حرب 15 ابريل، تفكير حول الأسباب (1)

 


 

 

لقد ورثنا من الإستعمار دولة عادية حالها حال معظم الدول التي تحررت من الحكم الأجنبي. دولة بإقتصاد رأسمالي و مختلط حيث كانت السكك الحديدية و النقل النهري و مشروع الجزيرة مملوكة للدولة بشكل كامل و كذلك موسسات العلاج و التعليم و الصحة العامة و يمكننا أن نسميها مؤسسات قطاع عام ناجحة و ساترة لحال المواطن السوداني. دعي الحزب الشيوعي منذ نشأته إلي إنتهاج سبيل إقتصادي أسماه طريق التطور اللارأسمالي. كما تبني الحزب الشيوعي في برنامجه الدعوة لإنفاذ التنمية المتوازنة. و لم تكن عند بقية الأحزاب السياسية برامج و تصورات إقتصادية غير ما كان يتم أيام الحكم الأجنبي. سنعود لمناقشة هذه الفكرة لاحقا في المقال.
يتحدث البعض عن إتجاهات ثقافية عربية و و دينية إسلامية تبنتها الدولة التي ورثناها من الحكم الأجنبي. لقد كان هذا متوقعا لأن الدولة التي حطمها الحكم الأجنبي المصري المِتُورِك أي التابع للأمبراطورية العثمانية، دولة الفونج كانت ذات ثقافة عربية و كان حكأمها و طبقتها السائدة ممن يعتقدون في الإسلام و غيره من المعتقدات المسيحية و الأرواحية. الدولة التي حطمها العزو البريطاني المصري كانت الدولة المهدية و هي أيضا دولة مسلمين يكتبون و يتعلمون باللغة العربية. طبيعي جدا أن تسود إتجاهات ثقافية عربية و دينية إسلامية في الدولة التي ورثناها من الحكم الأجنبي. لذلك كان الهلال رمزا للحركة الوطنية في مقابلة صليب بريطانيا العظمي.
ماذا حدث بالضبط ليقود لهذا الخراب الشاذ في المقدار و الطبيعة مما تمّ و سيتم فعلا خلال هذه الحرب الإجرامية الموجهة بشكل كامل من طرفيها المتنازعين حول ريع نهب الموارد الوطنية، بيع تراب الوطن، شواطئه، أجواءه و إنسانه فيما أسميناه في مقالات سابقة بالنخاسة العسكرية التي مارستها الدولة، الحرب الإجرامية الموجهة بشكل كامل ضد الإنسان السوداني غض النظر عن خلفياته الثقافية و الإثنية و الدينية.
هنالك عملية حسابية بسيطة يتغافل الناس عنها لأغراض شتي و هي أن الحكم العسكري ذو الطبيعة الإنقلابية قد أخذ من حياتنا بعد الفكاك من الحكم الأجنبي في أول يناير 1956م 57 سنة من جملة 68 سنة و هي عمر الدولة السودانية بعد إجلاء الحكم الأجنبي. يمكننا ببساطة القول أن السودان الحالي جنوبا و شمالا هو هبة الجيش السوداني للإنسانية. هاتان الدولتان الفاشلتان لقد أدراتهما كوادر تدربت في الجيش السوداني و مجموعات من التكنوقراط عديمي الضمير من خدم الديكتاتوريات العسكرية.
و العملية الحسابية الثانية أن تنظيمات الترابي من أخوان مسلمين و جبهة قومية إسلامية و مؤتمر وطني كانت هذه التنظيمات في الحكم منذ عام 1977م و ليس من عام 1989م عند إنقلاب الطرطور عمر البشير الذي كانت ورائه مجالس شوري تنظيم الأخوان المسلمين بزعامة الترابي. ما يتم في شمال و جنوب السودان منذ عام 1977م تمّ عبر الشراكة العميقة بين الأخوان المسلمين و الجيش. تتبادر للذهن أسئلة عن أيام الديمقراطية من 1986م إلي عام 1989م و علينا أن نتذكر أن صاحب ما يسمي بمشروع السودان الجديد السيد جون قرنق كان في حالة حرب مع تلك السلطة المدنية المنتخبة و دون أن أن يعلم و ربما بعلمه كان يعمل من أجل التجهيز لإنقلاب الجبهة القومية الإسلامية الذي مازلنا نعيش مترتباته المأساوية. كانت هنالك حرب علي تلك الديمقراطية معلنة و مستترة من الجبهة القومية الإسلامية الحركة الشعبية بقيادة قرنق. ليس للحكم المدني و الديمقراطي وجيع و للحكم العسكري دائما مواكب الداعمين المتلمظين لفتات مؤائد قادته.
الحرب الإجرامية الحادثة الآن أحد أفظع تجليات فشل الجيش و إستبداده في إدارة الدولة. كان أن كوّن هذا الجيش ذو الطبيعة الإسلامية مليشيات الجنجويد التي تحورت و تطورت لما صارت له من دعم سريع بالجاهزية الحسم و المسؤول عن أسلمة الجيش هوتنظيم الترابي و معاونه علي عثمان محمد طه. نتيجة لإتساع دائرة الفساد و النهب ضاقت المصالح بين أصدقاء الأمس فقررا الدخول في مواجهة عسكرية لحسم الصراع بينهما و تسديد ضربة عميقة للثورة السودانية العظيمة التي إنطلقت مواكبها في اواخر عام 2018م.
ما نتابعه هذه الأيام من فصول مأساوية لحالة الخراب و الدمار التي لحقت بالمواطن و الوطن هو أحد تجليات أزمة ما يسمي بالجيش السوداني الذي تسبب عبر 68 عاما في بناء دولة فاشلة في الشمال مع رديفة و فاشلة مثلها في الجنوب.

حرب 15 ابريل، تفكير حول الأسباب (2)
التخلف دينامي و يتقهقر إلي الوراء إذا تركناه دون تدخل بمعاول البناء كالإستنارة و الحريات و الحكم المدني القادر علي تطوير ذاته عبر عمليات النقد و النفي و الإثبات في عملية السير في الإتجاه في صحيح. مضاءة الحكم المدني الديمقراطي في إنجاز التقدم لا تحتاج لشواهد فهي مبذولة أمام الإنسانية. المقصود أن التخلف الإقتصادي يقود لمزيد من التخلف الإقتصادي و حالة الرتابة و الفشل الإجتماعي يقودان لمزيد من الفشل الإجتماعي و رتابة تدعو للإكتئاب. السودان مجتمع متقهقر و لكن كيف؟
كان أن أوضحت في لايف بثثته في الفيسبوك حول ما يسمي بدولة 56 التي يتحدث حولها رعاة الإبل من قيادات الجنجويد. و اتضح لي من مجموع الوثائق التي استعنت بها أن الجمعية التشريعية و إنتخاباتها كانت تهدف لتمكين القوي المنتفعة من الوجود الأجنبي من الحكم و خدمة أهداف المملكة المتحدة المتمثلة في إنجاز إقتصاد تابع لهم. أما انتخابات نوفمبر 1953م كانت مهددة بخروج حاميات الجيش في جنوب السودان عن طوع قيادتها في المركزو انطلاق أعمال عنف مدمرة أكثر ما يهمنا فيها هو دور المخابرات البريطانية في صوغ ذلك الواقع محاولة منهم لحسم إتجاهات الوحدة مع مصر ضد التاج البريطاني و كانت هذه أول مرة يستخدم فيها الأجنبي حالة الحمية القبلية و تخلفها في العمل السياسي. في تلك الفترة من عمر الدولة المتخلصة من الحكم الأجنبي كانت القوي المدنية مشغولة بصياغة قانون الجنسية و تسمية المواطن و الدولة و إختيار علم لهذه الدولة و لغة ودين كما كان متعارف عليه في عصبة الأمم. و كانت مشغولة أيضا بضمان ترسيم الحدود و غيرها من قضايا الدستور و التأسيس. في تلك الفترة إنشغلت قيادات الجيش بترسيخ عُري عمالتها لمصر و تبعيتها لدوائر رأس المال الأجنبي فقام الطرطور الأول ابراهيم عبود بإنقلابه. بذلك يكون السهم الأول في تخريب الدولة جاء من إنقلاب ابراهيم عبود و كان الهدف هو رمي الدولة في أحضان التبعية لمصر و دوائر رأس المال الأجنبي.
أثبتت الدراسات ( محمد سعيد القدال و فاطمة بابكر ) أن النشاط الإقتصاد الرأسمالي الطفيلي المعتاش علي جهاز الدولة بدأ فعلا في اول سنوات نظام حكم جعفر النميري طرطور الإنقلاب العسكري الثاني. بذلك يكون إنقلاب مايو الذي إحتاج لصوصه من تكنوقراط و ضباط جيش لغطاء ديني لعمليات نهبهم و إجرامهم وفرّه تنظيم الترابي إلي إنتهينا إلي مهزلة قوانين سبتمبر و ما تبعها من تهديد لوجود الوطن و كرامة مواطنه.
لاأظنني أحتاج لتبيان الأثار المدمرة لإنقلاب الأخوان المسلمين في سنة 1989م لأننا ببساطة لا زلنا نعيش تفاصيله ، لا يخفي عليكم كيف تحول الرأسمال الطفيلي و قواه الإجتماعية إلي حالة من الكليبتوقراطية.. نحن في بحر من التفاهة علي كافة الأصعدة. عندما يتأمل الواحد منا كيف تكالب قوي الشر و التبعية للاجنبي من الكليبتوقراطيين و اعوانهم من تكنقراط راقي و متلمظ، كيف تكالبوا علي ثورة ديسمبر 2018م يفقد حقيقة الأمل في الخروج من هذه الورطة و المصيبة التي صارت علي الوطن و المواطن.
لقد كان بإستمرار عبر تاريخنا السياسي منذ الفكاك من الحكم الأجنبي ملمح غريب و هو إنجرار بعض القوي السياسية خلف قيادات الإنقلابات من الجيش و في تاريخنا أيضا أدلة علي حفز بعض القوي السياسية للعسكر لقيادة إنقلابات و كان أكثر هذه النماذج وضوحا ودمارا هو حالة الجبهة القومية الإسلامية و مجموعة العسكر بقيادة عمر البشير إنقلاب 30 يونيو 1989م.. يعتقد الترابي و أتباعه أن جميع القوي السياسية متورطة في إنقلابات بعضها ناجح و الآخر فاشل يقولون ذلك ليكونوا أكثر قربا من المتعلمين و قد نجحوا في ذلك لدرجة أنه صار من العادي أن يكون هنالك إنقلاب مسنود بقوي سياسية محددة و هم أي الأخوان المسلمون ليسو شذوذا عن القاعدة. و الحقيقة أنهم مشوا في هذه الفكرة إلي نهاياتها الكابوسية إلي إنتهينا إلي ما نحن فيه الآن من خراب.
السبب العميق وراء كوارثنا هو حالة التبعية الإقتصادية، الرأسمالية الطفيلية العادية و المتحورة إلي كليبتوقراطية، إنتشار الأمية كانت في عام 2018 اكثر من ستين في المائة ، إنعدام الوعي السياسي و الجيش. غالبية السكان أميون و فقراء و معدمون و يعيشون في ظروف حرب.
من هذا السرد يتضح أننا بلغنا نهاية مطاف حكم العسكر فببساطة لا مكان للحكم العسكري في مستقبلنا لا بل يجب أصلاح و إعادة بناء الجيش و إنهاء وجود المليشيات بالكامل. لتتم عمليات التنمية المتوازنة و محو الأمية لا بد من حكم ديمقراطي مدني حتي يتم نشر الوعي السياسي و التبشير بفائدة الحكم المدني.


حرب 15 ابريل، تفكير حول الأسباب (3)
آفاق الحل.
من أراد التفكير في الحل عليه النظر لما يتم في الفاشر الآن . الجيش و الحركة مختبئان خلف بنادق عناصر الحركان المسلحة ممن كانوا يتبنون ما يسمي بمشروع السودان الجديد. الجنجويد المتحولون بفضل الحركة الإسلامية و ممثلها البرهان إلي دعم سريع يحاصرون المدينة و ستسقط تحت قبضتهم خلال الأيام القادمة. لننظر اولاً لاحتمال أنتصار القوات المشتركة التي تحولت إلي ذراع للحركة الإسلامية و الجيش بديلا عن ذراعها السابق أو ما يسمي بالدعم السريع.
للتفكير في الحل علينا الإعتراف أولا بالحقائق الماثلة مهما تكن درجة بشاعتها. ما يسمي اليوم بالدعم السريع هو محصلة لما بدأ في السبعينات باسم التحالف العربي، صار ذلك ثم تطور للجنجويد هو في الحقيقة قوي عسكرية تسيطر عليها عائلة من الرزيقات و معهم حلفاء من عرب دارفور و ربما من كردفان و من تشاد و من أفريقيا الوسطي أو أي مكان في الساحل الأفريقي من دول جنوب الصحراء الكبري. القوات المشتركة تتكون من المجموعات غير الناطقة بالعربية من فور و زغاوة و غيرهم و لهؤلاء أيضا إمتدادات في الساحل الأفريقي . معارك دارفور لها أصداء و أعماق خارج الحدود المعروفة للسودان. هذا الأمر غير مهم. المهم هو في حال إنتصار الجيش و الحركات المسلحة فيما تمت تسميته بالقوات المشتركة سيعقب ذلك حرب تطهير عرقي جديدة و إنتقامية ضد المجموعات المسماة بعرب دارفور. في حال إنتصار الجنجويد ستتواصل المذابح و الإنتهاكات التي بدات في صورتها الأكثر بشاعة في 2003م. هذه هي أنواع الحلول المتوفرة الآن توقف للحرب و بداية تطهير عرقي.
في أجزاء السودان الأخري الحال ليس أكثر إختلافا من الحال في دارفور. توقف للحرب مأمول و سيعقبه حكم شمولي جديد يدخل الوطن في ويلات جديدة لا يعرف أحد مدي فداحتها.
بذلك سيسود حال يفرض علي الجميع إستمرار الحرب إلي ما لا نهاية لأن العالم اليوم ليس في مقدوره تكرار نماذج التدخلات الدولية كما تم في العراق و سوريا. طالما هنالك كاسبون و مستفيدون من نهب الموارد ستستمر الحرب. طالما هنالك من دول الجوار الإقليمي و المجتمع الدولي من يوردون السلاح و هنالك دول تشتري موارد السودان ستستمر الحرب.
لذلك سيكون أفق الحل الوحيد و المتاح هو إنتظام القوي المدنية و المهاجر و الملاجيء و ملاذات اللجوء في جبهة سودانية عرضة لوقف الحرب و بناء دولة المستقبل المدنية الديمقراطية و العادلة. دولة يسود فيها السلام و حكم القانون.

طه جعفر الخليفة
كند اونتاريو
21 سبتمبر 2024م


taha.e.taha@gmail.com

 

آراء