سعد أمير طه: وهذا سحر يؤثر (2-2)

 


 

 

عبد الله علي إبراهيم

(سعد أمير هو ثالث ثلاثة أقول عنهم "استاذي" بلا مواربة: عبد الخالق محجوب، ويوسف فضل، وسعد. وجمعتني معرفة بالدكتورين عبد اللطيف سعيد والشيخ محمد الأمين بوثاق تلمذتنا على سعد: عبد اللطيف في طابت الوسطي، والشيخ في النيل الأبيض الوسطى، وأنا في عطبرة الأميرية. وكنت أرتب معهما لعقد سمنار عن سعد كمعلم استثنائي واضطرب الأمر بالحرب وإن جمعت طرفاً من آثاره من دكتور الشيخ. وتذاكرت أمره بالأمس مع الدكتور عبد الرحمن إبراهيم. وهيجتني الذكرى)
جاء المرحوم سعد أمير إلى مدرسة عطبرة الأميرية في العام 54/55 الذي قضاه معلم اللغة العربية الأصيل بالمدرسة، المرحوم الشيخ أبو زيد محمد الأمين الجعلي، نفعنا الله بذكره، بكلية التدريس ببخت الرضا. ولم يخف الشيخ أبو زيد ضيقه بهذا التدريب الذي جاءه في الكبر. ويبدو أن هناك من اشتكى أن شيخ أبو زيد، الوضئ الرضي، لم يكن يتقيد في تدريسه بحرفية المنهج المرسوم. بخطرات له مشهودة مأخوذة من زكي مبارك أو المازني أو ما شئت. وأذكر أنه لما عاد من بخت الرضا بدأ يملي علينا مباشرة من "مرشد المعلم" عبارات مثل "وعلى المعلم أن يفعل كذا وكذا". وحين استغربنا قال:
- ألم يقل قائلكم أن أتقيد بالمنهج المقرر. وهذا هو المنهج.
ولم يتب شيخ أبو زيد. ولا زلت استغرب لهذا المعهدي (خريج المعهد العلمي) ونسل الدوحة الجعلية بكدباس تدريسه لنا في نفس العام قصيدة (عبري) للشاعر المرحوم الجيلي عبدالرحمن وهي درة شعره في الديوان المسمى "قصائد من السودان" الذي هو نتاج يساري شعراً ونثراً.
شغل المرحوم سعد محل شيخ أبو زيد يدرسنا مادة اللغة العربية بالسنة الثالثة وسطى. وجاء سعد بالعجب العجاب. فلم أدرس العربية بالنضارة التي يضفيها عليها سعد لا قبل ذلك ولا بعده. ولم أسمع ممن حولي من تلقى العربية على معلم في حيوية سعد وشغفه إلا ما كان من أمر المرحوم عبد الله الشيخ البشير، ابن أخي، رحمه الله وأحسن إليه.
ما أزال كلفاً بمعرفة كيف وقعت لسعد هذه الطرائف العذبة في التدريس. ولا خلاف أنه جاء مشرباً بالوقائع الفكرية والجمالية لليسار المصري في الخمسينات بما في ذلك عشقه الواثق للغة العربية وإحسانه لها. فقد درسنا سعد شيئاً من شعر صلاح عبد الصبور ودرسنا "أيام" طه حسين التي هي وثيقة اجتماعية طرب لها ذلك اليسار كما طرب لمواقف طه بشأن حرية الفكر وحق التعليم الذي هو كالماء والهواء. ولست استغرب انغماسه في كل ذلك وانفعاله به، ولكن الذي يحيرني هو طرائق التدريس التي ابتكرها لنا وأركبنا بها المراكب الصعبة دهشين مسحورين.
فقد جاءنا بما أسماه "التطبيق الأدبي" وعهدنا بالتطبيق أنه ذلك الذي نشقى فيه بالإعراب والنحو شقاء الشاعر التيجاني يوسف بشير الذي ذكر "المعهد العلمي" وقال في إشهار محبته له:
ولقيتُ من عَنَتِ الزيودِ مشاكلاً وشقيتُ من عمروٍ ومن إعرابه
وكان تطبيق سعد الأدبي نافذة على خمائل اللغة العربية الغناء، وجمالها الأخاذ، وبلاغتها الغرَّاء. فقد كان يشرح لنا الأساليب مثل "الأسلوب التلغرافي" ويسأل في التطبيق أن نأتي بمثل عليه. وكان يسألنا أيهما أشعر في الوطن "وطني لو شُغلت بالخلد عنه.." أو "وحبَّب أوطان الرجال إليهم.." وقس على ذلك. وكان يشرح لنا الأمثال العربية مثل "كحامل التمر إلى هجر" و "على نفسها جنت براقش" ويسألنا أن نكتب قصة نختمها بالمثل المطلوب.
وأما أمر سعد مع طه حسين فعجيب. كان يحفظ "أيام" العميد عن ظهر قلب. وكنا إذا فرغنا من فصل من الكتاب وقف سعد بيننا مهيباً وقد أغلق كتابه وأغلقنا كتبنا حسب طلبه. ثم يبدأ سعد بأول جملة في الفصل المقرر يجترها من رأسه لا كراسه، ويظل يدور بيننا يسألنا أن نكمل الفصل، فيأتي هذا بجملة، ويتلوه آخر، ثم ثالث، وهكذا يزهر الفصل من "الأيام" في ذاكرتنا وشفاهنا عقداً نضيداً. ومتى استعصت علينا جملة أو غابت صوبنا وعوضنا عن فقدنا. ولا أزال أذكر وقفته بيننا بعد فراغنا من درس الفصل الأول من الكتاب يقول "ولا يذكر لذلك اليوم اسماً ولا يستطيع أن يضعه حيث وضعه الله من الشهر والسنة". وزرعنا الفصل جملة جملة حتى بهاء آخره.
ولعل أعجب وأندر وأبدع ما سألنا سعد هو أن نحول فصلاً من كتاب "الأيام" إلى مسرحية. فتأمل ثقة الرجل فينا، وتقحمه بنا، نحن الذين لم نكمل الثالث عشر ربيعاً ممن معرفتنا بالمسرح النذر، هذه المجاهل الفيحاء في فنون الكتابة.
كان واضحاً أن سعد يعد نفسه معلماً مؤدياً فناناً. ولذا كان حريصاً على أن يرتب بيئة الفصل، بيئة التلقي، بصورة يكون عنانها كله في يده. فقد كان يطلب حال دخوله الفصل أن نخلع عمائمنا المرتجلة عن رؤوسنا، وأن نحشرها في الدرج، حتى يتلافى انشغالنا بها انفضاضاً ولفاً. وكذلك كان يسألنا أن نضع "رزة" الدرج في فك الدرج نفسه حتى لا يدفعنا ملل الصبية إلى طرقها.
وبهذا الضبط يكون سعد، المؤدي الفنان، سيد الموقف ينعقد له السمع والطاعة، وتسلس له قيادة شغفنا وسحرنا. وأذكر ذات مساء من 1956، وكان سعد قد نُقل من المدرسة، غير أنه جاء في مهمة للتفتيش الفني بها. وسأله مدرس التاريخ أن يُلقي علينا درساً في تاريخ السودان. ولم يوفق سعد إلى موعد نهاري فاختار أن يلتقي بنا ليلاً. وبدأ الدرس، وحلَّق سعد بنا، وحلقنا. ثم فجأة انقطع التيار الكهربائي. ولم يند صوت، ولا نأمة، ولا أزيز، ولا فحيح، ولا هسيس، ولا وسوسة مما هو في طبع الصبية من سننا إذا انحجبت عنهم السلطة. ظل صوت سعد هو الأعلى وقد انعقد له إجماعنا الصامت السامع، المأخوذ.
وهذا سحر يؤثر.
*علمت لاحقاً بعد كتابة هذه المقالات عن سعد أمير أنه انتمى إلى جماعة "الخبز والحرية" الماركسية خلال دراساته الجامعية في مصر والتي لم يكملها من فرط نشاطه اليساري. ومعروف أن جماعة الخبز والحرية كانت أدخل في الثقافة دون غيرها من الجماعات الماركسية.


ibrahima@missouri.edu

 

آراء