نحو التغيير (6) … بقلم: عمر الترابي

 


 

عمر الترابي
10 August, 2009

 

alnahlan.new@hotmail.com

 

أمدنا الله بما انتظمت به سالف المقالات بالقول المنصرف ترتيباً لأنوطة تعلقنا بمقتضيات التغيير، وتعللنا لها بسبل نستوحيها من أصول التدين و العرف و العادات وما توحيه الثقافة، فاستجلاء هذه المعاني يجعل الزيادة في محال النفع ضرورة لازمة، و قد سبق الإشارة إلى استحالة أن تأتي هذه السلسة  مبرأة من عيب اقتصارها على المجمل لا المفضل، ولربما تطنب في مواطن مخاطبة الجمهور وتجمل في ما يستفز أهل الإختصاصات التي نمر على بعض من دقائقها، فإنما هي محاولة لإدراك المقاربة بين النصح والحراك و استنهاض الهمم، لعل المقام حان لنمضي للحديث عن ما وعدنا به في المقال السابق وصلاً لمقومات التنمية و أصول الناس.

تقوم العمليات الإنمائية على منظومة متكاملة يجوز لي وصفها بأنها ممعنة في الدقة و الإنتظام والتعقيد، وكما يُفرد لها علماء والتنمية الإقتصادية فإنها ذات آثارٍ و مناحي متعددة واسعة تستوجب على من أراد العمل عليها توخي الحذر وذلك بالوعي التام المبني على التوقع المدروس لآثارها المباشرة وغير المباشرة الظاهرة و الخفية العاجلة والآجلة، فإن المضي فيها دون سابق تخطيط جَمعي مدروس يلتزم بسيم التأني العلمي لربما كان له عواقب  تُفرِز آثاراً سالبة على بعض المناحي و تخلق مشاكلاً متعددة، ذلك أن النظام التنموي مترابط بمجموعة متغيرات قد يتداخل بعضها والبعض، لذلك فإن توازن  التنمية الراشد هو مطلب يضمن النجاح في التنمية البشرية و مقتضى يفرز الأثر الحسن في المحيط والبيئة و الموجود. خاصةً فيما نوليه من تنمية بشرية نأخذها كمثالٍ نهدي به و عرّابةٍ لعملية التغيير المبتغاة وخاصيتها التي أدعيها إنما تنبع من كون مؤشر التنمية البشرية يُوصَف بأنه مؤشر مركب تتداخل فيه مؤشرات عديدة، لذلك فالموازنة التي أتحدث عنها تلتزم معايير محددة، هذا سأتناوله بالتفصيل في مقام آخر.

وبالعود على ما وعدنا في المقال السابق نمضي للحديث عن كون التغيير ليس متطلباً خارجياً تستنهض له الناس غاشيات الآخر و تلزمهم به المعايشة الحضارية فحسب، بل إنما تُقَوِّمه داعيات التدين والعُرف والأَخلاق إذ يستند هو في معانيه وأهدافه على قيمٍ حضارية  بُنِيت على معاني أُستوحيت من متراكمات سريان الحضارة الإنسانية أزلاً وتجاربها سعياً نحو رفاه الإنسان في غالب مجتمعاتها، ومن المعروف الدَور الحضاري والرِيادي لنا كأمة تَلتزِم بالإنتماء لحضارات متعددة وشاركت في صياغة قِيَمِها الحميدة وكانت حلقةَ وصل حيناً و بانية أصل أحياناً كثيرة لعديدٍ من الحضارات فتشربت (أمتنا)  غالبها وانصاغت بها هذه الصياغة الفريدة التي جعلتها بهذا التنوع الحميد إن شاء الله لنا حسن التعامل معه، لذلك لست أبتدع إذ أزعُم أنه من اليسير إثبات أن غالب قيم التغيير (التنمية البشرية مثلاً) إنما تشترك مع قيمنا السامية كحضارة ساهمت في التفاعل الإنساني أبداً بل ولربما أسهمنا بتراثنا في تشكيل شئ من هذه القيم. بذا فإننا وفاءً للعهد سنمضي مسحاً لملامح الإشتراك هذه وسننمو بعدها إلى تحليلنا الذي افترعنا له هذه الباب من السلسلة، و  سنقتصر في هذه الفقرات للحديث عن مرتكزات هذه القيم من نبض حضارتنا وقيمها.

        التعليم :

لا أمل من تكرار القول بأن ربط التنمية ومقتضياتها بأصول الناس يمنحها انسيابية طبيعية ويكسبها شرعية داخلية يمنع عنها الأذى (الفطري) الذي يندقع صوب التغيير المفروض من الخارج الذي حينما يبدو عالباً للمتلقى فإنما تسوِّدَه معاني الجبر والطغيان و على أقل تقدير فإنما تفسده شُبه الفرض و مخافات الغرض، فتُغَيِّر مضمونه فيتشكل وكأنه عرض دنيا ومكيدة مكر يمكر به الآخر ليحيقنا به وبذا التوهم  فإنه من الطبيعي أن لا يلقى منا إلا الدفع والرد والخسار.

قضية التعليم تمثل مرتكزاً مهماً في العملية التنموية ويعتد لقياسها مؤشر خاص له آلية حساب سنذكرها عقباً ولكن لنا هنا أن نقف بإتكاءة لنستظل بمعاني مجتمعنا وقيمه لنرى أهليته ليكون مبادراً في هذا المضمار.

فالعلم والتعلم وكل جذور الكلمة وظلالها  التي تمتد وتقصر حول معاني المعرفة والتبصر والعقل وطرائقها واساليبها وموجباتها ومعمماتها ومكسباتها وما يبارك فيها وما يمنعها وغيره من متعلقاتها قد مضى بها الأمر الرباني منذ أن بين الله سبحانه وتعالى للملائكة أفضلية سيدنا آدم عليه السلام وأثبتها واضاف إليها خصلة ومنحة وصفة (العلم) بعدما أخبرهم بأهليته لأن يكون خليفة في الأرض ويكون بنيه خلائف له: فقال  [هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(29) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ(30) وَعَلَّمَ آَدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ(32) قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ(33)] {البقرة:30}  فبالمعنى الديني الذي نستأنس به هنا جاز أن يكون العلم من مؤهلات الخلافة في الأرض والعمارة فيها، وعليه سعت الأديان السماوية وحتى الفرضية الوضعية لتجعله منطلقاً للتأهل للخلافة المثلى وتعمير الأرض .

لذلك ولأهميته في ترقية أي عملية كان من المنطقي أن يكون سهمه العَلي في مؤشراتٍ مركبة تحُدد قياسات التنمية، والتعليم الذي اعنيه تعليم الإنسان بلا تعيين لجنس و لا حكرٍ لطائفة ولا اختصاص لفئة دون أخرى وأزعم انه الزام رباني قيض له منطلق انساني يُعليه، أعتمده أنا المسلم في أدبياتي لأن خطاب الله لنا كافة لا حكر ولا تعيين لذكر دون أنثى اعملوا اعلموا ، وقد قرر السادة الفقهاء (أن كل ما ثبت من حكم للرجل ثبت مثله للمرأة إلا ما بينت النصوص الشرعية اختصاصه باحدهما فهو الذي يستثني من القاعدة). 

وبالنظر إلى واقعنا نجد انه يرعى هذه المعاني ويسعى بها بشكل طيب وعلى منحى حسن وانما بحديثنا فيه ندفعه ليمضي الى أحسن، وبما أن العالم يدعم تعليم النساء لأسباب معلومة، نجد انّا نبلي حسن البلاء، وأن هذه المشكلة بدأت في الإندثار وإن كان منها بقية فإنها إلى زوال لأن القامين على الأمر تنبهوا لمفاتح العلاج ولأدواته الحقيقية، وتبقى الحقيقة التي انه في مناطق محددة من البلاد لها أعرافها التي نحترمها انحسر فيها مد التعليم للنساء ردحاً من الزمان لفهم محدد لبعض القضايا له من الدين والعرف لبوسه، ولكن حينما انتظمت المخاطبات العلمية الجادة إلى الجماهير وشرحت لهم رأي الدين في التعليم وتعليم النساء خاصة بدأت تلك الظاهرة بالإنحسار، ما بقي منها سيزول ذلك لأن الإسلام الذي به يدينون يدعوا إلى تعليم النساء ، بل أني أذهب إلى أبعد من ذلك وهنا أطنب (عن وعي لإطنابي)، لأن هذا أيضاً يعالج لي بابا آخر في مفاهيم الحقوق الإنسانية العامة وحقوق المرأة خاصة فحينما أروي أن الإسلام أوجب العلم على النساء والرجال على السواء ، فإني أقيم لهم حقاً وأضمنه، وحينما أخاطب الناس بأصولهم تكون قيم التغيير أدعى لأن تُجاب، فنظرة إلى عصور الهدى نجد أمثلة لا حصر لها وأدلة تعيي النقول،و لكنها تنير العقول. فإن كان في جد الطلب و التوجه لطلب العلن عند النساء فقد كانت أمهات المؤمنين زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم مثالاً في طلب العلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فحفظن عنه الكثير الذي أفاد الأمة خاصة في أمور المرأة والأسرة وقد كانت أم المؤمنين عائشة في القمة من ذلك وكانت لا تسمع شيئاً لا تعرفه إلا و راجعت فيه حتى تعرفه. فعن أبي مليكة أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت لا تسمع شيئاً لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من حوسب عذب) قالت عائشة فقلت: أوليس يقول الله تعالى (فسوف يحاسب حساباً يسيراً) قالت  فقال "إنما ذلك العرض ولكن من نوقش الحساب يهلك"، وأم سليم الأنصارية وافدة النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تأتي فتسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عما يهم المرأة في أمر دينها وكان صلى الله عليه وسلم يستجيب لها ويشجعها على ذلك وكانت النساء تأتي إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألنه ويستفتينه عن أدق وأخص أمور المرأة. فكن فقيهات بعلم زمانهن وأمر دينهن. وفي تعلم الكتابة التي تمحي الامية صح عند أبي داود وغيره عن الشفاء بنت عبدالله العدوية رضي الله عنها قالت: دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عند حفصة فقال : ألا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتها الكتابة".

وكانت أمهات المؤمنين عائشة وأم سلمة تقرآن. ويحدثنا تاريخ الرواية عن حرص أم الدرداء الفقهية الزاهدة على العلم، وتفضيله على كل شيء إذا تقول: لقد طلبت العبادة في كل شيء فما أصبت لنفسي شيئاً أشفى من مجالسة العلماء ومذاكرتهم وقد وصفها النووي بقوله "اتفقوا على وصفها بالفقه والعقل والفهم". وكان هذا دأب المسلمين من بعدهم في أوج حضارتهم أن المرأة صنو الرجل وأن المجتمع يقوم بهما والتأهل بالعلم والتعلق به أثمر إنساناً قادراً على أن يبدع حضارة مثل حضارة المسلمين التي تشربناها نحن كأمة، ولعل من أبهى الصور تلك التي ذكر الفقيه المحدث عبدالقادر بن أبي الوفاء القرشي في كتابه الجواهر المضيئة في تراجم الحنفية في ترجمة فاطمة بنت محمد بن أحمد السمر-قندي (صاحب كتاب تحفة الفقهاء) وزوجة العلامة علاء الدين الكاساني (صاحب كتاب بدائع الصنائع) وقال في ترجمتها : إنها تفقهت على أبيها وأن الفتوى كانت تخرج من البيت وعليها خطها وخط أبيها، ولما تزوجت العلامة الكاساني صارت الفتوى تخرج وعليها خطها وخط أبيها وخط زوجها. وقال أيضاً "وقد بلغنا عن بلاد ما وراء النهر وغيرها من البلاد أنه في الغالب لا تخرج فتوى من بيت إلا وعليها خط صاحب البيت وابنته أو إمرأته أو أخته. هذه نماذج وغيرها يطول، فالحديث الذي يخاطب الناس بأصولهم يستنهض فيهم همم الإصلاح وينأى بهم عن الغلاط والنفاق، العلم كسبه وتعلمه ا يكون انتجاعاً للرزق وطلبا للتوسع فحسب، بل انه تقوية للوطن وتنمية للإنسان حتى يصبح أجود صنعة ويصبح فاعلاً في محيطه عن بينة !. ما أعظم هذا التاريخ .

لو ان كثيراً من قضايا الإصلاح تخاطب من منطلقات أصول الناس لانجابت غاشية الجمود ولاستجاب الناس، وصاروا ضمن عملية التغيير بكل جوارحهم فالجمود ليس فضيلةً عندهم ولكن الحراك والتجدد مع الأشياء صعب مالم تضمن للناس أن تجددهم لن يغير هويتهم ولا أصولهم بل سيعيد طرحها، فالتجدد الذي لا يمس الأصل الطيب هو الحميد، هذا الكسب الذي نرتضيه، سنطبقه لله خالصاً وببركته كعمل صالح سيرفع من قيمتنا كحضارة و من مؤشرنا كأمة.

هذا مثال وغيره كثير مما يمكن أن ننزل عليه أدبياتنا ومفاهيمنا كل قضايا التنمية البشرية التي تناقش اليوم لمبادئنا و قيمنا قول فيها، قول كان من نعمة الله علينا أنه اذا بسط ببينة يفرز وئاماً بين كل الناس، تغيير المناخ، الهجرة.. الفقر.. حقوق الإنسان حقوق المرأة.. الحرية ...الخ، كل هذه المعاني لنا فيها أدبيات يضيق بها المقام وعجبي أننا نتأخر عنها وهي منا ونحن منها! إذا محو الأمية مطلب شرعي، والتعليم الإلزامي فرض، وهي من صلب ثقافتنا.

والآن لنرى كيف أن هذا الأصل مبسوط في مؤشرات التنمية، فقد بدأ قديما باسم "حيازة المعرفة"، وتقاس نسبة الملمين بالقراءة و الكتابة. ثم تم تعديل هذا المؤشر بمؤشر آخر أطلق عليه مؤشر التحصيل التعليمي و يتكون من مؤشرين فرعيين هما: نسبة القيد في التعليم الابتدائي و الثانوي و العالي معاً، ومعدل معرفة القراءة و الكتابة بين البالغين ( 15 سنة فأكبر) مع ترجيح المؤشر الفرعي الأول بنسبة الثلث و الثاني بنسبة الثلثين وبذلك يتم الحصول على مؤشر التحصيل التعليمي. ليركب المؤشر الناتح  مع مؤشر العمر المتوقع ومقياس الرفاهGDP index  فيكون ذلك في مجمله  HDI مركب مؤشر التنمية البشرية.

نواصل ،

 

آراء