جميع الأصوات متساوية، ولكن بعض الأصوات أكثر مساواة من غيرها
حسام عثمان محجوب
12 May, 2024
12 May, 2024
حسام عثمان محجوب
12 مايو 2024
روجت الولايات المتحدة طوال عقود صورة زاهية لنظام ديمقراطي ليبرالي، يتيح لكل أفراد الشعب الأمريكي اختيار ممثليهم من مستويات إدارات الأحياء والمدارس وحتى المستويين الولائي والفيدرالي، ويعطيهم الفرصة والحرية لتحقيق النجاح والحصول على حياة مريحة بحسب "الحلم الأمريكي" أحد الأساطير المؤسسة للتجربة الأمريكية "الاستثنائية". ولكن خلف المساحيق تكمن رواية أخرى مختلفة لتاريخ أمريكا الحديث وحاضرها.
معظم "الآباء المؤسسين" للولايات المتحدة الأمريكية كانوا رجالاً بيضاً أثرياءً مسيحيين وملاكاً للعبيد. والنظام السياسي الأمريكي الذي وضعوا لبناته في القرن الثامن عشر وتطور بنضالات وتضحيات عظيمة كان في صميمه نظام حكم أقلية، وما يزال.
النظام الانتخابي
النظام الانتخابي الأمريكي هو نتيجة مساومات كبرى أملتها قدرات ورغبات ومصالح ومخاوف الولايات المكونة لاتحاد الجمهورية الوليدة وممثليها، وبعض أهم أسسه لا يمكن تبريرها اليوم.
فالرئيس لا يتم انتخابه مباشرة من المواطنين بنظام أغلبية الأصوات، بل بالكلية الانتخابية التي من المفترض أن تحمي الولايات الأقل سكاناً من تغول الولايات الأكبر. حين وضع هذا النظام لم يكن حق التصويت متاحاً للعبيد والسود والنساء ومن لا يملكون أراضٍ، وكان العبد يحسب كثلاثة أخماس الشخص الحر.
ولكل ولاية ممثلان اثنان في مجلس الشيوخ. يتساوى في ذلك أكبر الولايات (كاليفورنيا بسكانها الـ 39 ملايين) مع أصغرها (وايومنغ بسكانها الـ 600 ألف).
وللولايات سلطات واسعة في الحد من حقوق بعض فئات سكانها في التصويت بوسائل مختلفة، مثل رسم حدود الدوائر الانتخابية، واشتراط وثائق معينة للتصويت، وتضييق فترات التصويت وأماكنه، وتقييد التصويت عن طريق البريد، وحرمان بعض المساجين من حق التصويت.
ولهذا تكرر وصول أشخاص لا يعبرون عن آراء غالبية الشعب الأمريكي أو الناخبين لرئاسة الولايات المتحدة أو لمجلسي الشيوخ والنواب. ومن أمثلة ذلك تولي جورج بوش الابن ودونالد ترمب الرئاسة دون حصولهما على أغلبية الأصوات.
سيتيزينس يونايتد "Citizens United"
قررت المحكمة العليا في 2010 أن من حق الشركات (والجماعات عموماً) دعم المرشحين وحملاتهم الانتخابية مالياً، واعتبار دفع هذه الأموال من أشكال التعبير المحمية بالتعديل الدستوري الأول. أطلق هذا القرار الذي عرف بسيتيزينس يونايتد العنان لتدفق مليارات الدولارات من قلة فاحشة الثراء من الأمريكيين للتدخل المباشر في السباقات الانتخابية المحلية والمركزية، ترغيباً وترهيباً بدعم مرشحين، وإسقاط آخرين، وتمرير مواقف ورؤى معينة وخنق أخرى، وصار من الصعب تتبع أًصحاب هذه "الأموال المظلمة".
أعطى القرار جماعات الضغط (اللوبيات) وجماعات المصالح الخاصة أسلحة إضافية في سعيها المحموم للتأثير على مواقف وسياسات الحكومة. واللوبيات تلعب أدواراً مفصلية مخيفة في الحياة العامة الأمريكية، وتربط رجال المال والأعمال بالسياسيين والموظفين العامين ربطاً وثيقاً، لتحقيق مصالح هذه الجماعات، حتى وإن كان ذلك على حساب غالبية الشعب الأمريكي، أو أي من شعوب العالم الأخرى.
والقوانين الأمريكية تسمح بقيام اللوبيات باعتبارها شكلاً من أشكال حرية التعبير. وتنشط في هذا المجال لوبيات تابعة لشركات السلاح والبترول والأدوية والبنوك والتكنولوجيا والصحة، كما تنشط لوبيات لقضايا محددة مثل اللوبي الداعم لإسرائيل. وهناك عشرات آلاف من العاملين المسجلين رسمياً ينشطون في خدمة مصالح هذه اللوبيات بمختلف الوسائل التي تقترب من الرشاوي والفساد مع المسؤولين الحكوميين والموظفين والمشرعين. ومما يعزز أثر هذه اللوبيات تقبل سلوك "الباب الدوار" الذي بموجبه يتنقل الموظفون والمسؤولون الحكوميون وأعضاء الكونغرس بين مواقعهم الرسمية وشركات القطاع الخاص واللوبيات، مما يزيد من حوافز حرصهم على تحقيق مصالح الشركات واللوبيات لتأمين مستقبلهم بعد تركهم مواقعهم.
وهذه اللوبيات تفسر جزئياً بعض التوجهات السياسية الكبرى لأمريكا، من إشعال حروب، وإضرار بالبيئة، ونظام صحي غير عادل ومكلف وغير كفء، وأنظمة مالية تعمق العنصرية وعدم العدالة، واحتكار الأسواق للشركات العملاقة.
المحكمة العليا
رغم سمو مبدأ الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية فإنه يقدح فيه الاعتبارات السياسية التي تدخل في تعيين القضاة. فتولي القضاة في الولايات يتم إما عبر الانتخاب أو التعيين، وفي بعض الولايات يترشحون على أسس انتماءاتهم الحزبية. وعلى المستوى الاتحادي الفيدرالي يختار الرئيس الأمريكي القضاة ويجيز مجلس الشيوخ تعيينهم، وانتماءات القضاة المرشحين السياسية وآراؤهم تلعب دوراً حاسماً في كلتي العمليتين.
والقضاة في المحاكم الاتحادية بما فيها أعلى محكمة في البلاد، المحكمة العليا التي لها الكلمة الأخيرة في تفسير الدستور، يتولون مناصبهم مدى الحياة إلا إذا قرروا التقاعد طواعية أو تم عزلهم عبر عملية معقدة نادرة الحدوث في مجلسي النواب والشيوخ. ولذلك فقد كان أمراً بالغ الخطورة والأثر على مستقبل الولايات المتحدة لعقود قادمة قيام ترمب بتعيين 3 قضاة للمحكمة العليا مكان 3 شغروا أثناء حكمه، مما أدى لتغيير ميزان القوى في المحكمة لصالح اليمين المحافظ الجمهوري. وقضاة المحكمة العليا هم الخصم والحكم على أنفسهم وسلوكياتهم، إذ لا توجد وسائل عملية لمراقبتهم أو معاقبتهم أو عزلهم مهما ارتكبوا من أفعال تمس حيدتهم ومهنيتهم، حتى اتهامات الفساد وتلقي الرشاوي وتضارب المصالح.
غزة
كشفت حرب الإبادة الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني في غزة منذ أكتوبر الماضي عن مظاهر كبرى لتهرؤ الديمقراطية الأمريكية. منها التغطية المنحازة وغير المهنية لوسائل الإعلام الرئيسية على امتداد الطيف السياسي، وقمع الأصوات المخالفة في كل مساحات المجال العام حتى الكونجرس، وقمع احتجاجات الجامعات بعنف "عالم ثالثي"، ومخالفة القوانين الأمريكية التي تمنع تقديم الدعم لدولة تمنع وصول مساعدات أمريكية وتخالف القانون الإنساني الدولي، والنفاق البائن في مفارقة سلوك الحكومة الأمريكية تجاه روسيا في غزوها لأوكرانيا لسلوكها مع إسرائيل.
يمكن تفسير دعم أمريكا ومشاركتها في الجرائم الإٍسرائيلية بنفوذ اللوبي الإسرائيلي وتحالف "نهاية العالم" بينه وبين اليمين المسيحي الصهيوني (الذي يعتقد باشتراط قيام دولة إسرائيل ليعود المسيح قبل نهاية العالم وللسخرية يقوم بتنصير اليهود ويقضي على من تبقى منهم)، وتقاطعاتهما مع لوبيات صناعة السلاح والمال والإعلام والتكنولوجيا.
ويبدو الرفض الجماهيري الأمريكي المتصاعد والاحتجاجات التي يقودها شباب وطلبة جامعات ويهود غير صهاينة ومسلمون وأمريكان سود ولاتينيون وغيرهم، شاهداً آخر على انفراد أقلية بحكم البلاد وعدم انصياعهم لآراء ناخبيهم وتدعو لوجوب مقاربة النموذج الأمريكي للديمقراطية بكثير من الشك والتعمق.
husamom@yahoo.com
12 مايو 2024
روجت الولايات المتحدة طوال عقود صورة زاهية لنظام ديمقراطي ليبرالي، يتيح لكل أفراد الشعب الأمريكي اختيار ممثليهم من مستويات إدارات الأحياء والمدارس وحتى المستويين الولائي والفيدرالي، ويعطيهم الفرصة والحرية لتحقيق النجاح والحصول على حياة مريحة بحسب "الحلم الأمريكي" أحد الأساطير المؤسسة للتجربة الأمريكية "الاستثنائية". ولكن خلف المساحيق تكمن رواية أخرى مختلفة لتاريخ أمريكا الحديث وحاضرها.
معظم "الآباء المؤسسين" للولايات المتحدة الأمريكية كانوا رجالاً بيضاً أثرياءً مسيحيين وملاكاً للعبيد. والنظام السياسي الأمريكي الذي وضعوا لبناته في القرن الثامن عشر وتطور بنضالات وتضحيات عظيمة كان في صميمه نظام حكم أقلية، وما يزال.
النظام الانتخابي
النظام الانتخابي الأمريكي هو نتيجة مساومات كبرى أملتها قدرات ورغبات ومصالح ومخاوف الولايات المكونة لاتحاد الجمهورية الوليدة وممثليها، وبعض أهم أسسه لا يمكن تبريرها اليوم.
فالرئيس لا يتم انتخابه مباشرة من المواطنين بنظام أغلبية الأصوات، بل بالكلية الانتخابية التي من المفترض أن تحمي الولايات الأقل سكاناً من تغول الولايات الأكبر. حين وضع هذا النظام لم يكن حق التصويت متاحاً للعبيد والسود والنساء ومن لا يملكون أراضٍ، وكان العبد يحسب كثلاثة أخماس الشخص الحر.
ولكل ولاية ممثلان اثنان في مجلس الشيوخ. يتساوى في ذلك أكبر الولايات (كاليفورنيا بسكانها الـ 39 ملايين) مع أصغرها (وايومنغ بسكانها الـ 600 ألف).
وللولايات سلطات واسعة في الحد من حقوق بعض فئات سكانها في التصويت بوسائل مختلفة، مثل رسم حدود الدوائر الانتخابية، واشتراط وثائق معينة للتصويت، وتضييق فترات التصويت وأماكنه، وتقييد التصويت عن طريق البريد، وحرمان بعض المساجين من حق التصويت.
ولهذا تكرر وصول أشخاص لا يعبرون عن آراء غالبية الشعب الأمريكي أو الناخبين لرئاسة الولايات المتحدة أو لمجلسي الشيوخ والنواب. ومن أمثلة ذلك تولي جورج بوش الابن ودونالد ترمب الرئاسة دون حصولهما على أغلبية الأصوات.
سيتيزينس يونايتد "Citizens United"
قررت المحكمة العليا في 2010 أن من حق الشركات (والجماعات عموماً) دعم المرشحين وحملاتهم الانتخابية مالياً، واعتبار دفع هذه الأموال من أشكال التعبير المحمية بالتعديل الدستوري الأول. أطلق هذا القرار الذي عرف بسيتيزينس يونايتد العنان لتدفق مليارات الدولارات من قلة فاحشة الثراء من الأمريكيين للتدخل المباشر في السباقات الانتخابية المحلية والمركزية، ترغيباً وترهيباً بدعم مرشحين، وإسقاط آخرين، وتمرير مواقف ورؤى معينة وخنق أخرى، وصار من الصعب تتبع أًصحاب هذه "الأموال المظلمة".
أعطى القرار جماعات الضغط (اللوبيات) وجماعات المصالح الخاصة أسلحة إضافية في سعيها المحموم للتأثير على مواقف وسياسات الحكومة. واللوبيات تلعب أدواراً مفصلية مخيفة في الحياة العامة الأمريكية، وتربط رجال المال والأعمال بالسياسيين والموظفين العامين ربطاً وثيقاً، لتحقيق مصالح هذه الجماعات، حتى وإن كان ذلك على حساب غالبية الشعب الأمريكي، أو أي من شعوب العالم الأخرى.
والقوانين الأمريكية تسمح بقيام اللوبيات باعتبارها شكلاً من أشكال حرية التعبير. وتنشط في هذا المجال لوبيات تابعة لشركات السلاح والبترول والأدوية والبنوك والتكنولوجيا والصحة، كما تنشط لوبيات لقضايا محددة مثل اللوبي الداعم لإسرائيل. وهناك عشرات آلاف من العاملين المسجلين رسمياً ينشطون في خدمة مصالح هذه اللوبيات بمختلف الوسائل التي تقترب من الرشاوي والفساد مع المسؤولين الحكوميين والموظفين والمشرعين. ومما يعزز أثر هذه اللوبيات تقبل سلوك "الباب الدوار" الذي بموجبه يتنقل الموظفون والمسؤولون الحكوميون وأعضاء الكونغرس بين مواقعهم الرسمية وشركات القطاع الخاص واللوبيات، مما يزيد من حوافز حرصهم على تحقيق مصالح الشركات واللوبيات لتأمين مستقبلهم بعد تركهم مواقعهم.
وهذه اللوبيات تفسر جزئياً بعض التوجهات السياسية الكبرى لأمريكا، من إشعال حروب، وإضرار بالبيئة، ونظام صحي غير عادل ومكلف وغير كفء، وأنظمة مالية تعمق العنصرية وعدم العدالة، واحتكار الأسواق للشركات العملاقة.
المحكمة العليا
رغم سمو مبدأ الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية فإنه يقدح فيه الاعتبارات السياسية التي تدخل في تعيين القضاة. فتولي القضاة في الولايات يتم إما عبر الانتخاب أو التعيين، وفي بعض الولايات يترشحون على أسس انتماءاتهم الحزبية. وعلى المستوى الاتحادي الفيدرالي يختار الرئيس الأمريكي القضاة ويجيز مجلس الشيوخ تعيينهم، وانتماءات القضاة المرشحين السياسية وآراؤهم تلعب دوراً حاسماً في كلتي العمليتين.
والقضاة في المحاكم الاتحادية بما فيها أعلى محكمة في البلاد، المحكمة العليا التي لها الكلمة الأخيرة في تفسير الدستور، يتولون مناصبهم مدى الحياة إلا إذا قرروا التقاعد طواعية أو تم عزلهم عبر عملية معقدة نادرة الحدوث في مجلسي النواب والشيوخ. ولذلك فقد كان أمراً بالغ الخطورة والأثر على مستقبل الولايات المتحدة لعقود قادمة قيام ترمب بتعيين 3 قضاة للمحكمة العليا مكان 3 شغروا أثناء حكمه، مما أدى لتغيير ميزان القوى في المحكمة لصالح اليمين المحافظ الجمهوري. وقضاة المحكمة العليا هم الخصم والحكم على أنفسهم وسلوكياتهم، إذ لا توجد وسائل عملية لمراقبتهم أو معاقبتهم أو عزلهم مهما ارتكبوا من أفعال تمس حيدتهم ومهنيتهم، حتى اتهامات الفساد وتلقي الرشاوي وتضارب المصالح.
غزة
كشفت حرب الإبادة الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني في غزة منذ أكتوبر الماضي عن مظاهر كبرى لتهرؤ الديمقراطية الأمريكية. منها التغطية المنحازة وغير المهنية لوسائل الإعلام الرئيسية على امتداد الطيف السياسي، وقمع الأصوات المخالفة في كل مساحات المجال العام حتى الكونجرس، وقمع احتجاجات الجامعات بعنف "عالم ثالثي"، ومخالفة القوانين الأمريكية التي تمنع تقديم الدعم لدولة تمنع وصول مساعدات أمريكية وتخالف القانون الإنساني الدولي، والنفاق البائن في مفارقة سلوك الحكومة الأمريكية تجاه روسيا في غزوها لأوكرانيا لسلوكها مع إسرائيل.
يمكن تفسير دعم أمريكا ومشاركتها في الجرائم الإٍسرائيلية بنفوذ اللوبي الإسرائيلي وتحالف "نهاية العالم" بينه وبين اليمين المسيحي الصهيوني (الذي يعتقد باشتراط قيام دولة إسرائيل ليعود المسيح قبل نهاية العالم وللسخرية يقوم بتنصير اليهود ويقضي على من تبقى منهم)، وتقاطعاتهما مع لوبيات صناعة السلاح والمال والإعلام والتكنولوجيا.
ويبدو الرفض الجماهيري الأمريكي المتصاعد والاحتجاجات التي يقودها شباب وطلبة جامعات ويهود غير صهاينة ومسلمون وأمريكان سود ولاتينيون وغيرهم، شاهداً آخر على انفراد أقلية بحكم البلاد وعدم انصياعهم لآراء ناخبيهم وتدعو لوجوب مقاربة النموذج الأمريكي للديمقراطية بكثير من الشك والتعمق.
husamom@yahoo.com