اختتمنا مقالنا بالأمس بسؤال عن الأسباب التي دفعت الإدارة الأمريكية لوضع عدم ترشح الرئيس البشير على رأس أجندة المساومة؟ قبل عدة أشهر أطلق الفريق أول صلاح قوش تصريحا مثيرا أكد فيه أن الدول الغربية ترغب في تغيير تركيبة النظام!! وفُهم من ذلك أن واشنطون تتحدث عن مجموعة محددة تصر على إبعادها من دهاليز القرار السياسي. أمريكا ترى أن هذه المجموعة المتنفذة في الحكم لاتمضي باتجاه إنفاذ اتفاقية السلام بشكل كامل، ولا ترغب في التوصل لحل في دارفور. هذه هي المزاعم التي ظلت تروّجها كثير من الدوائر الغربية ومراكز الدراسات، وعلى رأسها مجموعة الأزمات الدولية - برندات قاست- على وجه الخصوص. نجحت مجموعة الأزمات في تسويق هذه الفكرة لإدارة بوش من قبل، والآن وجدت سوقا منتعشا بعد فوز الديمقراطيين، وصعود نجم سوزان رايس في مجلس الأمن، وهي الناشطة السابقة التي ظلت تعمل بجهد ضد ما ظلت تسمّيه حكومة الجبهة الاسلامية في الخرطوم!! الرئيس البشير بعد رفضه الاستجابة لهذه الطلبات والضغوط، يبدو أن الأمريكان قد وصلوا لمرحلة العجز التام في إيجاد أرضية للتفاهم معه حول التغييرات المطلوبة. ولذا بدأت آليات الفعل السياسي تتحرك في الاتجاه الممكن، لفرض المزيد من الضغوط، ومن هذه الآليات المحكمة الجنائية. والى هنا، إذا ما استجاب الرئيس البشير كان بالإمكان إيجاد مخرج من مأزق الجنائية. ولكن واشنطون يئست، وعليه قررت العمل على تغيير الطاقم غير المرغوب فيه ابتداءً من الرئيس البشير. وهكذا أمريكا، الرئيس الذي لاينفذ الأجندة التي تمليها عليه يصبح هو نفسه هدفا للتغيير. الآن وضعت البندقية المحشوة على رأس النظام وبدأت الابتزاز. المطلوب أن يقبل المؤتمر الوطني إقصاء الرئيس عن الترشح في الانتخابات القادمة كثمن لتأجيل التوقيف لا إلغائه!! ياله من ثمن بخس لن يقبل به المؤتمر الوطني للأسباب التي سقناها بالأمس.
البند الثاني المطروح في أجندة المساومة الكبرى مع المؤتمر الوطني، هو إنفاذ اتفاق السلام بالكامل!!. لا أعرف ماهو المطروح تحديدا في هذا الاطار. لقد تم تنفيذ اتفاق السلام بنسبة 80% بشهادة مفوضية التقويم المشرفة والمراقبة لتنفيذ الاتفاقية، وهي مكونة بشكل أساسي من الدول الغربية ومراقبين من دول الإيقاد. ماتبقّى من الاتفاقية تعمل عليه لجان. أمس الأول اجتمعت لجنة برئاسة الأستاذ علي عثمان ومشار لمراجعة موضوع القوانين. أمامنا الآن من الإنفاذ الكامل لاتفاق السلام أربع محطات. الأولى أبيي وهي أمام محكمة العدل الدولية. الثانية هو قانون الاستفتاء وهو تحت الصياغة، ثم قيام الانتخابات، واستفتاء تقرير المصير. ماهو المطلوب من أمريكا إذن؟ يمكن للخرطوم أن تسعى لتفهم ماهو المطلوب تحديدا، وترى ما إذا كانت تقدر على تقديم تنازلات في هذا البند. المساومة هنا ممكنة بعد تعيين المطلوب.
البند الثالث دارفور. في هذا البند المطلوب التوصل لحل فوري لمأساة دارفور. يمكنني أن أتفهم لماذا تسعى إدارة أوباما لتسجيل نصر سريع في دارفور. إدارة أوباما تقدم الآن جملة من التنازلات للدول الممانعة، ولمعسكر المعتدلين وحتى الإرهابيين (أعلن أمس الأول الرئيس باراك أوباما أنه سيبدأ حوارا مع المعتدلين في تنظيم طالبان.!!). لكن التنازلات التي تبذلها الإدارة لطهران وموسكو وطالبان لن تسطيع حصاد نتائجها بشكل سريع، إذ أن التعقيدات في هذه الملفات يصعب حلها بين ليلة وضحاها. الملف الأسهل في التعامل هو ملف دارفور. هنا فقط يمكن لإدارة أوباما أن تسجل نصرا سريعا، وهي على حق لولا أنها سلكت الطريق الخطر، ولم تسلك أقصر الطرق. الطريق الخطر هو أن يعتقد الديمقراطيون أن سياسة الرصاص المحشو التي تتسم بالابتزاز كما رأينا، في الموافقة المتسرعة على قرار الجنائية يمكن أن تعود بالنتائج المرجوة سريعا. خطورة هذا الطريق أن واشنطون ستخسر إمكانية لعب دور نزيه في تسوية الأزمة إذ ستنظر لها الحكومة كطرف معاد ومنحاز في الصراع، مما يغل يديها عن أي فعل مؤثر. ثم إن موقفها هذا سيرسل رسالة سالبة للحركات المسلحة، وهو ماحدث بالفعل بعد إصدار قرار التوقيف، الشيء الذي ينسف أي إمكانية للتوصل لسلام قريب في دارفور. الحركات المدعومة ماديا والمحفزة سياسيا لاشيء يمكن أن يدفعها لمائدة التفاوض لانجاز سلام في الاقليم، وإذا وصلت الى مائدة المفاوضات، تصل تحت أوهام سقوفات عالية، لن تمكنها من التوصل الى سلام سريع وعادل.
المساومة في موضوع دارفور ممكنة، ولكنها تستوجب إعادة النظر في اتفاق السلام الشامل. أية تنازلات جدية في السلطة والثروة تستوجب تعديلات جوهرية في الاتفاق. فهل واشنطون وحلفاؤها مستعدون للمساس بنصوص نيفاشا المقدسة !!. هل ستقبل الحركة الشعبية بإعادة توزيع السلطة والثروة على أسس جديدة تنصف إقليم دارفور الذي طالما أعلنت تعاطفها مع قضاياه.؟. التنازلات المطلوبة على مستوى إقليم دارفور من توحيده الى التعويضات المُرضية للضحايا، كلها ممكنة ويمكن للحكومة أن تصل فيها لحلول وسطى في التفاوض. ولكن المطالب التي تتعلق بالشأن القومي ستصبح التنازلات فيها مستحيلة، إذ لم تعدل نيفاشا والدستور من بعد بشكل مناسب. بالطبع لايتوقع من المؤتمر الوطني أن يقدم كل التنازلات وإلا لحكم على نفسه بالإعدام، ثم إنه ليست هذه هي الأوقاوت التي يتهاون فيها المؤتمر الوطني أو الرئيس البشير ليجازف بتقديم تنازلات تضعف قبضته على السلطة. بل العكس تماما، إذ سيكون التشدد هو السمة العامة للمؤتمر الوطني في أية مفاوضات قادمة، لأن توقيف الرئيس ليس من بعده ضغوط، خاصة وإن توقفت الحكومة عن اللهث وراء تأجيل القرار. لقد وصل سقف الضغوط مداه النهائي بمحاولة اعتقال رئيس الدولة نفسه، ولن يجد المجتمع الدولي كرتا مناسبا للضغط على الحكومة إلا بالترغيب بإلغاء هذا القرار، أو الترهيب بالحصار والغزو!!. الحصار والغزو فعلان ممكنان ولكنها مكلفان، وتكلفتهما لن يدفعها المؤتمر الوطني ولا الحكومة وحدهما، ولا السودان وحده، إنما افريقيا كلها ستدفع ثمن صوملة السودان. المساومة هي المخرج من المأزق وهي ممكنة قبل أن تصل الأمور المتدحرجة الآن لحافة الهاوية. إذا كانت إدارة باراك أوباما لازالت ملتزمة بأن مشاكل العالم لاتُحل بالصواريخ والدبابات
فلا مناص من المساومة، والتي عبرها وحدها يمكن إيجاد فرص للحل، وهي متاحة في نهاية المطاف. وفي قناعتي لا الحكومة السودانية تسعى للصدام مع المجتمع الدولي، وليس من مصلحتها. ولا المجتمع الدولي سيحقق شيئا بنشوء فوضى كارثية في السودان. وهنا فقط تبرز إمكانية المساومة، قد تكون ليس الآن ولكنها في نهاية المطاف ليس هناك أفق سواها إلا الخراب.