تواصل مع واصل (1)

 


 

 

شرّفني الأستاذ واصل علي (شخصية إسفيرية لم تتوفر لي معلومات عنها إلا القليل، ولكني على كل حال اعتدت على التعامل مع هذه الشخصيات التي لاترغب في الكشف عن ذاتها لأسباب شتّى). شرّفني واصل بالرد على مقالة كتبتها بهذه الصحيفة بعنوان (أبوقردة على مسرح لاهاي)، وذلك في أعقاب مثول القائد أبو قردة أمام المحكمة الجنائية بلاهاي. قررت التواصل مع واصل بعد موافقته على نشر ردّه الذي نشره على موقع سودانايل، على رغم أن كاتب المقال من حيث أراد أن يدعونا للارتقاء بمستوى اللغة انحطّ بها.
يقول الأستاذ واصل في مستهل مقاله (تملكني العجب وأنا أقرأ مقالا للأستاذ عادل الباز في موقع سودانايل يوم الثلاثاء الماضي بعنوان “أبو قردة على مسرح لاهاي”. مصدر دهشتي لم يكن المغالطات التي وقع فيها الكاتب بل الأسلوب واللغة التي استخدمها والتي لا تليق بصحفي ورئيس تحرير لجريدة كبيرة. المقال في مجمله يحط أيما انحطاط بمستوى النقاش في موضوع أصبح شنئا أم أبينا ركنا أساسيا في الحياة السياسية السودانية، وأغلب الظن أنه سيظل كذلك لفترة طويلة من الزمن. بكل أسف لم أجد في مقال الأستاذ الباز أي تحليل موضوعي بل وجدت استهزاءً وتهكما لا يضيف أي شيء للقارئ السوداني).
الشيء الذي حيّرني بعد أن قال الأستاذ واصل إن المقال ينحط بمستوى النقاش شرع في نقاش ذلك المقال، مفنّدا حججه بكل موضوعية، فاستغربت من فعله، ولم أفهم لماذا لايدع الأستاذ واصل هذا المقال الذي ينحط بالنقاش، ويذهب ليناقش المقالات التي تفيد الناس!!. حكى لي الصديق مصطفى البطل قصة تلك المرأة التي استدعت الشرطة، متهمةً جارها بممارسة حركات (مش ولابد)، وعندما وصلت الشرطة للتحقق من الادّعاء لم تجد منظرا مُخلا كما ادّعت الشاكية، فقالت للبوليس عليك أن تصعد لرأس الدولاب وتزيح الستارة لترى الرجل يمارس حركاته الفاضحة). لا أعرف لماذا صعد السيد واصل الدولاب إذا كان المقال أصلا لايليق وينحط بمستوى النقاش!!
 الذي أدهشني أنه أدرج انحطاط مستوى المقال في سياق أزمة عامة للمثقفين السودانيين الذين لايفهمون المحكمة الجنائية، ولم يستثنِ أحدا!! أرأيتم كيف يكون صلف المثقفين وادعاءاتهم!!.
قال الأستاذ واصل إن مصدر دهشته لم تكن المغالطات بل الأسلوب واللغة التي لاتليق بصحفي ورئيس تحرير. لا أعرف أين انحطت اللغة؟. الأسلوب الذي اخترته لمناقشة ماجرى في مسرح العبث في لاهاي هو أسلوب مشبع بالاستهزاء والتهكم، وهو أسلوب اخترته من ذاكرة مسرحية، تدرك أن الأفعال في مسرح العبث لايمكن أن تقابلها بالجدية، فالسخرية والتهكم واللامعقول هو الأسلوب الذي يليق بمسرح العبث (احتفل العالم بمئوية ببكيت قبل عامين). الغريب أنني نوّهت للأسلوب المسرحي العبثي الذي سأوسع به مسرحية أبوقردة في لاهاي نقدا، فهذا الأسلوب ليس عيبا في حد ذاته إنما العيب أن تنحط اللغة فيه، وهذا مالم يقل به أستاذ واصل!!.
لم أفهم قصة التحليل الموضوعي الذي يطلبه السيد واصل مني في مثل هذا الموضوع؟ كنت قد عبّرت بوضوح عن رأيي ووصفت ماجرى في لاهاي بأنه عبث سياسي. فهل ياترى يطلب مني الخوض في تحليل موضوعي لفعل عبثي، إلا أن أكون عابثا مثل اولئك الممثلين بلاهاي. من حق الأستاذ واصل أن يقول إن ماجرى ليس عبثا، ويسعى لتحليله موضوعيا كما فعل ولاتثريب عليه، ولكنني نظرت للأمر من زاوية عبثية، واستخدمت الأسلوب واللغة التي تليق بنوع هذا النص العبثي، وهذا من حقي إذا لم يقرر السيد واصل غير ذلك أو يحشرني في زمرة المثقفين المؤزمين بعدم فهم لاهوت المحكمة الجنائية!!. للعلم فقط كاتب هذا المقال تلقّى كورسا متقدما في موضوع المحكمة الجنائية، وشارك في دورة حول المحكمة في القاهرة، وكان في الشهر الماضي في زيارة لمقر المحكمة ذاتها!! بالطبع لا ادّعي معرفة ولاعلما بذات علم أمين مكي مدني ولا كمال الجزولي ولا سبدرات. ويؤسفني أن يدمغهم واصل بعدم الفهم.
نواصل مع واصل
تواصل مع واصل (2ــ3)
 نواصل اليوم ما انقطع من حوارنا مع الإسفيري الأستاذ واصل علي. يقول الأستاذ: (نظريات المؤامرة التي بنى عليها الأستاذ الباز مقالته، هي مريحة للعقل العربي وتكمن خطورتها في أنها تعمي الشخص عن النظر في الحقائق البسيطة والمجردة. وفي هذا الإطار فقد قرأت وسمعت أساطير حول المحكمة من شخصيات مرموقة من كتاب وصحفيين سياسيين، وحتى قانونيين للأسف الشديد). الأستاذ يقصد أن ماذهبنا اليه في وصفنا لما جرى في لاهاي بأنه مسرحية، تفكير يندرج تحت نظرية المؤمراة. الغريب أن الأمر لم تكن فيه مؤامرة ولا يحزنون. فهذه المسرحية كُتب نصها نهارا جهارا، وكان العرض أمام شاشات التلفاز، فأين المؤامرة هنا؟. كان هناك فعل مفضوح لامؤامرة فيه. نظرية المؤامرة تقوم على تفسير أفعال لاتفهمها، وشخصيات لاتراها. فتنسج في خيالك سيناريوهات خيالية لمؤامرة تجري في مكان ما، تدفع بالشخصيات والأحداث لإنجاز المهام المطلوبة. ماجرى في لاهاي أبعد مايكون عن المؤامرة لكل ذي عينين وعقل. فالقائد أبوقردة تم الاتفاق معه بحسب إفادته بواسطة دول في الإقليم هي نيجيريا وتشاد وهولندا، وهذه الدول لم تنكر هذا الدور!! ياترى ماذا فعلت هذه الدول التي تدخلت؟ الافتراض المنطقي أن هذه الدول تمت الاستعانة بها من قبل المدعي لمنح ضمانات لـ(أبوقردة). هل هذه النتيجة تحتاج لذكاء؟. سافر أبوقردة للاهاي بضمانات، وعاد الى أهله الذين لم يخطرهم بمغادرته الى هناك، سالما غانما!! لو أن لـ(أبو قردة) أدنى شكوك حول مصير مجهول يواجهه، لما تجرّأ على السفر تاركا خلفه قواته وأهله، دون حتى أن يوادعهم!!. لو كان أبوقردة ذاهب الى لاهاي ليواجه مصيرا مجهولا كمصير لوبنغا أو مصير تايلور، هل كان سيبدي هذه الشجاعة المتناهية في المثول أمام قضاة لاهاي. ياواصل لسنا بحاجة هنا لنظرية مؤامرة أو سواها، نحتاج فقط للعقل.!!
 يقول الأستاذ واصل في منحىً آخر (وثمة تناقض آخر وجدته في هذه الجزئية، وهو زعم المقال أن الأمر برُمته تمثيلية. واستدل الأستاذ الباز على ذلك بأن التهم الموجهة لـ(أبو قردة) وآخرين تختلف عن تلك التي وُجهت للمسئولين السودانيين، ولكنني لم أستطع أن أفهم هل اختلاف التهم هو دليل على المسرحية؟ وهل كان تشابه التهم سيوحي بنزاهة الإجراءات؟ أعتقد أن المنطق السليم يقول إن تشابه التهم سيكون مدعاة للتشكك أكثر من اختلافها).
حسنا تواضع السيد واصل قليلا، بعد أن كان يدّعي ألا أحد من المثقفين السودانيين جميعم بمن فيهم أستاذنا العلامة فيصل عبد الرحمن طه يفقه فى أمر المحكمة شيئا, ها هو اليوم يتساءل هل اختلاف التهم هو دليل على المسرحية؟ لكنه عجّل بطرح السؤال على نفسه، ويعاجلك بالإجابة قاتل الله العجلة!! التهم الموجهة لـ(أبوقردة) هي أنه نسّق الاعتداء على جنود حفظ السلام، وهي بالفعل (جريمة حرب)، أما التهم الموجهة لهارون وكوشيب فهي الاشتباه بارتكابهما (جرائم حرب) ضد المدنيين فى دارفور. اختار السيد أوكامبو لصحيفة اتهام أبوقردة جريمة بعيدة عن قتل أو إبادة المدنيين في دارفور|، وهي قضية حساسة لو وُجهت لـ(أبوقردة) لما اعترف بها، ولما جاء الى لاهاي. هل ارتكبت الحركات المسلحة جرائم حرب في دارفور منذ 2003 أم لا؟ بشهادة الأمم المتحدة الإجابة نعم. إذن لماذا اختار السيد أوكامبو من بين تلك الجرائم جريمة واحدة خاصة بقوات حفظ السلام؟ إجابتي هي أن المُخرج الذي يعتقد نفسه ذكيا اختار جريمة حرب تعطي الانطباع المطلوب بأنهم يحاكمون المتمردين أيضا لارتكابهم جرائم حرب. التهم ياسيد واصل متشابهة بل ومتطابقة (جريمة حرب) ولكن التهمتان بعيدتان كل البعد عن بعضهما، ولكن رغم هذا البعد أدى الجانب الشكلاني الغرض منه وهو الإيحاء بعدالة المحكمة ومُخرجها السيد أوكامبو!!

 

آراء