هل يصلح المؤتمر الخامس للحزب الشيوعى ما افسد الدهر؟ (3)
فى الفرق بين الخيار الماركسى العتيد ومفهوم ادارة الازمات ليورغن هابرماس (٣)
بينما يعتقد كارل ماركس بحتمية انهيار المجتمع الرأسمالى كما اوضحت فى الحلقات الماضية من سلسلة المقالات، حيث ان الاستقرار المؤقت الذى تنعم به هذه المجتمعات الرأسمالية فى رأيه ، انما يحدث بفضل عوامل اهمها عامل ايديولوجى يتعلق باستخدام الطبقة البرجوازية الحاكمة لاليات تزييف الوعى False Consciousness . فان يورغن هابرماس يعتقد أن الاستقرار فى المجتمعات الرأسمالية تعود أسبابه الى توفير الدولة للحاجات الادارية التى تدير دفة ما يعرف باشكاليات اضفاء الشرعية Legitimation وهى العمليات الخاصة باستمرار الدولة فى كسب تأييد الاغلبية الصامتة من الشعب بمستوى معقول من النجاح.
خلال القرن السابق خاصة بعيد الحرب العالمية الثانية، حدثت تغيّرات كبيرة فى بنيات المجتمعات الرأسمالية وفى كيفية ادارة المشروع الرأسمالى ، يهمنا هنا اثنين من تلك التغيّرات. الاول خاص بمدى نمو وتركز رأس المال حيث تمت هيمنة الشركات الاحتكارية Monopoly وشركات ما يعرف بالقلة الاحتكارية Oligopoly على حساب التنافس الحر الذى عرفت به الراسمالية على بداياتها . بمعنى اخر اصبحت الشركات المهيمنة على السوق قليلة العدد وهى تستطيع ان تسيطر على النشاط الاقتصادى من خلال تثبيت غير رسمى للاسعار والتحكّم فى الاسواق وتوجيهها من خلال الاعلانات التجارية وغيرها ، ولا ينحصر هذا التحكّم فى الصناعة وانما يتعداها الى التسويق بواسطة تكامل رأسى لمختلف الوظائف والفعاليات الصناعية تحت مظلة واحدة . افضل مثال على ذلك الثلاثة الكبار فى صناعة السيارات Big Three وهم شركات فورد وكرايسلر وجنرال موتورز.
اما التغيّر الثانى الذى أصاب بنيات الرأسمالية فقد تمثّل فى نمو وتطور الدولة وتدخلها فى شؤون القطاع الخاص ، وقد بدأ هذا التدّخل فى كل الديمقراطيات الليبرالية الغربية تقريبا بعيد الحرب العالمية الثانية، لا فرق بين تلك التى تحكمها احزاب سياسية محافظة او التى تحكمها اشتراكيات ديمقراطية. فالهدف من التدّخل كان دائما هو الاطّلاع بمهام ادارة الاعمال والانشطة الاقتصادية. ويأخذ الدور الذى تلعبه الدولة عدد من الاشكال مثل تنظيم المنافسات الاقتصادية وضبطها - من خلال التشريعات ومراجعة الاستثمارات الاجنبية - ضبط التلوث البيئى والحد منه ، تقديم الدعم والقروض والاعفاءات الضريبية لتحفيز الاستثمارات . وقد أصبح تدخل الدولة المتزايد واحدا من حقائق العصر ، كما اصبحت الشراكة بين الدولة والقطاع الخاص فى ادارة وتخطيط الاعمال الاقتصادية احدى اهم سماته الظاهرة.
لغرض الدراسة والتحليل، فقد قام هابرماس بتقسيم الدولة والمجتمع الرأسمالى الى ثلاثة انسقة ، وهى الاقتصادى ، الادارى ، والنسق الخاص باضفاء الشرعية Legitimation System
أولا النسق الاقتصادى :-
وهو يتكون من قطاع عام احتكارى ، وقطاع خاص احتكارى ايضا بالاضافة الى قطاع ثالث تنافسى. يتميّز القطاعين الاول والثانى اضافة الى الطبيعة الاحتكارية وشبه الاحتكارية ، بكثافة راس المال حيث الاستثمارات فى مجالات مثل البترول ، والالكترونيات ، وصناعة السيارات، والفضاء والتسلح . ويشكل هذين القطاعين ما يعرف بسوق العمل الرئيسى حيث التعاقدات المعروفة باسم الاتفاقات الجماعية Collective agreements والتى توفر اجور عالية وضمانات وظيفية كافية مثل التأمين والترقيات . اما ما يميّز القطاع الثالث وهو قطاع صناعة الخدمات وتجارة التجزئة والتوزيع ، فهو كثافة العمالة والانخفاض النسبى فى الاجور وعدم توفّر الضمانات الوظيفية الكافية التى يتمتع بها العامل فى القطاعين الاول والثانى .
ثانيا النسق الادارى:-
يرمز للاشكال والمهام التى يؤديها جهاز الدولة الادارى المسئول عن الضبط والتخطيط، حيث تكون ادارة الاعمال الاقتصادية مسؤولية مشتركة بين الدولة والقطاع الخاص . هذا الوضع الادارى للدولة الرأسمالية يمكن تأريخه بنهاية فترة الركود الاقتصادى العظيم الذى ضرب الولايات المتحدة حينما ادخلت ادارة الرئيس الديمقراطى ثيودور روزفلت ما عرف باسم الصفقة الجديدة New Deal ، اما بريطانيا فقد بدأت السير فى هذا الاتجاه بنهاية الحرب العالمية الثانية وذلك بادخال حكومة العمال بقيادة كلمنت اتلى ما عرف بخدمة الصحة الوطنية National Health Service . واليوم فان كل الحكومات الغربية تقوم بادارة دفة الاقتصاد واوجه نشاطه المتعدد بما فى ذلك اتجاهات الاستثمار، تقديم الدعم والقروض، عروض السعر الخاص بالتعاقدات الحكومية ، تقديم ضمانات الاسعار وغيرها . اضافة الى تدخلات الحكومة من اجل تأمين الاستقرار الاقتصادى بشكل غير مباشر بالاستثمار فى مشاريع البنى التحتية (مواصلات، اسكان، تعليم، ابحاث، تنمية ورعاية صحية فى بعض الدول الخ....
بالتحطيط الاقتصادى المنسّق مع القطاع الخاص، تسعى الدول الرأسمالية المعاصرة نحو منع حدوث الاضطرابات الخطيرة فى الدورات الاقتصادية المتعاقبة.
ثالثا نسق الشرعية :-
او اضفاء الشرعية ، وهو يمثل مجمل البناءات الايديولوجية (سياسية واقتصادية) للدولة الهادفة الى احداث حالة من الاستقرار والاجماع الجماهيرى العام . حيث يعتقد هابرماس انه ومن خلال هذا النظام تعمل الطبقات الحاكمة على تطوير الاستراتيجيات والميكانيزمات لاستقطاب التأييد الشعبى بقدر الامكان اضافة الى مهام تخفيض حدة التوترات الطبقية. يتم تأكيد او تركيز شرعية الدولة من خلال تقوية الحقوق المدنية (حق التصويت، حرية التعبير، حق التملّك الخ...) وذلك جنب الى جنب مع عملية عكسية تهدف الى اضعاف المشاركة الايجابية فى مؤسسات الدولة السياسية والاقتصادية، حيث يعمل النظام فى هذه الحالة على تشجيع وتعزيز الهوية الفردية للمواطنين Individual Identities (كمواطن فرد وعضو اسرة) وذلك على حساب الهوية الجماعية ٍSocial or Collective Identity ( اى كعامل او مستهلك)، ويصف هابرماس هذه العملية او الصياغة المتناقضة الخاصة بتقوية العلاقات الفردية على حساب العلاقات الطبقية او علاقات المجموع ، بعملية (خصخصة المجتمع المدنى ) اذا وفّقت فى ترجمتى لعبارة Civil Privatism ويعتبر هذا النوع من الخصخصة اهم اداة فى ميكانيزمات المساومة الطبقية التى تحدث فى المجتمع class compromise كما سنرى .
اضافة الى الوضع المؤسساتى لتقاليد خصخصة المجتمع المدنى ، هناك عدة طرق تقوم الحكومات والوكالات التابعة لها ، بعمليات اضفاء الشرعية. اهم تلك المجهودات تعتبر الخاصة بحل النزاعات فى مواقع العمل على اعتبار انها المهدد الاكبر لعمليات التراكم، وقد تمّ ادارتها بنجاح من خلال عملية التفاوض الجماعى The Process of Collective bargaining حيث اصبحت بموجبها دوائر العمال والادارات والدولة ، شركاء partners فى اتخاز العديد من القرارات ومن بينها تحديد هيكل الاجور، لكن هذه هذه الشراكة تنحصر فقط داخل القطاعين الاقتصاديين الاول والثانى المشار اليهما بعاليه حيث الطبيعة الاحتكارية وكثافة الاستثمار وايضا (وجود النقابات العمالية المعترف بها) . ساهمت هذه السياسة فى شق صفوف العاملين حيث اصبح هناك شريحتين ، الاولى تمتع بحماية نقابية قوية واعتراف من الدولة ووضع اقتصادى مريح وشرائح اخرى من العاملين ذوى الاجور الضعيفة نسبيا والضمانات الوظيفية الغير كافية وتشمل فئات العاملين فى القطاع الاقتصادى الثالث وهو التنافسى الخدمى الذى كنت قد اشرت اليه خلال تعرضى للنسق الاقتصادى بعاليه. وهذا يعنى انك قد تكون من ذوى الياقات البيضاء ولكنك تتقاضى اجرا يقل كثيرا عن ذوى الياقات الزرقاء من عمال مصانع السيارات مثلا، وذلك لمجرد كونك تعمل فى القطاع الاقتصادى التنافسى الثالث !
يهمنا التأكيد على حقيقة ان عملية فض النزاعات الصناعية هذه التى تمارس فى الدول الرأسمالية المعاصرة، فيما يخص القطاعين العام والخاص الاحتكاريين ، قد تمّ السيطرة عليها تماما من خلال المساومات التى تتم فى التفاوض الجماعى اضافة الى تثبيت وادارة الاسعارالتى تساعد عليها الطبيعة الاحتكارية للقطاعين المذكورين. هذا الواقع اعان الدولة على ضرب وحدة العاملين بطرق مختلفة. ظهور قطاعات من العمالة ذات الاجور العالية واخرى ذات اجور منخفضة هو تفاوت بيّن فى مستوى المعيشة بين ابناء طبقة واحدة !. قادت الطبيعة الاحتكارية للدولة الى بروز ظاهرة الازمة* الدائمة فى القطاع المالى ، الى حيّز الوجود وذلك حيث ان طبيعة عمليات المساومة يعقبها دائما تقدم عملية التراكم الراسمالى للقطاع الخاص على حساب مؤسسات القطاع العام. ولذلك فان وجود تكلفة اجتماعية عالية كمخلفات لعملية تراكم الارباح التى يجنيها القطاع الخاص ، هى سمة ملازمة لطبيعة المساومات التى تحدث فى الديمقراطيات الليبرالية، خاصة فى واقع العولمة الذى نعيشه . يتم تمرير هذه التكلفة او الخسائر ان شئت الدقة ، التى تحدث فى القطاع العام الى طبقة العاملين بعدد من الطرق. ولان الاحساس السلبى للدوائر المختلفة فى المجتمع بهذه التكلفة مختلفا نتيجة لتفاوت نصيب كل منهم ، فانه يحدث تفاوت اخر فى المستويات المعيشية لهؤلاء - تشمل كلمة هؤلاء دوائر المرضى ، كبار السن، العاطلين، المتشردين، المستهلكين، الاباء والامهات الخ -.كل هذا التفاوت يخدم الغرض المتعلق بتكوين مجموعات متفاوتة فى مصالحها الاقتصادية special interest groups مما يضع عقبات اضافية تقطع اية امل ممكن فى اتحاد العاملين او وحدتهم working class solidarity ولذلك اعيد ما كتبته بان الرأسمالية المعاصرة تجبرنا على تعريف انفسنا كافراد على حساب كوننا اعضاء فى طبقة واحدة ، حيث تمت عملية اغتيال ادارى للهوية الطبقية هذه ، مما يجعل المواطن فى الديمقراطيات الغربية يبحث دائما عن حلول فردية لمشاكله، سياسية كانت ام اقتصادية .
اتطرق فى المقال القادم باذن الله، الى طبيعة التحديات او - الازمات - الثلاثة التى يعتقد هابرماس انها تواجه المجتمعات الرأسمالية الحديثة.
* يجدر الاشارة الى ان استخدام كلمة ازمة فى هذا المقال مقصود بها ضعف مناعة المجتمع وليس مفهوم الازمة الماركسى المتعلق بالتناقضات وحتمية انهيار الرأسمالية ، اذ ان مفهوم ماركس يعتبر ميتافيزيقى متوارث كما شرحت فى المقال السابق .
المرجع التالى هو المعتمد فى هذا المقال والذى يليه:
Habermas, Jurgen 1975. Legitimation Crisis.Boston: Beacon Press