العروبيون والأفريقانيون

 


 

 

 

قرأت فى الأونة الأخيرة الكثير من الأجوبة المتعددة المصادر فى الإجابة على سؤال واحد هو: هل نحن عرب أم أفارقة؟

هذا السؤال بهذه الصيغة المختصرة يبدو يسيرا والإجابة عنه فى دون إسهاب تتلخص فى كلمتين: نحن سودانيون، ولكن السؤال أكثر تعقيدا من ذلك ولا يجدر طرحه بهكذا أسلوب وبهكذا بساطة قد تبلغ بالأمر حد السذاجة، وعزائى هو أن هذا السؤال لا يطرح بهذه الصيغة إلا من قبل إخوتنا وجوارنا العربى، ويبدو السؤال بهكذا مباشرة أقرب للتهكم منه للجدية وأحيانا يعبر عن الغياب المتعمد للذهن العربى عن التفكير فى صيغة هذا السؤال وقد يكون فى أحيان أكثر الجهل الصريح هو الذى يختصر التعقيد والتركيب فى طرح السؤال...

لست بصدد الإجابة عن هذا السؤال لأسباب، أولها أن أساتذة كبار أكثر منى تخصصا وأدق منى ملاحظة وأوسع منى مشاهدة لوجوه الحياة وضروب النشاط  البشرى فى السودان كانوا قد أفردوا بحوثا وأوراقا عديدة فى الإجابة على هذا السؤال وبتوسع لازم بالضرورة، ولعل ممن عايش هذا السؤال كثيرا وأجاب عنه بوضوح شديد وتجرد فيما أزعم هو الدكتور منصور خالد، وغيره من أساتذة التاريخ والأنثروبولوجيا ...

الدكتور منصور خالد هو الآخر حلل التركيبة السودانية بحقائقها الجديرة بالإعتبار والذكر وخلص من ذلك كله لنتيجة لازمة بالضرورة أيضا مفادها أننا سودانيين..

السؤال الأكثر توسعا وشمولا والذى برز للمشهد الثقافى والفكر السياسى السودانى المعاصر هو مسألة الهوية كبعد وكمرتكز لم يكن شيئا نشازا ولا مجرد ترف فكرى وليست الإجابة عنه بأقل أهمية من الإجابة على أسئلة الوطن الأخرى الملحة، ولقد أحمل على البعض ممن يحكمون بأن عواملا سياسية عديدة هيئت لبروز مشكل الهوية بل وأوجدته!.

بيد أن مشكل الهوية كالفيروس فى حالة الحضانة طويلة الأمد ولكنه يبدأ فى الظهور وتبدأ أعراضه فقط عندما يتسنى لها المسببات الملائمة.

البعض أسماها مشكلة الهوية، والبعض قلل من أهمية السؤال كله وأعتبره نوعا من الضجة  المفتعلة، ومشكل الهوية هو بالطبع أشمل لذلك السؤال السخيف الذى يستفهم عن أصلنا بين خيارين...

وفى تقديرى أن المشكل من حيث أنه مشكل فهو موجود وقائم  منذ الإستقلال ولكنه كان هامدا وأستيقظ ليس بفعل الحراك الفكرى والثقافى السودانى الباحث فى ماهية السودان والسودانيين وإنما  برز كنتيجة حتمية للصراع الذى جعل ينشب فى كل أطراف السودان ويهدد الماهية السودانية فى صميم وجودها، وقد يبلغ الصراع فى أطراف السودان حد المفاصلة التى تجعل كل الأسئلة ممكنة وربما لا يجد الناس فى السودان وقتا للحديث والبحث فى ماهياتهم ما دام الصراع مرشحا للتزايد والإنفلات الأمنى  ممكنا فى كل الأطراف الأمر الذى يهدد بزوال كيان الدولة وغياب الجامع القومى الذى يحتاج فى مجمله لإطار فكرى وعلمى يصحح مفاهيم الصراع الأثنى فى البلاد..

الذى بعثنى على كتابة هذا الوقفات ليس الجدل الدائر بين أروقة النخب السياسية والفكرية فى البلاد حول الهوية ولكنما الحالة الفكرية التى يعيشها الكثير من الشباب السودانى المتتبع لنتائج الأحداث إجمالا والتى تبعث على الأسى..

فالكثير من الشباب السودانيين اليوم يتنكرون للعروبة بشكل غريب على مفهوم الهوية ومشكلاتها بل وإنهم يصمون العقود الخمسة الماضية من تاريخ الفشل السياسى والإجتماعى والثقافى فى السودان بفترة التابعية العروبية وتجلياتها فى السودان، هذا التحليل يقترب جدا  من الصحة أو أنه أصلا الأكثر قبولا بين الترجيحات الأخرى من قبيل نظرية المؤامرة الغربية، ويبقى أن نستفيد من تحليل وتقييم المشكلات فى إستحداث مفاهيم جديدة ومعالجات واقعية وعقلانية وموضوعية، إذ لا يمكن أن نعالج المسلك الخاطىء لمدة من الزمان بمسلك آخر معاكس له فى الإتجاه ومساوى له فى المقدار، هذه ليست إلا نظرية الفعل ورد الفعل..

وهذه فى الفكر المجتمعى والعلوم الإنسانية قد لا تفسر إلا الصراع والنزوع الإنتقامية ولكنها أبدا لا تبرر فكرا ولا تصنع حلولا...

ذلك أن الكثير من الشباب السودانى جعل يستبدل التابعية العروبية بالتابعية الأفريقانية الصريحة مصورا ذلك على أنه الحل النهائى لمشكلات السودان!!

نحن فى السودان نخطأ كثيرا عندما نتبع خط العروبة وننزلق إلى مستنقع الإنتساب المباشر للعروبة عرقا وثقافة وفكرا ومصيرا، هذه الأفكار شديدة السخف إذ أن العروبة العرقية وعقدة الصفاء العرقى هذه يجب أن تشكل اليوم  مبحثا فكريا فى ذهنية إخوتنا العرب أكثر مما تشكل هاجسا كاذبا فى خيالاتنا نحن السودانيين حيث أن العرب أنفسهم قد شابهم ما شابهم من الإمتداد والتمدد العرقى وتغايرت دمائهم بقدر ليس قليل ناهيك عن الرأى الآخر الذى يفند وجود شىء إسمه عرب من لدن بعيد، ويبقى أن نترك لإخوتنا العرب الجدل فى العرب العاربة والعرب المستعربة وننتقل نحن للأمام ...

كما أن إدعاء الأفريقانية المحضة فى العرق والثقافة والنمط الحياتى لا يقل سخفا عن سابقاته...

يبقى أن نتأمل مفردات الحياة ومواصفات الشخصية السودانية وندرس مدى التأثير والتأثر شمالا وجنوبا، أن نعود لجذورنا الإفريقية بالدراسة والتأمل من جديد والبحث فى مقتنيات الفكر والثقافة السودانية من جانب ومزاوجة ذلك بما لدى إفريقيا، وأن ننظر أصلا هل يحفل الأفريقيون بنا؟

هل يعتبرنا الأفريقيون أفارقة؟

نحن أصلا مرفوضين إفريقيا، ومرفوضين عربيا، مع وجود الفارق فى المواربة والتخفى بين نمطى الرفض الأفريقى والعربى لإحتضان إنسان السودان، فالإفريقى لا يجد فى نفسه غضاضة فى إنكار السودانى ويستشهد بخمسين عاما من القطيعة ويستشهد بصراعات السودان كلها ضد الأفارقة ويستشهد بالمصير المربوط بالشمال العربى، بينما العربى يوارى ويوارب فى قبول إنتماء السودانى ويدعى على مضض عروبة أهل السودان، وهو أكثر الناس طعنا فى ذلك وهو أكثر الناس عجزا عن إثبات أو نفى هذه العروبة..

وليس غريبا أن نلاق مشكلات رفضنا وتنكر الآخرين لنا إذا كنا قد فقدنا إحترامنا لذاتنا ولمكتسبنا وإرثنا الثقافى الممتد فى العمقين العربى والإفريقى...

إذن فنحن لا نواجه تنكرا ورفضا على مستوى الآخر فحسب ولكنما نواجه مشكلات ضعفنا وجهلنا وتخلفنا الذى أستنفذ نصف قرن من عمر الإستقلال بحدود مليون ميل مربع بتعداد أكثر من مائة أثنية بتعدد دينى يمتد من الإسلام مرورا بالمجموعة المسيحية إنتهاءا بالروحانيات المختلفة، بالطرق الصوفية والفلكلور الغنى والخزعبلات والخرافات والنزوع الغريبة.

نصف قرن من الزمان لم نفلح فى تعريف هذه التناقضات المنسجمة والمتعارضة، لم نفلح فى تعريف الشخصية السودانية بشكل علمى مجرد من كل قصد، لم نفلح فى الخروج للعالم بشكلنا الذى هو شكلنا، وتركنا للعالم مهمة تصنيفنا  حتى جاء يوم سمعنا عن العرب البيض والأفارقة السود الذين يتقاتلون فى أرض السودان في دارفور!!، الزنوج والبيض!!، هذا السخف وليد أستهتارنا وكان حرى بمفكرى وسياسيى هذا البلد أن يتأملوا مسمى الحرب السياسية التى نشبت بين الشمال والجنوب من أجل إستحقاق سياسى وعرفت فيما بعد ببعديها الدينى والإثنى، كان يجب فى مرحلة من المراحل أن نتجرد من الأهواء الشخصية ومن الوهم الذى خامر أحلامنا ونتصدى لمشكل التعريف والماهية والعناية بالشخصية السودانية على هذه الأسس الجديدة، تجنبا لصراع جديد يتسمى بالعرقية، وقد كان ذلك.

نحن فى حاجة لتعريف أنفسنا إبتداءا..

نحن فى حاجة لتعريف أنفسنا عرقيا ودينيا وثقافيا أكثر من التبعية الهوجاء التى ربطتنا بالعرب لخمسين عاما ثم عدنا من ذلك كله بلا طائل فأتجهنا جنوبا وأدعينا اننا أفارقة وهلمجرا...

ولعل هذه المشاكسات التى  بدت تطفو على السطح قد عبرت إلينا خلال نصف قرن من الزمان مثلت المهلة الأولى والأخيرة التى منحتها العقلية الأوربية التوسعية المدججة بالعلم التى يحملها الأوربيون من أجل أن نتصالح مع ذاتنا ونعرف أنفسنا ثم نعد أنفسنا للعبور نحو إنفتاح جديد للأجواء والأسواق والفضاءآت وعولمة كل شىء وضياع حتى الشخصية التى تكونت بملامح محددة أو تعاملها مع معطيات العالم الكبير الذى تحكمه الشركات الكبرى بدرحة من المعقولية التى تحافظ للشخصية على خصوصيتها فى حدود ضيقة جدا، نحن للأسف ضيعنا حتى هذه الفرصة الأخيرة التى منحت لنا وبدانا اليوم نتحدث عن الجوامع الحقيقة التى تربط بعضنا لبعض والعالم يتكلم عن إعادة الفرز والتوزيع من جديد لجغرافيا السكان والإقتصاد ومحاور الأمن والحرب التى فى كل مراحلها المختلفة تمثل الجندية الحامية للشركات العابرة للقارات.

كما أستغرب كيف أننا بعد لم نتصالح مع ذاتنا والعالم اليوم يتجاوز الحدود الجغرافية ويعولم كل شىء...

نحن لم نرسم ملامحنا الثقافية والقومية والسياسية والعالم اليوم ينفتح على بعضه ثقافيا وديموقرافيا وإقتصاديا وقانونيا- ونحن حتى الآن لم نفلح فى صناعة دستور توافقى- والعالم اليوم ينفتح دستوريا وعسكريا...

هذه المؤشرات الخطيرة تحملنا واجب الإضافة النوعية والتسريع فى حسم خياراتنا قبل أن تهب علينا رياح أقوى تنتهى بنا لصومال جديد...

ما يعنينى فى كل ما أسلفت هو المجهود الفكرى المجتمعى والذى يمثل الشباب قواه الفاعلة ورصيده الأكيد، يعنينى تماما أن يلعب الشباب السودانى دورا أكثر معقولية وأكثر تجردا ووطنية، أكثر صدقا مع الذات من أجل الحقيقة، لست أخشى علينا من الحقيقة، حقيقتنا تغذينا وتعضدنا وتقفز بنا للأمام، بينما أحلام اليقظة التى ننتابها هى المهدد الحقيقى بوأد كل جهد مخلص..

نحن لا يمكن ولا يجب أن نعول على الدوائر السياسية فى السودان والتى أثبتت التجربة عدم فاعلية الغالب منها فى مخاطبة قضايا الوطن الكبرى بتجرد، وأثبتت التجارب جهل وتجاهل الكثير من نخبنا السياسية للواقع السودانى المركب...

المسؤلية اليوم فى غالبها الأعم تتأسس على عواتق الشباب.

و بنظرة موضوعية لواقعنا الماثل نستطيع التساؤل عما  ينقصنا؟

ينقصنا فقط الإعتراف بهذا الواقع...

أن نكون سودانيين...

العلم لم يسعفنا بعد بإكتشاف يعاير مقدار العروبة والإفريقانية فى دماءنا، ولكن الواقع السودانى جعل مزاج مئات القبائل الممتدة فى نطاق الألوان والألسنة والديانات المختلفة جعله مزاجا واحد..

ولست أنعى ما سرنا إليه من ترد إقتصادى جملة بأنه شر مستطيرإذ أن التنقل الذى شهدته أراض السودان لم يكن ممكنا لولا تقلب الحالة الإقتصادية للسكان والذى بدوره أضاف لحرب الجنوب عاملا آخر فى تحريك المجموعات السكانية وإلتقاءها وإزدادت المصاهرات الإجتماعية وأقترب السودانيون من مجافات التقاليد القديمة التى كانت تسودهم ساعات الرخاء...

أتمنى أن يقرأ الشباب السودانى هذه الأمثلة الحياتية وأن يولوا إفريقيا أهميتها المطلوبة لكونها رافدا كبيرا ينضاف للرافد العربى ويشكلان كليهما معا إنسانا عربى الثقافة بدون أدنى شك مع ما تمثله الإمتدادت المحلية من ثقافات خاصة متمايزة  ينقصها عامل اللغة للتنقل والإثراء والإندماج فى الوعاء الوطنى الذى تحفه اللغة العربية دون أن  يختلف حولها أثنان ولا يمكن أن تتجاوز عروبتنا ذلك، ويبقى مزاجنا وهوى نفوسنا ينظران إلى قلب إفريقيا...

نحن نقرأ شعر شوقى وغادة السمان ونتأثر بقضية فلسطين دينا وثقافة ولكننا عندما نطرب فإننا قد نطرب لموسيقى مريام أكيبا ...

طرابلس- ليبيا

الهضبة الشرقية

26/08/2007

 

آراء