاب كما سنرى لاحقا قوّى مركز الخليفة في الصراع، وقوّى من دوره ووزنه في قيادة الثورة المهدية، وكان من الطبيعي أن يعيد الخليفة نشر هذا الخطاب وكل الخطابات التي أشار فيها إلى مركز الخليفة في المهدية لتأمين موقعه في الصراع على السلطة بعد وفاة المهدي، وفي ذلك يقول د . ابوسليم : ( وفي سنة 1307 ه صدر عن المطبعة ( مطبعة الحجر ) مصنف يحتوى على عدد من المنشورات التي كتبها المهدي عن الخليفة عبد الله، وكان القصد من ذلك هو بيان مكانة الخليفة عبد الله وتعزيز مقامه ردا على هجوم الأشراف عليه، وقد تلت هذا المصنف على مر الأيام طبعات متعددة أعدت على نمطه ، وفي رمضان سنة 1314 ه صدر مصنف يحتوى على عدد من المنشورات إلتي كتبها المهدي عن الخليفة عبد الله ومنصبه وعلى عدد من المحررات التي وجهها إليه، وكان ذلك ردا على معاودة الأشراف نزاعهم مع الخليفة ( ابوسليم : الحركة الفكرية ، 62 ) .
من القيادات البارزة في المهدية التي تم إبعادها أو سجنها أو نفيها أو عزلها أو إعدامها هي : المنا إسماعيل ( من أعيان الجوامعة )، محمد شريف، احمد سليمان ( محسي ) أمين بيت المال، عجيل ود الجنقاوى ( من كبار مشايخ الرزيقات )، محمد خالد زقل، كرم الله محمد كركساوى، محمد عثمان ابوقرجة ، إبراهيم عدلان ، احمد على قاضى الإسلام .
نلاحظ من المعلومات التي أوردناها سابقا، أن هذه القيادات جاءت من قبائل مختلفة : كواهله، رزيقات ، جوامعه، دناقلة، محس، تعايشه ، وأولاد ريف ( احمد على قاضى الإسلام )، مما يشير إلى أن الصراع لم يكن قبليا بالمعنى الضيق أو صراع ضيق بين أولاد البحر وأولاد العرب، بل كان صراعا سياسيا من أجل السلطة ومن أجل تامين مراكز النفوذ.
صحيح أن صراع الأشراف ( الدناقلة ) مع الخليفة كان هو الغالب، ولكن الخليفة قتل الزاكى طمل الذي من التعايشه ( قبيلة الخليفة عبد الله ) وأعدم احمد سليمان ( محسى ) ، كما أعدم إبراهيم عدلان ( كواهله ) ، واحمد على قاضى الإسلام ( أولاد الريف ) ، وعجيل الجنقاوى ( رزيقات ) والمنا إسماعيل ( جوامعه ) ..
الملاحظة الثانية التي يجب أخذها في الاعتبار، أن هذه القيادات كانت بمستوى متقدم اجتماعيا، بمعنى أنها انحدرت من الطبقة التجارية أو جاءت من جهاز الدولة التركي السابق، بحكم عملها في السلك الكتابي والقضاء . الخ، مما يشير إلى أنها كانت ذات أفق واسع ولها نظرات وتقديرات تختلف عن تقدير الخليفة أو مجموعته الأخرى في القيادة ، ونفصل ذلك بالأمثله التالية :
أ – قيادات انحدرت من الطبقة التجارية مثل : كرم الله محمد كركساوى، ومحمد عثمان وابوقرجه، وإبراهيم عدلان.
ب – قيادات جاءت من السلك الوظيفي السابق : أحمد على،حسين الزهراء ، محمد خالد زقل ( عمل موظفا بعد أن كان تاجرا أول الأمر) ، وأحمد سليمان، كما نأخذ في الاعتبار أن أحمد سليمان كانت له خبرة بالحسابات والشؤون المالية عندما استلم أمانة بيت المال، كما نلاحظ أن أمانة بيت المال كان يتعاقب عليها أشخاص كلهم من فئة التجار أو من الموظفين، وبعد احمد سليمان جاء إبراهيم عدلان الذي كان تاجرا في التركية، وقام بمهام مالية في عهد المهدي قبل استلام أمانة بيت المال، إذ نظم بيت مال القضارف وأشرف على غنائم منطقتي (دوكة) و(القلابات) ، كما عمل لفترة أمينا لبيت مال (القضارف) ، وعندما تولى أمانة بيت المال قدم اقتراحات أسهمت في توسيع بيت المال وتفرعت منه إدارات متخصصة، كما ارتبط اسمه بفتح التجارة مع مصر وإصدار عملة في عهد الخليفة، وأعاد توظيف الأتراك والمصريين ( أولاد الريف ) في وظائف الحسابات ومسك الدفاتر في دقة العمل الحسابي ( قدال : 179 ) .
ج – قيادات عسكرية بارزة مثل ابوقرجة وزقل وكركساوى والزاكى طمل ..
وخلاصة الأمر، يمكن القول انه بإبعاد هذه القيادات فقدت الثورة المهدية قيادات ذات تجربة وخبرة واسعة، مما كان له الأثر في إضعاف الثورة المهدية وسقوط النظام، فالسقوط بالأثر الخارجي يأتي دائما مكملا للضعف والتفكك الداخلي للنظام. وفي ظل نظام شمولي ديني - إذا جاز التعبير – مثل نظام المهدية لايعرف المعارضة والآراء المخالفة للخليفة، وفي ظل الحروبات الداخلية والخارجية، وفي ظل الصراع والتنافس على السلطة والمراكز تكون الاتهامات هي وسيلة الإبعاد أو السجن أو الإعدام خاصة عندما تغيب التحقيقات الدقيقة في تلك الاتهامات، ولسنا هنا بصدد إثبات أو نفى تلك الاتهامات، ولكن نشير إلى أنها في إطار الصراع الداخلي والتنافس على السلطة، فنجد أن احمد سليمان أُتهم بالاختلاس بعد انحيازه للأشراف في صراعهم ضد الخليفة، وتم اتهام إبراهيم عدلان بالفساد واستغلال منصبه، ونلحظ أن هذه الاتهامات برزت بعد أن حدث بينه وبين الخليفة وشقيقه يعقوب خلاف في الآراء، فقد عارض هجرة التعايشه إلى أم درمان كما عارض فتح "شونة" للغلال في دنقلا، كما اتهم بالفشل في إدارة مهمة أرسل لها في الجزيرة لجمع الذرة إبان المجاعة، وكان سبب فشله أنه لم يستعمل العنف رفقا بأهله الكواهله، كما اتهم بوجود صلات بينه وبين الحكومة المصرية، ويقال أنه عند تفتيش منزله وجدت بحوزته أوراق تثبت تلك التهمة، وأدعى هو أنه تقدم باستقالته من منصبه الذي خلق له مشاكل مع قبيلته، وفي ذلك يقول قدال ( ويبدو أن سقوط ودعدلان ليس سببه الخلافات الشخصية وحدها ولا فشله الادارى إذ كان شخصا مقتدرا، بل لعل سقوطه كان أيضا نتيجة لأخطاء إدارية ومالية وتنظيمية بجانب أسباب أخرى، فكان لابد من تحميل المسئولية لشخص مسئول، فوقع الفأس على رأس أمين بيت المال ( قدال : 179 – 180 ) . وكانت نهاية إبراهيم عدلان هي الاعتقال والإعدام شنقا، ومثال آخر الزاكى طمل الذي وشي به الوشاة فقُبض عليه ومات جوعا وعطشا في سنة 1892 م . كما أُعدم المنا إسماعيل وعجيل الجنقاوى لأنهما عارضا أو اختلفا مع المهدي والخليفة في الرأي، أما احمد على قاضي الإسلام فقد سُجن ومات في السجن بعد أن حقد الخليفة عليه اثر وشاية من يعقوب، وتم اتهام محمد عثمان ابوقرجة بالاتصال مع الايطاليين ونُفى إلى الرجاف، كما سُجن محمد شريف بعد اختلافه مع الخليفة عبد الله التعايشي بعد وفاة المهدي، وبعد صراع الأشراف مع الخليفة وقتل معظم أعوانه الكبار، وهكذا كانت الاتهامات هي وسيلة الإبعاد أو السجن أو الإعدام.
وأخيرا، إذا كانت هذه القيادات فاشلة أو مرتشية أو عميله للمصريين أو الايطاليين ، فكيف كان انتصار الثورة المهدية العظيم في سنواتها الأولى وعلى رأسها تلك القيادات العسكرية والمدنية التي أبلت بلاءً حسنا وكان لها وزنها وثقلها في الثورة المهدية ؟؟؟!!! .
نلاحظ من القيادات الأساسية إلتى اعتمد عليها الخليفة في تصفية المعارضين له حمدان ابوعنجه، والذي كان قائدا للمهدية وارتبط اسمه بقيادة فرقة الأسلحة النارية، وكان على دراية باستخدام الأسلحة النارية وتولى قيادتها، لعب دورا كبيرا في حصار وسقوط الأبيض، و لعب دورا في القضاء على حملة هكس وقواته، كما اشترك في حرب الداير، وتولى القيادة المباشرة في معركة أمدرمان، كما أسهم في القضاء على تمرد قبائل جبال النوبا على المهدية، و تولى قيادة الجبهة الشرقية في القلابات وغزا الحبشة في سنة 1887 م ودخل مدينة غندار وغنمها ..
ما يهمنا هنا هو أنه ( حمدان ) قابل محمد خالد زقل في بارا بناءً على أمر الخليفة وصفى قيادته وأرسله مسجونا إلى الخليفة، وقد يتصور البعض أن الخليفة اعتمد على حمدان لأنه من البقارة أو التعايشه، ولكن هذا التصور يهتز ويضعف، إذا علمنا أن الخليفة اعتمد على المدثر إبراهيم الحجاز كاتب المهدي وأمين سر الخليفة الذي أصله جعلي، أرسله الخليفة في مهمة سرية إلى حمدان أثناء صراع الأشراف الأول مع الخليفة ، فاشترك معه في تصفية قوة محمد خالد زقل في بارا وإرساله إلى أمدرمان، وبعض المؤرخين مثل شقير يرون أن حمدان كانت له ضغائن قديمة مع محمد خالد زقل عندما كان مديرا لشكا في دارفور في عام 1879 م، كما أن حمدان كانت له مشاكل أو ضغائن قديمة مع مادبو زعيم الرزيقات الذي أرسله الخليفة بعد اعتقاله لحمدان الذي أعدمه، ولكن ما يهمنا هنا، أن الصراع كان من أجل السلطة وتأمين مركز الخليفة فيها.
يبرز أيضا في الصراع إلى جانب الخليفة الأمير يعقوب بن محمد اخو الخليفة عبد الله وأمير الراية الزرقاء وساعد الخليفة الأيمن الذي اشترك في معظم الوقائع الكبيرة في كردفان وتولى قيادة الهجوم على أمدرمان ، وبعد وفاة المهدي تولى القيادة العامة للجيش، بالإضافة إلى قيادة الراية الزرقاء ( قيادة الأسلحة النارية الضاربة )، لعب يعقوب دورا خطيرا في حوادث التصفيات الداخلية ويعزى د . ابوسليم ذلك إلى أنه ( كان شخصا متوجسا )( الحركة الفكرية : 36 – 38 ) .
و هذا لايكفى في تفسير ذلك، لكن طابع الصراع وتأمين موقع الخليفة في السلطة هو الذي أدى إلى ذلك ، وإذا كان الخليفة وأخيه يعقوب قابضين على المفاتيح الرئيسية في السلطة : الجيش والراية الزرقاء. الخ، فمن الطبيعي أن يكون لهما الغلبة في ذلك الصراع، هذا إضافة إلى ذكاء وحذر الخليفة الذي شهد بهما الأعداء قبل الأصدقاء، كما أن الأمير يعقوب وُصف بالمقدرة الفائقة الكفاءة، إضافة لسند وشرعية الخليفة من خطابات ومنشورات المهدي، كل ذلك قوى مركز الخليفة، وتمكن من تصفية المعارضين والمخالفين له في الرأي : إما جسديا أو بالإبعاد أو بالسجن ..
لكن حسب قوانين الصراع الداخلي والتنافس على السلطة، فانه لايتوقف عند نقطة معينة، بل يستمر، وبالفعل استمر الصراع الداخلي حتى بعد أن قضى الخليفة على كل المعارضين له، وعلى كل القيادات الأساسية في الثورة المهدية من القبائل النيلية وغير النيلية، لكن الصراع استمر ودخل بيت الخليفة نفسه، فنسمع عن الصراع بين الأمير يعقوب شقيق الخليفة وعثمان شيخ الدين الإبن البكر للخليفة عبد الله وقائد الملازمين في السنوات الأخيرة للمهدية. ( ابوسليم : 36 – 37 ) . ويقال أن الخليفة عبد الله كان يمهد لكي يحل ابنه عثمان.
نلاحظ أنه لم يبق من القيادات القديمة التي عينها المهدي حتى النهاية مع الخليفة سوى عثمان دقنة وعلى ودحلو خليفة الراية الخضراء والمدثر الحجاز، كما نلاحظ أن ابن المك آدم عمر، اى عمر آدم عمر قد احتل مكانا مرموقا في عهد الخليفة عبد الله ، تم هذا في الوقت الذي كان فيه الخليفة عبد الله بواسطة حمدان ابوعنجة يقمع في انتفاضة قبائل النوبا ضد الدولة المهدية والذين أطلق عليهم الخوارج، مما يشير هنا إلى رابطة المصلحة والاستفادة من النظام والوزن القليل للطابع القبلي للصراع . أي أن المهدية ضمت مؤيدين لهم مصلحة في النظام ومعارضين لها من قبائل جبال النوبا ..
من القيادات التي ماتت في المعارك أو بشكل طبيعي عبد الرحمن النجومي الذي استشهد في واقعة توشكي في أغسطس 1889 م، ويبدو أن عبد الرحمن النجومي كانت له صراعات مع الخليفة كما يظهر أثناء قيامه بقيادة قوات دنقلا ، إذ أن القيادة لم تكن مريحة نسبة إلى أن سياسة الخليفة تجاه أبناء النيل، ونسبة إلى الصراعات التي خاضها مع مساعد قيدوم ثم يونس الدكيم . وعبد الله النور الذي كان من القيادات العسكرية البارزة في المهدية الذي استشهد قرب بوابة برى في أواخر أيام حصار الخرطوم 1885 م ومحمد الخير عبد الله أستاذ المهدي وأمير أمرائه ، الذي ظل عاملا على بربر حتى وفاته في سنة 1888 م وأحمد ود محمد جبارة الذي استشهد في واقعة الأبيض في سبتمبر 1882 م وحمدان ابوعنجه الذي توفي في سنة 1888 م .
والخلاصة لم يبق مع الخليفة من القيادات القديمة غير عثمان دقنه الخليفة وعلى ودحلو، وكما يقولون إن الثورة مثل "الهرة تأكل بنيها"، وإذا جاز التعبير حدثت (ثورة مضادة) نتج عنها تركيب قيادي جديد للمهدية في عهد الخليفة يتكون من الموالين للخليفة أو أهل الثقة عند الخليفة سواء كانوا من التعايشه أو غيرهم، وأصبحت السلطة الفعلية في يد الخليفة وشقيقه يعقوب قائد الجيش وهى سلطة دينية ودنيوية في وقت واحد وبتركيب وصورة قيادية جديدة تختلف عما كان عليه الحال أيام المهدي .
بعض المؤرخين وصفوا هذا الصراع، بأنه صراع بين أهل الغرب وأهل البحر (النيل) ، وعلى سبيل المثال يقول د . ابوسليم ( إن العلاقات غير الودية بين أهل الغرب وأهل البحر قد دخلت طورا جديدا بعد أن ارتقى الخليفة عبد الله ، وقد زادت حدتها اثر نزاع الأشراف وإحلال البقارة في المناصب الكبيرة التي يحتلها أولاد البلد في عهد المهدي، وقد تمكن الخليفة عبد الله من المضي في هذه السياسة إلى حد أنه تخلص منهم جميعا ما عدا واحد في بحر سنة . ولما كان الخليفة عبد الله يريد أن يطمئن إلى عصبية حقيقية يواجه بها عصبية الأشراف وأهل البحر، فانه بدأ بغرض هجرات جماعية على أهله البقارة، ومن الإنصاف أن نقول أن فكرة الهجرات الجماعية ترجع إلى عهد المهدي، ولكن الخليفة استغل ذلك لأغراض سياسية واضحة ( ابوسليم : 36 ) . وفي فقرة أخرى يقول ابوسليم ( لقد ابدي البقارة معارضة شديدة لهذه الهجرة ، ولكنهم دفعوا إليها بالقوة ) يواصل ويقول ( إن مجئ البقارة قد جعل الخليفة يطمئن إلى عصبيتهم إلى الحد الذي جعله يحاول إرضاء أهل البحر بإعطائهم بعض المناصب بعد هزيمة النجومي ( ص : 36 ) .
وهناك بحث محمد سيد داؤد عن الصراع بين أولاد البلد وأولاد الغرب ( 1885 – 1898 ) ( رسالة ماجستير – جامعة الخرطوم 1971 م ) .
وبدون التقليل من أهمية الصراع ألاثني بين أولاد البحر وأولاد الغرب في فترة الخليفة، إلا أنه يعطى تفسيرا ظاهريا للصراع، ولكنه لايعطى البعد الحقيقي للصراع، والذي إلى جانب الصراع القبلي، كان صراعا طبقيا وصراعا من أجل الحراك الاجتماعي أو الصعود إلى مراكز السلطة والنفوذ، فالخليفة عبد الله سجن الزاكى طمل حتى مات عطشا في السجن رغم أنه تعايشي، أي أن تفسير الصراع بين أولاد الغرب والبحر لايسعفنا في هذه الحالة المحددة، كما أن الخليفة عبد الله قتل زعيم الزريقات ( مادبو ) وهو من أبناء الغرب عندما عارض سياسة الخليفة، كما أنه قمع البقارة ( بما فيهم التعايشة ) بوحشية عندما عارضوا الهجرة إلى أم درمان ودفعهم إليها بالقوة ..
في غرب السودان كانت هناك حركة معارضة أو حركات انفصالية ضد الخليفة مثل ثورة السلطان يوسف إبراهيم التي قمعها الخليفة وقُتل يوسف إبراهيم في يناير 1888 م، وهناك حركة أبي جميزة ضد الخليفة التي فشلت، وبنظرة سريعة إلى القبائل وزعماء القبائل الذين قتلهم الخليفة عبد الله في ثورة القبائل نرى أنها شملت : الشكرية ، الحمدة ، الضباينه ، بنو حسان ، العقليين ، العلاطيين ،البطاحين ،الكبابيش ، الشلك، الجعليين ، قبائل جبال النوبا، والدناقلة ، والبقارة ( الرزيقات ، التعايشه ، المعاليا ، الهبانيه ، بنو هلبه ) . اى أنه شملت قبائل أولاد البحر وأولاد الغرب ، وهنا أيضا لايسعفنا تفسير الصراع بين أولاد الغرب وأولاد البحر .
حتى داخل القبائل نفسها، فمنها من عارض الخليفة، ومنها من أيّد الخليفة حسب المصالح والمواقع الطبقية، بل وحتى داخل عصبية أو قبيلة الخليفة عبد الله نفسها ( التعايشه ) كان هناك صراع من أجل مراكز النفوذ والسلطة، وفي هذا يقول د . ابوسليم ( وفي سنة 1893 م بدأ الخليفة تقوية الملازمين وجعل قيادتهم لابنه شيخ الدين، وكان الغرض من ذلك هو تكوين قوة تابعة له شخصيا يستطيع بها أن يحافظ على التوازن بين القوى المختلفة وتأكيد عليته عليها، ولما حل عام 1895 م، كانت قوة الملازمين قد بلغت تسعة ألفا، ، إن مرحلة ما بعد 1891 م قد شاهدت تركيزا في السلطة ، كما صارت السمة الظاهرة هي التصفيات الداخلية بدل صراع القوى القبلية أو المجموعات كالأشراف وأولاد البلد ، وفي أواخر عصر الخليفة نجم تنافس خطير بين أخيه يعقوب وابنه عثمان، وقد قيل أن الخليفة كان يهيئ ابنه ليكون بعده في الأمر ( ابوسليم : الحركة الفكرية ، ص 37 ) . اى أن الصراع كما يقولون – دخل حوش الخليفة نفسه – بين شقيقه يعقوب وابنه عثمان.
إن مفهوم الصراع على السلطة هو مفهوم اشمل من مفهوم الصراع بين أولاد العرب وأولاد البحر ، بمعنى أنه كان صراعا من أجل مراكز النفوذ والسلطة، وبالطبع يدخل في هذا الصراع الجانب القبلي – أولاد البحر وأولاد الغرب – ويدخل فيه الصراع الطبقي والاجتماعي، ويدخل فيه الصراع الديني ..
ولكن الخليفة عندما يشعر بأن هناك خطرا على سلطته ونفوذه ، كان يقمع ذلك الخطر أيا كان مصدره ، سواء كان من أولاد البحر أو أولاد الغرب.
رابعا : المعارضة الخارجية: :
كانت المعارضة الخارجية من شقين :
الأول : كانت تنبع من عقيدة وايديولوجية المهدية نفسها على المستوى النظري كما ورد في الفتوحات المكية لإبن عربي والتي جاء فيها ما يلى عن المهدى المنتظر ( يفعل ما يقول ويقول ما يعلم ويعلم ما يشهد ويفتح الرومية بالتكبير في سبعين الفا من المسلمين ، من ولد يشهد الملحمة العظمي مأدبة الله بمرج عكا ( ابن عربي : الفتوحات المكية ، ص 429 – 430 ) .
وفي فقرة ثانية عن أنصار المهدي يرد أنهم : ( يفتحون مدينة الروم فيكبرون التكبيرة الأولى فيسقط ثلثا سورها ويكبرون التكبيرة الثانية فيسقط الثلث الثالث فيفتحونها من غير سيف ) .
كما يرد في فقرة أخرى ( إن المهدي والسيف إخوان ) ( نفسه: 432 – 433 ). إذن الجهاد كان دعامة من أهم دعامات المهدية الأساسية، وقد قدم المهدي الجهاد على إحدى شعائر الإسلام الخمسة وهو الحج ( ابوسليم : 35 ) .
أي أنه حتى لو ترك العالم الخارجي الثورة المهدية وشأنها ولم ينشغل بها، فان الدعوة المهدية سوف لن تتركه، لأن المهدي يجب أن يشهد الملحمة العظمى، وقد أعلن الخليفة عبد الله والخليفتان الحلو وشريف عن عزمهم على مواصلة الجهاد وفتح الأمصار وتحقيق الملحمة العظمى عشية وفاة المهدي، ومن هنا، فان المضي قدما في سياسة الجهاد وإلحاحه عليه كان متفقا عليه، بل كان من الشروط المفروضة على الخليفة بحكم منصبه ( نفسه : 35 ) .
الشق الثاني : إن الثورة المهدية قامت في الربع الأخير من القرن التاسع عشر في وقت تحولت فيه الرأسمالية إلى مرحلة الاستعمار أو الامبريالية، والتي تعنى تصدير نمط الإنتاج الرأسمالي لبلدان المستعمرات، والصراع من أجل أسواق جديدة لمنتجاتها ، ومصادر رخيصة للمواد الخام اللازمة لصناعات الدول الرأسمالية، وفي وقت ازداد فيه التنافس بين الدول الاستعمارية ( انجلترا ، ايطاليا ، البرتغال ، بلجيكا ، هولندا .) على اقتسام بلدان المستعمرات.
منذ عام 1882 م ، نسمع عن احتلال انجلترا لمصر بعد فشل الثورة العرابية، وبعد إغراقها في ديون كبيرة، وبالتالي ، فان حروبات المهدية مع مصر أصبحت عمليا مع انجلترا، وانجلترا نفسها ما كانت تطيق قيام دولة مستقلة مثل دولة المهدية، لأنها كانت تبحث عن مستعمرات جديدة لزراعة القطن الخام، وخاصة بعد أن تعثر إمدادها من أمريكا نتيجة للحرب الأهلية في النصف الأول من ثمانينيات القرن التاسع عشر وتوقف مصدرها المضمون من خام القطن اللازم لمصانع الغزل والنسيج في لانكشير ، وبالتالي كانت انجلترا تفكر في إقامة مزارع كبيرة للقطن في كل من مصر والسودان ويوغندا لضمان استمرارية تدفق خام القطن إليها .
وبالتالي ، فان دولة المهدية وجدت نفسها في قلب الصراع والتنافس الدولي: انجلترا من الشمال، وايطاليا من الشرق،وفرنسا من الجنوب والجنوب الغربي، وتلك الدول كان لها مصلحة في خنق الدولة المستقلة الوليدة بأسرع ما يمكن حتى لاتتكرر أمثالها في مستعمرات أخرى، هذا إضافة للتقدم العلمي والتقني الذي أنجزته الرأسمالية في آخر القرن التاسع عشر الذي نتج عنه صناعة أسلحة متقدمة مثل الرشاشات التي كانت عاملا حاسما في هزيمة الأنصار..
وعندما حسم الخليفة كل الصراعات الداخلية بالقمع، كانت المخاطر من الخارج تتفاقم وتزداد ..
- ففي سنة 1889 م ، تمكن الجيش المصري من وقف غزو النجومى لمصر.
- وفي فبراير 1891 طُرد الأنصار من طوكر اثر هزيمة افافيت.
- وفي سنة 1893 م هزم الايطاليون الأنصار في واقعة اغردات ثم احتلوا كسلا في يوليو سنة 1894 م.
- في الوقت نفسه شهد الجنوب قوات انجليزية وبلجيكية وفرنسية تزحف إليه.
- في مارس سنة 1896 بدأ الجيش المصري يتحرك نحو عكاشة تأييدا للايطاليين الذين اندحروا في واقعة عدوا في الحبشة والذين كان يخشى عليهم إذا ما القي الخليفة بثقله ضدهم، واستمر غزو المصريين جنوبا فسقطت فركة في 7 / يونيو / 1896 م وتلتها دنقلا ثم هُزمت القوة الرئيسية التي أرسلت لصد الغزو بقيادة محمود ود احمد في أتبرا في 8 / ابريل / 1898 م.
وأخيرا دخلت قوات كتشنر قرب امدرمان، وانهزم جيش الخليفة في واقعة كرري الشهيرة في 2 / 9 / 1898 م التي على أثرها سقطت العاصمة امدرمان . واستمرت قوات الخليفة تقاوم حتى لقي مصرعه في واقعة امدبيكرات في 24 / 11 / 1899 م.
هكذا زالت دولة المهدية التي رفعت رآية الاستقلال والسيادة الوطنية في السودان لمدة 13 عاما، وفي محيط استعماري متلاطم في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر.