ملفات السودان بين يدى مصر

 


 

 

في أعقاب طرح مصر لمؤتمر دولي لمعالجة قضايا السودان حزمة واحدة، طاف بذهني سؤال امتدت دوائره لتصل التاريخ بالحاضر وربما بالمستقبل. لماذا تتسرب الملفات الهامة والخطرة التي تلي السودان من بين يدي مصر ثم تعود مصر لتلهث خلفها أملاً في الإمساك بها وإعادتها إلى مجرى دهاليز السياسة المصرية؟.
     في أعقاب مقتل السيرلي استاك: الحاكم العام في السودان بمصر في 20- 11 -1924م، طلب المندوب السامي البريطاني في مصر من سعد زغلول سحب القوات المصرية من السودان والاكتفاء بالمامير المصريين هناك!!. أدى رفض سعد زغلول سحب قوات مصر إلى إخلاه مقعده لوزارة زيور باشا، وسرعان ما استجابت مصر وأخلت جيوشها في أثناء وبعد ثورة 1924م. بالطبع لا يمكن تحميل مصر مسئولية أوضاع استعمارية كانت هي نفسها ضحية لها.
     بعد النتائج الباهرة التي حققها الاتحاديون في انتخابات 1953م بفوزهم بأكثر من خمسين مقعداً في أول انتخابات برلمانية أصبح الطريق مفتوحاً للاتحاد مع مصر. لكن القوى الاستقلالية المدعومة بالإنجليز والتي لم تُرضيها النتيجة، عمدت إلى إفساد الجو السياسي، حيث بلغت قمة التحركات الاستقلالية في أثناء زيارة الرئيس نجيب للسودان لحضور افتتاح البرلمان السوداني.
     الشاهد  في الأمر أن مصر بعد تلك الأحداث بدأت زاهدة في السودان الشئ الذي حدا بدعاة وحدة وادي النيل تبنِّي الشعارات الاستقلالية، وفعلاً وبطريقة درامية أُعلن الاستقلال من داخل البرلمان بإجماع السودانيين. وهكذا طوَت مصر وجودها العسكري والسياسي في السودان، ومن وقتها بدأت تتسرب ملفات السودان المصيرية من بين يدي مصر.
     ثلاثة ملفات كانت بين يدي مصر خلال التسعينات وبداية الألفية الثالثة لكنها تبعثرت في الآفاق، وها هي مصر الآن تحاول لملمة شعثها.
     مثَّلت المبادرة المصرية الليبية المشتركة أولى تلك الملفات. كانت كل الظروف الإقليمة والعالمية وظروف السودان الداخلية توفر مناخاً ممتازاً لنجاح المبادرة. كل الأوراق تقريباً بيد مصر.. علاقة جيدة مع النظام في السودان.. المعارضون يتخذون من القاهرة العاصمة الأولى لمعارضتهم.. ليبيا لها تأثير كبير على النظام آنذاك في مرحلة ما قبل اكتشاف البترول. العالم يئسَ من قدرة المعارضة على إسقاط النظام، وبدأ يبحث عن طريقة لتفكيكه من الداخل. الجنوبيون الباحثون عن السلام قبل مباردة الإيقاد، كانت مصر على علاقة جيدة بقيادتهم، ولكن على الرغم من كل ذلك تسرَّب الملف فجأة من بين يدي القاهرة فقام الجنوبيون بفرز عيشتهم بعيداً عن مائدة المبادرة المشتركة، واتجهوا للمبادرة الإفريقية عبر الإيقاد. ومن ثم بدأت المبادرة تراوح مكانها حتى تم توقيع اتفاقية السلام في نيروبي 2005م. حين أقدمت مصر على دفع المعارضين لتوقيع اتفاق القاهرة، كانت الأوضاع السودانية قد ترتبت بشكل جذري على هدى إتفاقية السلام الشامل. وهكذا تسرَّب هذا الملف من بين يدي مصر دون أن ندرك لماذا جرى ما جرى!!
     ملف آخر أطل فُجاءة في عالم السياسة السودانية وأصبح واحداً من مهددات الأمن المصري ألا وهو ملف دارفور. هذا الملف الذي اجتذب العالم كله للسودان، كان بإمكان مصر أن تتصدر أمر معالجته، ولكن مصر آثرت أن تُصبح لاعباً مثل اللاعبين الآخرين المساهمين في القضية. الدور المصري المطلوب المرغوب، بل والمقبول سودانياً رصيد لا يمكن تركه دون استغلال ليذهب هباءاً. ولكن الشاهد أن هذا قد حدث في قضية دارفور أيضاً. الحكومة السودانية كانت تبحث عن قشة تقيها الهجمة العالمية الشرسة التي عانتها وتعانيها إلى الآن. الحكومة المصرية تمتعت في بداية الأزمة بعلاقات جيدة مع أطراف النزاع ومع الحركات المتمردة والمحدودة التي كانت تسيطر على الأوضاع آنذاك. ولكن ما جرى، أن دارفور تبعثرت هي الأخرى في الآفاق وأصبحت دول الجوار الإفريقي أكثر تأثيراً من الدور المصري قضية السودان الأولى.
     مرة أخرى وضعت قضية دارفور بين يدي الجامعة العربية التي أحالت معالجة أمر الملف إلى دولة قطر.. كان بإمكان القاهرة استعادة الملف بين يديها والسعي في معالجته ما دام أن سنداً عربياً، بل ودولياً بدا متوفراً لحسم القضية. ولكن القاهرة آثرت أن يذهب الملف بعيداً عنها. لم تنتبه القاهرة لأهمية دورها في قضية دارفور إلا بعد أن دخلت في دوامة صراعها مع قطر في أعقاب حرب غزة. الآن تحاول القاهرة استعادة الملف بثمن مكلف في وقت تمضي فيه الأمور باتجاهات شتى، وقت نزلت فيه الدول العظمى إلى الملعب بثقلها كما نشاهد الآن في التحركات الأمريكية الأخيرة في السودان (غرايشن - كيري).
     قضية أخرى أيضاً بدأت تتفاعل في الساحة السودانية منذ أمد بعيد، وظلت مصر تعمل كمراقب من بعيد للأضاع كأنها لا تعنيها حتى شبَّ حريق الجنائية في جنوب الوادي بشكل شامل وأصبح مهدداً أمنياً لكافة الأوضاع في السودان. خرج هذا الملف نهائياً من بين يدي دول الإقليم ومنظماته، وانتقل للآهاي، وقريباً سينتقل إلى مجلس الأمن، وتبدو حتى الآن التحركات الإقليمية بما فيها تحرك مصر بلا صدى.
     الشاهد في هذه القضايا التي تتسرب بين يدي مصر ليست هي قضايا معزولة عن مجرى السياسة المصرية في أبعادها الأمنية والعسكرية، ورغما عن ذلك تتسرب من بين يديها رغم توفر قبول للدور المصري من كافة الأطراف داخل السودان ومن القوى الإقليمية ومن المعارضين بكافة أنواعهم وتصنيفاتهم.
     بالتأكيد إن القضايا السودانية ليست أكثر تعقيداً من القضايا التي تسعى الدبلوماسية المصرية وقمة الجهاز السياسي والأمني في مصر للتعامل معها في العالم العربي. الأسئلة التي لازالت معلقة هي كيف ولماذا تتسرب الملفات السودانية من بين يدي القاهرة.؟ هل هناك أطراف دولية لا ترغب في رؤية أي دور مصري في السودان ولماذا؟. هل رضيت مصر بترحيل ملفات السودان التي تؤثر سلباً وإيجاباً على أوضاعها بعيداً عنها ولماذا؟. أطرح هذه الأسئلة للمعنيين بالأمر في البلدين لعل وعسى أن نجد إجابة لدى النخَب السياسية الحاكمة والمعارضة في مصر والسودان.


 

 

آراء