روّاس مراكب القدرة .. “ضو البيت”: وداعا أيها الزين “3”

 


 

 

 Jaaly1999@yahoo.co.uk

 

الجزء الثالث

 

دبي :يونيو 2009

 

المدارج والعتبات:

 

رواس مراكب القدرة:

 

يقول الطاهر ود الروّاس إن  الاسم الوحيد الذي ورثه عن أبيه كان لقبا لم يناده به إلا الكاشف ود رحمة الله، كان ود رحمة الله يقول إن بلال روّاس ويسألونه روّاس ماذا؟ فيجيب:"بلال روّاس مراكب القدرة". ويقسم أنه رآه عدة مرات بين العشاء والفجر وهو قائم وحده في مركب ينقل قوما غريبي الهيئة إلى الشاطئ الآخر. ويقول الطاهر إن أباه حين مات أخذ أسماءه جميعًا معه. كأنه كان بالفعل روحًا مفردًا ليس من أرواح هذا الزمان ولا هذه الأرض

(مريود : طبعة دار العودة: الصفحة 48)

  

العشق:

  

"وملْ إلي البان من شرقّي كاظمة        فلي إلى البان من شرقيِّها أربُ


وكلما لاح معنى من جمالهم               لباه شوقٌ إلى معناه منتسبُ


أظلُّ دهري ولي من حبهم طربٌ                                                       ومن أليم إشتياقي نحوهم حَرَبُ""

 

(إبن الخيمي)


 

المحبة :

 

"الإنسان يا محيميد ... الحياة يا محيميد ما فيها غير حاجتين اتنين... الصداقة والمحبة. ما تقولي حسب ونسب، لا جاه ولا مال.. ابن آدم إذا كان ترك الدنيا وعنده ثقة إنسان واحد.. يكون كسبان".

 

(الطاهر ود الرواس : مريود الصفحة 432، الأعمال الكاملة ، طبعة دار العودة)

  

الإنتماء:

 

"السَمكةُ،

 

حتَّى وهي في شباكِ الصيادين

 

تَظلُ تحملُ

 

رائِحة البَحر"

 

(مريد البرغوثي: رأيت رام الله،  الصفحة 181)

  

إهداء وعزاء خاص:

  

إلى أستاذيَّ وشيخيَّ:

 

إبراهيم حسن عبد الجليل ومهدي أمين التوم 

  

في رحيل الطيب صالح خسارة كبيرة لقيم إنسانية رفيعة، موروثة ومكتسبة، تربيا وعاشا عليها وكانا، وما زالا، مهمومين بإشاعتها وترسيخها في وجدان وسلوكيات من أحبوهم:

 

الأطر والضوابط الأخلاقية غير المساومة نبراسها

 

والتعفف ممزوجاً بالتواضع الحقيقي رمانة ميزانها

 

وزجر النفس ولجمها عن وعند الهوى صمام أمانها

  

وإلى روح أخينا وأستاذنا العميد حقوقي "م" عبد المنعم حسين عبد الله:

 

آمن بما رأى أنه الحق فكان عقله وقلبه حيث آمن.. 

 

ثبت على عمله والتزم الجماعة..

 

كما الطيب ...كان إنسانا نادرا على طريقته.. 

 

اتخذ من المحبة "جلابية" ومن النقاء والبراءة "عِمة" و"شال"... 

 

دارتاه بحي النسيم بمدينة الرياض السعودية وبحلفاية الملوك بالخرطوم البحرية كانتا واحة إنسانية وقبلة وطنية...

 

رحل موفور الإباء ليختال بإذن ربه زاهياً في بساتين البهاء..

 

رحمة الله تغشاك يا أبا محمد

  

"الياقوت في فصوص منظومة "ضو البيت": المتنبيء واللورد بتلر يترنمان مع التاج مصطفى في حضرة حاج الماحي والحاردلو وود الرضي" 

  

"حسن ود بليل الركابي مسكنه دنقلا العفاض، أخذ من حبيب نسي وكان مجذوباَ غرقان إذا قامت عليه الحالة يغطس في البحر أياماً وأصبح ماء البحر يوماَ في دنقلا دافياً فسيل (فسُئل) عن ذلك الشيخ عووضة شَّكَال القارِح فقال ود بليل قامت عليه الحالة فغطس في البحر فأصبح دافياً وأيضاً هو قد مشى على البحر كالأرض وقال يا حي "يا كيوم" بالكاف من العجمة وحواره معه نطق بالقاف فغرق في الماء فقال له :قل مثلي فقال مثله فمشى في الماء".

 

(الشيخ محمد ضيف الله بن محمد: كتاب الطبقات، ترجمة الشيخ حسن ود بليل الركابي)

  

"ويترفع صوت كرومة بكل ما يحمل من نبرات ساحرة (بحة) ..آسرة:

 

يا لِيلْ ...صَار ليك مُعاهِد

 

طرفي اللى منامو زاهد

 

يا ليلْ!

 

دنا ليَّ سهرك..وأشاهد

 

فوق لي نجمك ظنوني

 

يا ليلْ"

 

ويهتز الشيخ..ويرتفع صوته في صيحة من تملكته نشوة الليل...ليل الصوفي العابد ...صاح: الله! ..ويسمع كل من في الحجرة صيحة الشيخ ...الله!...وقد انكفأ على "التَبَروقةْ" مغشياً عليه."

 

(أستاذ الأجيال حسن نجيلة يصور اللقاء بين سيدي الشيخ قريب الله والفنان العبقري كرومة: ملامح من المجتمع السوداني، الجزء الثاني، الصفحة 162)

  

الموسوعيون: بانوراما الفنان الشامل

 

" فقط هؤلاء الموسوعيون من النخبة يمكنهم تفسير واكتشاف الحقيقة وراء المعلومات المتجمعة

(الفيلسوف والمحارب والبطل القومي الصيني سو تسو: 490 قبل الميلاد)

  

"كان تيجاني الماحي موسوعى النزعة.. ألمَّ من كل علم بطرف .. إلى جانب اللغات الحية التي أجاد أغلبها دَرَس لشامبليون فعرف أسرار حجر رشيد .. فك رموز الهيروغليفية فعلم "كلام الطير" .. ألمَّ بشيء من السومرية فقرأ مسلة حمورابي .. كان دارسًا متمكناً للأدب العربي وللشعر العربي ..يروى عيون الشعر طارفه وتليده .... يحدث الناس عن "اليتيمة" .. يحدثهم عن خطب الحجاج وسحبان وائل وزياد بن أبيه .... كان يحدثهم عن السحر عند الفراعنة وعن الشمس وعلاقاتها بأهل النيل .. يحدثهم عن أصول ومنشأ الحلي السودانية .. ويحدثهم عن شخصية هتلر وأتاتورك وأثر الأمراض النفسية في الشخصيات التاريخية .. إلى جانب كل ذلك كان تيجاني الماحي مهتما بالمحفوظات والحاجيات ذات القيم التاريخية واللوحات الفنية .. كان عازفاً على العود والكمان وأفاد منها في دراساته عن الأنغام وصلاتها بالمرض النفسي والعصبي"

 

("الشيخ الرئيس تيجاني الماحي": من كتابنا: رَحِيل النَّوار خِلسة: دار عزة للطباعة والنشر،2003)

  

"رحم الله الشيخ الطيب السراج .فقد كان يعمد إلى أرصن ما يقدر عليه من الأساليب ويوشعه بالمحسنات التي إنما يستطيعها المتمكن من لغة الضاد نحو قوله :

 

ماذا تنوط بثوبي أيها الشاني     ليس الذي نطت يا لاشيء بالشاني

 

ومع هذا كان ينظم بالعامية ويحرص على أن يكون رصيناً فيها ثم قد يزين ذلك بمحسنات بديعية، وسمعت منه كلمة قافيتها "عارضة" وذكر فيها الشلخ الذي فوق "المطارق عارضة".

 

وأحسب إن له هذه الكلمة التي أولها:

 

جدي العُزاز الرقَبَة َقَزاز     يا عُزاز انا نومي خَزَاز"

 

(العَّلامة عبد الله الطيب المجذوب يثمن اجتهادات الشيخ الموسوعي الطيب السرَّاج: من كتابنا :حواش على متون الإبداع، تحت الطبع)

  

في كلمة منصفة جزلة تنضح بالعرفان أسماها "محمود العالم: رائد موسوعي لم يمل" كتب الأستاذ هاني نسيرة:"لم يكن الأستاذ محمود العالم الذي رحل عن عالمنا يوم السبت الماضي مفكراً ورائدا فلسفيا ونقديا من طراز خاص فقط، ولكن كان كذلك إنسانا فريدا في إنسانيته وتواضعه، في سمته وشخصيته، كان وراء اكتشاف الكثيرين وإنصاف الكثيرين ليس أولهم نجيب محفوظ وصلاح عبد الصبور كما لا يعرف آخرهم...كان يتابع كل شئ، لا يجد الحرج، وهو من كانت معركته مع طه حسين والعقاد وزكي نجيب محمود وعبد الرحمن بدوي وغيرهم مسطورة ومحفوظة في كتب التأريخ الأدبي والفكري دائما، أن يتابع كل جديد وأن يقرأ كل مستجد، فأتت قراءاته لمشاريع الجابري وحسن حنفي والطيب تيزيني ونصر حامد أبو زيد كما قرأ مشاريع سمير أمين وأنور عبد الملك وقسطنطين زريق وعبد الوهاب المسيري وحسين مروة وغيرهم.. اهتم بالجميع من أجل الجميع دون استعلاء أو إقصاء!"(أ.هـ)...محمود أمين العالم أحد أهم الموسوعيين من المثقفين العرب المعاصرين..هذه الفئة النادرة ظلت أعدادها تتناقص باستمرار في خضم التنامي المتواتر في ولوج عالم التخصصات الدقيقة والرغبة العارمة في جني فوائد هكذا تخصص..التخصص الضيق للعلماء أودى بهم إلى غيابات وكهوف الإنكفاء العلمي وأدى إلى تمزق اواصر وجسور التواصل بين حقول المعرفة الإنسانية.

 

كمحمود أمين العالم كان الطيب صالح موسوعيا ضمن مجموعة متفردة من العلماء السودانيين الموسوعيين..في كتابنا الموسوم "حواشِ على متون الإبداع"، أوقفنا فصلا للموسوعيين من أهل السودان بعنوان:"فصل في محاسن أهل العصر: كلية غردون وموسوعية العلم" اشرنا فيه إلى أن "الثقافة الموسوعية، كانت، بتباين طبيعى متوقع في نوعها ودرجتها، سمة أجيال كاملة..والثقافة الموسوعية، في نهاية الأمر، هى نتاج استعداد فطرى وعادات مكتسبة، ومناخ عام داعم للاجتهاد والاستعداد الفردى". في ذاك الفصل عرضنا لإضافات ومواهب موسوعيين من طبقة "الشيخ الرئيس" تيجاني الماحي الذي اقترب من حقول المعرفة "فاقتطف من كل بستان زهرة وأنشأ مجمرة علمية فيها من كل وقد جمرة" كما تلمسنا جوانب من إضافات أعجوبة زمانه الفلكى المتقدم الريح العيدروس والعالم البحر اللجى الطيب السراج والقانونى الضليع محمد احمد أبو رنات، والنطاسى البارع الموسيقى محمد أدهم والفيلسوف الصوفي شهيد الفكر الأستاذ محمود محمد طه.

 

الطيب صالح قطعاً واحد من هؤلاء الرجال الأفذاذ .. في مراجعته لمختارات الطيب صالح التي صدرت في تسعة أجزاء عن دار رياض الريس للكتب والنشر، علق الكاتب أحمد بابانا العلوي بأن "كل جزء منها يضم باقة من الأدب الرفيع مقالات، وأحاديث، وخواطر تحيط بأهم القضايا كما تقدم للقارئ ألواناً من الفكر الراقي، والرؤى العميقة والصور الفنية الجميلة … والخلاصة أننا أمام حديقة غناء، تحتوي على أفضل ثمرات الفكر التي تغذي العقول وتنعش الذهنيات، وتشحذ المدارك، وتفتح البصر على الآفاق، ما يعطينا القدرة على فهم وإدراك جوهر المعاني، وحقائق العالم من حولنا".. حديث العلوي أوجز لب قضية المختارات التي كشفت الغطاء عن موسوعية الطيب صالح وكونية ثقافته العالية الراقية.

 

مراجعة العلوي توقفت عندها لأنها تجاوزت المألوف في مراجعات الكتب والتي تكتفي منها بنظرة عين الطائر خطفاً وتعليقاً.. أما هذا الألمعي فقد تمهل عندها ونظر في الدلالات الكبيرة لهذه المختارات ولعل أبرز ملاحظاته تتلخص في أنه ربطها برسالة الكاتب الرشيد والتي يرى انها "تكمن أساساً في الرقي الحضاري بتقويم الذهنيات وصقل العقول، وتحرير الإرادات، والكشف عن مواطن القصور من أجل تحفيز الهمم وذلك بإلغاء المثبطات التي تمنع تطور المجتمعات وتعوق مساهماتها في تطور الحضارة الإنسانية".

 

يمضي العلوي ليصف مختارات الطيب صالح بأنها "شهادة الأديب على عصره بأسلوب الأدب الراقي والفن الجميل، والأخلاق العالية التي تميز أهل السودان والصفوة منهم خاصة، وهي دليل بلا شك على عراقة مجتمعهم وعمق تدينهم وعلو هاماتهم ..شمائل وفضائل غرستها البيئة في نفس الأديب الكبير فكانت زاداً له وهو يجوب الآفاق ويحتك بضروب من الحضارات والثقافات".

  

في ذات المنحى ذهبت كلمة الأستاذ محمود صالح عثمان صالح في تقديمه لهذه المختارات حيث وصف الطيب صالح بأنه:" كاتب "شامل"، مكنته ثقافته العميقة والمتنوعة واطلاعه الواسع باللغتين العربية والانجليزية على علوم اللغة، والفقه، والفلسفة، والسياسة، وعلم النفس، وعلم الأجناس، والأدب، والشعر، والمسرح، والإعلام، أن يروي، ويحكي، ويخبر، ويوصف، ويحلل، ويقارن، وينقد، ويترجم بأسلوب سهل عذب ينفذ الى الوجدان والفكر كما تشهد هذه المجموعة من "مختارات من الطيب صالح".

 

العلوي ومحمود لم يبالغا في وصف الطيب بشمولية العلم وموسوعية المعرفة ..ولعل الجزء الثاني من هذه المختارات والموسوم "المضيئون كالنجوم: من أعلام العرب والفرنجة" هو الدليل الأوضح على صحة، ودقة، وصفهما..هذا العمل المتميز يتألف من قسمين. أولهما "من أعلام العرب" يستعرض سيراً عطرة لسيدنا عمر الفاروق وابنه الصحابي الجليل عبدالله بن عمر كما يطوف بنا في " فيوض العارفين"..في هذا القسم تتبدى عمق ثقافة الطيب الإسلامية ورؤيته للقيم السلوكية الإنسانية الراقية التي أرساها الخليفة الفاروق وابنه عبد الله وحفيده وسميه عمر بن عبد العزيز..أما فيوض العارفين فهذه مسألة أخرى..تطواف الطيب على إشراقات الإئمة والصالحين وكبار أهل العرفان من شيوخ الصوفية متعة عميقة للنفس وغذاء طيب للروح..السمة الغالبة لاهتمام الطيب بهذا الرهط الكريم من الصحابة وأهل العرفان يتلخص في موقفهم من قضايا إنسانية مركزية كالعدل والشورى والمحبة والوسطية والتوافق مع الذات والآخر.

 

أما القسم الثاني الذي أوقفه الطيب لأعلام الفرنجة فقد اشتمل على تسعة فصول تناولت سير وإضافات بعض أبرز رجال السياسة كاللورد بتلر (راب بتلر) والأدباء كالإنجليزي ساميول بيبز والفرنسي مارسيل بروست. من جانب ثالث عرض الطيب لبعض أبرز إضافات المورخين من البريطانيين (واي. ج. تيلور، وريتشارد كمب) والفرنسيين (فيرناند برودل) ولم ينس الصحفيين (مايكل آدمز) كما كرَّس فصلين لاستعراض بعض مفاهيم وأطروحات فلاسفة اجتماعيين من طبقة  الفرنسيَّين الذين طبقت شهرتهما الآفاق رولان بارت وميشيل فوكو.

 

عند استعراضه لإضافات هؤلاء العمالقة لم ترهبه هالات العلم والشهرة..لم تأخذه الرعدة التي غشت أجيال كاملة من المثقفين العرب عند تعاملهم مع تيارات الفلسفة والنقد الغربية التي استجدت في مرحلة ما بعد الحرب الكونية الثانية وتداعيات الحرب الباردة من بنيوية وتفكيكية وحداثة وما بعدها... إضافات رولان بارت وميشيل فوكو ونعوم شومسكي تعامل معها الطيب إطلاعاً ونقداً تعامل كل فاعل واعٍ مدركٍ في الحراك الثقافي الكوني... قرأ اعمالهم قراءة نقدية ناجزة مثمناً ما رأى أنه يستحق وناقدا بل ساخراً من إضافات بعض هذه الرموز العصية ولعل أبرز مواقفه كانت عند تناوله إضافات الفيلسوف الفرنسي رولان بارت الذي كان حتى وفاته عام 1980 ماليء الدنيا وشاغل الناس في دنيوات النقد والتنظير الاجتماعي وكانت إضافاته بالغة الأثر حيث تركت آثاراً بعيدة في تطور مدارس البنيوية والماركسية وما بعد البنيوية والوجودية، بالإضافة إلى تأثيره في تطور علم الدلالة....رجل بهذه الضخامة لم يجد الطيب حرجا في وصف منهجه بأنه "لغو مملوء بالمغالطات والعجرفة"..وأن بارت"رجل يتيه بعلمه، وهو فيما يتعلق بنا على أي حال، علم لا فائدة منه ولا خير فيه"...الخبر هنا ليس في رأي الطيب فرأيه كرأي غيره من المثقفين، يؤخذ منه ويرد عليه، ولكن الخبر في الإطلاع الناقد لمثقف عربي وتبنيه لموقف مدرك من رؤية كبار المفكرين من قضايا الادب والإبداع عموماً. 

  

في هذا الجزء نلقى الضوء على بعض الإهتمامات الموسوعية للطيب صالح ..نتنزه معه قليلاً في بساتين المعرفة وحقول العلوم والثقافة الإنسانية ..كغيره من الموسوعيين، طاف الطيب على كثير من فروع المعرفة الإنسانية وفنونها وآدابها ...توقف عند بعضها محباً وعند بعضها عاشقاً وعند البعض الآخر معجباً ...وما بين الحب والعشق والإعجاب تسربت و"تشرنقت" وشائج المعرفة التي كتب عنها الطيب أو أشار إليها أو تلمسها من قرأوا له أو استمعوا له.

  

من بين هؤلاء تخيرنا شخوصاً واعمالاً لبعض من أحبهم الطيب او أحب أعمالهم وكتب عنهم كأبي الطيب المتنبيء واللورد بتلر والحاردلو وحاج الماحي ومحمد ود الرضي ..إلى جانب هؤلاء اضفنا فناناً غردا جميلاً هو التاج مصطفى..إضافة التاج من جانبنا، أملتها في تقديرنا، إلى جانب القدرات الإبداعية المتميزة ولا شك، ثلاث مسائل...أولها التماثل الكبير بين التاج والطيب في السمات الشخصية من حيث الوقار والرزانة ...الثانية الإشتراك في منظومة قيم تقوم على السلوك الصوفي بما فيه من تواضع ووفاء..ثالثة المسائل تركز على الأصالة التي تتبدى في التعتق مع الأيام ومنجمية المنتوج الإبداعي من حيث إمكاناته الهائلة لإعادة الاكتشاف من قبل الأجيال اللاحقة ...كلاهما بقى (وسيبقى بإذن الله) رمزاً خالداً في الذاكرة السودانية ..سيبقى الطيب ما بقيت "موسم الهجرة إلى الشمال" وأخواتها وسيبقى التاج ما بقيت "الملهمة" وأخواتها.

  

مجلس الطيب: التقاء الشرق والغرب رغم أنف كبلنج :

 

"الشرق شرق والغرب غرب وهيهات ان يلتقيا" مقولة روديارد كبلنج (1865-1936)،شاعر الإمبراطورية البريطانية العظمى ظلت في بؤرة التجاذب السياسي للدلالة على استحالة الالتقاء بين الحضارات الشرقية والغربية ..قائلها لم يعرف كعسكري محارب بل كشاعر وشاعر كبير ضخم وروائى إنجليزي عالي القيمة ...حقيقة الأمر أنه كان أول كاتب إنجليزي يفوز بجائزة نوبل في الآداب عام 1907 عن أعماله التي شملت "أناشيد متنوعة" (1886) و"النور الذي خبا" (1890)...هذا الأديب الذي يؤمن بإنفصال العالمين الشرقي والغربي لم يولد في بلد أجداده حيث الإمبراطورية التي لا تغيب شمسها بل هو من مواليد أرض طاغور المغني ...مولود بالهند مهد الحضارات القديمة .. شعار كبلنج عاش أزمانا وخرج على الناس بعباءات مختلفة ليس آخرها مقولات هانتغتون بشأن "صدام الحضارات" كحتمية تاريخية لا يمكن تحاشيها إلا بالذي ليس منه بد منتصر ومهزوم.. في مثل هذه الأطر كان الزج ب"موسم الهجرة إلى الشمال" كمحاولة لبحث إشكالية الذات والآخر ..الشمال والجنوب ..الشرق والغرب..كبلنج والطيب صالح.

 

في ظل خلفية كهذه يكتسب مجلس الطيب أهمية خاصة ..ليس لانه يطرح فكرا بديلا ..لا ..لا.. ولكن فقط لأنه يحاول التعامل مع العطاء والإبداع الإنسانيين من منظور أشمل وأرحب وأجمل.

 

مجلس الطيب هذا مجلس افتراضي يقوم على ما دونه من كلمات إعجاب ببعض اعمال المبدعين من الشرق والغرب.

  

ضيفا الطيب ليسا من الضيوف العاديين ..ضيفان سامقان أمسكا بتلابيب المجد كل في ميدانه ... شاعر العربية الكبير بل سيد شعراء العربية أبو الطيب المتنبي ممثلاً للشرق يرافقه سياسي مخضرم هو اللورد بتلر ممثلاَ للغرب... بين يدي الضيفين الكبيرين يقدم الطيب شهوده على قيم الإبداع السوداني ...النقطة المركزية هنا تتمحور حول الإمكانات التعبيرية الهائلة لهذا الإبداع ووصلها بالفعل الإبداعي الإنساني...يتخير الطيب الشعر ديوان العرب وإيوانه المقيم للدلالة على قيمة هذا الإبداع متخيراً ثلاث مدارس شعرية سودانية عريقة ..مدرسة شعر البادية السودانية ممثلة في أمير هذا الضرب من الشعر وسيده، وارث صولة دولة الشكرية من مقعدها في "بطانة أب علي" الشاعر الكبير الحاردلو ..المدرسة الثانية هي مدرسة الشعر الغنائي المديني المتصل بالموروث السوداني عبر شيخها ومجددها محمد ود الرضي ..المدرسة الثالثة مدرسة يكن لها الطيب محبة استثنائية وهي مدرسة القصيد النبوي والإنشاد الديني وقد تخير لها الطيب سيدي حاج الماحي مادح المصطفى الأشهر...يستريح الضيفان والشهود على غناء أحد اهم اعمدة الغناء السوداني ومجدديه الصيدح الغريد التاج مصطفى ...ولأغراض الترجمة الفورية، ولا يحتاجها المجلس كثيراً في وجود الطيب، يستضيف مجلس الطيب دينيس جونز ديفز عقيد "التراجمة" في مجلس لو أراد المتنبي وصفه لأعاد كلمته القديمة الراسخة في وصف "شِعب بوَّان":

 

ملاعب جِنة لو سار فيها      سليمانٌ لسارَ بترجمانِ

  

الطيب صالح وشعر المتنبي: إدمانٌ طبه في المزيد منه 

 

"بلى، مدح المتنبي كافوراً الأخشيدي، لا مراء في ذلك، ثم هجاه فيما بعد، فما كان صادقاً في مدحه، ولا كان صادقاً في هجائه. ولكنه كان صادقاً في شعره في الحالتين، فهذا "شاعر فنّان" وجد مادة فصنع منها "فنَّاً " أحياناً يزيد وأحيانا ينقص وقد ذهب المتنبي وذهب سيف الدولة وذهب كافور. ولم يبق إلا الشعر".

 

(الطيب صالح: المختارات، الجزء الخامس: في صحبة المتنبي ورفاقه: الصفحة 83)

  

"(المتنبي) ..ظن نفسه حراً ولم يكن إلا عبداً للمال، وظن نفسه أبيَّاً ولم يكن إلا ذليلاً للسلطان، وظن نفسه صاحب رأي ومذهب ولم يكن إلا صاحب تهالك على المنافع العاجلة التي كان يتهالك عليها أيسر الناس أمراً وأهونهم شأناً".

 

(رأي عميد الأدب العربي طه حسين في شخصية المتنبي: المختارات (5) الصفحة 106)

  

"أيَّ  مَحَـــــــلٍّ أَرتَقــــــي

     

   أيَّ  عظيـــــــمٍ أتَّقِــــــي

وكُــلُّ  مــا  قــد خَــلَقَ الــلـهُ     وَمـــــا لَـــــم يَخْــــلُقِ

 

 

مُحــــتَقرٌ  فــــي  هِمتــــي       

 كَشــــعرَةٍ فــــي مَفْــــرِقي"

 

(رأي أبي الطيب في نفسه وشعره والناس جميعاً)

  

"وعنــدي  لَــك الشُّــرُدُ الســائِرا تُ لا يخــتَصِصنَ مــنَ الأَرض دارا

 

 

قــواف إِذا ســرنَ عــن مِقــوَلي  وَثَبــنَ  الجبــالَ  وخُـضنَ البِحـارا

 

 

ولــي فيــكَ مــا لـم يَقُـل قـائِلٌ 

   ومــا  لـم يَسِـر قَمَـرٌ حَـيثُ سـارا"

 

(رأي أبي الطيب في نفسه وشعره والناس جميعاً)

  

المتنبي لا يحتاج إلى تقديم من الطيب... إذ كانت اللغة هي ميدانه والبلاغة مطيته وسحر البيان اداة إبداعه فكيف يُقدم هذا الرجل الشاعر؟..من وجهة أخرى هذا رجل فيه من الكِبر والخيلاء والغرور والزهو ما أزعج الامراء والسلاطين..أمره عجيب..شخصه وشعره اعجب..المتنبي هو القائل لسيف الدولة:

 

"وَمــا  الدَّهـر إِلا مـن رُواةِ قَصـائِدي     إِذا  قُلـتُ شِـعراً أَصبَـحَ الدَّهـرُ مُنشِدا

 

 

فَســارَ بِــهِ مَـن لا يَسِـيرُ مُشـمِّراً وغَنَّــى بِــهِ مَـن لا يُغنّـي مُغـرِّدا

 

 

أَجِــزْني  إِذا أُنشِــدتَ شِـعراً فإنّمـا 

       بِشِــعري  أَتــاكَ المـادِحُونَ مُـردَّدا

 

 

ودَعْ  كُـلَّ  صَـوتٍ غَـيرَ صَوتي فإنني 

   أَنـا الطَّـائِرُ المَحـكِيُّ والآخَـرُ الصَدَى"

  

شاعر موهوب مغرور...عبقري دخل خيمة الشعر فلم تعدْ البحور ذات البحور ولم تعدْ المعاني ذات المعاني ولا الأغراض ذات الأغراض ...اعاد ترتيب الخيمة في هيكلها ومحتواها .لم يبدل ويعدَّل أوعية الشعر وأغراضه ومعانيه فحسب بل قلب معادلة العلاقة بين الشاعر والسلطان ..حين يزهو يخجل كل التواضع الإنساني وحين يضعف يستدر كل تعاطف وتحنان الوجود: 

 

ولا  بُــدَّ  مــن يَـومٍ أغَـرَّ مُحجَّـلٍ يَطُــولُ  اســتِماعي بَعْـدهُ لِلنَـوادِبِ

 

 

 

 

يَهُــونُ عــلى مِثـلِي إِذا رامَ حاجـةً  

       وُقُــوعُ  العَـوالِي دُونَهـا والقَـواضِبِ

 

 

كَثِــيرُ  حَيــاةِ المَـرْءِ مِثْـلُ قَلِيلِهـا يَــزُولُ وبـاقي عَيشِـهِ مِثْـلُ ذاهِـبِ

 

 

إِلَيــكِ  فـإِنّي لَسْـت مِمَّـنْ إِذا اتَّقَـى     

    عِضـاضَ  الأَفـاعي نـامَ فَوقَ العَقارِبِ 

في حضرة شخصية المتنبي العبقرية المغرورة يقف الطيب صالح موقفاً ثابتاً صارماً ..يقول في المختارات (الصفحة 78) :"المتنبي شاعر إما أن تحبه وتتحمس له، وإما أن تتركه وشأنه.. أحسن النقد ما يكتب عن محبة لأن المحبة تفتح البصيرة وتزيل الحجب التي تقوم بين ما يرمي إليه الشاعر وبين فؤاد المتلقي"...لم يكن الطيب يلقى القول على عواهنه هنا بل كان يقصد أقواماً وقفوا موقف المناوأة والنقد المرير للمتنبي الإنسان والمتنبي الشاعر... يقول الطيب عنهم "رحم الله العميد (عميد الادب العربي طه حسين) وغفر له. لقد اخرجته البغضاء للمتنبي عن طوره تماماً، وجعلت بينه وبين الشاعر حجاباً مستوراً ولكنها بغضاء مثل الحب، فالعميد، رحمه الله، شأنه في ذلك شأن الشريف الرضي والصاحب بن عبَّاد وكثيرين إلى يومنا هذا، حالهم "حال المجمعين على الحمد"!!... من هؤلاء تصدى الطيب لكتابات العميد طه حسين عن المتنبي فالعميد

 

بلغ في قدح المتنبي شخصاً وشعراً مبلغاً كبيرا...الطيب انفعل كثيرا بنقد العميد للأستاذ ...يقول العميد، غفر الله له:"فلم يكن المتنبي حلو الروح ولا خفيف الظل ولا جذاباً، وإنما كان مراً غليظ الذوق في أوقات الدعة والفراغ"...يجيبه الطيب وبينهما السنوات قد ألقت بظلالها:"إنما الذي يدعو إلى العجب حقاً هو تحامل الدكتور العميد على "شعر" أبي الطيب. هل نبوغ أبي الطيب وتفرده، وإذا شئت قلت عبقريته، هل هذا يحتاج إلى برهان؟..هذا شاعر ..ملأ الدنيا وشغل الناس، لقد فعل الأعاجيب في لغة العرب ودفع المعاني إلى أقصى حمولات تحملها وجاء منذ أكثر من ألف عام بأقوال لم تزل جديدة طريفة إلى يومنا هذا" المختارات (الصفحات 139-140).

 

لعل الطيب لم يكتفْ بدفاعه عن "الأستاذ" فأتي بهيئة دفاع شملت البهاليل العماليق وأي دفاع هو؟..أتى الطيب بالأقدمين: أبي منصور الثعالبي وابن الأثير وأبي العلاء المعري وسيدي عبد الرحمن البرقوقي ...أتى الطيب بالمحدثين العلاًّمة محمود محمد شاكر والعَّلامة عبد الله الطيب المجذوب ..أنعم بذلك من دفاع وأكرم بهم وبالطيب من رجال.

 

الطيب صالح، وهو يقدم هيئة الدفاع عن شاعر العربية الضخم لا يتردد في نفي الحياد عن موقفه من الشاعر: "يطربني الأديب العبقري يتحزب للأديب العبقري، وعلى هذا البعد في الزمان ، ما اجمل ما يبدو لنا تحزب أبي العلاء المعري لأبي الطيب المتنبي، وما أسخف ما تبدو لنا غيرة الشريف الرضي" (المختارات:الصفحة 47).

 

يقول الثعالبي إن شعر أبي الطيب قد اشتمل على "نوادر لم تأت في شعر غيره، وهي مما تخرق العقول" ويقول ابن الأثير:" وعلى الحقيقة فإنه خاتم الشعراء، ومهما وصف به فهو فوق الوصف وفوق الإطراء". أما شيخنا البرقوقي فيقول :"وشأن المتنبي كشأن نوابغ الدنيا، فالشاعر النابغة لا يُمهر بإرادته ولا ينبغ بأن يخلق في نفسه مادة ليست فيها ، وإنما هو يولد مُهياً بقوى لا تكون إلا فيه وفي أمثاله، وهو زائد بها على غيره ممن لم يرزق في النبوغ كما يزيد الجوهر على الحجر أو الفولاذ على الحديد او الذهب على النحاس".

 

ولعل قيمة المتنبي الإنسان أنه اتخذ موقفاً من السلطان مخالفاً تماماً للسابقين واللاحقين ...يقول الطيب صالح :"زعم أناس أن سيف الدولة الحمداني صاحب حلب هو الذي خلّد أبا الطيب المتنبي، وأن المتنبي لولاه لم يكن شيئاً مذكوراَ. إنني أرى أن المتنبي كان متواضعاً حين جعل سيف الدولة عدلاً له:

 

شاعرُ المجدِ خدنُه شاعرُ اللفظِ      كِلانا ربُّ المعاني الدِّقاق

 

والحق أن المتنبي في كل مواقفه من السلطان، كان يقف منه موقف الند للند، يرتفع بنفسه إلى حيث يكون السلطان حينًا فيقول:

 

وفؤادي من الملوك وإن كا        ن لساني يرى من الشعراء

 

المتنبي الشاعر والمتنبي الإنسان في مجلس الطيب صالح .. هذا مجلس محبة ..كل غرور المتنبي وصلفه يذوب والقوم يتناشدون اشعاره وحكمته وفلسفته ..وإذا طلب من الطيب إنشاداً فتلك مصيبة الإختيار..ديوان المتنبي سفر كامل من الحكمة والفلسفة والمثل السائر والسلوك الإنساني والمدح والهجاء...أما المدح والهجاء فهما غرضان حج إليهما واعتمر كل شعراء العربية..المدح المطنب والهجاء المقذع متوفر في شعر المتنبي وجيده جيد وقبيحه قبيح ولكن ريادته وقيمته الحقيقية تكمن في أغراض أخرى ..اختط فيها دروبا صعبة ومسالك وعرة قليل من جاراه ونادر من بلغها ويستحيل تجاوزها..في مجلس الطيب صالح ينشد الحضور المحبة والخير والجمال ..ينشدون الحكمة والإنسانية ..ينشدون كل ذلك فيبذل "الأستاذ" لينشد الطيب صالح في مجلسه ألوانا من الحكمة والفلسفة والمثل السائر:

 

رياحين في الحكمة: يختار الطيب من الأستاذ غيضاً من فيض:

 

وهَبنــي  قلـت:  هـذا الصبـحُ لَيـلٌ       

  أَيعمــى  العــالَمونَ  عَـن الضّيـاء؟

 

 

وكُـلُّ  امـرِىءٍ يُـولي الجَـمِيلَ مُحببٌ     وكُــل  مَكــانٍ يُنبِـتُ العِـزَّ طَيـبُ

 

 

 يَمــوتُ  راعـي الضَّـأَنِ فـي جَهلِـه   

    مِيتـــةَ  جــالِينُوسَ فــي طِبِّــهِ

 

 

إِذا سـاءَ فِعْـلُ المَـرء سـاءَت ظُنُونُهُ

       وصَــدقَ مــا يَعْتــادُهُ مِـن تَـوَهمِ

 

 

وإذا كـــانتِ النُفـــوسُ كِبـــاراً   تَعِبَــتْ  فــي مُرادِهــا الأَجســامُ

 

 

وَمــا  كُــل  هـاو للجَـمِيلِ بِفـاعلٍ        

  وَلا  كُـــل فَعـــالٍ لَــهُ بمتَمــم

 

 

ومَــنْ  يَــكُ ذا فَــمٍ مُـرٍّ مَـريضٍ      

     يَجــد  مُــرّاً بــه المـاءَ الـزُّلالا  

شذرات في الدنيا واحوالها: يجتبي الطيب من كنانة الأستاذ :

 

ومـن  صَحِـبَ الدُنيـا طَـويلاً تَقَلَّبَـتْ   

    عـلى  عَينِـهِ حـتَّى يَـرَى صِدْقَها كِذْبا

 

 

لَحَـى اللُـه ذي الدُنيـا مُناخًـا لِـراكِبٍ      

 فكُــلُّ  بَعِيــدِ الهَــمِّ فيهـا مُعـذَّبُ

 

 

 أظْمَتْنِـــيَ الدُّنْيــا فَلَمَّــا جئْتُهــا        مُستَسِــقياً  مَطَــرَتْ عَـلَيّ مَصائِبـا

 

نَبكـي  عـلى  الدنيـا ومـا مـن مَعْشَرٍ  

    جَــمَعَتهُمُ  الدُّنيــا  فلــم يَتَفَرّقُــوا  

نفحات في السلوك البشري: انشد أبو الطيب فاصطفى الطيب لينشد:

 

ومَـــن جَـــهِلَت نَفســهُ قَــدرَهُ 

 

    رَأًى  غَــيرُهُ مِنــهُ مــا لا يَــرَى

 

 

مَـن  كـان فـوقَ مَحَلِّ الشَمسِ مَوضِعُهُ   فَلَيسَ  يرفَعُــهُ  شَــيءٌ ولا يَضَــعُ

 

 

 وأَتعَــبُ  مَـن نـاداكَ مَـن لا تُجيبُـهُ       وأَغَيـظُ  مَـن عـاداكَ مَـن لا تُشـاكِلُ

 

إِذا  الجُـودُ  لـم يُرزَقْ خَلاصًا منَ الأذَى  فَـلا الحَـمدُ مَكسُـوباً وَلا المـالُ باقِيـا

 

 

واحتِمــالُ  الأَذَى ورُؤْيَــةُ جــانيـه        غِــذاءٌ تَضْــوَى بِــهِ الأَجْسـامُ

 

 ولــم  تَـزَلْ قِلَّـةُ الإِنصـافِ قاطِعـةً        بَيـنَ الرِجـالِ ولَـو كـانُوا ذَوِي رَحِـمِ

  

كلمات في المجد والكسب: جادت قريحة المتنبي فاختار الطيب:

 

ولَســتُ أُبـالي بَعْـدَ إِدراكِـيَ العُـلَى        أَكــانَ  تُراثـاً مـا تَنـاوَلتُ أم كَسْـبا

 

 

لا  بِقَـومي شَـرفْتُ بـل شَـرفوا بـي        وبنفْســـي  فَخَــرت لا بِجُــدودي

 

 

وَلا  تحْسَــبنَّ المَجْــدَ زِقًّــا وقيْنَـةً        

  فَمـا  المَجْـدُ إلا السَّـيْفُ والفَتْكـة البِكْرُ

 

 

تُريــدين  لُقْيــانَ المَعـالي رَخيصـة        

    ولا بُـدَّ دُون الشّـهدِ مِـن إبَـرِ النَحـل

  

في المثل الذي أصبح سائرا والقول الذي أضحى مأثورا: قال أبو الطيب فرددت الدنيا:

 

أَعَـزُّ  مَكـانٍ فـي الـدُنَى سَـرجُ سابِحٍ  

  

  وخَــيرُ جَـليسٍ فـي الزَمـانِ كتـابُ

 

 

وَمِـن نَكَـدِ الدنيـا عـلى الحُرِّ أَن 

عَــدُوًّا لــهُ مـا مـن صَداقَتِـه بُـدُّ

 

 

 

 

نـامَت  نواطِـيرُ مِصـرٍ عَـن ثَعالِبِهـا      فقــد  بَشِــمْنَ ومـا تَفْنـى العنـاقيدُ

 

 

أعجبوا ببلاغته وحكمته فزادهم من سحر بيانه

فَـلا مَجـدَ فـي الدُنيـا لِمَـنْ قَـلُّ مالُهُ    

    وَلا  مـالَ فـي الدُنيـا لِمَـن قَـلَّ مَجدُهُ

 

 

ومَـنْ  يُنْفِـق السَّـاعاتِ فـي جَمْعِ مالِهِ   

  مَخافَــةَ  فَقْــر  فـالَّذي فَعَـلَ الفَقْـرُ

 

 

إذا  أنــت  أَكــرَمتَ الكَـريمَ مَلَكتَـهُ       

 وإِن  أَنــتَ أكــرَمتَ اللَّئِـيمَ تمَـرَّدا

 

 

ووضْـعُ  النَدى في مَوضعِ السَيف بِالعُلَى      

   مُضِـرٌّ  كوَضعِ  السَّيفِ في مَوضِعِ النَدَى

 

 

والغِنــى  فــي  يَــدِ اللئـيم قَبيـحٌ         

   قَــدرَ  قُبــح الكَـرِيمِ فـي 

طلبوا المزيد فأجابهم العبقري:  

 

كُلَّمـــا  أَنبَـــتَ الزَمــانُ قَنــاةً 

 

       رَكَّــبَ  المَــرْءُ فـي القَنـاةِ سِـنانا

 

   

بِـذا  قَضَـتِ  الأَيَّـامُ مـا بيـنَ أَهلِهـا   

     مَصــائِبُ  قَــومٍ عِنْـدَ قَـومٍ 

مَــن  يَهُــن يَسـهُلِ الهَـوانُ عَلَيـهِ   

    

   مـــا  لُجِـــرْحٍ  بِمَيِّــتٍ إِيــلامُ

 

 

ومــا  انتِفـاعُ  أَخـي الدُنيـا بِنـاظرِهِ   

     إِذا  اســتَوَتْ عِنـدَهُ الأَنـوارُ والظُلَـمُ

 

 

إِذا رَأيــتَ نُيُــوبَ اللّيــثِ بـارِزَةً        

  فَــلا  تَظُنَّــنَ أَنَّ اللَيــثَ يَبْتَسِــمُ

 

 

شَــرُّ  البِـلادِ  مَكـانٌ لا صَـديقَ بـهِ        وشَـرُّ  مـا يَكْسِـبُ الإِنسـانُ مـا يَصِمُ

 

   

عَـلَى  قَـدْرِ  أَهـلِ العَـزمِ تَأتِي العَزائِمُ 

    وتَــأتِي عَـلَى قَـدْرِ الكِـرامِ 

            

اَلــرَأْيُ  قَبــلَ شَــجَاعَةِ الشُـجعانِ        

  هُــوَ  أَوَّلٌ وَهِــيَ المَحَــلُّ الثـاني

 

 

طرب مجلس الطيب صالح فزادهم أبو الطيب طرباً:

 

ولــم  أرَ فـي عُيـوبِ النـاس شَـيئًا       

  كــنَقصِ  القــادِرِينَ عــلى التَّمـامِ  

 

 

فَقــرُ  الجـهُولِ بـلا قَلـبٍ إلـى أَدَبٍ      

  فَقْـرُ  الحِمـارِ  بـلا رأسٍ إلـى رَسَـنِ

 

 

 وإِذا  لَــم يَكُــن مِــنَ المَـوتِ بُـدُّ          فمِــنَ العَجــزِ أَنْ تَكُــونَ جَبَانــا

 

كُـلَّ مـا لـم يَكُن مِنَ الصَعْبِ في الأَنْـ  

   فُسِ  سَــهلٌ فيهــا إِذا هــو كَانــا

 

  

مسك الختام: خلاصة الحكمة وكلمات أبي البقاء يرحمه الله:

 

قال المتنبي:

 

إِذا  غــامَرْتَ فــي شَــرَفٍ مَـرُومِ       

  فَـــلا تَقْنَــعْ بِمــا دُونَ النُّجــومِ

 

 

فطَعْــمُ  المَــوتِ  فـي أَمـرٍ حَـقِيرٍ       

   كــطَعْمِ  المَــوتِ فـي أَمـرٍ عَظِيـمِ

 

 

يَــرَى  الجُبَنــاءُ  أَن العجـز عَقـلٌ     

    وتلـــكَ خديعــةُ الطّبــع اللئــيمِ

 

 

وكُــلُّ شَــجاعةٍ فـي المَـرء تُغنِـي     

    ولا مِثــلَ الشّــجاعة فــي الحَـكِيمِ

 

 

وكــم مــن عـائِبٍ قَـولاً صَحيحًـا       

   وآفَتـــهُ  مِـــنَ الفَهــمِ 

ولكِــــنْ  تَـــأخذُ الآذان منـــهُ    

 عــلى  قَــدَرِ القَــرائِحِ والعُلُــومِ    

وقال أبو البقاء العكبري:

 

"سألت شيخي أبا الحرب مكي بن ريَّان الماكْسي عند قراءتي عليه الديوان(ديوان المتنبي) سنة تسع وتسعين وخمسمائة:"ما بال شعر المتنبي في "مدح" كافور أجود من شعره في مدح عضد الدولة وأبي الفضل بن العميد؟.فقال: "كان المتنبي يعمل الشعر للناس لا الممدوح، وكان ابو الفضل بن العميد وعضد الدولة في بلاد خالية من الفضلاء، وكان بمصر جماعة من الفضلاء الشعراء، فكان يعمل الشعر لأجلهم، وكذلك كان عند سيف الدولة بن حمدان جماعة من الفضلاء والأدباء فكان يعمل الشعر لأجلهم ولا يبالي بالممدوح". (المختارات (5): الصفحة 94).

  

الطيب صالح ،اللورد بتلر والسياسة: "إلى أين ذهب هؤلاء"؟

  

"يظنّون أنّهم وجدوا مفاتيح المستقبل..يعرفون الحلول..موقنون من كل شئ..يزحمون شاشات التلفزيون ومكرفونات الإذاعة... يقولون كلاماً ميِّتاً في بلدٍ حيٍّ في حقيقته ولكنّهم يريدون قتله حتى يستتب الأمر.

 

مِن أين جاء هؤلاء النّاس؟ أما أرضعتهم الأمّهات والعمّات والخالات؟..أما أصغوا للرياح تهبُّ من الشمال والجنوب؟...أما رأوا بروق الصعيد تشيل وتحط؟..أما شافوا القمح ينمو في الحقول وسبائط التمر مثقلة فوق هامات النخيل؟..أما سمعوا مدائح حاج الماحي وود سعد، وأغاني سرور وخليل فرح وحسن عطية والكابلي وأحمد المصطفى؟.. أما قرأوا شعر العباسي والمجذوب؟...أما سمعوا الأصوات القديمة وأحسُّوا الأشواق القديمة؟

 

ألا يحبّون الوطن كما نحبّه؟إذاً لماذا يحبّونه وكأنّهم يكرهونه ويعملون على إعماره وكأنّهم مسخّرون لخرابه؟

 

من الذي يبني لك المستقبل، يا هداك الله، وأنت تذبح الخيل وتُبقي العربات، وتُميت الأرض وتُحيي الآفات؟

من أين جاء هؤلاء الناس؟ بل - مَن هؤلاء الناس؟

(الطيب صالح : من أين أتى هؤلاء؟)

 


لا أظن ان هناك مقالاً كتبه روائي مثقف من غير المشتغلين بالسياسة الحركية قد ترك أثراً على مجمل الساحة السياسية السودانية كما فعل مقال الطيب صالح الموسوم "من أين أتى هؤلاء؟"... ولعل مبعث هذا الأثر الضخم نابع من صدق الكلمات المفعمة بالوطنية الخالصة.. كلمات المقال جاءت خالصة عريانة من كل مأرب أو شعار أو إنتماء إلا للوطن... سرت الكلمة بين أهل السودان...حملتها أمواج النيل ونسمات الشمال و"رشة" البطانة" وبروق الصعيد .

 

كلمات الطيب ذات المضاء الوطني العارم تلقفتها جماعات المعارضة التي أحست قيمتها الحقيقية التي فاقت كل منشوراتهم السياسية ..وتلقتها مصدات  جماعة الحكم بكل شراسة من يعلم صدق كلماتها..في كلا الحالتين تمسك أهل المعارضة والحكم بكلمات الطيب النافذة دون تدبر لمعانيها ودون إدراك لمقاصدها النهائية..للمعارضة كانت مجرد سلاح آخر ومدد إضافي لمناوأة النظام القائم وحشد المعارضة له..لجماعة السلطان نفذت كلمات الطيب المنتقاة لمكامن الوجع فأوجعتهم رغم ادعاء فريق منهم بأنها مجرد تهويمات "كاتب روائي" ..حقيقة الامر إن كلمات الطيب المنتقاة قد أوجعت النظام تماماً ..فالنظام ،من بعد، يعلم مكامن ضعفه ومكامن قوة التأثير على الرأي العام...موقف النظام من الطيب صالح وأعماله بعد هذه المقالة تشي بقدرة الكتابة الصادقة على النفاذ إلى القلوب والعقول وعلى زلزلة السلطان.

 

بعد ذلك المقال جرت مياه كثيرة في أنهار السياسة السودانية..مفاصلة بين القوى الإسلامية الحاكمة وإتفاقات سلام جهوية وإتفاقية سلام شاملة..قدر من الانفتاح نابع من تعلم دروس الإنغلاق..في اعقاب تزحزح السطان عن جبروته الأول وطغيانه قال الطيب صالح كلاماً طيباً في حق جزء من النظام ورموزه فهلل من كان معارضا له وغضب على الطيب مَن ظنَّ أنه مبعوث العناية الآلهية لرفع لواء المعارضة الدائمة لنظام الحكم القائم في السودان...رضى من رضى وغضب من غضب ونسي الناس المقال ومضامينه العميقة وتلك كانت المصيبة ..المقال كان في جوهره صرخة مواطن سوداني صميم تنسم عبير الحرية والديموقراطية حيث يقيم وقارن بين حالين فكتب بقلبه لا بقلمه ..كلمات نافذة مدادها دم الكاتب وليس حبر الدواة..يقول الطيب في ذات المقال:"أجلس هنا بين قوم أحرار في بلد حرٍّ ، أحسّ البرد في عظامي واليوم ليس بارداً . أنتمي الى أمّة مقهورة ودولة تافهة..أنظر إليهم يكرِّمون رجالهم ونساءهم وهم أحياء، ولو كان أمثال هؤلاء عندنا لقتلوهم أو سجنوهم أو شرّدوهم في الآفاق"...هنا نقطة المفارقة بين حال وحال وهنا سر دعوة اللورد بتلر لمجلس الطيب صالح...دعوته للمجلس دعوة للتعلم من الآخر حول كيف تكون السياسة وحول الأطر الاخلاقية للعمل السياسي حكماً ومعارضة وحول سبل التعامل مع قضايا الوطن المركزية.

 

اللورد بتلر أو راب بتلر جذب اهتمام الطيب صالح كسياسي كبير وككاتب..إعجاب الطيب به دفعه لإعادة قراءة، ومن ثم مراجعة، كتابه "فن التذكر"...قال عنه: "كان بتلر من هؤلاء الإنجليز المستنيرين المتحضرين والذين لا يملك الإنسان، مهما كان رأيه،إلا أن يعجب بهم، فقد كان سياسياً على درجة عالية من الخبرة والذكاء والكفاءة"...بتلر تقلد كل الوزارات الكبرى في الدولة فكان وزيراً للتعليم ووزيراً للداخلية ووزيراً للخارجية ووزيراً للمال وفي عام 1944 حصل على موافقة البرلمان على مشروعه الذي كان بمثابة ثورة وأرسى القواعد التي يقوم عليها التعليم في بريطانيا إلى اليوم.

 

ثلاثة دروس أساسية على الأقل توفرها سيرة اللورد بتلر..الدرس الاول هو كيفية تعامل الخصوم السياسيين مع بعضهم البعض في إطار العمل العام..فبتلر بعد أن فقد الفرصة لزعامة حزب المحافظين العتيد "حياه خصمه السياسي اللدود هارولد ويلسون وكان رئيساً للوزارة عن حزب العمال فجعله رئيساً لإحدي كليات جامعة أكسفورد"...هذه واحدة ، من جانب آخر وفي سياق ذات الدرس يلاحظ إن رأي أهل السياسة في عطاء اللورد لم يأتْ من داخل حزبه بل من المعسكر المناويء تماماً..يقول دنيس هيلي (الزعيم العمالي الكبير) "إن بتلر هو من أدخل حزب المحافظين القرن العشرين عندما أقنع الحزب الذي كان تقوده طبقة النبلاء وكبار الملاّك بقبول الإصلاحات التي أدخلتها حكومة العمال بزعامة "كلمنت أتلي" لمصلحة الطبقات العاملة والطبقات الفقيرة وعدم المساس بما أسموه "دولة الرفاه العام" واعتبارها مؤسسة ثابتة بصرف النظر عن الحزب الذي يحكم"...الدرس داخل الدرس هنا ليس إشادة هيلي بل تعامل بتلر مع أطروحات حزب العمال بعد الحرب بأنها أضحت أطروحات "وطنية" ليست مبذولة للتنافس الحزبي الضيق.

 

الدرس الثاني في سيرة اللورد بتلر هو قدرة الجماعات الحزبية الخلاّقة على التسامي فوق الاطر الحزبية لمصلحة القضايا الوطنية الكبرى من خلال "الوفاق" و"الإجماع" ..فكما أشار الطيب فقد استطاع بتلر:"مع النخبة من حزب العمال وخاصة "هيو جيتسكل" أن يضعوا الأسس التي قام عليها الحكم في بريطانيا منذ الحرب العالمية الثانية".

 

الدرس الثالث من هذه السيرة العظيمة هو القدرة على تفجير الطاقة الإبداعية في الإنسان في أكثر من مجال..فاللورد بتلر، رغم بذله وعطائه، لم تكن لديه الفرصة لخلافة ونيستون تشيرشل على زعامة حزب المحافظين لأن "أنتوني أيدن" كان يستعد لذلك .."ولأن حزب المحافظين الذي كان يحترم "بتلر" كان، في الحقيقة، يقبل أفكاره على مضض ولكنه لم يكن يطمئن إليه كل الإطمئنان. وفي تقاليدهم عدم اللجوء إلى متفوقي الذكاء إلا في الحالات الطارئة"...لاحت الفرصة لبتلر لزعامة المحافظين مرة أخرى ...يقول الطيب صالح:"بعد حرب السويس لاحت فرصته بعد استقالة إيدن ولكنهم اختاروا سياسياً ثعلبا هو هارولد ماكيملان ذي النسب النبيل..وبعده اختاروا لورد هيوم"...عدم فوزه بالمقعد القيادي الأول في حزبه لم يرغمه على الإنزواء عن العمل العام وخدمة بلاده في مجال آخر ...بعد فوز هيوم في مؤتمر الحزب العام نفض بتلر يده من الأمر كله وأورد الطيب مقولته التي أضحت مثلاً:"كان المؤتمر شيئاً مؤسفاً، خرجنا منه، انا وزوجتي، دون أضرار تذكر"...ترك بتلر السياسة ولكن آثر أن يخدم بلاده في موقع آخر فكان أن شغل منصبا أكاديمياً رفيعا في أعرق الجامعات البريطانية.

  

الدروس الأساسية الثلاثة وغيرها جعلت الطيب صالح يضع اللورد في مكان عالِ كنوعية من السياسيين التي نتمناها لبلادنا حيث الإقصاء والتمترس خلف الأطر الحزبية والجهوية الضيقة والقاصرة هي ديدن السلطة ومن يتولونها ..هذه دروس لبلادنا وغيرها من بلاد العالم الثالث حيث السياسة الأحترافية في أحايين كثيرة تبدو عمل من لا عمل له ومهنة من لا مهنة له..في مثل هذه الاحوال يصبح دافع العمل السياسي الاحترافي ومحفزه المركزي ليس هو الخدمة العامة المتجردة بل شق دروب إكتناز الثروة لا يهم كثيرا من أي باب جاءت وعلى أي أساس أتت.

  

دروس أخرى، أكثر عمقاً وإنسانية نستشفها من كتاب اللورد بتلر.. حين استراح الرجل من غمار السياسة وقرر تذكر المسرح السياسي والإنساني ليختار تسعة من أصدقائه للحديث عنهم ..يقول الطيب صالح:"الاختيار في حد ذاته يدل على أن بتلر كان سياسياً من طراز غير عادي، كان، كما يظهر من تنوع هؤلاء الأصدقاء، متعدد الاهتمامات، ينظر إلى القضايا من منطلق قومي عريض، متجاوزاً الولاءات الحزبية الضيقة".

 

اختار اللورد بتلر من السياسيين غير البريطانيين الزعيم الهندي نهرو ..جموح الزعيم الهندي ونضاله الشرس ضد المستعمر البريطاني لم يزحزحا احترام وتقدير اللورد بتلر لقدرات نهرو وقيمه ورفعته السياسية والإنسانية.. من ناحية أخرى لم يقف التباين السياسي حاجزاً بين اللورد واختيار وليام تمبل كبير أساقفة كانتربري ...هذا قس يساري يؤمن بمباديء حزب العمال ..يقول بتلر لولاه لما استطاع هو (بتلر) أن يضم التعليم الكنسي إلى سلطة الدولة.

 

من الأدباء أصطفى اللورد بتلر الشاعر الإنجليزي شارلز سورلي الذي درس وعاش في ألمانيا كان يعبر في قصائده عن حب عميق للشعب الألماني...في رسالة بعث بها من جبهة القتال مع العدو الألماني قال سورلي إنه حين سمع مجموعة من الجنود الألمان ينشدون نشيداً حماسياً .."طربت طرباً شديداً واحسست أنني مستعد لان أموت فداءً لألمانيا..هذا خطأ بالطبع، ولو انك سمعت ذلك النشيد كما سمعته انا، لعلك كنت تحس بما احسست به:..يقول بتلر: "إن حياة سورلي في المانيا جعلته يرى خصالا طيبة كثيرة في العدو".

 

اختار اللورد بتلر (وهو من قادة المحافظين الكبار) زعيمين من حزب العمال..أحدهما هو "أنوارين بيفان" الذي ولج عالم السياسة من باب من بيئة عمال المناجم في ويلز ..يصفه اللورد كما أورد الطيب بأنه:"فصيح اللسان، متوقد الذكاء من الخطباء المعدودين..شديد الخصومة لحزب المحافظين فحمل عليهم حملات ما تزال تتردد أصداؤها إلى اليوم"...أما الزعيم العمالي الثاني فهو أسطورة حزب العمال البريطاني "إيرنست بيفن" ..وعن بيفن يجب أن يُسجل الخبر وتُدرس السير ويُستفاد من العبر.

 

يقول الطيب عن كتابة اللورد بتلر عن بيفن :"روح الإنصاف والقدرة على النظر من الجانبين التي تميز بها بتلر تتضح في الفصل الذي كتبه عن الزعيم العمالي الضخم "إيرنست بفن" وهو فصل من أروع ما يقرأ الإنسان من شهادات الإنصاف في التاريخ المعاصر".

 

ولماذا التركيز على بيفن؟...يقول تاريخه الشخصي إنه "ولد لقيطاً لا يعرف له أب ..توفيت أمه وهو في الثامنة وعندما كان في الحادية عشرة ترك الدراسة ليعمل أجيراً في مزرعة ثم حمالاً في الميناء..ثم عضواً بارزاً في نقابة عمال الشحن."...يقول الطيب نقلاً عن اللورد بتلر إن دفاع بيفن  "عن حقوق عمال الشحن أمام لجنة التحكيم الحكومية برئاسة "لورد شو" دفعت به للصفوف الامامية في مجتمع النقابات التي سعى جاهداً لربطها بحزب العمال.. يصفه بتلر بأنه في ذاك المسعى كان "أكثر عزماً وتصميماً من ونستون تشيرشل"...بتلر يعتبر بيفن نداً في قدراته العقلية للاقتصادي البريطاني الشهير "جون مينارد كينز" الذي أحدث انقلابا في المفاهيم الاقتصادية.

 

هذا رجل أسطورة ..لقيط عمل حمالاً في الميناء ثم صعد درجات المجد السياسي ليصفه زعيم حزب منافس بأنه "أكثر عزماً وتصميماً من ونستون تشيرشل" وانه "ند لكينز" لهو بحق رجل أسطورة ...في عام 1940 صار بيفن وزيراً للعمل في وزارة الحرب ..عبأ للمجهود الحربي اثنين وعشرين مليونا من مجموع السكان البالغ عددهم خمسة وثلاثين مليوناً بين الرابعة عشرة والرابعة والستين وتم ذلك دون قهر أو ضغط قائلاً :"إنها ارادة أمة حرة تذعن للضبط والنظام بمحض إرادتها"..  بعد الحرب صار وزيراً للخارجية..كانت وزارة الخارجية حكراً على أبناء الطبقات العليا من خريجي جامعتي أكسفورد وكيمبردج لذلك كان تعيين عاملٍ ترك المدرسة في سن الحادية عشرة وزيراً لها مدعاة لدهشة عظيمة.

  

هذا عن الطيب وضيفيه ولكن ماذا، غفر الله لنا ولكم، عن الحاردلو وود الرضي وحاج الماحي؟ وماذا عن التاج مصطفى؟ ذاك حديث آخر في مقال آخر...وحتى ذلك الحين أترككم مع أبي الطيب المتنبي مرة أخرى:

  

 "القَلْبُ أعلَمُ يا عَذُولُ بدائِهِ  وَأحَقُّ مِنْكَ بجَفْنِهِ وبِمَائِهِ

 

فَوَمَنْ أُحِبُّ لأعْصِيَنّكَ في الهوَى   قَسَماً بِهِ وَبحُسْنِهِ وَبَهَائِهِ

 

أأُحِبّهُ وَأُحِبّ فيهِ مَلامَةً؟     إنّ المَلامَةَ فيهِ من أعْدائِهِ

 

لا تَعْذُلِ المُشْتَاقَ في أشْواقِهِ  حتى يَكونَ حَشاكَ في أحْشائِهِ

 

إنّ القَتيلَ مُضَرَّجاً بدُمُوعِهِ  مِثْلُ القَتيلِ مُضَرَّجاً بدِمائِهِ"

 (القَلْبُ أعلَمُ يا عَذُولُ بدائِه)

 

آراء