نحو التغيير (2) … بقلم: عمر الترابي

 


 

 


alnahlan.new@hotmail.com
انتهينا في المقال السابق إلى القول تساؤلاً لماذا نريد أن نتغير ومن ماذا نريد أن نتغير وإلى ماذا نريد أن نتغير ونصير، وبدأنا الحديث عن ضرورة التخطيط لهذا التغيير عن قناعة تفتقت من سوح غاشيات البلوى وحاضرات الغموم، طمعاً آملاً في التعلق بدرب الوصول إلى جديدٍ طيب، وكان أن قلنا أنْا سنتحدثُ عن المفارقة بين التغيير والثورة والتطوير وخيارنا منهن وسنعرج على أركانِ التغيير الذي نشدناه وأردناه.
فبالله العون، إن الإستهداء بالعلم لإستنطاقه عن تعريف دقيق للتغير يُخرجنا بالإجمال إلى ما قاله علماء التغيير وألخصه بالقول أن التغيير الناجح هو النمووالتقدم والرقي على المستوى الفردي أوالجماعي مع احتمالية وجود المخاطرة.أ.هــ، ويتم ذلك وفق إعداد مدروس وتراتيب متزامنة مع حركة على النطاقات المستهدفة تباعاً واتساقا، ويرافق ذلك العلم بأن احتمالية المخاطرة تُعد من عقبات التغيير، وإن كان ذلك لا ينفي تأصل الرغبة والنية والرسوخ فيه فوجود الإحساس بالمخاطرة واستشعاره لا ينفي نية التغيير فالخلاف حيئذ إنما هوعلى الآلية، ولعل احتمالية هذه المخاطرة تجعل الناس يترددون في تعيين الآلية وذلك إنما يُعالج ويعاجل بمزيد تخطيطٍ وعميق قراءة وحُسن اتكال، ونحن هنا نؤمِّنُ على أننا لا ندعوا إلى التبديل التام، ولا ننكر نِعم الله علينا ولا نتنكر لها؛ لأننا إن فعلنا فحينها سنتقهقر وتنحط بنا همتنا ويعود جُهدنا ضداً ويرتد سعينا عن الخير مدحوراً، لأن الله يقول (ذلك بان الله لم يك مغيرا نعمة انعمها على قوم حتى يغيروا ما بانفسهم وان الله سميع عليم) (الأنفال53)، فنحن إنما نسعى إلى الرُقي وتغيير ما يحطنا وتجديد عهدنا بما انقطع أواهترأ من ثوابت الإيمان وتحصيل ثمراته على الفرد والمجتمع من مواطنةٍ فاعلة وعالمٍ متسالم وأمةٍ واحدة على من سواها.
الفكر الثوري ومنهج التغيير
إن التمايز الذي نشدد عليه بين الفكر الثوري وبين منهج التغيير إنما كان مُستخلصاً من منطلقات متفرقة، وفي هذا الشأن أقول موجزاً، جاء عند ابن منظور ثارَ الشيءُ ثَوْراً وثُؤوراً وثَوَراناً وتَثَوَّرَ: أي هاج؛ والإصطلاح لها يأتي مرافقاً لما في مصدرها ومعجمية لفظها من الاندفاع العنيف نحوتغيير الأوضاع السياسية والاجتماعية تغييراً أساسياً بحيث تكون الثورة حدثاً فاصلاً بين حالتين، وسمة ذلك أن يكون تغييراً مفاجئاً في النظام السياسي والمؤسسي القائم أوأياً كان النظام المستهدف صناعةً، أخلاقاً، رياضةً أوغيره، والأوضح في مفهومها أنه مناط بعامل السرعة في التغيير، ولكن سؤته أن ما بُني سريعاً هُدم سريعاً، لذلك أعمد إلى القول أن الفرق الأصيل بين الثورة والتغيير هوالبرزخ الذي يكون بين ما كنا به وما نريد إليه، وهذا البرزخ منه جزء التخطيط والعزم وبعض التدريج والتنامي وآخر التقويم والمراجعة.
وهذا البرزخ هوالمحدد لنجاح التغيير وتمامه وعافيته، ونحتاج فيه لتدعيم التغيير المنشود لإجماع وطني وإرادة حقيقية وإدارة واعية لهذا التغيير على مستوياته كلها، والإجماع الوطني الذي أنشده، ليس إجماعاً مستحيلاً فقد اتفقنا في باكورة سلسلتنا هذه أن سمة مطالبتنا في هذه السلسلة تكون ملازمةً للواقعية، فنحن نطالب بحدٍ ادنى من الإجماع الوطني نبني عليه لبنات هذا التغيير ومقومات هذا البرزخ، ويكون هذا الإجماع الوطني لتغيير الأمة فالإتفاق والوفاق عليه ينبغي أن يبدأ تواثقاً بين جميع القوى السياسية الحية متمثلةً في كل الأحزاب الوطنية الفاعلة، وانتظام كل المؤسسات الإجتماعية النشطة، وإسهام كل القيادات الدينية ورضى القيادات العشائرية، وعلى المستوى الشخصي يجب أن يتم بوفاق مع النفس وبتقييم منطقي للقدرات الذاتية والطاقات الدافعة.
المفارقة بين التغيير والتطوير
أما المفارقة بين التغيير والتطوير فهي دقيقة جداً فالتطوير هوانتقال بين الأطوار لا انتهاء له من حسنٍ إلى أحسن آبد من النمو، ولكن ما ننشده من تغيير هوجزئي محدد، ولعله من المهم القول أن التغيير ربما يكون انحطاطاً ولا يكون ذلك للتطوير فلا درك فيه بل درجات وأطوار متعاقبة، وإن نجح التغيير لنا أن نعتمده تطويراً ونبني عليه، ولا داعي لفرد المقارنة مطولاً ولكن يبقى المجال واسعاً لأهل الشأن لتأطير التغيير وتحديد أهدافه وسقفه الذي ننشد، لنبني عليه تطويرنا وهومطلب آخر لسنا بصدده الآن.
ماهي القضايا التي نريدها أن تكون ثمرةً لخطوات تغييرنا؟ وماهي الأشياء التي تستدعينا همتنا وآمالنا للوصول إليها وماهي سبل الوصول إليها وما هوالسبيل الأيسر، وهنا أشدد على صيغة الجمع فلكل شئ أكثر من سبيل ولكل مشكل أكثر من حل، وهذه النقطة من أهم النقاط اللائي سنتطرق لها في ترقية طرائق التفكير واعتماد البحث عن حلول عدة ومناقشتها والخلوص إلى الحل الأسلم الذي يتناسب ومعطيات الواقع، فأركان التغيير إنما تشمل الحديث عن القضية وإيمان الأمة بجدارتها بالعناية ووجود قيادة مبادرة للحراك ووسيط يراقب آليته ويحتكم إلى معطيات البرزخ من آليات التقويم وتدقيق التخطيط والمراجعة حبكاً وإتقاناً، وارتباط ذلك بعقد وميثاق ووكالة وإن استدعى الأمر نيابة، واعتماده على منهاج أكاديمي ومعايير واقعية، ليسير بعون الله.
قضايا التغيير
إن الدعوة إلى التغيير لا تُعتبر مأزقاً سياسياً فهي تنبع من الحاجةِ إلى ترقية الواقع، لذلك لا نعتبرها تحدياً وإنما تفاعلاً طبيعياً مع المُعطيات، ونعلم أن الجهد ينبغي ان يكون منصباً على ضبط وتوجيه هذا التغيير لا الحديث عن ضرورته؛ فضرورته حتمية يحتمها الواقع ويمليها الحال. قضايا التغيير متجددة ولكن أولويتها تترتب متراصةً بحسب أهليتها على إستعجال النُهضان وعلاج مواضع السقوط في الآمال والقيم والمبادئ والمادة، ومن الصعب إحسان الولوج إليها عبر مفهومٍ محدد لذلك أتلمس لمبضعي أن يعالج أحد المفاهيم التي تمس معاشنا واعتذر عن غياب الإستشهاد، حتى لا أحطم وسع الفكرة وأصالتها بضيق الشخصنة وضحالتها، فسنكتفي بإشارات عامة، وأبدأ بالسعي لتغيير بعض مفاهيمٍ تجذرت في العقلية (التي نستهدفها) وتنوعت آثارها من مثل الإيمان بوحدانية الصواب والتجبر له والتعصب له وما ينتج عن ذلك من أمراض الإستبداد والطغيان وهنا أعني "إقصاء الآخر". وسأضخ بعضاً من ملامحه وسُبل علاجه وطرق تقويمه ولعلي أتطرق إليه في نماذج.
في الفكر السياسي
تنوعت المطالب في الدعوة إلى حرية سياسية تمهد لفعل ديمقراطي رشيد، ومن الطبيعي أن تتزايد هذه المطالبة كلما غاب المطلب وحيثما ضاقت الحريات اتسعت المطالبة بها كما هي سنة الدنيا في تنامي الرغبة بغياب المرغوب فيه، وإيمان الطبقة المثقفة والفاعلة أن البداية الحقيقية للنهضة إنما تسترعي وتستدعي التحول الديمقراطي شرطاً أكيداً، والحق أن الديمقراطية أوالممارسة الديمقراطية إنما ابتنت أصلاً لتحمل آراء الناس وتعارضها لتُنتج راياً سائداً ليسود، تسهيلاً للوصول إلى (الأفضل)، ومما لا مراء فيه أن الأفضل والأصوب على جلاء مفهومهما إلا أنهما نسبيان في كثير من القضايا وهنا، فإن أول قواعد الممارسة الديمقراطية تتطلب عقولاً وقلوباً تتقبل الرأي والرأي الآخر، وتحمل لكلمة الرأي معنى يسمح لتعددها وينطق بأنها كل ما يُحتمل صوابه، فلا تفرض أفضلها الذي تراه ولا تحمل الناس على صوابها الذي تراه إلا عبر منظومة يُتفق عليها شورىً وديمقراطية أوحكماً ولائحية.
إقصاء الآخر، هومرتع للتطرف وهو خطأ بكل المعايير وبشتى المعاني، فالحجر على رأي معين وإن كان في نظر الحاجر خطأ إلا أنه يُعطي –من حيث لا يدري- للرأي المحجور دفعة وانطلاقةً قوية (للأسف أنها ربما تكون مدمرة)، فالكبت والتجبر قيم نرفضها كلنا علناً، ولكن تبقى ممارستها الخفية موجودة، وتبقى أصيلة، وزعيم أنا بالقول أن واقعنا اليوم هو وليد لمؤتلف من الأخطاء الفكرية والسلوكية آصلها وقعاً وأشدها فتكاً هو إقصاء الآخر، فينبغي أن تُربى الأجيال التالية والنشء الحالي على تعدد الآراء وتنوع الحلول وإمكانية الوصول إلى منطقة وسط بينها، ونحن أحرى بالتأكيد على هذه النقطة لما نملكه من اجماع تام على ضرورة الممارسة الديمقراطية المعافاة.
والأمانة تقتضي أن نصرح بأن العيبة ليست في القيادات السياسية فبواقع التجربة نعلم شغفها للرأي والرأي الآخر، ولكن العيب في العقل المُمارس الذي يتوهم رأي القيادة ويؤيده ويتولى هوعزيمة وعناء انتاج رأي يُرفع للقيادة لتناقشه، عبر آليتها لممارسة اتخاذ القرار، والحمد لله أن الهيكلة الديمقراطية موجودة والماعون الشوري وافر الحظ، فينبغي تفعيل تقبل العقول للآراء وتمكينها من الممارسة.
في الفكر الديني
ربما للفكر الديني خصوصيته إذ أن اختلافه عن الأشياء الأخرى أنه مرتبط بثوابت لا تقبل التغيير وله أُطر لا تُتُجاوز وله قداسة تضعه فوق كل اعتبار، لكن هذه القداسة مرتبطة بالأصول وماعداها فلا، ولنكون أكثر توضيحاً، يُقبل الكلام في ما يُقبل له أن يكون رأياً ويُرفض فيما هو ثابت قطعي، ولكن يبقى الحوار والتناصح بالحسنى السبيل إلى توصيف ذلك بمرجعية مرتضاة، فأما إن كان ما كان من حديث على أنه رأي فإنه ما أثرى الفكر الديني قبلاً من مذاهب مباركة ومسالكٍ وطرق وحركات إصلاح.
إن الحديث في هذه النقطة يجرنا لتفصيل العلاقة بين رفض إقصاء (الرأي) الآخر وبين مبدأ احترام الأديان وكريم المعتقدات، إذ ينبغي الوعي لأن الدين يخاطب الإنسان ويستبني الحياة خلافةً في الأرض وصلاحاً للعقول والقلوب وخروجاً من الظلام إلى النور، وهذا كله لا يستوي إلا بتربية الناس على الحرية واحترام الآراء وانتهاج السبيل الأكمل في الوصول إلى الأفضل ولي عودة في مقال منفصل لهذا الأمر في سلسلة منفردة.
لا أدعي أن تغيير نمطية الثقافة الإقصائية يتم بالتحول التام عنه في ليلة وضحاها باليسر الذي يُتخيل، ولكنه يحتاج لعمل ضخم وسعي مضاعف، فأما الأجيال التي نضجت عليه فما لها إلا المصابرة والمغالبة ولها علينا المُسايرة، ولكن التركيز إنما ينبغي أن يكون على الأجيال الناشئة، فينبغي علينا تنمية الفكر المنفتح والذي يتقبل الآخر وذلك يكون بالطلب من الأكاديميين من التربويين وأهل علم الإجتماع، أن يضعوا في المناهج التربوية ما يُمرن على تقبل الرأي ويؤكد على تنوع الآراء ونسبية الصواب بتوضيح أن لكل مشكلة أكثر من حل والإبداع إنما يكون بتوصيف أسهل طريق للوصول لحل أنجع.
ونواصل
اكاديمي سوداني بدولة الامارات العربية المتحدة

 

آراء