أبوغسان والفرق بين ان تحكم ثلاثة ايام وثلاثين عام (3/2)
رائد مهندس محمد احمد ادريس
28 October, 2024
28 October, 2024
بسم الله الرحمن الرحيم
بقلم: رائد مهندس محمد احمد ادريس جبارة
ganaboo@gmail.com
أبوغسان هو العميد ركن عصام الدين ميرغنى طه هو كاتب عسكرى مميز . فى هذه الحلقة نعرض لتنظيم الضباط الاحرار..وكيف ساعد من حيث لا يدرى فى نجاح ثورة الانقاذ(انقلاب الاسلاميين )...كيف اظهر العميد ركن عصام الدين ميرغنى طه فى كتابه (الجيش السودانى والسياسة) التالى:-
1- حال بقايا الحزب الشيوعى فى الجيش.
2- تنظييم حزب البعث لماذا رفض التعاون مع فتحى أحمدعلى.
3- كيف تم تجنيد الواء عثمان عبدالله محمد وزير الدفاع الانتقالى.وما هو دوره؟
4- كيف نجحت الانقاذ فى اختراق تنظيم الضباط الاحرار بقيادة فتحى أحمدعلى.
5- كيف عمل عبدالرحمن محمد سعيد مع تنظيمين فى وقت واحد؟
6- كيف تمكن تاج الدين عبدالله فضل من توجيه الضربة الاولى لتنظيم حزب البعث فى الجيش.
7- لماذا فشل انقلاب التيار العريض فى1984ودور المقدم المقدم خالد محمد فرج فيه.
كتب أبوغسان فى صفحة148 وحتى 162:(١٩٧٤ – ١٩٨٥
تنظيم الضباط الأحرار ١٩٧٤ - ١٩٧٧
كانت الضربة القاصمة التي تلقاها الحزب الشيوعي السوداني وتنظيمه العسكري في يوليو ۱۹۷۱ ، ذات أثر كبير على النشاط السياسي السري داخل القوات المسلحة السودانية. فمن ناحية عملية كان التنظيم العسكري الشيوعي قد أخرج من الساحة بعد إعدام ومقتل اثني عشر من قادته وكوادره، وسجن ما يقارب العشرين من ضباطه وطرد العشرات ذاب أيضاً تنظيم «أحــــرار مايو» الذي كونه النظام المايوي بعد مقتل عدد من قادته في بيت الضيافة يوم ٢٢ يوليو ١٩٧١، وتخوف الرئيس نميري من مراكز القوى إذا استمر ذلك التنظيم، فبادر بحله والاعتماد على أجهزة الأمن والقوات المسلحة في تأمين النظام خفتت حدة العمل السياسي السري داخل القوات المسلحة بعد ما لحق بالحزب الشيوعي السوداني، وبعد انكفاء حركة الإخوان المسلمين إلــى الخارج، فقادتها وكوادرها غادروا إلى خارج البلاد، وبعضهم التحق بركب الجبهة الوطنية المعارضة في معسكراتها بليبيا.
في منتصف العام ١٩٧٤ بدأ بعض الضباط محاولات لإحياء تنظيم الضباط الأحـــــــرار»، ولكن واجهتهم مصاعب كبيرة وأهمها تنامي قدرات الاستخبارات العسكرية وانتشارها، والتي تركت كل مهامها العديدة وانصرفت تماماً لواجب تأمين «ثورة مايو». أما المصاعب الأخرى فقد كانت في عزوف ضباط القوات المسلحة عن الانخراط في العمل السياسي، خاصة بعد تحقيق النظام المايوي للسلام في جنوب السودان، عقب «اتفاقية أديس أبابا ۱۹۷۲»، وحــــــــدوث تنميـــــة واستقرار نسبي، وبالتالي ضعفت دوافع العمل المعارض للنظام. رغم تلك الظروف، نجحت مجموعة من الضباط الرافضين للوضع في إعادة بناء تنظيم الضباط الأحرار»، وضم التحالف المعهود من ضباط ديمقراطيين وشيوعيين ومستقلين، جمع بينهم معارضتهم لسياسات النظام المايوي القمعية ضد الحركة السياسية، وتنامي الفساد والمحسوبية داخل القوات المسلحة.
عمل تنظيم الضباط الأحرار» بعد إعادة تكوينه في خلال العامين ٧٥/١٩٧٤ لفترة امتدت مدة ثلاث سنوات، تم فيها انتخاب مكتب قيادي مثل التيارات الثلاث من شيوعيين وديمقراطيين ومستقلين، وضم القيادات العسكرية التالية:
مقدم مهندس علي التيجاني علي.
رائد حيدر الجعلي.
رائد حیدر بابكر المشرف.
رائد عبد العزيز خالد عثمان.
نقيب عبدالرحمن الحاج خوجلي.
استطاع تنظيم الضباط الأحرار» الجديد بناء خلايا محدودة داخل القيادات والوحدات العسكرية في منطقة الخرطوم، نسبة لصعوبات العمل وسط المظلة الأمنية الواسعة التي أقامها النظام المايوي. تركز نشاط التنظيم في العمل الإعلامي السري لكشف الممارسات الخاطئة التي تتم داخل القوات المسلحة، والقمع الذي تمارسه أجهزة الأمن ضد الطلاب والعمال والمعارضين الآخرين. أصدر التنظيم منذ بداية العام ١٩٧٥ نشرة سرية باسم «الأحرار»، كانت توزع سراً في المعسكرات وأماكن سكن الضباط، وترسل بالبريد إلى الأقاليم . في تلك الفترة كان الحزب الشيوعي السوداني، الذي تُكَوِّن كوادره الضلع الثالث في تحللف «تنظيم الضباط الأحرار»، يقوم بتقييم عمل الحزب داخل القوات المسلحة بعد تجربتهم الدامية وخسارتهم لقادة الحزب، وعلى رأسهم السكرتير العام عبد الخالق محجوب وجل كوادر الحزب العسكرية بعد إخفاق حركة ۱۹ يوليو ۱۹۷۱ . نتيجة لتلك المؤثرات أصبحت كوادرهم المشاركة في تنظيم الضباط الأحرار» بطيئة ومقيدة الحركة، وكان لابد لهم من العودة لحزبهم في كل كبيرة وصغيرة، مما خلق ،تعقيدات، وفقداناً للمبادأة في عمل التنظيم. قادت تلك الظروف إلـــى غياب الانسجام ووضوح الرؤية في البرنامج السياسي والأهداف المطلوب تحقيقها.. وصار الاتفاق على تحديد أزمنة الاجتماعات أو قبول أجندتها متعسراً ، وبدأ عمل التنظيم في الانحسار. في نهاية العام ،۱۹۷۷ ، وفي أحد الاجتماعات القيادية للتنظيم، وقع صدام بين ممثل الحزب الشيوعي السوداني في التنظيم، النقيب عبد الرحمن خوجلي، وبقية أعضاء القيادة، حينمــــــا وجــه انتقادات لهم بأن تفكيرهم ،انقلابي، وأن أحدهم لديه اتصالات بحزب البعث العربي الذي يتبنى نفس الخط الانقلابي. كانت تلك هي الأزمة الأخيرة التي أوقفت عمل تنظيم الضباط الأحرار» عندما انسحبت كل كوادر الحزب الشيوعي من التنظيم، وجمدت نشاطها. جاء انسحاب ممثلي وكوادر الحزب الشيوعي من تنظيم الضباط الأحرار» في أواخر العام ۱۹۷۷ بعد قـــــرار مـــن الحزب بوقف العمل السياسي العسكري داخل القوات المسلحة، والاحتفاظ بما تبقى من كوادرهم، وعدم تعريضهم لأي مخاطر قطعاً، كان اتخاذ مثل ذلك القرار قد تم تحت ظروف تنظيمية
ونفسية ضاغطة، فتجربة الحزب الشيوعي في العمل داخل القوات المسلحة قد أفضت إلى نتيجة مأساوية في يوليو ۱۹۷۱ ، ولم يكن من اليسير الخروج من عقدتها المستحكمة.
(2)
التنظيم العسكري البعثي مما لا شك فيه أن حزب البعث العربي الاشتراكي» من أكثر الأحزاب السودانية حداثة، التي نَمَت تنظيمياً بصورة متصاعدة خلال حقبة السبعينيات والثمانينيات، وذلك رغم الملاحقة الأمنية الهائلة من أجهزة أمن النظام المايوي لذلك الحزب، فقد حقق الكثير من البناء التنظيمي وسط الحركة الطلابية في المدن وأيضاً في مناطق نائية من أقاليم السودان. خلال حقبة الثمانينات كانت مفاجأة كبيرة لأجهزة أمن النظام المايوي عندما تم كشف واعتقال مكاتب كاملة وخلايا تابعة لحزب البعث في مدينة نيالا في غرب السودان، وكادوقلي في جبال النوبة، ومدينة أروما في الإقليم الشرقي وبلا جدال، صاحب ذلك النشاط التنظيمي والسياسي الجماهيري لحزب البعث العربي خطط عمل موازية داخل القوات المسلحة السودانية. جاءت الفرصة التاريخية لحزب البعث العربي لبناء إمتداداته التنظيمية داخل القوات المسلحة السودانية بعد نشوب الحرب العراقية - الإيرانية. وقف النظام المايوي مع العراق فــــــي حربه ضد إيران سياسياً وإعلامياً، وكانت المكافأة الأولى له في جانب المساعدات العسكرية.. فتح العراق معاهده وكلياته العسكرية لتدريب ضباط القوات المسلحة السودانية، وقد سنحت تلك الفرصة في ظروف صعبة، بعد انحسار المساعدات العسكرية والتدريب من الغرب بعد نشوب الحرب الأهلية الثانية في جنوب السودان. تم إرسال العشرات من ضباط القوات المسلحة خــلال أوائل الثمانينيات إلى العراق، وقد انبهر العديد منهم بالطفرة التنموية والعسكرية الكبيرة التـى لمسوها هناك. كانت تلك الفترة الذهبية التي تم فيها استقطاب بعض المبعوثين من ضباط القوات المسلحة للانضمام سراً للتنظيم العسكري لحزب البعث العربي الاشتراكي. زادت أيضاً قدرة ذلك التنظيم الناشئ بعد قرار النظام المايوي إرسال ألوية مقاتلة للمشاركة في الجبهة العراقية، والدفاع عن البوابة الشرقية للأمة العربية، فقد كانت تلك التجربة أيضاً في صالح انتشار وتمدد التنظيـ العسكري لحزب البعث داخل القوات المسلحة السودانية
. (3)
خلال العام ۱۹۸۳ تصاعد المد السياسي المعارض للنظام المايوي داخل القوات المسلحة السودانية. كانت الحرب الأهلية قد أطلت برأسها مرة ثانية في مايو من ذلك العام، حينما تمـــردت الوحدات العسكرية في بور والبيبور وفشلا ، وأرغمت القوات المسلحة على اقتحام معاقلها في ١٥ مايو ۱۹۸۳ . انتهت أكبر إنجازات النظام المايوي في إرساء دعائم السلام وبدء التنمية في جنوب السودان، وعادت القوات المسلحة إلى مستنقع الحرب الأهلية. أما الكارثة الثانية التي سارعت في وتيرة العمل السري داخل القوات المسلحة فتمثلت في إعلان وتطبيق قوانين سبتمبر ۱۹۸۳» سيئة السمعة، التي ألحقت الأذى بالقوات المسلحة العلمانية الجذور والقومية الانتماء، والتي عُرفت طوال تاريخها بالتسامح الديني والانصهار العرقي في صفوفها. في ذلك العـــام بــرز بوضوح نشاط التنظيم العسكري لحزب البعث.. وعندما أقول بوضوح أعني لأولئـــك الضباط المرتبطين سراً في معارضة النظام المايوي، رغم تفاوت درجات انتمائهم السياسي أو استقلاليتهم التامة، أو رفضهم لسياسات وممارسات النظام المايوي.
لم تظهر الملامح الأساسية للتنظيم البعثي، ووضوح هياكله القيادية والتنظيمية حتى ينـــــــاير ١٩٨٤ ، حينما بدأ حوار بين التنظيم العسكري البعثي و تنظيم الضباط الأحرار». كانت البدايــــــة في الأكاديمية العسكرية العليا، حيث يعمل اللواء عثمان بلول معلماً بكلية الدفاع الوطني، وتزامــل معه كدارسين في كلية الدفاع الوطني كل من اللواء بحري فتحي أحمد علي والعميد مهندس عبدالرحمن سعيد. كان اللواء فتحي أحمد علي قد انضم لـ «تنظيم الضباط الأحرار»، وبدأ فـ محاولة استقطاب عدد أكبر من القادة العسكريين لتنظيم تحرك موحد يهدف إلى وقف الطغيــــــان المايوي الذي وصل إلى أقصاه في تلك الفترة تحدث اللواء فتحي مع زميله في كلية الدفاع الوطني العميد عبدالرحمن سعيد، بعد أن لمس منه المعارضة الواضحة لسياسات النظام، وقــــد وافق العميد عبدالرحمن سعيد على الانضمام بعد إطلاعه على البرنامج السياسي والاقتناع بتكوين قيادة «تنظيم الضباط الأحرار». تم عقد اجتماع بين الطرفين في مقر سكن اللواء فتـــــــ أحمد علي، وكان ثالثهم في الاجتماع شخصي، حيث حضرت ومعي نسخة من البرنامج السياسي لـ«تنظيم الضباط الأحرار». جرى بين ثلاثتنا حوار طويل حول الوضع السياسي المتدهور، وضرورة توحيد جهود القوات المسلحة لإسقاط نظام الرئيس جعفر نميري. ولكن.. ما لم يقله العميد عبدالرحمن سعيد في ذلك الاجتماع أنه كان قد بدأ العمل مع ((تنظيم تجمع الشعب السوداني»، وهو اللافتة المعلنة للتنظيم العسكري البعثي كان رأي العميد سعيد أن يتحدث في الأمر إلى زميل آخر ، واتضح لاحقاً أنه كان العميد عثمان بلول، رابعنا في الأكاديمية العسكرية العليا، والقائد الفعلي – والأكثر نشاطاً – في التنظيم العسكري البعثي. في مرحلة لاحقة بدأتُ حواراً ومناقشة مفتوحة مع العميد بلول حول ضرورة الاتفاق على برنامج سياسي تتوحد حولــــــه كل تنظيمات العمل المعارض للنظام المايوي داخل القوات المسلحة باءت كل محاولاتي بالفشل،
إذ كان لدى العميد بلول تخوف غير مبرر وغير واقعي من وجود (( أصابع أمريكية» في «تنظيم الضباط الأحرار». جاءت قناعاته تلك من وجود اللواء بحري فتحي أحمد علي ضمن قيادة «تنظيم الضباط الأحرار»، والذي كان قد عاد إلى الوطن بعد أن عمل لثلاثة أعوام كملحق عسكري في سفارة السودان في بواشنطن. وفي بداية عام ۱۹۸۵ بدأ التيار الوطني الغالب، الضباط الأحرار في السعي لخلق جبهة عسكرية عريضة تدعم العمل الشعبي الذي بدا متعثراً الظروف موضوعية لا تخفى على أحد، إلا أن تشكك التيار القوي الآخر (التيار البعثي) في أي عمل غير عقائدي حال دون ذلك. بل أن البعثيين أخذوا في إطلاق الاتهامات حول الانقلاب العسكري الذي تدبره أمريكا كبديل للنميري، في ذات الوقت الذي أخذ فيه التيار البعثي في الجيش يعد العدة لانقلاب عسكري على السلطة شارك معهم في تخطيطه آخرون، وقد ضمت تلك المجموعة من الضباط عثمان بلول خالد الزين محمد عثمان كرار وعبد الرحمن سعيد». (۱) نتيجة لأوهام وأجندة عقائدية ضاعت خلال العام ١٩٨٤ فرصة ذهبية لتوحيد الجبهة القومية المعارضة للنظام المايوي داخل القوات المسلحة، وقطع الطريق على جنرالات نميري لقيادة المرحلة الانتقالية بعد سقوط النظام المايوي في ٦ أبريل ١٩٨٥.
(4)
في عصر يوم ۲٥ مارس ۱۹۸۵ خطب الرئيس جعفر نميري في أعضاء اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي السوداني خطبة الوداع، حينما تحدث بجهل وغرور وصلف شديد عن معاناة الشعب بعد رفع الدعم عن السلع الاستهلاكية الضرورية، وعن انعدام الوقود قائلاً: «لقد استمعت إليكم وأنا مندهش.. هناك اثنان ممن تحدثوا يسألاني عن سبب زيادة الأسعار، والصحف تكتب عن صفوف البنزين وهم لا يعلمون أنني لا أقدر منذ شهر ونصف على شراء جالون واحد، لسبب بسيط هو أنه لا يوجد المال الذي أشتري به، وقد توقف ۸۰% من طاقة المصانع لأنها تحتاج للوقود لتشغيلها ولا يوجد الوقود الكافي.. نحن يا جماعة بنتعرض لمؤامرة تستهدف شل حركتنا في الإنتاج لنكون سوقاً للتوريد.. نحن مستهدفون والجنيه سعره منخفض.. ولابد أن نزيد الأسعار ويجب أن تفهموا الناس ذلك، أم إنكم تخافون من شوية طلبة».. كانت الثورة الشعبية على النظام المايوي قد نضجت، وفي انتظار شرارة، وجاءت الشرارة المنتظرة في السادس والعشرين من أبريل ۱۹۸۵ عندما خرج «شويّة الطلبة» من جامعة أمدرمان الإسلامية في مظاهرة حاشدة والتحموا مع الجماهير في وسط أمدرمان، ثم اتجهت المظاهرة إلى «جمعية ود نميري إحدى رموز مايو والفساد المكروهة وقاموا بإحراقها.. وفي اليوم التالي، السابع والعشرين من مارس انتشرت المظاهرات الشعبية في معظم أنحاء العاصمة القومية الخرطوم.. كانت الانتفاضة على الأبواب.
في تلك المرحلة الحاسمة بدأ التنظيم العسكري البعثي - تنظيم تجمع الشعب السوداني» – في تجميع صفوفه، وحشد قواعده للتحرك وإسقاط النظام، فالظرف التاريخي قد حل، والحركـــــــة الجماهيرية تدق مساميرها في نعش النظام.. لم يكن ذلك التنظيم مستعداً من قبل لتلك الانتفاضة الجماهيرية، ولذا فقد كانت حركة قياداته مكشوفة وهي تسارع الخطى لقفل الثغرات التنظيمية.. لم تكن لديهم الوحدات العسكرية الضاربة والجاهزة للتنفيذ، خاصة في سلاح المدرعات، ووحدات العاصمة الأخرى. ظلت الاستخبارات العسكرية ترصد نشاط التنظيم العسكري البعثي منذ فترة، وهاهم قد خرجوا إلى العراء، فظهر العديد من القادة وبعضهم لم يكن معروفاً نشاطه المناوئ للسلطة المايوية. في تلك الظروف، بدأت القوات المسلحة في الغليان وأسقطت من كل حساباتها استمرار النظام المايوي، فتعذر على نائب القائد العام الفريق تاج الدين عبدالله فضل واستخبارا ته إلقاء القبض على قادة التنظيم البعثي إذ كانت مخاطرة كبيرة في مثل تلك الظروف المعقدة. لذا صدرت توجيهات الفريق تاج الدين للاستخبارات العسكرية بشل حركة التنظيم وفرض مراقبة مكشوفة ولصيقة على قادته - MAN TO MAN -.. قامت الاستخبارات العسكرية بوضع فرق مراقبة واضحة لكل من القادة الأربعة المتحركين: اللواء عثمان بلول، اللواء عبدالرحمن سعيد، والعمداء صلاح حسين آدم ومحمد عثمان كرار، أفشلت بصورة كبيرة حركة التنظيم خلال تصاعد الموقف وبدء العد التنازلي للنظام المايوي. رغم كل تلك الإجراءات والمراقبة الأمنية المكشوفة، تصرف أولئك القادة بشجاعة في تصعيد الموقف داخل القوات المسلحة، وتحريض الضباط في الوحدات العسكرية لرفض التصدي للحركة الجماهيرية
(5).
تسلَّم المجلس العسكري الانتقالي الحكم في صباح اليوم السادس من أبريل ١٩٨٥، بعد إعلان انحياز القوات المسلحة السودانية إلى جانب الشعب حقناً للدماء !! بعد عدة أسابيع بدأ إحساس المجلس بمخاطر التنظيمات السرية، التي طفت مجبرة إلى السطح خلال الانتفاضة، ونادت جهراً بإسقاط النظام وتسليم السلطة للشعب رفع الفريق تاج الدين عبدالله فضل تقريراً للمجلس العسكري الانتقالي برصد تحركات انقلابية داخل الجيش، وأرفق قائمة تضم أسماء تسعة عشرة ضابطاً.. كان قرار المجلس الذي يدافع عن «مؤخرته» و «بقائه» إحالة ثمانية عشر ضابطاً من تلك القائمة إلى التقاعد.. عدا واحد شفع له انه بطل القوات المسلحة، ويحمل وسام الشجاعة من الطبقة الأولى مرتين.. وهو «العميد طيار محمد عثمان حامد کرار خرجت معظم قيادات التنظيم العسكري لحزب البعث العربي الاشتراكي من القوات المسلحة.. ولكن استمر التنظيم في نشاطه السري ليعود إلى مسرح الأحداث للمرة الأخيرة في ۲۳ أبريل ۱۹۹۰.. العودة التي انتهت بمذبحة لم يشهد تاريخ القوات المسلحة السودانية مثيلاً لها.
(6)
تنظيم الضباط الأحرار ١٩٨٣ - ١٩٨٥
بدأت الحرب الأهلية في جنوب السودان مرة أخرى في ١٥ مايو ۱۹۸۳ بعد تمرد الحاميات العسكرية في بور والبيبور وفشلا وهروب عدد من القادة على رأسهم العقيد د. جون قرنق دي مابيور . لم يكن التمرد الجديد إلا بسبب السياسات الرعناء التي انتهجها الرئيس نميري، وقادت إلى تدمير أكبر إنجازات النظام المايوي المتمثلة في اتفاقية أديس أبابا ۱۹۷۲»، والتي حقــــت السلام والاستقرار لمدة عشر سنوات، عرف خلالها المواطن الجنوبي لأول مرة الحياة الطبيعية، وتوفر بعض الخدمات الأساسية كالصحة والتعليم وعرفت فيها القوات المسلحة فوائد فترات السلم في تطوير قدراتها، وتدريب ضباطها وجنودها، وتوفير حياة مستقرة لهم. بحلول شهر مليو ۱۹۸۳ بدأت القوات المسلحة في تجهيز الوحدات المقاتلة الموجودة في الشمال، والدفع بها إلى مناطق العمليات عن طريق البر أو النقل النهري أو جواً.. وهو ما ظل يحدث منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا.
في الثامن من يوليو ۱۹۸۳ وصلت إلى مدينة «كبويتا» مجموعة من القوات الخاصة التابعة للفرقة المظلية تحت قيادة المقدم خالد محمد فرج، لتعمل تحت قيادة الفرقة الأولى مشاة - الفرقة الجنوبية - المسئولة عن الأقاليم الجنوبية الثلاثة (3) تربطني بالمقدم خالد علاقة صداقة كبيرة،
وقد كنا زملاء في الدراسة الثانوية وفي الكلية الحربية، لذا فهنالك الكثير من الثقة بيننا . حدثنـى المقدم خالد في تلك الليلة أنه ومجموعة من الضباط - وقد ذكر لي بعض الأسماء - قد قاموا بتكوين تنظيم سري داخل القوات المسلحة، وأن التنظيم يهدف للإطاحة بالنظام المايوي بعد أن تمادى في الديكتاتورية وقهر الشعب، وأصبح الأمر لا يمكن السكوت عليه من قوات مسلحة، واجبها الدفاع عن الشعب والدستور. دار بيننا تلك الليلة حوار طويل، وقد وافقته على كل ما جاء في نقده للنظام المايوي الدكتاتوري.. وإن تحفظت على أسلوبهم الذي انتهجوه فــــــي بنـــاء ذلك التنظيم، فهو عبارة عن جبهة تحالف عريضة ضمت العديد من الضباط الرافضين للنظ المايوي، ولكن تختلف رؤاهم السياسية ودرجة وعيهم السياسي.. فمثل تلك التنظيمات تكون دائماً عرضة للاختراق والملاحقة، خاصة أن الاستخبارات العسكرية قد تمرست في الأمر. كان تحفظي في مكانه ، فما أن عاد المقدم خالد فرج إلى العاصمة، واستمر في نشاطه، حتى تم إلقاء القبض عليه خلال شهر أكتوبر ، وعلى أربعة وثلاثين ضابطاً من كوادر تنظيمهم. «إن إدارة الاستخبارات كانت قد وضعت يدها على ذلك التنظيم العريض في العام ۱۹۸۳ والذي كان عبارة عن جبهة تشكلت من اليمين واليسار والوسط وكل ألوان الطيف السياسي بهدف الإطاحة(4)
بالرئيس نميري ونظامه». كان واضحاً أن ذلك التنظيم قد ضرب بالكامل نتيجة لاختراق
مدروس.. ولم تكن أصابع الإخوان المسلمين بعيدة عن تلك الضربة، فالتنظيم يغلب عليه عنصــــو اليسار العريض، ولكن.. كان بينهم ضابط من المدرعات برتبة الملازم أول يدعى إبراهيم شمس الدين، وقد طرد من الخدمة بعد كشف المحاولة، لكنه أعيد إلى العمل بقرار من الفريق تاج الدين عبد الله فضل في العام ۱۹۸۵ ، ليكون رأس الرمح في انقلاب الجبهة الإسلامية بعد أربعة أعوام تالية. «... ثم محاولة صغار الضباط الذين ينتمون إلى التيار اليساري بقيادة المقدم خالد محمـــــد فرج والرائد عمر عبد المجيد بهدف خلق نظام أكثر ثورية في أواخر العام ١٩٨٣. ومن المفارقات العجيبة أن تلك المجموعة اليسارية ضمت ضابطاً صغيراً هو الرائد إبراهيم شمس الدين الذي لعب دوراً هاماً، فيما بعد في أكثر انقلابات السودان (يمينية». 5))
شهد العام ۱۹۸۳ أحداثاً هامة تركت آثارها العميقة على وجه السودان، في بدايته تم خرق «اتفاقية أديس أبابا» وتقسيم الجنوب، وفي منتصفه تمردت الوحدات العسكرية في الاستوائية وأعالي النيل لتبدأ الحرب الأهلية مجدداً.. أما في أواخره، فقد حل الهوس الديني ومحاكم الطوارئ مع «قوانين سبتمبر » الظلامية، ونَصَّبَ الرئيس نميري نفسه إماماً للمسلمين بتخطيط مع حلفائه من الإخوان المسلمين الذين كانت كل حساباتهم مبنية على إرث النظام المايوي في قريب عاجل، بعد أن اخترقوه وتمددوا في كل دهاليزه في تلك الأجواء المتوترة في الجنوب والشمال عاد تنظيم الضباط الأحرار» إلى العمل مرة أخرى عند مطلع العام ١٩٨٤. لم يكن التنظيم قد انتهى تماماً بعد توقف نشاطه المؤسسي منذ بداية العام ۱۹۷۸، فقد استمر العديد مــــــن قياداته وكوادره على اتصال مهني وسياسي واجتماعي. عاد التنظيم هذه المرة دون أي تحـالف متكامل مع كوادر الحزب الشيوعي، فقد كانوا هم السبب المباشر في الأزمة التي أصابت التنظيم، وتوقف نشاطه عند العام ۱۹۷۷ ، فمنذ بداية الستينات تشكل تنظيم الضباط الأحرار» من تحالف جبهوي يضم الديمقراطيين والشيوعيين والمستقلين المتحدين في برنامج سياسي مشترك. كانت مبادرة
إعادة بناء التنظيم من العقيد الركن عصام الدين ميرغني، وأول من استجاب من قادة التنظي الأسبق كان العقيد الركن عبد العزيز خالد، ثم تلاه العقيد الركن حيدر بابكر المشرف.. بدأت الاتصالات الحثيثة لإعادة كل أعضاء التنظيم القديم، واستقطاب عضوية جديدة بحذر شديد، فقد كانت أجهزة أمن النظام المايوي على درجة عالية من الاحتراف في ملاحقة التنظيمات العسكرية السرية. جاءت أكبر نجاحات التنظيم في ضم اللواء بحري فتحي أحمد علي، الذي كان دارساً في دورة بـ «كلية الدفاع الوطني» في الأكاديمية العسكرية العليا، وكان ذلك مؤشراً واضحاً لتمدد التنظيم بسرعة داخل القوات البحرية ومنطقة بورتسودان.
عندما تمت صياغة أهداف التنظيم والبرنامج السياسي، كان واضحاً أن نهجاً جديداً في عمل التنظيمات العسكرية السرية داخل القوات المسلحة قد تم خطه، وهو النأي عن التفكير الانقلاب الكلاسيكي، والوقوف مع الشعب السوداني وخياره في النظام الديمقراطي. اتسم قـــــــادة وكوادر التنظيم الأخرى بوعي سياسي كبير، بعد ما تلمسوه عن قرب من ممارسات الديكتاتورية المايوية وما لحق بالوطن من دمار .. وما عايشوه من آثار ضارة لحقت بالقوات المسلحة، حيث تدنت قدراتها القتالية والمعنوية وتفشى الفساد والمحسوبية داخلها. كان إجماع قيادة التنظيم على استعادة الديمقراطية عبر الإطاحة بنظام جعفر نميري باستخدام القوة العسكرية، وبتحالف عريض يبنـــــــي مع القوى الحديثة. بعد مرور أكثر من سبعة عشر عاماً على ذلك التاريخ، ونتيجة لضياع معظم وثائق «تنظيم الضباط الأحرار»، أو إخفاءها عقب انقلاب الجبهة الإسلامية في يونيــــــو ١٩٨٩، تعذر الحصول على الوثيقة الأصلية للبرنامج السياسي لـ «تنظيم الضباط الأحرار» الذي تمـت إجازته خلال شهر فبراير ١٩٨٤. كانت أبرز الملامح الرئيسية لذلك البرنامج هي:
أ. الهدف: إسقاط النظام الديكتاتوري المايوي واستعادة الحرية والديمقراطية للشـعب السوداني.
ب الوسيلة عملية عسكرية يقودها «تنظيم الضباط الأحرار» بالتنسيق مع جهات مؤثرة في القوى الحديثة، خاصة النقابات لتوفير المساندة الشعبية والدعم المدني لنجاح التحرك.
ج-الأهداف السياسية ونظام الحكم الانتقالي : يتم تشكيل حكومة انتقالية قومية تهدف خلال ثلاث سنوات إلى وقف الحرب في جنوب السودان، وتحقيق السلام، وتنفيذ برنامج الانتقال إلى الحكم الديمقراطي.
د. الاقتصاد: وقف التدهور الاقتصادي، ومعالجة التشوهات التي أحدثها النظام المايوي بالتقلب والتبديل في السياسات الاقتصادية، ويتم وضع خطط الإصلاح الاقتصادي بعد الدعوة لمؤتمر قومي يهدف إلى وضع السياسات المستقبلية.
و-السياسة الخارجية: انتهاج سياسة خارجية متوازنة بعيدة عن المحاور والإستقطاب، وتهدف إلى استعادة العلاقات الحميمة مع دول الجوار، وفي المحيطين العربي والأفريقي.
القوات المسلحة: إزالة آثار ممارسات النظام المايوي الضارة داخل القوات المسلحة، وإعادة بنائها علي أسس قومية واحترافية مجردة، تهدف إلى ضمان ولائها للشعب والوطن.
اتخذ التنظيم قراراً بتكوين قيادة مركزية سميت بـ «المجلس القيادي»، على أن تعمل تلك القيادة بنهج ديمقراطي في اتخاذ القرارات، وتنفيذ سياسات وبرامج التنظيم، وبجماعية تضمن
وحدة القيادة، وقد تم اختيارها من(6)
1-اللواء بحري الركن فتحي أحمد علي. العميد مهندس
2-(م) علي التيجاني علي.
3-العقيد الركن حيدر بابكر المشرف.
4-العقيد الركن عبد العزيز خالد عثمان.
5-العقيد الركن عصام الدين ميرغني طه.
6-المقدم الركن عبد الحليم صالح جاويش.
بدأت خطة عمل تنظيم الضباط الأحرار» بأسبقيتين، كانتا كما يلي:
.أ. بناء التنظيم العسكري داخل القوات المسلحة بالتركيز أولاً على كوادر التنظيم السابقة، المؤتمنة والموثوق بها، لتشكيل قلب التنظيم»، ثم الانتشار المدروس بمراعــــــاة أكبر قدر من الضوابط الأمنية. يتم بناء التنظيم في خلايا عنقودية تمنع تسرب أي معلومات إلى أجهزة الأمن المايوية حال انكشاف أو حدوث أخطاء استقطاب أو تجنيد في إحدى الخلايا.
ب بناء قاعدة المساندة المدنية وسط النقابات المهنية المؤثرة ويكون ذلك عبر
الاتصال مع القوى الحديثة»، وأن يراعى النشاط وسط النقابات التعامل مع مندوبين مؤثرين فيها، وألا يكونوا من العناصر الملاحقة أمنياً. وضعت أسبقية للعمل في المرحلة الأولى مع النقابات المهنية المؤثرة وكانت كما يلي:
نقابة أساتذة جامعة الخرطوم.
نقابة الأطباء.
نقابة المهندسين.
نقابة المحامين.
أعضاء
ج-بعد تكملة المرحلة الأولى وفق الأسبقيات التي تحددت أعلاه، تصبح المرحلة الثانية هي التوسع في الاتصالات والاستقطاب وسط النقابات الأخرى والقوى السياسية المعارضة للنظام لتنفيذ خطة العمل وسط القوى الحديثة، تم اختيار ثلاثة مـ «المجلس القيادي» لتولي تلك المسئولية، وهم: العميد مهندس (م) علي التجاني علي ،العقيد الركن حيدر بابكر المشرف والعقيد الركن عبد العزيز خالد عثمان.
(7)
شهدت تلك الفترة في بدايات العام ١٩٨٤ سعى تنظيم الضباط الأحرار» لتوحيد العمل •
السياسي الديمقراطي داخل القوات المسلحة السودانية كان هنالك تنظيم «تجمع الشعب السوداني» الذي كان يعمل بنشاط داخل القوات المسلحة، وقد وضحت لنا أبعاد ذلك التنظيم عند محاولة ضم العميد مهندس عبدالرحمن سعيد – التي سبق الإشارة لها - وأيضاً عبر العلاقة الحميمة التي تربط بين العقيد حيدر بابكر المشرف بالعقيد طيار محمد عثمان حامد كرار . بدأ الاتصال والحوار مع تنظيم «تجمع الشعب السوداني» عندما كنتُ أعملُ سكرتيراً أكاديمياً لكلية الدفاع الوطني بالأكاديمية العسكرية العليا أكاديمية نميري العسكرية العليا خلال العام ١٩٨٤، وكان العميد الركن ـ آنذاك ـ عثمان إدريس بلول يعمل معلماً في الأكاديمية. كانت تحفظات العميــــــد بلول في توحيد العمل نابعة في الأساس من غرور تنظيم البعثيين في تحقيقهم لدرجة انتشار جيدة، وقناعتهم بقدرة التحرك المنفرد، خاصة لما في ذلك من إيجابيات في الحفاظ على الغطاء الأمني والسرية التي حققها تنظيمهم.. أما الجانب الثاني فهو وقوف التنظيم على قاعدة عقائديــــــة تسعى للاستيلاء على السلطة لصالح حزب البعث العربي الاشتراكي في نموذج مشابه لما حدث في العراق خلال جلسات النقاش والحوار لتقريب وجهات النظر ، لم يُفصح العميد بلول عن الأسباب الجوهرية التي تطرقنا لها أعلاه، لكنه وضع كل تحفظاته على شخص اللواء فتحي أحمد علي الذي كشف موقعه العميد عبد الرحمن سعيد كان رأي العميد بلول ـ وبالطبع رأي تنظيمه ـ أن عمل اللواء فتحي كملحق عسكري في واشنطن لمدة ثلاث سنوات قــد خلـق لـــه علاقات وطيدة مع الإدارة الأمريكية.. ولن يسلّم أي عمل تنظيمي يشارك فيه اللواء فتحــــي مـــن تلك المؤثرات لم تتحقق الوحدة التنظيمية المرجوة داخل القوات المسلحة، وظل كلا التنظيمين يعملان في مسار واحد .. وكان لذلك آثار سياسية وأمنية ضارة بالعمل السري داخل القوات المسلحة للإطاحة بالنظام المايوي.. وضح ذلك بجلاء حينما بدأ الشارع السوداني في الانتفاض.. فكلا التنظيمين دون القدرة الملائمة للتحرك ضد نظام دكتاتوري بدأت أركانــــه وقواعـــــده فـــــي التهاوي.
كانت إحدى إنجازات اللواء بحري فتحي أحمد علي استقطابه لصديقه وزميله في كلية الأركان البريطانية دفعة) ١٩٧٤) اللواء الركن عثمان عبدالله.. إطَّلَعَ عثمان عبدالله على برنامج التنظيم، ورأى فيه مخرجاً من الأزمة والتدهور الذي تسير إليه البلاد.. ثم أدى القسم للتنظيم باشتراط ألا يعمل ضمن مجلس قيادي، وأن يؤدي مهامه من موقعه لخدمة أهداف التنظيم. قبل التنظيم تلك الرغبة، فاللواء الركن عثمان عبدالله كان قد تقلد لتوه منصب مدير فرع العمليات الحربية، وهو الفرع القادر على التأثير المباشر على تحركات كل تشكيلات ووحدات القوات المسلحة. أما الإنجاز الثاني للواء فتحي أحمد علي فقد كان في بناء التنظيم في منطقة البحر الأحمر، التي تضم القوات البحرية وقوات الدفاع الجوي ومدرسة المشاة في منطقة جبيــــت، وعاونه في تلك المرحلة اثنان من كوادر التنظيم في منطقة البحر الأحمر، هما الرائــــد بـحـــــري محمد جكنون والرائد بحري معتصم العجب. كان الخطأ الأكبر في مسيرة اللواء فتحي في «تنظيم الضباط الأحرار» هو تجنيده لأحد ضباطه في قاعدة فلامنجو البحرية»، وهو العقيد بحري سيد الحسيني عبد الكريم.. لم يتضح مقدار ذلك الخطأ إلا حينما خان الحسيني قائده وتنظيمه لصـ ـالح الجبهة الإسلامية في يونيو ۱۹۸۹.
في الأسبوع الأخير من مارس ۱۹۸۵ بدأت المواجهة الشعبية ضد نظام جعفر نميري..
كانت تلك اللحظة التاريخية التي عمل تنظيم الضباط الأحرار» على بلوغها قد حلت، ولكن عند تقييم الموقف السياسي والعسكري برزت لقيادة التنظيم الحقائق التالية:
أ. التقييم العسكري: توجد قواعد جيدة للتنظيم، وقادرة على التحرك في منطقة
الخرطوم، في الدفاع الجوي وسلاح المهندسين والكلية الحربية وادي سيدنا . قوة التنظيـم واضحة في منطقة البحر الأحمر. نقاط الضعف الأساسية في منطقة الخرطوم، وتمثلت
بوضوح في قلة كوادر التنظيم في سلاحي المدرعات والمظلات أفضت خلاصة التقييـم العسكري – تقدير الموقف – إلى أن التنظيم لا يستطيع في تلك المرحلة القيام بتحرك منفرد لإسقاط النظام المايوي، لكن يمكنه التأثير بشدة على مجريات الأحداث في منطقتي الخرطوم والبحر الأحمر، والاستفادة من أي متغيرات عسكرية لتحسين قدراته في التحرك.
ب. تقييم قاعدة المساندة المدنية: استطاع التنظيم بناء قواعد مساندة وتنسيق جيدة وسط النقابات المهنية وخاصة نقابة أساتذة جامعة الخرطوم والأطباء والمهندسين. تلك القاعدة المساندة للتنظيم قادرة على المشاركة الفعالة في أي خطة عامة تهدف إلى تصعيد الموقف ضد النظام المايوي.. وستكون أكثر قدرة في حالة تصاعد الموقف إلى انتفاضة شاملة ضد النظام المايوي.
خطة العمل الملائمة يعمل التنظيم على تصعيد المواجهة وحركة الرفض للنظام المايوي داخل القوات المسلحة باستخدام كوادره في القيادة العامة والوحدات العسكرية الأخرى. يقوم فريق الاتصال مع النقابات المهنية بتصعيد الموقف السياسي، على أن يستمر التشاور والتنسيق وفق تطورات الأحداث.
فاجأت الانتفاضة الشعبية في مارس / أبريل ۱۹۸۵ الجميع.. من نظام حاكم، إلـــى قــــوى
سياسية، وحتى القوات المسلحة.. وبالطبع تسارعت تطورات الأحداث، مع استمرار عدم جاهزية «تنظيم الضباط الأحرار» في تنفيذ تحرك عسكري منفرد «أستطيع أن أؤكد هنـــا أنـه حتـى صبيحة يوم 6 أبريل ١٩٨٥.. لم يكن هنالك تنظيماً يستطيع القيام بذلك، أي بتغيير أو قلب الحكم، ولكن لا أستطيع أن أجزم بأنه لم يكن هنالك تنظيم موجود، والمؤكد أنه حتى في حالة وجوده لم يكن جاهزاً»8. كانت تلك حقيقة.. فكما أسلفنا من قبل، لم يكن «تنظيم الضباط الأحرار» بقادر على إسقاط النظام المايوي في تلك اللحظات الحاسمة.. رغم ذلك قامت كـــــــوادر «التنظيم» في مختلف مواقعها، سواء كانت بالقيادة العامة أو الوحدات العسكرية في العاصمة القومية، بقيادة وتصعيد حركة الرفض والعصيان، ومطالبة القيادات العسكرية العليا برفض تصدي القوات المسلحة للمظاهرات الشعبية، والدفع بقوة في في اتجاه مساندة الحركة الجماهيرية.
صباح يوم الخميس، الرابع من أبريل ۱۹۸۵، وفي محاولة من النظام المايوي للتشبث بالسلطة، أرسل اللواء عمر محمد الطيب، رئيس جهاز أمن الدولة بعض وحداته بالزي المدنــــــي، وأخرى بزي القوات المسلحة إلى الشوارع لقمع المظاهرات، وذلك بعدما تيقن من رفض وحدات القوات المسلحة الخروج في تلك المهمة في ذلك الصباح اتخذ تنظيم الضباط الأحرار» قراراً بالتصدي لمحاولات جهاز أمن الدولة لقمع الانتفاضة الشعبية.. أجرى القيادي في التنظيم العقيد عبدالعزیز خالد، رئيس شعبة العمليات في القيادة العامة اتصالاً مع اللواء عثمان السيد في جهاز أمن الدولة، وأخطره بأن فرع العمليات الحربية قد رصد نزول وحدات تابعة لأمن الدولـة إلــى الشوارع، وكانت تقوم بإطلاق النار على المتظاهرين.. طلب منه العقيد خالد سحب تلك الوحدات منعاً لتصعيد الموقف، إذ أن تدخلها بالزي العسكري للقوات المسلحة إجراء خاطئ، وأن القوات المسلحة ترفض مبدأ التدخل لقمع المظاهرات الشعبية.
كانت تلك هي الساعات الحاسمة في عمر النظام المايوي.. مساء الجمعة، الخامس من أبريل ١٩٨٥.. وضح الرفض الكامل من الشعب السوداني وقواته المسلحة لاستمرار النظــــام المايوي.. تفاقم الموقف وتعاظمت خطورته بعد تهديد الضباط في سلاحي المهندسين والمدرعات بتحريك قواتهم إلى داخل الخرطوم، إن لم تتخذ القيادة العليا للقوات المسلحة قراراً بالتدخل وإقصاء المشير جعفر نميري.. كانت تلك هي الساعات الحاسمة التي أدار فيها «تنظيم الضبـــــاط الأحرار» أجزاء من معركة إسقاط النظام المايوي بتوظيف كل قدراته وقواعده في الوحدات العسكرية المختلفة. يبدو لي أن الكثير من أعضاء هيئة القيادة ظنوا أن العميد عثمان عبد الله كان يترأس تنظيماً واسعاً وسط الضباط، وهو ما جعلهم ينتظرون منه دائمـــاً القيام بالخطوة التالية، حتى أن مدير الاستخبارات العسكرية ظل في مكتبه قابعاً منتظراً لما تأتي به الأحداث، أو ما يفعله العميد الركن عثمان عبد الله !!!» 9
كان في ذلك بعض الحقيقة.. فاللواء عثمان عبد الله حافظ على اتصاله بـ «تنظيم الضباط الأحرار» طوال فترة تصاعد الأحداث عبر قناة مفتوحة شكلها مساعده في فرع العمليات
الحربية، العقيد عبد العزيز خالد مع قيادات التنظيم، واستطاع بدوره تفعيل رؤى التنظيم السياسية،
ومواصلة التنسيق والتشاور مع بعض قادة القوى النقابية.. وكان كل ذلك مواصلة لخط تنظيمـ استمر منذ مطلع العام ۱۹۸٤. «... من خلال بعض الضباط في العمليات الحربية – العميد الركن عبدالعزيز خالد كان أحد رؤساء الشعب بفرع العمليات، وكانت له اتصالات وثيقة بالتجمع – والذين كانت لهم علاقات بالتجمع الوطني والذي كان مقره نادي أساتذة جامعة الخرطوم، كـــان قد فتح قناة حوار مع التجمع».(10)
استطاع اللواء عثمان عبدالله التأثير على خطوات وقرارات القيادة العسكرية العليا للقوات المسلحة، التي كانت تفتقر إلى الرؤية السياسية الشاملة، ولم تتحسب لأن تكون في مثل ذلك الموقف السياسي المعقد كان لدى اللواء عثمان عبدالله الذي فوضه المجلس العسكري الانتقالي لإدارة الحوار مع «التجمع النقابي» نسخة من البرنامج السياسي لـ «تنظيم الضباط الأحرار، (٢) والذي شكل في مجمله قاعدة مقبولة للوصول إلى اتفاقات في وضع ترتيبات الفترة الانتقالية، وبدء التحول إلى النظام المدني الديمقراطي. كان تحرك ونشاط تنظيم الضباط الأحرار» في تلك الأيام الحاسمة من انتفاضة أبريل ۱۹۸۵» أنموذجاً من الإسهام الفاعل للقوات المسلحة السودانية في مقاومة الدكتاتورية العسكرية، والانحياز).
انتهى سرد أبوغسان ولعل القارى يخرج بمايلى:-
1- انه كان يوجد تنظيم عسكرى داخل الجيش يقوده القائد العام ،وكان يجب ان يقدم ذلك فى محاكمة مدبرى انقلاب 30يونيو ...ياترى لماذا لم يذكر ذلك فى استجواب شاهد الاتهام الفريق عبد الرحمن محمد سعيد وغيره ...لان هذه افادة مهمة قانونيا .اظن ان هيئة الدفاع لم تطالع هذا الكتاب القيم والرائع ...وخاصة القانونى الرفيع سبدرات.
2- من المعروف ان مذكرة الجيش هى التى مهدت لانقلاب 30يونيو . ومن صاغ المذكر هو تنظيم الضباط الاحرار ...وفى المثل السودانى (التسوى بيدك يغلب اجاويدك!!!)
3- كان دور الفريق بحرى سيد الحسينى عبدالكريم محوريا فى نجاح تحرك 30يونيو...وتقول الروايات انه كان واحد من اربعة عملوا بلوك للقائد العام وعزله هم ضحوى ...كمال على مختار ...وعبد الرزاق الفضل عليهم رحمة الله.(مصائب قوم عند قوم فوائد) .
4- عصمت ميرغنى عليه رحمة الله شقيق عصام اعدم فى انقلاب البعثثين 1990 .فهل كان عصام يجهل ذلك لانه تجنب ذكره وذكر غيره.
5-عبدالعزيز خالد عمل فى المستقبل مع تيسر محمداحمد فى انشاء فصيل غير القيادة الشرعية التى انضم له أبوغسان مما يشى بتشظى التنظيم .
6-.-من السرد يتضح محدودية التنظيم لكن فعاليته فى لحظة الانتفاضة 1985.
7-من الواضح ان تنظيم الاسلامين كان مخترق كل المجموعات التنظيمة الحية داخل الجيش . بدليل استقطاب بعضها وتمثيله فى مجلس قيادة الثورة .اتمنى ان يزاح الستار عن الوثائق الرسمية عن ذلك بعد30 عاما حتى تستفيد الاجيال القادمة.
.المراجع:-
(۱) منصور حالد النخبة السودانية وادمان الفشل. جزء ٢. ص ـ ١٦ .
(٢) فتحي الضو محمد، محنة النخبة السودانية. ص ـ ١٧ .
(3) أصدر المشير جعفر نميري قرار التقسيم بالأمر الجمهوري رقم (۱) الصادر في ١٥ يونيو ۱۹۸۳ ضارباً عرض الحائط باتفاقية أديس أبابا.
(4)السر أحمد سعيد السيف والطغاة ...ص103
(5) منصور خالد، مصدر سابق. جزء2...ص15
(7) الترتيب وفق أقدميات المجلس القيادي ولكن لا يعني ذلك سريان الأقدمية أو ممارسة السلطات القيادية خلال الاجتماعات.
(8) السر أحمد سعيد، مصدر سابق، ص ــ 102.
(9) السر احمد سعيد، مصدر سابق. ص ـ 105 .
(10) السر أحمد سعيد، مصدر سابق في إفادته عن الدور الذي لعبه اللواء عثمان عبدالله في انتفاضة أبريل ١٩٨٥). ص ـــ ١٠٥. (۲) في الساعة الخامسة من صباح السبت السادس من أبريل ،۱۹۸۵، طلب اللواء عثمان عبد الله من العميد عبدالعزيز خالد نسخة (إضافية) البرنامج السياسي لـ«تنظيم الضباط الأحرار» وقد سلمها له العقيد عصام الدين ميرغني في تمام الساعة السابعة صباحاً.
ganaboo@gmail.com
بقلم: رائد مهندس محمد احمد ادريس جبارة
ganaboo@gmail.com
أبوغسان هو العميد ركن عصام الدين ميرغنى طه هو كاتب عسكرى مميز . فى هذه الحلقة نعرض لتنظيم الضباط الاحرار..وكيف ساعد من حيث لا يدرى فى نجاح ثورة الانقاذ(انقلاب الاسلاميين )...كيف اظهر العميد ركن عصام الدين ميرغنى طه فى كتابه (الجيش السودانى والسياسة) التالى:-
1- حال بقايا الحزب الشيوعى فى الجيش.
2- تنظييم حزب البعث لماذا رفض التعاون مع فتحى أحمدعلى.
3- كيف تم تجنيد الواء عثمان عبدالله محمد وزير الدفاع الانتقالى.وما هو دوره؟
4- كيف نجحت الانقاذ فى اختراق تنظيم الضباط الاحرار بقيادة فتحى أحمدعلى.
5- كيف عمل عبدالرحمن محمد سعيد مع تنظيمين فى وقت واحد؟
6- كيف تمكن تاج الدين عبدالله فضل من توجيه الضربة الاولى لتنظيم حزب البعث فى الجيش.
7- لماذا فشل انقلاب التيار العريض فى1984ودور المقدم المقدم خالد محمد فرج فيه.
كتب أبوغسان فى صفحة148 وحتى 162:(١٩٧٤ – ١٩٨٥
تنظيم الضباط الأحرار ١٩٧٤ - ١٩٧٧
كانت الضربة القاصمة التي تلقاها الحزب الشيوعي السوداني وتنظيمه العسكري في يوليو ۱۹۷۱ ، ذات أثر كبير على النشاط السياسي السري داخل القوات المسلحة السودانية. فمن ناحية عملية كان التنظيم العسكري الشيوعي قد أخرج من الساحة بعد إعدام ومقتل اثني عشر من قادته وكوادره، وسجن ما يقارب العشرين من ضباطه وطرد العشرات ذاب أيضاً تنظيم «أحــــرار مايو» الذي كونه النظام المايوي بعد مقتل عدد من قادته في بيت الضيافة يوم ٢٢ يوليو ١٩٧١، وتخوف الرئيس نميري من مراكز القوى إذا استمر ذلك التنظيم، فبادر بحله والاعتماد على أجهزة الأمن والقوات المسلحة في تأمين النظام خفتت حدة العمل السياسي السري داخل القوات المسلحة بعد ما لحق بالحزب الشيوعي السوداني، وبعد انكفاء حركة الإخوان المسلمين إلــى الخارج، فقادتها وكوادرها غادروا إلى خارج البلاد، وبعضهم التحق بركب الجبهة الوطنية المعارضة في معسكراتها بليبيا.
في منتصف العام ١٩٧٤ بدأ بعض الضباط محاولات لإحياء تنظيم الضباط الأحـــــــرار»، ولكن واجهتهم مصاعب كبيرة وأهمها تنامي قدرات الاستخبارات العسكرية وانتشارها، والتي تركت كل مهامها العديدة وانصرفت تماماً لواجب تأمين «ثورة مايو». أما المصاعب الأخرى فقد كانت في عزوف ضباط القوات المسلحة عن الانخراط في العمل السياسي، خاصة بعد تحقيق النظام المايوي للسلام في جنوب السودان، عقب «اتفاقية أديس أبابا ۱۹۷۲»، وحــــــــدوث تنميـــــة واستقرار نسبي، وبالتالي ضعفت دوافع العمل المعارض للنظام. رغم تلك الظروف، نجحت مجموعة من الضباط الرافضين للوضع في إعادة بناء تنظيم الضباط الأحرار»، وضم التحالف المعهود من ضباط ديمقراطيين وشيوعيين ومستقلين، جمع بينهم معارضتهم لسياسات النظام المايوي القمعية ضد الحركة السياسية، وتنامي الفساد والمحسوبية داخل القوات المسلحة.
عمل تنظيم الضباط الأحرار» بعد إعادة تكوينه في خلال العامين ٧٥/١٩٧٤ لفترة امتدت مدة ثلاث سنوات، تم فيها انتخاب مكتب قيادي مثل التيارات الثلاث من شيوعيين وديمقراطيين ومستقلين، وضم القيادات العسكرية التالية:
مقدم مهندس علي التيجاني علي.
رائد حيدر الجعلي.
رائد حیدر بابكر المشرف.
رائد عبد العزيز خالد عثمان.
نقيب عبدالرحمن الحاج خوجلي.
استطاع تنظيم الضباط الأحرار» الجديد بناء خلايا محدودة داخل القيادات والوحدات العسكرية في منطقة الخرطوم، نسبة لصعوبات العمل وسط المظلة الأمنية الواسعة التي أقامها النظام المايوي. تركز نشاط التنظيم في العمل الإعلامي السري لكشف الممارسات الخاطئة التي تتم داخل القوات المسلحة، والقمع الذي تمارسه أجهزة الأمن ضد الطلاب والعمال والمعارضين الآخرين. أصدر التنظيم منذ بداية العام ١٩٧٥ نشرة سرية باسم «الأحرار»، كانت توزع سراً في المعسكرات وأماكن سكن الضباط، وترسل بالبريد إلى الأقاليم . في تلك الفترة كان الحزب الشيوعي السوداني، الذي تُكَوِّن كوادره الضلع الثالث في تحللف «تنظيم الضباط الأحرار»، يقوم بتقييم عمل الحزب داخل القوات المسلحة بعد تجربتهم الدامية وخسارتهم لقادة الحزب، وعلى رأسهم السكرتير العام عبد الخالق محجوب وجل كوادر الحزب العسكرية بعد إخفاق حركة ۱۹ يوليو ۱۹۷۱ . نتيجة لتلك المؤثرات أصبحت كوادرهم المشاركة في تنظيم الضباط الأحرار» بطيئة ومقيدة الحركة، وكان لابد لهم من العودة لحزبهم في كل كبيرة وصغيرة، مما خلق ،تعقيدات، وفقداناً للمبادأة في عمل التنظيم. قادت تلك الظروف إلـــى غياب الانسجام ووضوح الرؤية في البرنامج السياسي والأهداف المطلوب تحقيقها.. وصار الاتفاق على تحديد أزمنة الاجتماعات أو قبول أجندتها متعسراً ، وبدأ عمل التنظيم في الانحسار. في نهاية العام ،۱۹۷۷ ، وفي أحد الاجتماعات القيادية للتنظيم، وقع صدام بين ممثل الحزب الشيوعي السوداني في التنظيم، النقيب عبد الرحمن خوجلي، وبقية أعضاء القيادة، حينمــــــا وجــه انتقادات لهم بأن تفكيرهم ،انقلابي، وأن أحدهم لديه اتصالات بحزب البعث العربي الذي يتبنى نفس الخط الانقلابي. كانت تلك هي الأزمة الأخيرة التي أوقفت عمل تنظيم الضباط الأحرار» عندما انسحبت كل كوادر الحزب الشيوعي من التنظيم، وجمدت نشاطها. جاء انسحاب ممثلي وكوادر الحزب الشيوعي من تنظيم الضباط الأحرار» في أواخر العام ۱۹۷۷ بعد قـــــرار مـــن الحزب بوقف العمل السياسي العسكري داخل القوات المسلحة، والاحتفاظ بما تبقى من كوادرهم، وعدم تعريضهم لأي مخاطر قطعاً، كان اتخاذ مثل ذلك القرار قد تم تحت ظروف تنظيمية
ونفسية ضاغطة، فتجربة الحزب الشيوعي في العمل داخل القوات المسلحة قد أفضت إلى نتيجة مأساوية في يوليو ۱۹۷۱ ، ولم يكن من اليسير الخروج من عقدتها المستحكمة.
(2)
التنظيم العسكري البعثي مما لا شك فيه أن حزب البعث العربي الاشتراكي» من أكثر الأحزاب السودانية حداثة، التي نَمَت تنظيمياً بصورة متصاعدة خلال حقبة السبعينيات والثمانينيات، وذلك رغم الملاحقة الأمنية الهائلة من أجهزة أمن النظام المايوي لذلك الحزب، فقد حقق الكثير من البناء التنظيمي وسط الحركة الطلابية في المدن وأيضاً في مناطق نائية من أقاليم السودان. خلال حقبة الثمانينات كانت مفاجأة كبيرة لأجهزة أمن النظام المايوي عندما تم كشف واعتقال مكاتب كاملة وخلايا تابعة لحزب البعث في مدينة نيالا في غرب السودان، وكادوقلي في جبال النوبة، ومدينة أروما في الإقليم الشرقي وبلا جدال، صاحب ذلك النشاط التنظيمي والسياسي الجماهيري لحزب البعث العربي خطط عمل موازية داخل القوات المسلحة السودانية. جاءت الفرصة التاريخية لحزب البعث العربي لبناء إمتداداته التنظيمية داخل القوات المسلحة السودانية بعد نشوب الحرب العراقية - الإيرانية. وقف النظام المايوي مع العراق فــــــي حربه ضد إيران سياسياً وإعلامياً، وكانت المكافأة الأولى له في جانب المساعدات العسكرية.. فتح العراق معاهده وكلياته العسكرية لتدريب ضباط القوات المسلحة السودانية، وقد سنحت تلك الفرصة في ظروف صعبة، بعد انحسار المساعدات العسكرية والتدريب من الغرب بعد نشوب الحرب الأهلية الثانية في جنوب السودان. تم إرسال العشرات من ضباط القوات المسلحة خــلال أوائل الثمانينيات إلى العراق، وقد انبهر العديد منهم بالطفرة التنموية والعسكرية الكبيرة التـى لمسوها هناك. كانت تلك الفترة الذهبية التي تم فيها استقطاب بعض المبعوثين من ضباط القوات المسلحة للانضمام سراً للتنظيم العسكري لحزب البعث العربي الاشتراكي. زادت أيضاً قدرة ذلك التنظيم الناشئ بعد قرار النظام المايوي إرسال ألوية مقاتلة للمشاركة في الجبهة العراقية، والدفاع عن البوابة الشرقية للأمة العربية، فقد كانت تلك التجربة أيضاً في صالح انتشار وتمدد التنظيـ العسكري لحزب البعث داخل القوات المسلحة السودانية
. (3)
خلال العام ۱۹۸۳ تصاعد المد السياسي المعارض للنظام المايوي داخل القوات المسلحة السودانية. كانت الحرب الأهلية قد أطلت برأسها مرة ثانية في مايو من ذلك العام، حينما تمـــردت الوحدات العسكرية في بور والبيبور وفشلا ، وأرغمت القوات المسلحة على اقتحام معاقلها في ١٥ مايو ۱۹۸۳ . انتهت أكبر إنجازات النظام المايوي في إرساء دعائم السلام وبدء التنمية في جنوب السودان، وعادت القوات المسلحة إلى مستنقع الحرب الأهلية. أما الكارثة الثانية التي سارعت في وتيرة العمل السري داخل القوات المسلحة فتمثلت في إعلان وتطبيق قوانين سبتمبر ۱۹۸۳» سيئة السمعة، التي ألحقت الأذى بالقوات المسلحة العلمانية الجذور والقومية الانتماء، والتي عُرفت طوال تاريخها بالتسامح الديني والانصهار العرقي في صفوفها. في ذلك العـــام بــرز بوضوح نشاط التنظيم العسكري لحزب البعث.. وعندما أقول بوضوح أعني لأولئـــك الضباط المرتبطين سراً في معارضة النظام المايوي، رغم تفاوت درجات انتمائهم السياسي أو استقلاليتهم التامة، أو رفضهم لسياسات وممارسات النظام المايوي.
لم تظهر الملامح الأساسية للتنظيم البعثي، ووضوح هياكله القيادية والتنظيمية حتى ينـــــــاير ١٩٨٤ ، حينما بدأ حوار بين التنظيم العسكري البعثي و تنظيم الضباط الأحرار». كانت البدايــــــة في الأكاديمية العسكرية العليا، حيث يعمل اللواء عثمان بلول معلماً بكلية الدفاع الوطني، وتزامــل معه كدارسين في كلية الدفاع الوطني كل من اللواء بحري فتحي أحمد علي والعميد مهندس عبدالرحمن سعيد. كان اللواء فتحي أحمد علي قد انضم لـ «تنظيم الضباط الأحرار»، وبدأ فـ محاولة استقطاب عدد أكبر من القادة العسكريين لتنظيم تحرك موحد يهدف إلى وقف الطغيــــــان المايوي الذي وصل إلى أقصاه في تلك الفترة تحدث اللواء فتحي مع زميله في كلية الدفاع الوطني العميد عبدالرحمن سعيد، بعد أن لمس منه المعارضة الواضحة لسياسات النظام، وقــــد وافق العميد عبدالرحمن سعيد على الانضمام بعد إطلاعه على البرنامج السياسي والاقتناع بتكوين قيادة «تنظيم الضباط الأحرار». تم عقد اجتماع بين الطرفين في مقر سكن اللواء فتـــــــ أحمد علي، وكان ثالثهم في الاجتماع شخصي، حيث حضرت ومعي نسخة من البرنامج السياسي لـ«تنظيم الضباط الأحرار». جرى بين ثلاثتنا حوار طويل حول الوضع السياسي المتدهور، وضرورة توحيد جهود القوات المسلحة لإسقاط نظام الرئيس جعفر نميري. ولكن.. ما لم يقله العميد عبدالرحمن سعيد في ذلك الاجتماع أنه كان قد بدأ العمل مع ((تنظيم تجمع الشعب السوداني»، وهو اللافتة المعلنة للتنظيم العسكري البعثي كان رأي العميد سعيد أن يتحدث في الأمر إلى زميل آخر ، واتضح لاحقاً أنه كان العميد عثمان بلول، رابعنا في الأكاديمية العسكرية العليا، والقائد الفعلي – والأكثر نشاطاً – في التنظيم العسكري البعثي. في مرحلة لاحقة بدأتُ حواراً ومناقشة مفتوحة مع العميد بلول حول ضرورة الاتفاق على برنامج سياسي تتوحد حولــــــه كل تنظيمات العمل المعارض للنظام المايوي داخل القوات المسلحة باءت كل محاولاتي بالفشل،
إذ كان لدى العميد بلول تخوف غير مبرر وغير واقعي من وجود (( أصابع أمريكية» في «تنظيم الضباط الأحرار». جاءت قناعاته تلك من وجود اللواء بحري فتحي أحمد علي ضمن قيادة «تنظيم الضباط الأحرار»، والذي كان قد عاد إلى الوطن بعد أن عمل لثلاثة أعوام كملحق عسكري في سفارة السودان في بواشنطن. وفي بداية عام ۱۹۸۵ بدأ التيار الوطني الغالب، الضباط الأحرار في السعي لخلق جبهة عسكرية عريضة تدعم العمل الشعبي الذي بدا متعثراً الظروف موضوعية لا تخفى على أحد، إلا أن تشكك التيار القوي الآخر (التيار البعثي) في أي عمل غير عقائدي حال دون ذلك. بل أن البعثيين أخذوا في إطلاق الاتهامات حول الانقلاب العسكري الذي تدبره أمريكا كبديل للنميري، في ذات الوقت الذي أخذ فيه التيار البعثي في الجيش يعد العدة لانقلاب عسكري على السلطة شارك معهم في تخطيطه آخرون، وقد ضمت تلك المجموعة من الضباط عثمان بلول خالد الزين محمد عثمان كرار وعبد الرحمن سعيد». (۱) نتيجة لأوهام وأجندة عقائدية ضاعت خلال العام ١٩٨٤ فرصة ذهبية لتوحيد الجبهة القومية المعارضة للنظام المايوي داخل القوات المسلحة، وقطع الطريق على جنرالات نميري لقيادة المرحلة الانتقالية بعد سقوط النظام المايوي في ٦ أبريل ١٩٨٥.
(4)
في عصر يوم ۲٥ مارس ۱۹۸۵ خطب الرئيس جعفر نميري في أعضاء اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي السوداني خطبة الوداع، حينما تحدث بجهل وغرور وصلف شديد عن معاناة الشعب بعد رفع الدعم عن السلع الاستهلاكية الضرورية، وعن انعدام الوقود قائلاً: «لقد استمعت إليكم وأنا مندهش.. هناك اثنان ممن تحدثوا يسألاني عن سبب زيادة الأسعار، والصحف تكتب عن صفوف البنزين وهم لا يعلمون أنني لا أقدر منذ شهر ونصف على شراء جالون واحد، لسبب بسيط هو أنه لا يوجد المال الذي أشتري به، وقد توقف ۸۰% من طاقة المصانع لأنها تحتاج للوقود لتشغيلها ولا يوجد الوقود الكافي.. نحن يا جماعة بنتعرض لمؤامرة تستهدف شل حركتنا في الإنتاج لنكون سوقاً للتوريد.. نحن مستهدفون والجنيه سعره منخفض.. ولابد أن نزيد الأسعار ويجب أن تفهموا الناس ذلك، أم إنكم تخافون من شوية طلبة».. كانت الثورة الشعبية على النظام المايوي قد نضجت، وفي انتظار شرارة، وجاءت الشرارة المنتظرة في السادس والعشرين من أبريل ۱۹۸۵ عندما خرج «شويّة الطلبة» من جامعة أمدرمان الإسلامية في مظاهرة حاشدة والتحموا مع الجماهير في وسط أمدرمان، ثم اتجهت المظاهرة إلى «جمعية ود نميري إحدى رموز مايو والفساد المكروهة وقاموا بإحراقها.. وفي اليوم التالي، السابع والعشرين من مارس انتشرت المظاهرات الشعبية في معظم أنحاء العاصمة القومية الخرطوم.. كانت الانتفاضة على الأبواب.
في تلك المرحلة الحاسمة بدأ التنظيم العسكري البعثي - تنظيم تجمع الشعب السوداني» – في تجميع صفوفه، وحشد قواعده للتحرك وإسقاط النظام، فالظرف التاريخي قد حل، والحركـــــــة الجماهيرية تدق مساميرها في نعش النظام.. لم يكن ذلك التنظيم مستعداً من قبل لتلك الانتفاضة الجماهيرية، ولذا فقد كانت حركة قياداته مكشوفة وهي تسارع الخطى لقفل الثغرات التنظيمية.. لم تكن لديهم الوحدات العسكرية الضاربة والجاهزة للتنفيذ، خاصة في سلاح المدرعات، ووحدات العاصمة الأخرى. ظلت الاستخبارات العسكرية ترصد نشاط التنظيم العسكري البعثي منذ فترة، وهاهم قد خرجوا إلى العراء، فظهر العديد من القادة وبعضهم لم يكن معروفاً نشاطه المناوئ للسلطة المايوية. في تلك الظروف، بدأت القوات المسلحة في الغليان وأسقطت من كل حساباتها استمرار النظام المايوي، فتعذر على نائب القائد العام الفريق تاج الدين عبدالله فضل واستخبارا ته إلقاء القبض على قادة التنظيم البعثي إذ كانت مخاطرة كبيرة في مثل تلك الظروف المعقدة. لذا صدرت توجيهات الفريق تاج الدين للاستخبارات العسكرية بشل حركة التنظيم وفرض مراقبة مكشوفة ولصيقة على قادته - MAN TO MAN -.. قامت الاستخبارات العسكرية بوضع فرق مراقبة واضحة لكل من القادة الأربعة المتحركين: اللواء عثمان بلول، اللواء عبدالرحمن سعيد، والعمداء صلاح حسين آدم ومحمد عثمان كرار، أفشلت بصورة كبيرة حركة التنظيم خلال تصاعد الموقف وبدء العد التنازلي للنظام المايوي. رغم كل تلك الإجراءات والمراقبة الأمنية المكشوفة، تصرف أولئك القادة بشجاعة في تصعيد الموقف داخل القوات المسلحة، وتحريض الضباط في الوحدات العسكرية لرفض التصدي للحركة الجماهيرية
(5).
تسلَّم المجلس العسكري الانتقالي الحكم في صباح اليوم السادس من أبريل ١٩٨٥، بعد إعلان انحياز القوات المسلحة السودانية إلى جانب الشعب حقناً للدماء !! بعد عدة أسابيع بدأ إحساس المجلس بمخاطر التنظيمات السرية، التي طفت مجبرة إلى السطح خلال الانتفاضة، ونادت جهراً بإسقاط النظام وتسليم السلطة للشعب رفع الفريق تاج الدين عبدالله فضل تقريراً للمجلس العسكري الانتقالي برصد تحركات انقلابية داخل الجيش، وأرفق قائمة تضم أسماء تسعة عشرة ضابطاً.. كان قرار المجلس الذي يدافع عن «مؤخرته» و «بقائه» إحالة ثمانية عشر ضابطاً من تلك القائمة إلى التقاعد.. عدا واحد شفع له انه بطل القوات المسلحة، ويحمل وسام الشجاعة من الطبقة الأولى مرتين.. وهو «العميد طيار محمد عثمان حامد کرار خرجت معظم قيادات التنظيم العسكري لحزب البعث العربي الاشتراكي من القوات المسلحة.. ولكن استمر التنظيم في نشاطه السري ليعود إلى مسرح الأحداث للمرة الأخيرة في ۲۳ أبريل ۱۹۹۰.. العودة التي انتهت بمذبحة لم يشهد تاريخ القوات المسلحة السودانية مثيلاً لها.
(6)
تنظيم الضباط الأحرار ١٩٨٣ - ١٩٨٥
بدأت الحرب الأهلية في جنوب السودان مرة أخرى في ١٥ مايو ۱۹۸۳ بعد تمرد الحاميات العسكرية في بور والبيبور وفشلا وهروب عدد من القادة على رأسهم العقيد د. جون قرنق دي مابيور . لم يكن التمرد الجديد إلا بسبب السياسات الرعناء التي انتهجها الرئيس نميري، وقادت إلى تدمير أكبر إنجازات النظام المايوي المتمثلة في اتفاقية أديس أبابا ۱۹۷۲»، والتي حقــــت السلام والاستقرار لمدة عشر سنوات، عرف خلالها المواطن الجنوبي لأول مرة الحياة الطبيعية، وتوفر بعض الخدمات الأساسية كالصحة والتعليم وعرفت فيها القوات المسلحة فوائد فترات السلم في تطوير قدراتها، وتدريب ضباطها وجنودها، وتوفير حياة مستقرة لهم. بحلول شهر مليو ۱۹۸۳ بدأت القوات المسلحة في تجهيز الوحدات المقاتلة الموجودة في الشمال، والدفع بها إلى مناطق العمليات عن طريق البر أو النقل النهري أو جواً.. وهو ما ظل يحدث منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا.
في الثامن من يوليو ۱۹۸۳ وصلت إلى مدينة «كبويتا» مجموعة من القوات الخاصة التابعة للفرقة المظلية تحت قيادة المقدم خالد محمد فرج، لتعمل تحت قيادة الفرقة الأولى مشاة - الفرقة الجنوبية - المسئولة عن الأقاليم الجنوبية الثلاثة (3) تربطني بالمقدم خالد علاقة صداقة كبيرة،
وقد كنا زملاء في الدراسة الثانوية وفي الكلية الحربية، لذا فهنالك الكثير من الثقة بيننا . حدثنـى المقدم خالد في تلك الليلة أنه ومجموعة من الضباط - وقد ذكر لي بعض الأسماء - قد قاموا بتكوين تنظيم سري داخل القوات المسلحة، وأن التنظيم يهدف للإطاحة بالنظام المايوي بعد أن تمادى في الديكتاتورية وقهر الشعب، وأصبح الأمر لا يمكن السكوت عليه من قوات مسلحة، واجبها الدفاع عن الشعب والدستور. دار بيننا تلك الليلة حوار طويل، وقد وافقته على كل ما جاء في نقده للنظام المايوي الدكتاتوري.. وإن تحفظت على أسلوبهم الذي انتهجوه فــــــي بنـــاء ذلك التنظيم، فهو عبارة عن جبهة تحالف عريضة ضمت العديد من الضباط الرافضين للنظ المايوي، ولكن تختلف رؤاهم السياسية ودرجة وعيهم السياسي.. فمثل تلك التنظيمات تكون دائماً عرضة للاختراق والملاحقة، خاصة أن الاستخبارات العسكرية قد تمرست في الأمر. كان تحفظي في مكانه ، فما أن عاد المقدم خالد فرج إلى العاصمة، واستمر في نشاطه، حتى تم إلقاء القبض عليه خلال شهر أكتوبر ، وعلى أربعة وثلاثين ضابطاً من كوادر تنظيمهم. «إن إدارة الاستخبارات كانت قد وضعت يدها على ذلك التنظيم العريض في العام ۱۹۸۳ والذي كان عبارة عن جبهة تشكلت من اليمين واليسار والوسط وكل ألوان الطيف السياسي بهدف الإطاحة(4)
بالرئيس نميري ونظامه». كان واضحاً أن ذلك التنظيم قد ضرب بالكامل نتيجة لاختراق
مدروس.. ولم تكن أصابع الإخوان المسلمين بعيدة عن تلك الضربة، فالتنظيم يغلب عليه عنصــــو اليسار العريض، ولكن.. كان بينهم ضابط من المدرعات برتبة الملازم أول يدعى إبراهيم شمس الدين، وقد طرد من الخدمة بعد كشف المحاولة، لكنه أعيد إلى العمل بقرار من الفريق تاج الدين عبد الله فضل في العام ۱۹۸۵ ، ليكون رأس الرمح في انقلاب الجبهة الإسلامية بعد أربعة أعوام تالية. «... ثم محاولة صغار الضباط الذين ينتمون إلى التيار اليساري بقيادة المقدم خالد محمـــــد فرج والرائد عمر عبد المجيد بهدف خلق نظام أكثر ثورية في أواخر العام ١٩٨٣. ومن المفارقات العجيبة أن تلك المجموعة اليسارية ضمت ضابطاً صغيراً هو الرائد إبراهيم شمس الدين الذي لعب دوراً هاماً، فيما بعد في أكثر انقلابات السودان (يمينية». 5))
شهد العام ۱۹۸۳ أحداثاً هامة تركت آثارها العميقة على وجه السودان، في بدايته تم خرق «اتفاقية أديس أبابا» وتقسيم الجنوب، وفي منتصفه تمردت الوحدات العسكرية في الاستوائية وأعالي النيل لتبدأ الحرب الأهلية مجدداً.. أما في أواخره، فقد حل الهوس الديني ومحاكم الطوارئ مع «قوانين سبتمبر » الظلامية، ونَصَّبَ الرئيس نميري نفسه إماماً للمسلمين بتخطيط مع حلفائه من الإخوان المسلمين الذين كانت كل حساباتهم مبنية على إرث النظام المايوي في قريب عاجل، بعد أن اخترقوه وتمددوا في كل دهاليزه في تلك الأجواء المتوترة في الجنوب والشمال عاد تنظيم الضباط الأحرار» إلى العمل مرة أخرى عند مطلع العام ١٩٨٤. لم يكن التنظيم قد انتهى تماماً بعد توقف نشاطه المؤسسي منذ بداية العام ۱۹۷۸، فقد استمر العديد مــــــن قياداته وكوادره على اتصال مهني وسياسي واجتماعي. عاد التنظيم هذه المرة دون أي تحـالف متكامل مع كوادر الحزب الشيوعي، فقد كانوا هم السبب المباشر في الأزمة التي أصابت التنظيم، وتوقف نشاطه عند العام ۱۹۷۷ ، فمنذ بداية الستينات تشكل تنظيم الضباط الأحرار» من تحالف جبهوي يضم الديمقراطيين والشيوعيين والمستقلين المتحدين في برنامج سياسي مشترك. كانت مبادرة
إعادة بناء التنظيم من العقيد الركن عصام الدين ميرغني، وأول من استجاب من قادة التنظي الأسبق كان العقيد الركن عبد العزيز خالد، ثم تلاه العقيد الركن حيدر بابكر المشرف.. بدأت الاتصالات الحثيثة لإعادة كل أعضاء التنظيم القديم، واستقطاب عضوية جديدة بحذر شديد، فقد كانت أجهزة أمن النظام المايوي على درجة عالية من الاحتراف في ملاحقة التنظيمات العسكرية السرية. جاءت أكبر نجاحات التنظيم في ضم اللواء بحري فتحي أحمد علي، الذي كان دارساً في دورة بـ «كلية الدفاع الوطني» في الأكاديمية العسكرية العليا، وكان ذلك مؤشراً واضحاً لتمدد التنظيم بسرعة داخل القوات البحرية ومنطقة بورتسودان.
عندما تمت صياغة أهداف التنظيم والبرنامج السياسي، كان واضحاً أن نهجاً جديداً في عمل التنظيمات العسكرية السرية داخل القوات المسلحة قد تم خطه، وهو النأي عن التفكير الانقلاب الكلاسيكي، والوقوف مع الشعب السوداني وخياره في النظام الديمقراطي. اتسم قـــــــادة وكوادر التنظيم الأخرى بوعي سياسي كبير، بعد ما تلمسوه عن قرب من ممارسات الديكتاتورية المايوية وما لحق بالوطن من دمار .. وما عايشوه من آثار ضارة لحقت بالقوات المسلحة، حيث تدنت قدراتها القتالية والمعنوية وتفشى الفساد والمحسوبية داخلها. كان إجماع قيادة التنظيم على استعادة الديمقراطية عبر الإطاحة بنظام جعفر نميري باستخدام القوة العسكرية، وبتحالف عريض يبنـــــــي مع القوى الحديثة. بعد مرور أكثر من سبعة عشر عاماً على ذلك التاريخ، ونتيجة لضياع معظم وثائق «تنظيم الضباط الأحرار»، أو إخفاءها عقب انقلاب الجبهة الإسلامية في يونيــــــو ١٩٨٩، تعذر الحصول على الوثيقة الأصلية للبرنامج السياسي لـ «تنظيم الضباط الأحرار» الذي تمـت إجازته خلال شهر فبراير ١٩٨٤. كانت أبرز الملامح الرئيسية لذلك البرنامج هي:
أ. الهدف: إسقاط النظام الديكتاتوري المايوي واستعادة الحرية والديمقراطية للشـعب السوداني.
ب الوسيلة عملية عسكرية يقودها «تنظيم الضباط الأحرار» بالتنسيق مع جهات مؤثرة في القوى الحديثة، خاصة النقابات لتوفير المساندة الشعبية والدعم المدني لنجاح التحرك.
ج-الأهداف السياسية ونظام الحكم الانتقالي : يتم تشكيل حكومة انتقالية قومية تهدف خلال ثلاث سنوات إلى وقف الحرب في جنوب السودان، وتحقيق السلام، وتنفيذ برنامج الانتقال إلى الحكم الديمقراطي.
د. الاقتصاد: وقف التدهور الاقتصادي، ومعالجة التشوهات التي أحدثها النظام المايوي بالتقلب والتبديل في السياسات الاقتصادية، ويتم وضع خطط الإصلاح الاقتصادي بعد الدعوة لمؤتمر قومي يهدف إلى وضع السياسات المستقبلية.
و-السياسة الخارجية: انتهاج سياسة خارجية متوازنة بعيدة عن المحاور والإستقطاب، وتهدف إلى استعادة العلاقات الحميمة مع دول الجوار، وفي المحيطين العربي والأفريقي.
القوات المسلحة: إزالة آثار ممارسات النظام المايوي الضارة داخل القوات المسلحة، وإعادة بنائها علي أسس قومية واحترافية مجردة، تهدف إلى ضمان ولائها للشعب والوطن.
اتخذ التنظيم قراراً بتكوين قيادة مركزية سميت بـ «المجلس القيادي»، على أن تعمل تلك القيادة بنهج ديمقراطي في اتخاذ القرارات، وتنفيذ سياسات وبرامج التنظيم، وبجماعية تضمن
وحدة القيادة، وقد تم اختيارها من(6)
1-اللواء بحري الركن فتحي أحمد علي. العميد مهندس
2-(م) علي التيجاني علي.
3-العقيد الركن حيدر بابكر المشرف.
4-العقيد الركن عبد العزيز خالد عثمان.
5-العقيد الركن عصام الدين ميرغني طه.
6-المقدم الركن عبد الحليم صالح جاويش.
بدأت خطة عمل تنظيم الضباط الأحرار» بأسبقيتين، كانتا كما يلي:
.أ. بناء التنظيم العسكري داخل القوات المسلحة بالتركيز أولاً على كوادر التنظيم السابقة، المؤتمنة والموثوق بها، لتشكيل قلب التنظيم»، ثم الانتشار المدروس بمراعــــــاة أكبر قدر من الضوابط الأمنية. يتم بناء التنظيم في خلايا عنقودية تمنع تسرب أي معلومات إلى أجهزة الأمن المايوية حال انكشاف أو حدوث أخطاء استقطاب أو تجنيد في إحدى الخلايا.
ب بناء قاعدة المساندة المدنية وسط النقابات المهنية المؤثرة ويكون ذلك عبر
الاتصال مع القوى الحديثة»، وأن يراعى النشاط وسط النقابات التعامل مع مندوبين مؤثرين فيها، وألا يكونوا من العناصر الملاحقة أمنياً. وضعت أسبقية للعمل في المرحلة الأولى مع النقابات المهنية المؤثرة وكانت كما يلي:
نقابة أساتذة جامعة الخرطوم.
نقابة الأطباء.
نقابة المهندسين.
نقابة المحامين.
أعضاء
ج-بعد تكملة المرحلة الأولى وفق الأسبقيات التي تحددت أعلاه، تصبح المرحلة الثانية هي التوسع في الاتصالات والاستقطاب وسط النقابات الأخرى والقوى السياسية المعارضة للنظام لتنفيذ خطة العمل وسط القوى الحديثة، تم اختيار ثلاثة مـ «المجلس القيادي» لتولي تلك المسئولية، وهم: العميد مهندس (م) علي التجاني علي ،العقيد الركن حيدر بابكر المشرف والعقيد الركن عبد العزيز خالد عثمان.
(7)
شهدت تلك الفترة في بدايات العام ١٩٨٤ سعى تنظيم الضباط الأحرار» لتوحيد العمل •
السياسي الديمقراطي داخل القوات المسلحة السودانية كان هنالك تنظيم «تجمع الشعب السوداني» الذي كان يعمل بنشاط داخل القوات المسلحة، وقد وضحت لنا أبعاد ذلك التنظيم عند محاولة ضم العميد مهندس عبدالرحمن سعيد – التي سبق الإشارة لها - وأيضاً عبر العلاقة الحميمة التي تربط بين العقيد حيدر بابكر المشرف بالعقيد طيار محمد عثمان حامد كرار . بدأ الاتصال والحوار مع تنظيم «تجمع الشعب السوداني» عندما كنتُ أعملُ سكرتيراً أكاديمياً لكلية الدفاع الوطني بالأكاديمية العسكرية العليا أكاديمية نميري العسكرية العليا خلال العام ١٩٨٤، وكان العميد الركن ـ آنذاك ـ عثمان إدريس بلول يعمل معلماً في الأكاديمية. كانت تحفظات العميــــــد بلول في توحيد العمل نابعة في الأساس من غرور تنظيم البعثيين في تحقيقهم لدرجة انتشار جيدة، وقناعتهم بقدرة التحرك المنفرد، خاصة لما في ذلك من إيجابيات في الحفاظ على الغطاء الأمني والسرية التي حققها تنظيمهم.. أما الجانب الثاني فهو وقوف التنظيم على قاعدة عقائديــــــة تسعى للاستيلاء على السلطة لصالح حزب البعث العربي الاشتراكي في نموذج مشابه لما حدث في العراق خلال جلسات النقاش والحوار لتقريب وجهات النظر ، لم يُفصح العميد بلول عن الأسباب الجوهرية التي تطرقنا لها أعلاه، لكنه وضع كل تحفظاته على شخص اللواء فتحي أحمد علي الذي كشف موقعه العميد عبد الرحمن سعيد كان رأي العميد بلول ـ وبالطبع رأي تنظيمه ـ أن عمل اللواء فتحي كملحق عسكري في واشنطن لمدة ثلاث سنوات قــد خلـق لـــه علاقات وطيدة مع الإدارة الأمريكية.. ولن يسلّم أي عمل تنظيمي يشارك فيه اللواء فتحــــي مـــن تلك المؤثرات لم تتحقق الوحدة التنظيمية المرجوة داخل القوات المسلحة، وظل كلا التنظيمين يعملان في مسار واحد .. وكان لذلك آثار سياسية وأمنية ضارة بالعمل السري داخل القوات المسلحة للإطاحة بالنظام المايوي.. وضح ذلك بجلاء حينما بدأ الشارع السوداني في الانتفاض.. فكلا التنظيمين دون القدرة الملائمة للتحرك ضد نظام دكتاتوري بدأت أركانــــه وقواعـــــده فـــــي التهاوي.
كانت إحدى إنجازات اللواء بحري فتحي أحمد علي استقطابه لصديقه وزميله في كلية الأركان البريطانية دفعة) ١٩٧٤) اللواء الركن عثمان عبدالله.. إطَّلَعَ عثمان عبدالله على برنامج التنظيم، ورأى فيه مخرجاً من الأزمة والتدهور الذي تسير إليه البلاد.. ثم أدى القسم للتنظيم باشتراط ألا يعمل ضمن مجلس قيادي، وأن يؤدي مهامه من موقعه لخدمة أهداف التنظيم. قبل التنظيم تلك الرغبة، فاللواء الركن عثمان عبدالله كان قد تقلد لتوه منصب مدير فرع العمليات الحربية، وهو الفرع القادر على التأثير المباشر على تحركات كل تشكيلات ووحدات القوات المسلحة. أما الإنجاز الثاني للواء فتحي أحمد علي فقد كان في بناء التنظيم في منطقة البحر الأحمر، التي تضم القوات البحرية وقوات الدفاع الجوي ومدرسة المشاة في منطقة جبيــــت، وعاونه في تلك المرحلة اثنان من كوادر التنظيم في منطقة البحر الأحمر، هما الرائــــد بـحـــــري محمد جكنون والرائد بحري معتصم العجب. كان الخطأ الأكبر في مسيرة اللواء فتحي في «تنظيم الضباط الأحرار» هو تجنيده لأحد ضباطه في قاعدة فلامنجو البحرية»، وهو العقيد بحري سيد الحسيني عبد الكريم.. لم يتضح مقدار ذلك الخطأ إلا حينما خان الحسيني قائده وتنظيمه لصـ ـالح الجبهة الإسلامية في يونيو ۱۹۸۹.
في الأسبوع الأخير من مارس ۱۹۸۵ بدأت المواجهة الشعبية ضد نظام جعفر نميري..
كانت تلك اللحظة التاريخية التي عمل تنظيم الضباط الأحرار» على بلوغها قد حلت، ولكن عند تقييم الموقف السياسي والعسكري برزت لقيادة التنظيم الحقائق التالية:
أ. التقييم العسكري: توجد قواعد جيدة للتنظيم، وقادرة على التحرك في منطقة
الخرطوم، في الدفاع الجوي وسلاح المهندسين والكلية الحربية وادي سيدنا . قوة التنظيـم واضحة في منطقة البحر الأحمر. نقاط الضعف الأساسية في منطقة الخرطوم، وتمثلت
بوضوح في قلة كوادر التنظيم في سلاحي المدرعات والمظلات أفضت خلاصة التقييـم العسكري – تقدير الموقف – إلى أن التنظيم لا يستطيع في تلك المرحلة القيام بتحرك منفرد لإسقاط النظام المايوي، لكن يمكنه التأثير بشدة على مجريات الأحداث في منطقتي الخرطوم والبحر الأحمر، والاستفادة من أي متغيرات عسكرية لتحسين قدراته في التحرك.
ب. تقييم قاعدة المساندة المدنية: استطاع التنظيم بناء قواعد مساندة وتنسيق جيدة وسط النقابات المهنية وخاصة نقابة أساتذة جامعة الخرطوم والأطباء والمهندسين. تلك القاعدة المساندة للتنظيم قادرة على المشاركة الفعالة في أي خطة عامة تهدف إلى تصعيد الموقف ضد النظام المايوي.. وستكون أكثر قدرة في حالة تصاعد الموقف إلى انتفاضة شاملة ضد النظام المايوي.
خطة العمل الملائمة يعمل التنظيم على تصعيد المواجهة وحركة الرفض للنظام المايوي داخل القوات المسلحة باستخدام كوادره في القيادة العامة والوحدات العسكرية الأخرى. يقوم فريق الاتصال مع النقابات المهنية بتصعيد الموقف السياسي، على أن يستمر التشاور والتنسيق وفق تطورات الأحداث.
فاجأت الانتفاضة الشعبية في مارس / أبريل ۱۹۸۵ الجميع.. من نظام حاكم، إلـــى قــــوى
سياسية، وحتى القوات المسلحة.. وبالطبع تسارعت تطورات الأحداث، مع استمرار عدم جاهزية «تنظيم الضباط الأحرار» في تنفيذ تحرك عسكري منفرد «أستطيع أن أؤكد هنـــا أنـه حتـى صبيحة يوم 6 أبريل ١٩٨٥.. لم يكن هنالك تنظيماً يستطيع القيام بذلك، أي بتغيير أو قلب الحكم، ولكن لا أستطيع أن أجزم بأنه لم يكن هنالك تنظيم موجود، والمؤكد أنه حتى في حالة وجوده لم يكن جاهزاً»8. كانت تلك حقيقة.. فكما أسلفنا من قبل، لم يكن «تنظيم الضباط الأحرار» بقادر على إسقاط النظام المايوي في تلك اللحظات الحاسمة.. رغم ذلك قامت كـــــــوادر «التنظيم» في مختلف مواقعها، سواء كانت بالقيادة العامة أو الوحدات العسكرية في العاصمة القومية، بقيادة وتصعيد حركة الرفض والعصيان، ومطالبة القيادات العسكرية العليا برفض تصدي القوات المسلحة للمظاهرات الشعبية، والدفع بقوة في في اتجاه مساندة الحركة الجماهيرية.
صباح يوم الخميس، الرابع من أبريل ۱۹۸۵، وفي محاولة من النظام المايوي للتشبث بالسلطة، أرسل اللواء عمر محمد الطيب، رئيس جهاز أمن الدولة بعض وحداته بالزي المدنــــــي، وأخرى بزي القوات المسلحة إلى الشوارع لقمع المظاهرات، وذلك بعدما تيقن من رفض وحدات القوات المسلحة الخروج في تلك المهمة في ذلك الصباح اتخذ تنظيم الضباط الأحرار» قراراً بالتصدي لمحاولات جهاز أمن الدولة لقمع الانتفاضة الشعبية.. أجرى القيادي في التنظيم العقيد عبدالعزیز خالد، رئيس شعبة العمليات في القيادة العامة اتصالاً مع اللواء عثمان السيد في جهاز أمن الدولة، وأخطره بأن فرع العمليات الحربية قد رصد نزول وحدات تابعة لأمن الدولـة إلــى الشوارع، وكانت تقوم بإطلاق النار على المتظاهرين.. طلب منه العقيد خالد سحب تلك الوحدات منعاً لتصعيد الموقف، إذ أن تدخلها بالزي العسكري للقوات المسلحة إجراء خاطئ، وأن القوات المسلحة ترفض مبدأ التدخل لقمع المظاهرات الشعبية.
كانت تلك هي الساعات الحاسمة في عمر النظام المايوي.. مساء الجمعة، الخامس من أبريل ١٩٨٥.. وضح الرفض الكامل من الشعب السوداني وقواته المسلحة لاستمرار النظــــام المايوي.. تفاقم الموقف وتعاظمت خطورته بعد تهديد الضباط في سلاحي المهندسين والمدرعات بتحريك قواتهم إلى داخل الخرطوم، إن لم تتخذ القيادة العليا للقوات المسلحة قراراً بالتدخل وإقصاء المشير جعفر نميري.. كانت تلك هي الساعات الحاسمة التي أدار فيها «تنظيم الضبـــــاط الأحرار» أجزاء من معركة إسقاط النظام المايوي بتوظيف كل قدراته وقواعده في الوحدات العسكرية المختلفة. يبدو لي أن الكثير من أعضاء هيئة القيادة ظنوا أن العميد عثمان عبد الله كان يترأس تنظيماً واسعاً وسط الضباط، وهو ما جعلهم ينتظرون منه دائمـــاً القيام بالخطوة التالية، حتى أن مدير الاستخبارات العسكرية ظل في مكتبه قابعاً منتظراً لما تأتي به الأحداث، أو ما يفعله العميد الركن عثمان عبد الله !!!» 9
كان في ذلك بعض الحقيقة.. فاللواء عثمان عبد الله حافظ على اتصاله بـ «تنظيم الضباط الأحرار» طوال فترة تصاعد الأحداث عبر قناة مفتوحة شكلها مساعده في فرع العمليات
الحربية، العقيد عبد العزيز خالد مع قيادات التنظيم، واستطاع بدوره تفعيل رؤى التنظيم السياسية،
ومواصلة التنسيق والتشاور مع بعض قادة القوى النقابية.. وكان كل ذلك مواصلة لخط تنظيمـ استمر منذ مطلع العام ۱۹۸٤. «... من خلال بعض الضباط في العمليات الحربية – العميد الركن عبدالعزيز خالد كان أحد رؤساء الشعب بفرع العمليات، وكانت له اتصالات وثيقة بالتجمع – والذين كانت لهم علاقات بالتجمع الوطني والذي كان مقره نادي أساتذة جامعة الخرطوم، كـــان قد فتح قناة حوار مع التجمع».(10)
استطاع اللواء عثمان عبدالله التأثير على خطوات وقرارات القيادة العسكرية العليا للقوات المسلحة، التي كانت تفتقر إلى الرؤية السياسية الشاملة، ولم تتحسب لأن تكون في مثل ذلك الموقف السياسي المعقد كان لدى اللواء عثمان عبدالله الذي فوضه المجلس العسكري الانتقالي لإدارة الحوار مع «التجمع النقابي» نسخة من البرنامج السياسي لـ «تنظيم الضباط الأحرار، (٢) والذي شكل في مجمله قاعدة مقبولة للوصول إلى اتفاقات في وضع ترتيبات الفترة الانتقالية، وبدء التحول إلى النظام المدني الديمقراطي. كان تحرك ونشاط تنظيم الضباط الأحرار» في تلك الأيام الحاسمة من انتفاضة أبريل ۱۹۸۵» أنموذجاً من الإسهام الفاعل للقوات المسلحة السودانية في مقاومة الدكتاتورية العسكرية، والانحياز).
انتهى سرد أبوغسان ولعل القارى يخرج بمايلى:-
1- انه كان يوجد تنظيم عسكرى داخل الجيش يقوده القائد العام ،وكان يجب ان يقدم ذلك فى محاكمة مدبرى انقلاب 30يونيو ...ياترى لماذا لم يذكر ذلك فى استجواب شاهد الاتهام الفريق عبد الرحمن محمد سعيد وغيره ...لان هذه افادة مهمة قانونيا .اظن ان هيئة الدفاع لم تطالع هذا الكتاب القيم والرائع ...وخاصة القانونى الرفيع سبدرات.
2- من المعروف ان مذكرة الجيش هى التى مهدت لانقلاب 30يونيو . ومن صاغ المذكر هو تنظيم الضباط الاحرار ...وفى المثل السودانى (التسوى بيدك يغلب اجاويدك!!!)
3- كان دور الفريق بحرى سيد الحسينى عبدالكريم محوريا فى نجاح تحرك 30يونيو...وتقول الروايات انه كان واحد من اربعة عملوا بلوك للقائد العام وعزله هم ضحوى ...كمال على مختار ...وعبد الرزاق الفضل عليهم رحمة الله.(مصائب قوم عند قوم فوائد) .
4- عصمت ميرغنى عليه رحمة الله شقيق عصام اعدم فى انقلاب البعثثين 1990 .فهل كان عصام يجهل ذلك لانه تجنب ذكره وذكر غيره.
5-عبدالعزيز خالد عمل فى المستقبل مع تيسر محمداحمد فى انشاء فصيل غير القيادة الشرعية التى انضم له أبوغسان مما يشى بتشظى التنظيم .
6-.-من السرد يتضح محدودية التنظيم لكن فعاليته فى لحظة الانتفاضة 1985.
7-من الواضح ان تنظيم الاسلامين كان مخترق كل المجموعات التنظيمة الحية داخل الجيش . بدليل استقطاب بعضها وتمثيله فى مجلس قيادة الثورة .اتمنى ان يزاح الستار عن الوثائق الرسمية عن ذلك بعد30 عاما حتى تستفيد الاجيال القادمة.
.المراجع:-
(۱) منصور حالد النخبة السودانية وادمان الفشل. جزء ٢. ص ـ ١٦ .
(٢) فتحي الضو محمد، محنة النخبة السودانية. ص ـ ١٧ .
(3) أصدر المشير جعفر نميري قرار التقسيم بالأمر الجمهوري رقم (۱) الصادر في ١٥ يونيو ۱۹۸۳ ضارباً عرض الحائط باتفاقية أديس أبابا.
(4)السر أحمد سعيد السيف والطغاة ...ص103
(5) منصور خالد، مصدر سابق. جزء2...ص15
(7) الترتيب وفق أقدميات المجلس القيادي ولكن لا يعني ذلك سريان الأقدمية أو ممارسة السلطات القيادية خلال الاجتماعات.
(8) السر أحمد سعيد، مصدر سابق، ص ــ 102.
(9) السر احمد سعيد، مصدر سابق. ص ـ 105 .
(10) السر أحمد سعيد، مصدر سابق في إفادته عن الدور الذي لعبه اللواء عثمان عبدالله في انتفاضة أبريل ١٩٨٥). ص ـــ ١٠٥. (۲) في الساعة الخامسة من صباح السبت السادس من أبريل ،۱۹۸۵، طلب اللواء عثمان عبد الله من العميد عبدالعزيز خالد نسخة (إضافية) البرنامج السياسي لـ«تنظيم الضباط الأحرار» وقد سلمها له العقيد عصام الدين ميرغني في تمام الساعة السابعة صباحاً.
ganaboo@gmail.com