العداء للكيزان والعداء للاسلام*( 1-7)

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

أ.د.احمد محمد احمد الجلي

مقدمة: للاسف يربط بعض الكتاب لا سيما من يدعون الاستنارة منهم،بين فشل تجربة الحركة الاسلامية فيما عرف بمشروعها الحضاري ،بأنه فشل للإسلام ونظمه وقيمه وتعاليمه .وهذا نوع من الخلل في المنهج وتحيز في الحكم ،اذ انه لم يعرف في العالم على سعته وتنوع تجاربه، ان يربط الدارسون بين فشل تجربة ما، وفشل الفكرة التي انبثقت منها ،بل عادة ما يفسر الفشل بأنه خلل في التنفيذ أو الفهم ،فمثلا التجرية الماركسية فشلت وانهار النظام لعوامل عدة يمكن أن تكون قد ساهمت في انهيار الاتحاد السوفيتي، كالظروف التاريخية والسياسية الخاصة به، اوالممارسات القمعية لبعض قادته، اوالضغوط الاقتصادية التي واجهها .بل يرى بعض المفكرين أن ماركسية الاتحاد السوفيتي كانت "تحريفًا" للمبادئ الأصلية للماركسية، حيث اتجهت نحو نظام سلطوي بدلاً من نظام يقوده العمال بشكل حقيقي!!!. وبالمثل -مع الفارق- ،فإن القول بان النظام الإسلامي فشل لان بعض البشر( الكيزان)، حاولوا تطبيقه في السودان فلم ينجحوا . وان هذا الفشل يعود الى الاسلام والتمسك بتعاليمه وقيمه!!!.قول تنقصه الروية والصواب، فالإسلام كدين ونظام حياة شامل، يتضمن مبادئ وأسس قيمية وأخلاقية وروحية، ويطرح منهجًا عامًا للحياة، ولكن تطبيقه في المجتمع يعتمد بشكل كبير على اجتهادات بشرية قد تتأثر بالظروف التاريخية والسياسية والاجتماعية. فلا يمكن القول إن فشل هذه المشاريع دليل على فشل الإسلام كنظام. بل قد يكون الخطأ في التطبيق أو في الفهم أو في الظروف المحيطة، او غير ذلك من النواقص البشرية والعوامل الانسانية، وليس في المبادئ الإسلامية نفسها.وعلى ذلك يمكن تقييم التجربة الانقاذية والحكم على فشلها بموضوعية ،وعدم ربط ذلك الفشل بالإسلام ،والبعد عن شيطنة الاسلاميين وتعميم الحكم عليهم .
وتبدت هذه الظاهرة ( ظاهرة الربط بين فشل التجربة الانقاذية وفشل الاسلام كدين ومجموعة من النظم)،فيما كتبه الطاهر العمر في مقالته : الكوز والعداء الدائم للإشراق والوضوح" والمنشور في سودانايل 28 February, 2024،وفيما يظل يكتبه على صفحات سودانايل. اذ اتخذ الكاتب من فشل مشروع الاسلاميين "الكيزان" الحضاري ، سبيلا للقول بفشل الاسلام ،والطعن في قيمه وتعاليمه ،وازدراء تجربته خلال التاريخ.وقد ساق لاثبات دعواه بعض البراهين التي احسب انها لا تسند دعواه.،و لا تدعم مزاعمه، من بينها: ان النهضة في مصر فشلت بسبب معوقات ترتبط بالاسلام،بينما نجحت التجربة اليابانية،لتحررها من اي ارتباط ديني او قيمي،وحمًّل الكاتب رواد النهضة العربية الاسلامية، والحركة الاسلامية المصرية المسؤولية عن اخفاق النهضة المصرية. اما بالنسبة للسودان،فيحمل الكاتب الحركة الاسلامية( الكيزان)،سبب التخلف ،والقعود بالسودان عن اللحاق بتجارب الامم المعاصرة ونهضتها. وعاب على النخب السودانية اعتمادها على الخارج ،لاسيما مصر، في نقل الافكار والاراء،وربط ذلك بما تسعى اليه مصر بالهيمنة واستغلال موارد السودان،ولا ادري ماعلاقة هذه الاقوال الفطيرة التي لم يقم عليها الكاتب دليلا او برهاناً،بعنوان المقال. الى غير ذلك من الادلة التي ساقها ونعرض لها فيما يلي:
1-نهضة مصر مقارنة بنهضة اليابان:بدأ الكاتب مقولاته بقضية النهضة في مصر وقارن بينها وبين التجربة اليابانية التي عاصرت التجربة المصرية، ،فبينما سارت اليابان الى غايتها ونجحت نهضتها ، تخلفت مصر وفشلت تجربتها كما هو معلوم .وعزى الكاتب نجاح اليابان الى ان النخب اليابانية- وفقا لقوله- أدركت أن الرأسمالية قد أنجبت الثورة الصناعية و مفهوم الدولة الحديثة ،و بالتالي لا ينبغي أن ننظر للغرب و حضارته بأنها عدو دائم وأن الرأسمالية شر مطلق كما تعتقد نخب العالم العربي التقليدي.بينما فشلت مصر بسبب أنها كانت رازحة تحت ظل ثقافة عربية اسلامية تقليدية لا ترى في الحضارة الغربية غيرعدو دائم يستحق العداء الأبدي. وهكذا يرى الكاتب ان اليابان نجحت لانها اخذت التجربة الغربية بينما فشلت مصر، لانها وجدت امامها عائقا وهو الثقافة العربية الإسلامية. ويؤكد ذلك ،بسوقه مقارنة بين اليابان وبين مسلك جمال الدين الافغاني وتلميذه محمد عبده،الذين عاصرا النهضة اليابانية ،فبينما يرى الكاتب ان اليابان بدأت بنقل التجربة الصناعية للغرب، وألغت تبعا لذلك نظام الإقطاع و تحولت نحو مفهوم دولة حديثة تتركز تحت يدها السلطة ،فإن الافغاني أبحر في أمواج هائجة لأمة إسلامية تقليدية لا ترى في الغرب إلا عدو أبدي يجب التذكر دائما بأنه عدو دائم و شر مطلق، و هذا ما رسخ في ذهن الكوز السوداني، في عدائه للإشراق و الوضوح." !!!. وهذا تحليل ساذج وسطحي ،يدل من ناحية على عدم وعي الكاتب بنهضة اليابان وعوامل نجاحها،وعدم ادراكه للدور الذي قام به الافغاني في نهضة الامة الإسلامية وسعيه الى تحريرها من ربقة الاستعمار،والاستبداد،من ناحية اخرى.
أ) أ سباب نهضة اليابان :نجاح النهضة اليابانية وازدهارها يعود-كما يقول دارسوها- الى عدة عوامل لم تتوفر لمصر حينها، ومنها:
• -التعلم من تجارب الآخرين، وأخذهم الايجابيات من كل تجربة، وتجنبهم سلبيات تلك التجارب.وضوح الرؤية لديهم وتحديد الهدف، ووضع آلية وجدول زمني محدد للتنفيذ .وجود منظومة تعليمية ناجحة تعمل على تنمية مهاراتهم ،وتنمي فيهم حب المعرفة والقراءة منذ الصغر.العمل بروح عالية وتقديسهم للعمل الجماعي، الذي عن طريقه تتم الاستفادة من كافة الخبرات والمهارات الموجوده في الفريق.الاتقان في العمل والاخلاص في العمل، الذي تظهر نتيجته في كل مجالات حياتهم ،اضافة الى احترام الوقت الذي عرفوا به. العدالة الاجتماعية التي يحاول المسؤولون اليابانيون تحقيقها ،في مجال التعليم والصحة والحصول على سكن مناسب بأسعار تتناسب مع دخل الفرد.وفوق هذه كله احترام النظام والقانون ،ويعتبر الشعب الياباني من اكثر شعوب العالم احتراما للنظم والقوانين.
• واهم من ذلك كله ما حاول الكاتب متعمداً تجاهله ،وهو ان اليابان قد نجحت نهضتها لانها "لم تتخل عن تراثها الثقافي التقليدي, ولم تتبن أياً من المبادئ الغربية لتجعلها قواعد ثابتة في الحياة اليابانية. فاستفادت من مقولات فلسفية ونظم غربية متنوعة, لكنها لم تتبناها كما هي، بل اختارت منها فقط ما يتلاءم مع مكونات المجتمع الياباني. ونتج عن ذلك أن اليابان حافظت على استمرارية المبادىء الروحية إبان عملية التحديث, وبناء الركائز المادية للمجتمع الياباني على قاعدة الاستفادة الدائمة من العلوم العصرية المتطورة. ومن هنا ."تفترق التجربة التاريخية لليابان في نمط علاقتها مع الغرب عن نظيرتها العربية والإسلامية باعتمادها سياسة العزلة الطوعية التي دامت حوالي القرنين حتى أواسط القرن التاسع عشر. وكانت تلك السياسة ناتجة عن الأثر الذي تركته الإرساليات التبشيرية المسيحية الغربية التي عملت على تنصير مئات الآلاف من اليابانيين في الحقبة التي سبقت العزلة, وما استشعرته الحكومة اليابانية من مخاطر جراء ذلك متمثلة في تباعد المتنصرين الجدد على الدولة وتحول ولائهم إلى الغرب، فعملت على منع الديانة المسيحية وتدمير ما بناه المبشرون خلال عقود طويلة, وانكفأت على ذاتها.( انظر: النهضة العربية والنهضة اليابانية ، تشابه المقدمات واختلاف النتائج، عالم المعرفة/ياناير 1978م رقم 252. د.مسعود ضاهر). ، ص:21.
• فقد كانت الثقافة اليابانية معنيّة بما فى الغرب من صناعات وعلوم، ولم تكن تعنيها قيم الغرب الأخلاقية بقدر ما كانت تعنيها قيم الغرب العلمية وإنجازاته العلمية، والثقافة اليابانية لم تعتبر الغرب كافراً وتمتنع عن الأخذ عنه، بل هى أخذت عنه الكثير وتركت القليل.وكما قال ألبرت أليكسبانك: (إن اليابان لم تستطع أن تتفوق هذا التفوق الاقتصادى المذهل دون أن تكون قد استلهمت الكثير من مبادئ وأفكار الشرق القديم والحديث، ودون أن تكون قد تمسَّكت بالجوانب الروحية الكثيرة التى كانت سائدة فيها والتى أفادت اليابان فى أن تضع لنفسها دستوراً اقتصادياً حكيماً، أفادها فى مسيرتها الاقتصادية الحالية الظافرة."( انظر: P39 : Albert Alexbank، Japan Destiny ).
• فنجاح التجربة اليابانية تجلى ، في رفض اقتباس الثقافة الغربية التي تقود الى التغريب في المسكن والماكل واللباس والتعليم والتخاطب اليومي على غرار ما فعل المصريون والعثمانيين .فنجحت حركة التحديث اليابانية في اقتباس تكنولوجيا الغرب فقط،حين عملت على توطينها،واستيعابها ،وتطويرها دون ان تغادر اصالة تقاليدها الاجتماعية ،وعادداتها المتوارثة وفنونها الرائعة ،وثقافاتها الانسانية التي ميزت اليابانيين عن باقي الشعوب" ( النهضة العربية والنهضة اليابانبة،مصدر سابق ص: 12-13).
• فاليابان واجهت ضغوطًا خارجية للتغيير منذ القرن التاسع عشر، لكنها تمكنت من استيعاب التقنية والتقدم الغربيين دون التفريط في قيمها الثقافية؛ حيث طورت نموذجها الخاص من الحداثة، الذي جمع بين الأصالة والتحديث. هذا النموذج مكّنها من الحفاظ على هوية فريدة مع الاستفادة من الابتكارات الخارجية.ومن هنا كان نجاحها في حين فشل المقلدون!!!
ب) أسباب تخلف مصر ،وتعثر النهضة فيها: اما مصر ،فقد كانت، خلال حكم الفاطميين والأيوبيين والمماليك، قوة عظمى ومركزا للتجارة العالمية منذ القرن العاشر وحتى القرن السادس عشر. وقد ورثت مصر نظاما تجاريا عالميا له قواعد للمبادلات التجارية ، مع ما كانت تصدره في الوقت نفسه من المنسوجات والورق والجلود والسجاد والسلع المعدنية والسكر وغيره. كما عرفت مصر نظاما بيروقراطيا مركزيا يتركز بأيدي الاسر الحاكمة والموظفين وجيشا قويا وأسطولا بحريا يسندان النظام الاقتصادي.
ثم بدأت تبعية مصر للدولة العثمانية بدخول الجيش العثماني القاهرة، في 26 يناير 1517م. و بهذا قُضي على الحكم المملوكي، وحل محله حكم العثمانييين، الذي ادخل البلاد في حالة انحلال وتدهور. ومع نهاية القرن السادس عشر،بدأ أمراء المماليك وأتباعهم باستعادة نفوذهم، فاحتلوا، في أوائل القرن السابع عشر، معظم وظائف الحكم والإدارة المهمة..وأغرى ضعف الدولة العثمانية، في أواخر القرن السابع عشر، المماليك بالانفراد بالحكم. فبادر علي بك الكبير (1769 – 1773م) إلى عزل الوالي، وأعلن انفصاله عن الدولة العثمانية، وبسط حكمه على الحجاز والشام. ثم عاود المماليك استبدادهم بحكم مصر،ثم جاءت الحملة الفرنسية على مصر، في يوليه 1798م، حاولت أن تنشر فيها طرازاً جديداً، من الثقافة والحضارة الأوروبية. ولم يعق ذلك إلا تنازع فرنسا وإنجلترا والدولة العثمانية في استعمار مصر. وتعرض الجيش الفرنسي لمقاومة مصرية، بإيعاز من الدولة العثمانية..وجَّه العثمانيون، في مارس 1801م حملة على مصر، لطرد الفرنسيين منها. ، وفي سبتمبر 1801م واضطروا إلى الرحيل .وكان محمد علي واحداً من ضباط تلك الحملة الكبار، وقد استقر بالبلاد، إلى أن تولى حكمها، في يوليه 1805م، بفطنته وذكائه. وكان ذلك إيذاناً بحكم أسْرته لمصر، الذي استمر 147 عاماً.
أعاد محمد علي بناء النظام المصري على أسس حديثة، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وعسكرياً؛ ليبدأ تاريخ مصر الحديث، ولتكون في مصاف الدول الكبرى في العالم. وقد شملت اصلاحاته مختلف أركان الدولة، حيث قام بتحديث الجيش المصري في فترة قصيرة بالاستعانة بالخبرات الأكاديمية الأوروبية وإرسال الكوادر المصرية في بعثات للتعلم في تلك الدول، إلى جانب تأسيس نظام تعليمي جديد على الطرز الأوروبية وإرسال الطلاب من مختلف التخصصات للدراسة في الجامعات الفرنسية، الأمر الذي أثر في إعادة توجيه الثقافة المصرية بعيدًا عن السيطرة العثمانية، وشملت إصلاحاته كذلك الزراعة التي قللت من تبعية مصر الاقتصادية للدولة العثمانية، إلى جانب تأسيس جهاز الدولة المصري الحديث، الذي كان من ضمن مهامه التعداد السكاني، وفرض نظام ضريبي مختلف، والتجنيد الإجباري، وتطعيم الأطفال، وغيرها من الأنشطة المركزية للدولة التي لا يزال الكثير منها باقٍ إلى اليوم في مصر.
إلا أن فتوحات محمد علي العسكرية الخارجية الواسعة، أثارت مخاوف الدول الأوروبية والدولة العثمانية، التي عملت على تقليص نفوذه: الخارجي والداخلي، كما أن قيام الدول الأوروبية بالتكتل ضد مصر ومحاولة ايقاف عجلة تقدمها، أدى الى اغراق مصر في القروض بفوائد فاحشة وضعف جيشها واغلاق الكثير من المصانع والمدارس في عهد بعض أبناء محمد علي.( انظر:اطلالة على أهم أسباب تأخر’مصر وتقدم اليابان) د . صلاح سليمان في محاضرة للسفير هشام بدر).
.ولم يترك الإنجليز مصر، حتى زرعوا اسرائيل وسط المنطقة العربية بوعد بلفور 1917م، الذي نص على دعم بريطانيا لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. ومن ثم دخلت المنطقة في الصراع العربي- الاسرائيلي، الذي قاد الى حروب عديدة كانت آخرها حرب أكتوبر عام 1973م. وقد استنزفت هذه الحروب كل ثروات البلاد، ولم تحدث نهضة نتيجة لاستنزاف الثروات،وانفاق معظم ما يدخره الشعب على المقاومة.
وفوق هذا كله اصبحت مصر والأمة العربية تابعة تبعية عمياء للغرب،وبعدت عن الدين الذي كان موجها لمسيرتها ،وتبنت مشروعات قومية او ليبرالية ،تلتمس النهضة من الغربيين ،وتلهث خلف الحداثة والتقدم حسب رؤية الغرب وبدون رؤية واضحة المعالم. هذا التقليد الأعمى للغرب في كل شيء أدى بمصر و معظم البلاد العربية الى فقدان الهوية العربية والاسلامية،ومن ثم لم تسطع الامة العربية أن تعيد الأمجاد العربية والاسلامية، ولا أن تلحق بالغرب وتقيم نهضة على مبادئه.ولو قدر لمصر ان تحكم في ذلك الوقت على يد حكومة وطنية ومستنيرة لكانت قد بزغت في القرن العشرين كصورة مصغرة لليابان "( النهضة العربية والنهضة اليابانبة،مصدر سابق ص ص:15)
وهكذا فيمكن القول بأنه على الرغم من جهود محمد علي باشا وسعيه الى النهضة بمصر، فقد عانت مصر -لا سيما بعد وفاته-من عدم الاستقرار السياسي والتدخلات الأجنبية، خاصة بعد الاحتلال البريطاني في عام 1882. ،وواجهت الدولة ضغوطًا خارجية كبيرة بسبب الأطماع الاستعمارية، خاصة من بريطانيا وفرنسا، مما أدى إلى إضعاف مشروع النهضة، ورغم نجاح محمد علي في إرسال البعثات وتأسيس مدارس عليا، إلا أن النظام التعليمي لم يواصل من قبل من خلفه ، بنفس الكفاءة، وبدأت تضعف هذه الجهود مع الوقت ومع تعاقب الحكام ووقوعهم تحت تأثير محاولة تقليد النموذج الغربي بشكل مباشر دون مراعاة الخصوصيات الثقافية والاجتماعية للمجتمع المحلي، مما أدى إلى تصادم بين القيم التقليدية والمتغيرات الجديدة.فمصر مرت بفترات استعمار وتبعية اقتصادية وسياسية، مما أثر على هويتها الوطنية وأدى إلى تأثيرات كبيرة من الثقافات الغربية.
2- دور جمال الدين الافغاني وتلامذته في نهضة الأمة الاسلامية: ويبدو أن الكاتب يجهل دور جمال الدين الافغاني،( أكتوبر 1838م- مارس 1897م)، واثره الفكري وناشطه السياسي، ولم يعلم بان الرجل يُعتبر من مؤسسي حركة الحداثة الإسلامية، وأحد دُعاة الوحدة الإسلامية في القرن التاسع عشر،وكون جمعية العروة الوثقى، واصدر مجلة عربية باسمها في باريس تحمل أهداف الجمعية، لمحاربة الاستعمار، والدعوة للتضامن الإسلامي ،والجامعة الإسلامية. وعبر من خلال المجلة عن كراهيته للاستبداد، وسعيه الدائب الى نهضة العلوم والآداب والدعوة الى التقدم العلمي والفكري والسياسي، ومن خلال مقالاته في مجلة العروة الوثقى،أخذ يبث في النفوس روح العزة والشهامة، ويحارب روح الذلة والاستكانة، ومثل بدروسه وأحاديثه، ومناهجه في الحياة، مدرسة أخلاقية، رفعت من مستوى الوعي في كثير من الاقطار الاسلامية التي زارها ، وكانت جهوده تلك من العوامل الفعالة، للتحول الذي بدا على الأمة وانتقالها من حالة الخضوع والاستكانة إلى التطلع للحرية والتبرم بنظام الحكم القديم ومساوئه، والسخط على تدخل الدول الاجنبية في شؤون البلاد العربية والاسلامية ،ولم تقبل السلطات الحاكمة لا سيما في مصر نشاط الافغاني ،إذ كانوا ينقمون منه روح الثورة والدعوة إلى الحرية والدستور.مما ادى الى نفيه من مصر، على أن روحه ومبادئه وتعاليمه تركت أثرها في المجتمع المصري وبقيت النفوس ثائرة تتطلع إلى نظام حكم، يقوم على دعائم الحرية والشورى. ويعد الافغاني من الوجهة الروحية والفكرية أبو الثورة العرابية، وكثير من أقطابها هم من تلاميذه أو مريديه، والثورة في ذاتها هي استمرار للحركة السياسية التي كان للافغاني الفضل الكبير في ظهورها على عهد إسماعيل. في مصر، كما قاد السيد جمال الدين الأفغاني أول أحزاب الشرق الوطنية (الحزب الوطني الحر السري) ،الذي رفع شعار مصر للمصريين، وطالب بالديمقراطية السياسية والتحرر من ديكتاتورية الحكم الفردي، كما دعا للثورة ضد النفوذ الأجنبي ،ويقول الكاتب أحمد بهاء الدين فى كتابه «أيام لها تاريخ» إن حزب الأفغانى كان رداً على التدخل الأجنبى فى شئون مصر أواخر حكم الخديوي إسماعيل وأوائل حكم ابنه توفيق، وإن الحزب كان سرياً يوزع المنشورات ويدعو إلى حكم الشعب بنفسه، وإنه كان يضم بعض السياسيين الكبار، وعدداً من الثائرين الشباب أمثال سعد زغلول وعبدالله النديم. وإن الحكومة المصرية آنذاك كانت تطارد المنشورات الصادرة عن الحزب السرى، إلى أن ألقت القبض على «الأفغانى» ذات ليلة وساقوه إلى الحجز، حيث أمضى ليلته على البلاط مع اللصوص والساقطين، وفى الصباح وضعوه فى عربة مقفلة إلى محطة السكة الحديدية، ثم إلى السويس منفياً من مصر، وصدر فى الصباح بلاغ يبرر نفيه بأنه «رئيس جمعية سرية من الشبان ذوى الطيش، مجتمعة على فساد الدين والدنيا».( انظر: ايام لها تاريخ، احمد بهاء الدين،دار الشروق طبعة ثالثة 1411-1991 ص: 24). فكيف للكاتب القول بأن الافغاني أبحر في أمواج هائجة لأمة إسلامية تقليدية لا ترى في الغرب إلا عدو أبدي يجب التذكر دائما بأنه عدو دائم و شر مطلق" ، بينما- في واقع الامر- فإن الافغاني دعا الى الاخذ بما اخذ به الغربيون، من اسباب النهضة والتقدم،و جرت له حورات مع بعض اعلامهم كالفيلسوف ،والمؤرخ الفرنسي إرنست رينان Renan(1823 – 1892 م)، الذي اكبر في الافغاني عبقريته، وسعة علمه وقوة حجته، وقال عنه:«قد خُيل إلى من حرية فكره ونبالة شيمه، وصراحته، وأنا أتحدث إليه، أنني أرى وجهاً لوجه أحد من عرفتُهم من القدماء، وأنني أشهد ابن سينا أو ابن رشد، أو أحد أولئك ألعظام اللذين ظلوا خمسة قرون يعملون على تحرير الإنسانية من الإسار. »( انظر: ويكيبيديا ،الموسوعة الحرة،مقالة جمال الدين الآفغاني)
وهكذا اتخذ الأفغاني الإسلام منطلقا لمحاربة الإستعمار ،واصلاح الأمة من الداخل، ومقاومة مظاهر التخلف الحضاري والجمود الفكري .وقد استطاع من خلال احتكاكه المباشر بالواقع والتفاعل الحي مع الساحة الإسلامية،وقدرته على استيعاب حالة الأمة العامة،وما تواجهه من تحديات داخلية وخارجية، أن يسهم في نهضة الدول التي زارها، وفي تشكيل الملامح العامة لفكره واتجاهاته البارزة،متمثلة في الدعوة الى يقظة الأمة والتصدي للهجمة الغربية ـوالدعوة الى الاصلاح السياسي والتخلص من آثار الاستبداد.".وقد غاب كل ذلك الجهد للأسف عن الكاتب المحترم!!!
3-اعجاب الكاتب الاعمى بالغرب: ومن عجائب الكاتب التي تبدو في مقاله:اعجابه بفكرة الضمان الاجتماعي عند الكسيس دو توكفيل (1805- 1859م )،الذي نسب اليه اكتشاف فكرة الضمان الاجتماعي، في الوقت الذي أخذ على الافغاني وعبده، غياب الفكرة لديهما ، وعلل ذلك،بما سبق ان ذكره، بنظرتهما العدائية للغرب. ولعدم إلمام الكاتب بالاسلام،فإنه لا يدري أن فكرة الضمان الاجتماعي جاء بها الاسلام قبل اربعة عشر قرنا قبل ان يقول بها توكفيل، ويًنَص عليها في المادة 22 من الاعلان العالمي لحقوق الانسان. فقد تضمنت نصوص القرآن والسنة الحث على التضامن والتكافل بين افراد المجتمع ،ونتيجة لذلك قرر فقهاء الإسلام "إلزام الدولة بإعالة، أو سد عوز من لا يقوى على العمل، اومن لم يعمل لعذر مشروع ،وليس له معيل».ولو كلف الكاتب نفسه فاطلع على الانترنت( الشبكة العنكبوتية)، لوجد المئات من المؤلفات والرسائل العلمية التي تناولت موضوع الضمان الاجتماعي،والتكافل الاجتماعي في الاسلام ،وفصلت تطبيقاته في المجتمع الإسلامي وتابعت تطوره في الدول الاسلامية خلال تاريخها الممتد. فالفكرة ليست من وضع مفكري الغرب كما يتوهم الكاتب ،ومن ثم يصبح القول بغيابها عن الافغاني وعبده، لأنهما ظلا ينظران للغرب كعدو دائم، مجرد تخرص وافتراء،يكشف عن كسل ذهني لدى الكاتب ،و محاولة ساذجة لتجريد الثقافة العربية الاسلامية من اي ابداع.
4-هل الجماعات الاسلامية عاقت النهضة في العالم العربي؟: ومتابعة لنهجه في اتهام الجماعات الاسلامية بالباطل، عرج الكاتب على جماعة الإخوان المسلمين التي ظهرت في مصر عام 1928م ، واتهمها بإعاقة نهضة العالم الاسلامي بمنهجها تأبيد ايمانها التقليدي-( ولا ادري ماذا يقصد بهذه العبارة ؟) -رغم مرور قرن من الزمان على تغيير فكرها الاصولي ،بينما نجحت اليابان في عبور زمن مجتمعها التقليدي".
ويبدو ان الكاتب انضم الى جوقة المهرجين الذين يشنون حملة على الإسلاميين،ومن بينهم الإخوان المسلمين ،من غير تقويم موضوعي ودراسة علمية لمنجزاتها. ولا احد متابع لحركة الإسلام في هذا العصر ، ينكر اثر الاخوان المسلمين في حركة البعث الاسلامي الحديث، التي لم توجد من فراغ ،بل هي امتداد وتجديد لحركات إسلامية,ومدارس فكرية وعلمية ،سبقتها من قبل في مختلف انحاء العالم الاسلامي،وحاولت تجديد الدين واحياء العمل به، بدءًاَ من الحركة التي قام بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية(1115 - 1206 ه/ 1703- 1792م )، والحركة السنوسية في ليبيا التي قام بها محمد بن علي السنوسي( 1343هـ/1924م-1407هـ/1987م)،والحركة المهدية في السودان التي قادها محمد احمد المهدي،( 1843 – 1885م) مروراً بجهود جمال الدين الافغاني، الذي اشرنا -من قبل-الى سعيه لنشر الوعي في الأمة التي كانت في حالة ثبات عميق،والجهود العلمية لداعية الحرية السياسية وعدو الاستبداد السياسي عبد الرحمن الكواكبي ( 1271 هـ / 1855 – 1320 هـ / 1902م) ،ورائد المدرسة العقلية المعاصرة ،الشيخ محمد عبده في مصر ،وتلميذه الشيخ محمد رشيد رضا (ت: 1935م) ،والمربي المجاهد الذي قاوم علمانية وطغيان كمال اتاتورك في تركيا، الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي( 1876 - 1960)،ورائد الحركة الاسلامية الحديثة، الشيخ حسن البنا (1906 - - 1949م) ، الذي بدأ دعوته في مصر وكتب لها الانتشار في معظم انحاء العالم العربي والاسلامي.اضافة الى مؤسس الحركة الاسلامية في شبه القارة الهنديه ،ابو الاعلى المودودي (1321 1399 هـ / 1903 - 1979م) ،ومؤسس جمعية علماء المسلمين في الجزائر عبد الحميد بن باديس( 1307-1358 هـ / 1889 – 1940م)،،وغيرهم من الاعلام الذي زخرت بهم ساحة العمل الاسلامي في مختلف انحاء العالم الاسلامي.
حاول هؤلاء جميعا-كل بطريقته- ان ينفضو غبار الكسل والتخلف عن الأمة، وان يرفعوا لواء الجهاد بالسيف والقلم ضد اعداء الاسلام من مستعمرين غزاة ، ومستبدين طغاة ،وقاوموا -كل حسب جهده -، مخططات الاعداء وابطلوا مؤامراتهم لغزو العالم الاسلامي عسكريا وفكريا ،وبينوا ان الاسلام نظام شامل يتناول كل مظاهر الحياة ،ينظم امور الدنيا كما يعد الناس لحياة اخرى، ،وفي مجال الحياة الاجتماعية انشاوا المدارس والمستشفيات ،وفي مجال الاقتصاد والمال كونوا الشركات والمصارف وفقا لقواعد الشريعة الاسلامية،واسهموا في مجالات الاقتصاد والسياسة والاجتماع والتربية بنشاط علمي مميز ،وظهرت من بينهم قامات علمية في كل مجال من تلك المجالات.
فهذه التجارب كانت تهدف إلى بناء أنظمة سياسية واقتصادية تستمد هويتها وقيمها من الإسلام، وقد سعت تلك الحركات السياسية الإسلامية إلى الاستفادة من الإسلام كمنهج للحياة الشاملة لتحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية والاستقلال السياسي.ولكنها واجهت الحكم الاستبدادي وتكميم الحريات.كما شهدت بعض الدول الإسلامية تدخلات أجنبية إما مباشرة أو عبر دعم قوى معينة لعرقلة تطبيق النموذج الإسلامي،واجهاض التجارب الاسلامية، وذلك لحماية مصالح القوى الكبرى التي تخشى من نمو قوى إسلامية مستقلة. فقد سعت الدول الغربية لتقويض أي محاولات لإحياء التجارب الإسلامية التي قد تشكل بديلاً حضارياً أو نموذجًا سياسياً واجتماعياً مختلفًا عن النموذج الغربي. وفي الجملة فقد كانت تلك التجارب غنية ودروسها مهمة، من حيث أنها عكست محاولات قادة الشعوب الإسلامية، أنذاك، للبحث عن هوية سياسية واقتصادية مختلفة، لكنها كانت بحاجة لتطوير أدوات وأفكار جديدة لتحقيق هذه الأهداف بطريقة مستدامة.
5- الثقافة العربية الإسلامية وأثرها في السودان: انتقل الكاتب الى السودان، الذي ،في رأيه ، ظل على الدوام ملحق بثقافة عربية إسلامية تقليدية عجزت نخبها بأن تلحق بالتطور الهائل في المفاهيم لاسيما مفهوم الدولة الذي لا نجد له ذكر في نشاط "الكوز السوداني". ووصف الكاتب الكوز بأنه حبيس سياجاته الدوغمائية ،و أسير روح لا تعرف غير عبادة النصوص، و حائر و حاقد على إنجاز البشرية في نقلها للمجتمعات من حيز التقليدية الى حيز الحضارة، حيث أصبح الإنسان مركز الكون و أصبح تراث الإنسانية في الخمسة قرون الأخيرة يرتكز على فكرة تأليه الإنسان و أنسنة الإله.!!! ومن الغريب ان يعجب الكاتب بهذه الفلسفات الالحادية والتراث الانساني الذي يدعو الى نبذ الدين ويحارب المعتقدات لا سيما الاسلامية،ويشجع على تبني مثل هذه الافكار التي هي موضوع جدل و نقد، سواء من الجانب الديني أو الفلسفي أو الاجتماعي،داخل المجتمعات الغربية.ولا نملك الا ان نسال الله لنا وله الهداية وأن يفتح بصيرته فيدرك ما في تراثه وقيم دينه، ما يغنيه عن تلمس العون من الخارج . اما فيما يتعلق بالكيزان ،فلا أدري ،عمن يتكلم الكاتب، فمعظم الكيزان الذين نعرفهم ،ويعرفهم المجتمع السوداني ليسوا كما يصفهم ، بل ،إنهم على درجة عالية من المعرفة والعلم ، اكتسبوا مؤهلات أكاديمية عالية في مختلف المجالات العلمية والمعرفية والتقنية،من ارقي الجامعات الغربية التي يتباهى بها الكاتب ، مما جعل لهم رمزية اجتماعية لا يتنازع حولها، ولا يتشكك فيها إلا مكابر،فضلا عن ما اكتسبوه خلال التجربة التي امتدت لثلا ثين عاماً، من وعي سياسي وايديولجي،لا يجاريهم فيها احد من أقرانهم,ومؤهلات أكاديمية عالية في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، وخبرة في منعرجات العمل التنظيمي والسياسي ، فضلاً عن كفاءتهم العلمية والإعلامية والصحفية المتميزة." .ولكن الكاتب يتجاهل كل ذلك،ويمضي في خطرفاته فيقول عن النخب السودانية بأنها " في حالة دوار على مدى خمسة قرون منذ بداية سلطنة الفونج مرورا بالمهدية و نهاية بالكيزان في حركة دائرية تصيبك بالدوار ،لأن روحها وحل الفكر الديني الذي لم يعرف المثقف السوداني التقليدي منه فكاك".
وبهذا يكشف الكاتب عن ضعف المامه بالاسلام، وتاريخ الاسلام في السودان،ومن ثم لا غرابة في ان يصف سلطنة الفونج والحركة المهدية وتبعا لهما تجربة الكيزان ،بانها تخوض في وحل الفكر الديني. ولسذاجته وقصور معرفته، يصف "الثقافة العربية الاسلامية التقليدية بالعجز عن اللحقاق بالتطور في المفاهيم،،ويستدل على ذلك بعدم ورود لمفهوم الدولة في نشاط "الكوز السوداني"،ويبدو ان الكاتب لم يطلع على ما كتبه الاسلاميون حول الدولة ومفهومها واسسها،ككتاب الدكتور الترابي رحمه الله: " السياسة والحكم النظم السلطانية بين الأصول وسنن الواقع" - الناشر: دار الساقي، لندن ،الطبعة:الأولى 2003م.وكتابه :" الأشكال الناظمة لدولة إسلامية معاصرة (قطر 1982)،"،وكتابه:" قضايا الوحدة والحرية 1980، وبحث "الإسلام والدولة القطرية"، 1983م، وكتاب " الشوري والديمقراطية"، دراسة مشتركة مع الاستاذ راشد الغنوشي. وكتاب عبد الوهاب الافندي ،"لمن تقوم الدولة الاسلامية" الأهلية للنشر والتوزيع،07 يوليو 2011 ،الى غير ذلك من الادبيات التي عالجت موضوع الدولة الاسلامية وقضاياها. فالقول بعدم تناول قضية الدولة في ادبيات الاسلاميين، مجرد افتراء، ويدل على عدم اطلاع الكاتب على ما يدور في الساحة السودانية.
• وامعانا في التبعية العمياءيذهب الكاتب الى ان فك هذا الطوق والتخلص منه لا يكون بغير نقل التجربة الصناعية للغرب في حيزنا السوداني كما فعلت اليابان، و قد ألغت كل صور الإقطاع و أهتمت بفكرة الدولة و ممارسة السلطة بمشروع نهضة، وقد غاب هذا المشروع عن السودان بسبب التبعية للحضارة العربية الاسلامية التقليدية" . وهنا نذكر الكاتب وننشط ذاكرته السمكية،بقول ألبرت أليكسبانك، الذي اوردناه من قبل: (إن اليابان لم تستطع أن تتفوق هذا التفوق الاقتصادى المذهل دون أن تكون قد استلهمت الكثير من مبادئ وأفكار الشرق القديم والحديث، ودون أن تكون قد تمسَّكت بالجوانب الروحية الكثيرة التى كانت سائدة فيها والتى أفادت اليابان فى أن تضع لنفسها دستوراً اقتصادياً حكيماً، أفادها فى مسيرتها الاقتصادية الحالية الظافرة."
6-هل التبعية للحضارة العربية الاسلامية سبب في غياب مشروع النهضة ؟: وفقا لعبارة الكاتب: :"اما غياب مشروع النهضة بسبب التبعية للحضارة العربية الاسلامية التقليدية ،فهذه العبارة تدل على عدم المام الكاتب بتاريخ الإسلام والحضارة الإسلامية،.ولا احسب ان الكاتب له عذر في عدم المامه في زمن توفرت فيه المعلومات وتيسر الحصول عليها من خلال ضغطة زر على جوجل Google،ليكتشف عظمة هذه الحضارة ،وتميزها عن ما سبقها وماتلاها من الحضارات الإنسانية،وليعرف انه على أثر الفتح الإسلامي الذي امتد نحو قرن من الزمان ،ما بين الهند شرقاً والمحيط الإطلسي غرباً ،وما بين بحر قزوين شمالاً وبلاد النوبة جنوباً ، حيث انتشر الإسلام بين تلك الشعوب ،ودخلت العديد منها فيه ،وانضوت تحت لواء الدولة الإسلامية أمم ،كان لمعظمها ماض حضاري تليد كالفرس والهنود والعراقيين والسوريين والروم والمصريين. وقد انفتح الاسلام بقيمه الانسانية وتعاليمه السمحة على تلك الحضارات ،ومن ثم ، أسهمت تلك الشعوب بتراثها الحضاري، وبخصائصها وتقاليدها في تشكيل الحضارة الإسلامية. وهكذا ولدت الحضارة الاسلامية التي هي نتاجٌ لتفاعل ثقافات الشعوب التي دخلت في الإسلام، و خلاصةٌ لتلاقح تلك الحضارات التي كانت قائمةً في المناطق التي وصلت إليها الفتوحات الإسلامية، وقد نجح المسلمون في اختيار العناصر الصالحةِ من تلك الثقافات والحضارات، ومزجوا بينها وأكملوا نواحي النقص فيها، بحيث تكونت حضارة لها نكهة خاصة، وشخصية مميزة استمرَّت على مدى قرون طويلة. وأصبحت الحضارة الإسلامية عِقْدًا تنتظم فيه عبقريات الشعوب والأمم التي خفقت فوقها رايةُ الفتوحات الإسلامية، واذا كانت كل حضارة تستطيع أن تفاخر بالعباقرة من أبناء جنس واحد وأمة واحدة ، فإنًّ الحضارة الإسلامية تفاخر بالعباقرةِ الذين أقاموا صرحها من جميعِ الأممِ والشعوبِ.. فأبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد،والطبري والخليل وسيبويه والكندي والغزالي والفارابي وابن رشد،والبيروني والخوارزمي،وابن سينا.. وأمثالهم ممن اختلفت أصولُهم وتباينت أوطانُهم، ليسوا إلا عباقرةً قدَّمت الحضارةُ الإسلامية -من خلالهم-إلى الإنسانية أروعَ نتاجِ للفكر الإنساني السليم. ولم يمنع ، ذلك الإختلاف، غير المسلمين ،من السريان والفرس وغيرهم، من الإندماج في المجتمع الإسلامي ،والمشاركة النشطة في العمل الفكري والثقافي بالترجمة والتأليف، ومزاولة الطب والفلك وسائر العلوم. وأنَّ ذلك التنوع السلالي واللغوي والثقافي يعد مفخرة من مفاخر الإسلام، وتأكيداً لطبيعة رسالته الكونية وثقافته وحضارته الإنسانية التي شارك فيها أعلام متميزون وأسهم في بنائها مفكرون عظام من أمثال: ابن سينا، والغزالي ،والخوارزمي،وغيرهم.
ووفقاً لتوجيهات القيم الإسلامية ، انطلق المسلمون يعمرون الأرض ويبدعون في مجالات العلم والمعرفة المتنوعة..ونتج عن ذلك العديد من المنجزات والمبتكرات في مجال العلوم والمعارف المختلفة ،من رياضيات وفلك وطب وهندسة ،وفيزياء وكيمياء وغيرها. ،وأجرى المسلمون العديد من الأبحاث التطبيقية وطوروا استخدامات الري والميكانيكا ، وتحسين صناعة الورق ، وتكرير السكر واختراع البارود، وغيرها الكثير.هذا فضلاً عن اسهاماتهم الكبيرة في حقول العلوم الإنسانية ، كالتاريخ ، والإقتصاد ، والسياسة والقانون ، والتربية ، وعلم النفس ، ومناهج البحث ، والاجتماع ، والنظم الإدارية ، والآداب والفنون .. إلى آخره. وتأثيراتها في مجرى الحضارات البشرية ، وخاصة الحضارة الغربية ، فهي أوضح للعيان وأشد حضوراً من أن يشار إليها أو يدلل عليها. (أثر العرب في الحضارة الأوربية ، جلال مظهر : دار الرائد ، بيروت ، 1967م.:صفحات: 170-171-192 ).
ولم تلبث ان انتشرت أنوار تلك الحضارة فعمت كل أصقاع العالم المعروفة آنذاك.وكان لها أثر عظيم لا سيما على أوروبا ،ونهضتها الحضارية وتقدمها العلمي .كما يشهد بذلك كثير من مؤرخي الحضارة الغربية.فأسهم العرب في نهضة أوروبا حينما انتقل المنهج التجريبي إليها وأخذت به . وكما تقول المستشرقة الالمانية زيغرد هونكة : "إنَّ العرب لم ينقذوا الحضارة الاغريقية من الزوال ، ثم نظموها ورتبوها وأهدوها للغرب فحسب ، إنَّهم مؤسسو الطرق التجريبية في الكيمياء والطبيعة والحساب والجبر والجيولوجيا وحساب المثلثات وعلم الاجتماع. لقد قدم العرب أثمن هدية، وهي طريقة البحث العلمي الصحيح التي مهدت أمام الغرب الطريق لمعرفة الطبيعة وتسلطه عليها اليوم". (انظر:شمس العرب تسطع على الغرب ( زيغرد هونكة) ص:339-375).
ويؤكد ذلك بريفولت في كتابه “بناء الإنسانيةHumanity The Making of”،قائلاً: "إن ما يدين به علمنا للعرب ليس فيما قدموه إلينا من كشوف مدهشة لنظريات مبتكرة، بل يدين لها بوجوده نفسه، فالعالم القديم – كما رأينا – لم يكن للعلم فيه وجود، وعلم النجوم عند اليونان ورياضياتهم كانت علومًا أجنبية استجلبوها من خارج بلادهم، وأخذوها عن سواهم، ولم تتأقلم في يوم من الأيام، فتمتزج امتزاجًا كليًا بالثقافة اليونانية. وقد نظم اليونان المذاهب وعمموا الأحكام ووضعوا النظريات، ولكن أساليب البحث في دأب وأناة وجمع المعلومات الإيجابية وتركيزها، والمناهج التفصيلية للعلم، والملاحظة الدقيقة المستمرة، والبحث التجريبي، كل ذلك كان غريبًا تمامًا عن المزاج اليوناني، ولم يقارب البحث العلمي نشأته في العالم القديم إلا في الإسكندرية في عهدها الهيليني، أما ما ندعوه (العلم) فقد ظهر في أوروبا نتيجة لروح من البحث جديدة، ولطرق من الاستقصاء مستحدثة، بطرق التجربة والمقاييس وتطور الرياضيات إلى صورة لم يعرفها اليونان. وهذه الروح وتلك المناهج أوصلها العرب إلى العالم الأوربي"" ( Making of Humanity (Robert Briffa’ll) London, George Allen& Unwin.1st Edit.1919.P.191)
( انظر:مدخل الى الحضارة الاسلامية ( احمد محمد احمد الجلي) دار الكتاب الجامعي 2018م ).
وهكذا فإن القول بأن الثقافة العربية والحضارة العربية ،هي السبب في الواقع المأساوي الذي تعيشه الشعوب العربية اليوم ومن بينها السودان،قول مجاف لواقع الأحداث وحقائق التاريخ. بل كان الإسلام،ولا يزال، بقيمه وتعاليمه وحضارته عامل وحدة وتآلف بين مختلف مكونات المجتمعات السودانية، كما تشهد بذلك الممالك الإسلامية التي ظهرت خلال التاريخ السوداني، كمملكة الفونج، والممالك الإسلامية في دارفور وغيرها من مناطق السودان،التي يعتبرها الكاتب جزءًأ من ازمة السودان ،واحد أسباب تخلفه.في حين أن تخلف السودان وما يسوده الآن من تفكك وتخلف، ليس بسبب الثقافة والحضارة الإسلامية، بل بسبب تفشي القبلية وسيادة العنصرية ،وافتقار الناس للشعور بالوحدة الإنسانية، التي غابت حينما ضعف الإيمان في النفوس ،وبعد الناس عن القيم الإسلامية.و عليه فلا سبيل الى نهضة تلك الشعوب، وجمع كلمة تلك المجتمعات الا بالرجوع الى القيم الإسلامية ،التي تقرر ضرورة التعايش بين الشعوب والأمم ،والإعتراف بالتنوع الثقافي والعرقي بين الناس ،وتشجيع تنمية اللغات والثقافات للجماعات العرقية االمتعددة، واحترامها. وسيكون ذلك عاملاً رئيسياً في تحقيق سلام دائم، وضمانة وحيدة أن لا تستغل جماعة عرقية أو ثقافية منفردة الدين واللغة ،كي تعطي ميزة لوضعها الإجتماعي والإقتصادي،كما هو حادث الآن.
7-يكشف الكاتب عن عدائه للإسلام وليس للكيزان : امعانا في عدائه للإسلاميين السودانيين ،يقارن الكاتب ،بينهم وبين الإسلاميين من جنسيات عربية اخرى فيحتقر" الكوز السوداني"، ويقلل من شأنه فيقول: "حتى الكوز رضوان السيد يتقدم على الكوز عبد الوهاب الافندي في الفهم بعقود من الزمن، و الكوز عبد الجبار الرفاعي يعتبر متقدم بمراحل على الكوز حسن الترابي، و يظل "الكوز السوداني"، حبيس هويته الدينية و عاجز عن التضحية بها بسبب تخلفه عن بقية المثقفين في حيز الشعوب المتقدمة، حيث أصبح الحديث عن الحريات و ليس الحديث عن الهويات."
فهذا النص يكشف عن حقيقة فكر الكاتب وموقفه من الاسلام ،حيث يستخدم مصطلح "كوز" كمقابل لمصطلح "اسلامي"، ويطلقه على الكاتب الإسلامي اللبناني رضوان السيد، وعلى المفكر العراقي عبد الجبار الرفاعي صاحب الرؤية الفلسفية حول الإصلاح ومناهج التفكير الديني ،التي عبر عنها من خلال مجلته:" قضايا إسلامية معاصرة". ولا اريد الدخول في المقارنة بين هؤلاء الكتاب الأربعة فلكل منهم- لو عقل الكاتب-اسهامه وابداعه في مجال اهتمامه وتوجهه. واحسب أن الكاتب لم يقرأ للترابي، بل كون فكرته من الوسائط التي تعج بنقد الترابي والهجوم عليه حتى بعد وفاته،وتحميله وزر ما ارتكبته الانقاذ من موبقات. علماً بان الرجل له مكانته العلمية وكسبه السياسي الذي تجاوز السودان، وأصبح مصدر اشعاع في مختلف انحاء العالم الإسلامي ،ولا ينكره الا حاقد حاسد او جاهل.
وفي ختام مقاله حث الكاتب النخب السودانية، ودعاها الى فك ارتباطها بالحضارة العربية الاسلامية التقليدية ، وطالبهم بطرح مشروع نهضة كما فعلت اليابان، و قد تخلصت من أثار حضارتها التقليدية ، ونجاحها في نقل تجربة الغرب الصناعية مستفيدة من ثالوث الفرد و المجتمع و الإنسانية ، وعلى النخب الإلتحاق بثالوث الفرد و المجتمع و الإنسانية كثراث إنساني يعتبر ممر إلزامي لنقلنا لحيز المجتمعات الحديثة، بعد أن عجزت الحضارة الإسلامية التقليدية عن تقديم مفكري إصلاح ديني يفضي للتحول في المفاهيم و يفتح على إزدهار مادي الا سيظل السودان و الشعب السوداني تحت سيطرة الكوز الغائص في وحل الفكر الديني و دائم العداء للإشراق و الوضوح .!!!،وكعادته يعبر الكاتب عن تعمده الاساءة للاسلام،والسخرية من كل عمل اسلامي. ولا يدري ان الإسلام يقدم نظامًا متوازنًا يقوم على إقامة علاقة متناغمة بين الفرد، والمجتمع، والإنسانية، مستندًا إلى مبادئ العدل، الرحمة، والتكامل، نظام يعتني بحقوق الفرد وكرامته باعتباره مسؤولًا عن أفعاله أمام الله، ويُشجع على تطوير الذات والسعي للعلم والعمل، ويحمي حرية الفرد في الاعتقاد والاختيار، ويربط الإسلام الفرد بالمجتمع من خلال المسؤولية الجماعية، فيضع قواعد للعدل الاجتماعي مثل الزكاة، والوقف، وإقامة الحدود لضمان التوازن بين الحقوق والواجبات، ويدعو إلى العدل حتى مع غير المسلمين، ويضع أولوية لحفظ حقوق الإنسان الأساسية مثل الحياة والكرامة، ويعتمد الإسلام على التكامل بين هذه المحاور، حيث لا يطغى جانب على آخر. الفرد مكلف برعاية نفسه، ولكن في إطار مجتمعه وخدمة الإنسانية. فالمجتمع ،وفقا للرؤية الاسلامية-يقوم على حماية حقوق الفرد وتنظيم علاقاته بما يحقق مصالح الجميع، وان الإنسانية هي الأفق الأوسع الذي يعزز القيم العالمية التي نادى بها الاسلام مثل: السلام، والعدل، والرحمة. فاتباع نظام بهذه الميزات لا يحتاجون الى الاستفادة من الثالوث المزعزم الذي فشل الغرب في ان يقيم توازنا بين اطرافه كما يتبين من التطورات التي جرت في المجتمعات الغربية ،وافرزت ظواهر موضع جدل بين الغربيين.
وعلى كل فمثل هذه الدعاوى الملتبسة التي درج الكاتب على تبنيها ،في كل مقالاته التي ينشرها على صفحات سودانايل، تقوم على الالتزام بكل ما جادت به اوروبا في تطورها الفكري، لا سيما فيما يتعلق بالاديان وازاحتها عن مجال الحياة ، ويشجع على اتباع الليبرالية الغربية وموقفها من الدين، وقد تبنى الكاتب كل هذه المواقف والافكار ونشط في الدعوة الى ان الخلاص لكل المجتمعات بما فيها المجتمعات الاسلامية هو تبني الافكار الليبرالية ،من غير اعتبار لخصوصية المجتمعات او هويتها الثقافية.وهذا يدل اما على عدم وعي بالاسلام،اوتجاهل للفروق الواضحة بين الاسلام كدين،يسعى الى صياغة فرد وتكوين مجتمع تحكمه قيم معينة، وبين القيم التي تحاول الدول الغربية تبنيها بل ،وفرضها على دول العالم. وللاسف لم يتخذ الكاتب موقفا موضوعيا من الاسلام وتجربته المناقضة تماما للتجربة الغربية،أذ ان الاسلام جاء لتحرير الانسان من كل سلطان حتى لو كان سلطان رجال الدين،ودعا الى استخدام العقل ،وشجع على العلم، والى التعاون بين الجميع على البر والتقوى ،وعدم التعاون على الاثم والعدوان. وقامت على اثره حضارة تركت بصماتها ،واثرها في تاريخ البشرية،لا يستطيع احد انكاره.ولكن لللاسف فإن الليبراليين في البلاد العربية ومن بينهم الكاتب تنكروا لقيمهم وثقافتهم، واصبحوا تبعاَ يرددون عمدا او جهلا ما تمليه عليهم الحضارة الغربية.
وفي الختام نذكر الكاتب، ان معظم التجارب لا سيما في الشرق الاقصى: الصينية واليابانية والهندية،استوعبت إلى حد بعيد علوم الغرب وآليات التقدم التقني، ولكن-خلافا لزعم الكاتب -حافظت في الوقت نفسه على شخصيتها الوطنية.وعملت على بناء منظومة فكرية ومعرفية وثقافية كأساس لنهضة مستقلة عن ما يأتيها من الغرب ,ولو اراد العرب بمن فيهم السودانيين، اقامة نهضة حقيقية،فلا مفر من استلهام القيم الاسلامية والعربية في النظرة الى الحياة والانسان والمجتمع،مع الاستفادة من تراث الغرب وما توصل اليه من تقنيات ومعارف وعلوم، واستصحاب الإصلاحات الاجتماعية والتعليمية والاقتصادية الغربية ـ، دون التخلي عن الهوية الثقافية والدينية.

أ.د. احمد محمد احمد الجلي
ahmedm.algali@gmail.com

*تعليقاً على مقال، الطاهر العمر،" الكوز والعداء الدائم للإشراق والوضوح"، المنشور في سودانايل، بتاريخ: 28 February, 2024
https://sudanile.com/%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%88%D8%B2-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AF%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%A7%D8%A6%D9%85-%D9%84%D9%84%D8%A5%D8%B4%D8%B1%D8%A7%D9%82-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B6%D9%88%D8%AD/

 

 

آراء