الحركة الشعبية والمكيالين … بقلم: د. تيسير محي الدين عثمان
8 December, 2009
تفجرت حركة الجيش الشعبي لتحرير السودان بتمرد الرائد كاربينو كوانين بول في يوم 16/5/1983م في الحامية العسكرية بمدينة بور بالسرية (105) وتمرد زميله الرائد وليام نون بانج في أيود بالسرية (104) وتوجها إلي أثيوبيا لمعسكرات الأنانيا( 2) وقام بعدها العقيد جون قرنق دي مبيور في الخرطوم بطلب أذن من قائده العقيد مجوك وذلك بحجة زيارة خاله المريض في بور وتمرد حينها ولحقهما في أثيوبيا بنفس الطريق الذي سلكه كاربينو . وكان هناك معسكران الأول بقيادة وليام و كاربينو ومعهما قواتهما وكانت قوات الأنانيا (2) في الجانب الأخر من المعسكر وكان في قيادتها كل من بينسون كوانج وقوردون كونك وكوات أتيم وصمويل قاي توت وعبد الله وليام شول..وهؤلاء كلهم من أبناء النوير. اجتمعت الأطراف لتوحيد قيادة القوات من قوات الأنانيا وقوات كاربينو و وليام نون وذلك بغرض اختيار قائد عام لها بعد أن تنازل كاربينو كوانين و وليام نون للعقيد جون قرنق لتمثيلهم كقائد ولم يتوصل الطرفان إلي اختيار قائد عام لهما بالتراضي ونشبت حرب بينهما كان ضحيتها الكثيرون وحسم الأمر بالقضاء علي قيادة الأنانيا (2) وفر بعضهم من أثيوبيا واستمروا في محاربة الحركة الشعبية إلي أن قتل آخر قائد لهم وهو عبد الله وليام شول في أغسطس 1984 م وكانت هذه أول ممارسة انقلابية ونقض للعهود في تاريخ الحركة الشعبية وتاريخ قادتها وذلك بالتخلص من قوات الأنانيا (2) والتي احتضنتهم في البدايات. وبعد أيلولة القيادة إلي العقيد جون قرنق قاموا مع الأثيوبيين بتنظيم القوات والقيادة ولحق بهم بعد ذلك الرائد سلفاكير ميارديت والرائد أروك طون أروك وكونوا مجلس عسكري دائم منهم الخمسة وفي عام 1984 م كتبوا البيان السياسي للحركة الشعبية.
شمل البيان السياسي للحركة الشعبية ضرورة قيام ثورة لتحرير الناس في السودان من الاستعمار المركزي والهيمنة وتقسيم الثروة والسلطة وتنمية الولايات وعدّد البيان أسباب وضرورة قيام ثورة وذكروا وسائل التغيير المتمثلة في النضال السياسي المسلح ووزعوا بيانهم في كل العالم وخاصة الدول الاشتراكية والشيوعية والتي أغرقتهم بالمال والسلاح واستمرت ضراوة الحرب في ميدان القتال ولم تتوقف إلا في العام 2005 م بعد توقيع اتفاقية سلام الجنوب بين الحركة الشعبية وحزب المؤتمر الوطني الحاكم في السودان .
انتقلت الحركة الشعبية من ميدان القتال وبعد أكثر من 20 عاماً إلي دهاليز المشاركة في السلطة والحكم وأصبحت ممارسة لدور الحاكم والمعارض في آن واحد وهي التي اشتهرت عند انطلاقها بالبيانات البراقة الجذابة والتي جذبت إليها الكثيرين ودغدغت وجدان وشعور كل إنسان يتشوق للعدالة والمساواة في فترة الحرب ولكن تجربتها الحالية في الجنوب وقبضتها الشمولية علي مفاصل الحكم والإنفراد به وإقصائها للآخر والذي تمثل في التصريح الواضح لقناة الجزيرة والذي أدلي به رئيسهم سلفاكير بحرمان ومنع حزب الدكتور لام أكول من ممارسة نشاطه بالجنوب والذي يناقض أقوالها ومطالبها المتعلقة بالتحول الديمقراطي والممارسة الديمقراطية!! ومعروف أن دكتور لام أكول هو من القياديين المؤسسين بالحركة الشعبية ومن الذين لعبوا دوراً كبيراً هو وعبد العزيز أدم الحلو في استقطاب الأفراد داخل السودان للحركة الشعبية في الثمانينات وكان د. لام أكول ومن خلال مكتبه بجامعة الخرطوم ينسق عمليات السفر والترحيل للمستقطبين عن طريق صديقه السفير الأثيوبي بنيروبي يلما منقشاي.
كذلك الحقائق والآراء الجريئة والضافية والشافية والتي تطرق لها الفريق تلفون كوكو أبوجلحة القيادي البارز بالحركة الشعبية وأحد روادها ورموزها العسكريين ومدير إنتاجها العسكري وأحد أبناء جبال النوبة وذلك في مقالات متواترة وعديدة من خلال الصحف وبعض الكتابات وخاصة ما تعلق بمظالم أبناء جنوب كردفان وجبال النوبة وتجاوز اتفاقية نيفاشا وتهميشها لهم وتهميش الجنوبيين لأبناء النوبة وتوزيرهم لمن لا يمثلهم في السبق والتواجد في الحركة والإرث النضالي وتحجيم أدوار أبناء النوبة وهذا ما لم يعجب الفريق تلفون كوكو وأصبح يكتبه ويصرح به !!!...صاحب ذلك تذمر وضجر واستنكار وانتقادات من قيادة الحركة الشعبية لتلفون ولم تستحمل هذه القيادات الصراحة والوضوح والكتابات من قبل تلفون وبالتالي دفع هو الثمن في تأخيره في الترقية وممارسة ضغوط عليه ومزيداً من التهميش والعزلة والإقصاء والمحاربة النفسية والاقتصادية متناسين لدوره ونضاله ومجهوداته وتاريخه في الحركة ولكن هذا جزاء حرية الرأي عند الحركة حيث يتواجد تلفون كوكو بجوبا دون أي أدوار تناسب عطاءه وسبقه الميداني في الحركة وتتحدث الحركة الشعبية عن الحريات في الشمال وهي تدّفع تلفون فاتورة حرية الرأي والمجاهرة بالقول والمطالبة بالحقوق المهضومة والضائعة!!
كذلك يتداول كثير من الجنوبيين غير المنتمين للحركة الشعبية موضوع الفساد وسط بعض القيادات الجنوبية من أفراد الحركة الشعبية حيث أن بعض من هذه القيادات تعيش أسرهم في دول الجوار في أحسن البيوت ويدرس أولادهم في أحسن المدارس ويركبون أفخم السيارات ويتعالجون في أغلي العيادات ويتنزهون في أجمل المتنزهات وليس هذا فحسب بل نقل البعض أسرهم إلي أستراليا وأمريكا وبريطانيا ..... وأسسوا شركات تجارية وفنادق ودكاكين في جنوب السودان وحازوا علي الاستثمارات الضخمة... والجنوب في معظمه يفتقد للبنيات الأساسية والخدمات الحيوية والأمن وفي بعض أجزاءه المرض و المجاعة يفتكان بالمواطنين.
ومن الغريب أن تلعب الحركة الشعبية دور المعارض الأساسي والرئيسي والذي يحشد بقية المعارضين من خلفه وضد الحكومة وهي جزء رئيسي وأساسي في الحكومة ولها وزراء وموظفين ودستوريين يتقاضون أجور حكومية وينعمون بمخصصات وزارية ودستورية وكذلك نوابهم والذين هم خارج البرلمان حالياً وينعمون بمخصصاته... فلا يعقل أن تكون حاكماً ومعارضاً في آن واحد ولا يوجد مثل هذا المثال في كل دول العالم وفي كل أحزاب الدنيا مما يشير إلي ضعف تجربة الممارسة السياسية لدي الحركة الشعبية وعدم نضوجها حيث لازالت تتعامل بعقلية التمرد والغابة وهي أقرب لتفكير المليشيات المغامرة وهذا الأمر جعلها أسيرة لبعض القيادات الحزبية الشمالية والتي تريد تصفية حساباتها مع المؤتمر الوطني كأحزاب الترابي والصادق المهدي ومبارك الفاضل وغيرها وأصبحت تدفع بها للاصطدام والمواجهة مع شريكهم في الحكم وكان حرياً بالحركة الشعبية أن تكون خارج الحكم وتمارس دور المعارضة بدلاً من هذا الوضع البائس والمعيب والمخالف للأعراف السياسية في كل العالم .
ولماذا أصلاً وقعت الحركة اتفاقا مع حزباً لا تثق فيه ولا تطمئن له ولا تمضي معه لنهاية الاتفاق وما هي المواثيق والعهود في قاموسها ولماذا ظلت كل تلك الفترة في الحكم؟ وهل الحركة تعيش واقع الازدواجية في المعايير أم تريد خلق البلبلة في الشمال وتذهب في الاستفتاء منفصلة بالجنوب؟ ومن يحرك الآخر في هذه اللعبة... هل تحرك الحركة أحزاب الشمال المعارضة صاحبة المناورة والمهادنة والصنع السابق لنظام الحكم الحالي وتتجه معهم لتقويضه لشئ في نفسها؟ أم تقود أحزاب المعارضة الشمالية هذه الحركة للتناحر مع من تشاركه السلطة وبالتالي تشفي غليلها لمن انقلب عليها أو أقصاها؟ ومن المستفيد...
آلا يكفي ذكري أحداث الاثنين الدامي من أغسطس 2005 م الأليمة ودور الحركة الشعبية وقياداتها في ذلك وتقاعس السلطات عن حماية مواطنيها وخاصة والي الخرطوم ( المتعافي) من أجل عيون الاتفاقية والسلام والتي دفع الثمن فيها مواطنين أبرياء أعزاء علي أسرهم تركوا يقتّلون ويذبحون في الشوارع وهم لا صالح لهم في مؤتمر وطني أو حركة شعبية أو اتفاقية لا تعرف العهود والالتزام والانضباط !!!!!! ما يهم ويؤرق المواطن أن لا يكون ضحية وقرباناً لتجاذبات سياسية وخلافات ومهاترات وأطماع ليس هو طرفاً فيها وعلي السلطات القائمة علي أمر المواطن حمايته وروحه ودمه واستقراره وضمان أن لا يتكرر ما حدث بالاثنين الأليم ولا حصانة لكل من يثير الفتن وعدم استقرار المواطن والوطن وليس مواطن السودان بضاعة رخيصة يتداولها من يشاء وعند اللزوم ولتحقيق أهدافه الرخيصة والتي أرواح المواطنين وحياتهم أغلي منها .