الإنتخابات آمال و ذكريات

 


 

عمر الترابي
23 January, 2010

 

alnahlan.new@hotmail.com

 

تعيش غالب الأحزاب الوطنية هذه الأيام حركة نشطة في المركز و الولايات، استعداداً للإنتخابات المقبلة التي تعد إحدى أهم مؤشرات تاريخ السودان الحديث، في هذا المقال سنتعرض لمفهوم الإنتخابات الديمقراطية و أهمية هذه الإنتخابات و ضرورة استكمال الوفاق الوطني قبلها ودور الإنتخابات الحالية في إعادة إحياء القيم التاريخية النبيلة وربط الجيل الحديث بالأصول الراسخة، وأيضاً أهمية إثراء المجتمع السوداني بالآراء و برامج الإصلاح وتداولها بالحسنى، ليتمكن الشعب من اختيار القوي الأمين، وليسهم هذا في تعزيز ثقة المواطن برأيه و تعميق إنتمائه لوطنه الذي يقوم على العدل والمساواة والحرية والتكافل و احترام الرأي والرأي الآخر،وهذا الأمر لا يتم إلا عبر اتخاذ النزاهة طريقة و انتهاج الحرية مسلكاً ومنهاجاً، فالإنتخابات النزيهة سبيل إلى تمكين الرضى النفسى الذي يسمو بقيم الوطنية و يزيد الرضى الشعبي الذي يضع بدوره هو الآخر آثاراً إيجابيةً على سجلات الأمم ويدفع مؤشرات التنمية لتمضي صعودا وتطرد نماءً وخيرية.

 والحق أن الإنتخابات تمثل العمود الفقري للنظام الديمقراطي، لذلك نأمل –دائماً- أن تأتي تجربتنا لها ضمن حدود الانتخابات الديمقراطية لننعم بثمارها، ولعل مصطلح انتخابات ديمقراطية مصطلح حديث نسبياً، وقد حاول بعض الباحثين تأطيره و وضع تعريف دقيق له و لكنهم لم يتواضعوا على تعريف ملزم، و أشمل هذه التعريفات ما ضبط توصيف الإنتخابات الديمقراطية بشروط ستة: حق التصويت العام لكل المواطنين البالغين،و دورية الإنتخابات وانتظامها، وعدم حرمان أي جماعة من تشكيل حزب سياسي ومن الترشح للمناصب السياسية، و التنافس على كل مقاعد المجالس التشريعية، وحرية إدارة الحملات الإنتخابية في وضع لا يحرم (في القانون ولا  السلطة) المرشحين من عرض رؤاهم و قدراتهم ولا الناخبين من مناقشة تلك الآراء، و تمكين الناخبين من الإدلاء بأصواتهم وسط جو من الحرية و السرية وفرز الأصوات و إعلانها بشفافية وكذا تمكين المنتصرين من مناصبهم السياسية - التى حازوا عليها بناء على فوزهم المضبوط بقواعد حساب نتائج الإنتخابات (المتفق) عليها -حتى وقت الإنتخابات التالية، ومن معايير نجاح الإنتخابات أيضاً أن تأتي حرة ونزيهة، وقد استخدم هذا التوصيف لأول مرة لوصف الإستفتاء الذي تم على استقلال أرض توغو (دولة توغو بغرب أفريقية و جزء من دولة غانا اليوم) وكان ذلك في عام 1956، ومن ثم مضت الأمم المتحدة تستخدم هذا التوصيف في حالات مشابهة تتتسم باحترام حريات الأفراد وحقوقهم الرئيسية فتوصف بأنها (حرة)، وتتنزه عملية إدارتها عن الفساد فتنعت بأنها (نزيهة).

هذه مقدمات نحتاج إليها عند النظر إلى واقعنا لنخلص منها إلى ما نستقوي به على تجربتنا الحالية التي نسعى لأن نخط لها النجاح، لأن في نجاحها نجاح للأمة، ولكن لكي تنجح التجربة الديمقراطية القادمة يجب أن ينتظم السلوك الديمقراطي في كل المؤسسات السياسية التي تشمل بصفة عامة كل مؤسسات المجتمع من أجهزة وتنظيمات في المجال السياسي. أي الأجهزة التي تمارس السلطة فقط مثل (رئاسة الجمهورية، الحكومة، البرلمان) أو تلك التي ينص عليها الدستور (مفوضية الانتخابات، المجلس الدستوري...)، بل أيضا تلك التي تؤثر فيها (الأحزاب السياسية، الجماعات الضاغطة...)، فثمرات الديمقراطية لا تأتي عبر الإقتراع فقط بل إن الإنتخابات ليست سوى حلقة ضمن حلقات التحول الديمقراطي المنشود، وقد أشارت إلى ذلك كل المواثيق التي وقعتها الحكومة السودانية مع القوى الوطنية الأخرى مثل الحركة الشعبية (نيفاشا) والتجمع الوطني الديمقراطي (القاهرة) وبقية الأحزاب الأخرى، إن لم تكن الديمقراطية قناعة أصيلة في نفوس كل القادة و الأحزاب و قواعدها؛ فإن ثمارها ستكون بعيدة و لن  ننالها منها ولن نستطع لها طولا. فالتحول الديمقراطي عملية تحتاج بذل الكثير من التضحيات و الكثير من الصبر.

تختلف الحاجة الى القناعة بالديمقراطية من دولة إلى أخرى ومن نظام حكم إلى آخر وبناء على مزاولة مؤسسات الحكم للسلطة، وهذا الإختلاف الذي أدعيه يعود لإعتماد بعض النظم على الفرد و البعض الآخر تكون الديمقراطية فيها ملزمةً كالنظام البرلماني، بيد أن النظام بالرئاسي المسؤولية فيه تكون بين يدي شخص واحد غير مسؤول أمام نواب الشعب (كالنظام الرئاسي الأمريكي)، وقد يوصف بالنظام البرلماني إذا كانت الحكومة غير مسؤولة أمام المجلس التشريعي (كالنظام البريطاني)، أو النظام المجلسي إذا كانت المسؤولية بيد هيئة عليا كما يوصف أحياناً (النظام السويسري)، أو نظام الحزب الوحيد (كالنظام السوفييتي(سابقاً))، مثل هذه الأبجديات ينبغي أن تؤخذ في الإعتبار ويُمَلَّك شرحها للشعب والأحزاب، وينمى فيها الشعور بأهمية الديمقراطية في إنتاج القرار السليم، فالشورى والديمقراطية تمنح الرأي مناعةً يندر معها الخطأ إذ أنه كلما زادت نسبة المشاركة كلما زاد معها أمل الصواب واستقوى.

إن الإنتخابات التي ندخلها اليوم محكومة بمؤثرات عديدة، الرؤية والبرامج والأشخاص، ويظل التاريخ الأوفر حظاً والأغلى نصيباً وهو مالم يُكتسب إلا بجهود و عرق الرجال وتواصل الأجيال والصمود على المبادئ، فالأحزاب تقف اليوم لتثبت أنها جديرة بثقة الناخب الذي والاها بالوفاء والولاء طوال هذه السنين و اليوم يعيش معها إنجاز الوصول إلى الإنتخابات وبدء عودة الحياة الديمقراطية الرشيدة، فأحزابنا الوطنية تستحق أن تكون قيادة تاريخية للأمة بحكمتها وحنكتها و صبرها العظيم، إن هذه الإنتخابات هي حصيلة نضال و تفاوض دام لأكثر من عقدين من الزمان، واستوت بأمر الله بعد أن صارت قناعة مشتركة، والوفاء لتلك الجهود التي جلبت السلام ينبغي أن يكون بإعلاء رايات الوفاق لضمان استدامة الديمقراطية و استدارة عجلة التنمية، فإننا نقف مع من يتوجس من أي انتخابات تُجرى قبل تأمين المناخ السياسي، و اهل الرأي يحذرون من نتائج كارثية للإنتخابات إذا تم إجراؤها في مناخ الإستقطاب الحاد الذي نراه، وهم يحذرون من مصير ايران وزيمبابوي وكينيا، وعلى ثقتنا بقدرة أهلنا وإخواننا في المشهد السياسي على ضبط أنفسهم إلا أننا ننادي وبعالي الصوت (الوفاق هو الترياق) ولا بديل عنه أبداً فأي مغامرة قد تودي بإسم الوطن و تشتته، فالوفاق أولاً، و يجب تمكينه قبل الإنتخابات بل  وهو مقدم على كل شئ.

حزب الحركة الوطنية كالعهد به أصيلاً ورائداً للعمل المؤسسي المنظم، ظل منذ انطلاق الإنتخابات يعمل على كل الصعد بطاقة جبارة وجهود حثيثة ويضع برامجاً وطنية تسير جنباً إلى جنب مع برنامجه الحزبي الداخلي الذي، فهو يعمل بتنسيق تام مع أحزاب التجمع الوطني الديمقراطي و ظل ينادي بضرورة حل المشكل السوداني برؤية وطنية، و ظلت مبادرته التي ظل ينادي بها مولانا الميرغني هي أمل الوفاق الوطني، خاصةً وأن الحزب قد تحرر من إسار الماضي ونهض بالقيم الوطنية السامية، و لعل نشاطه هذا تعاظم منذ أن عاد الزعيم الأكبر مولانا السيد محمد عثمان الميرغني ورفع شعار (الوطن أولاً) ومنذ ذلك الحين والحزب ينتج مبادرات حل الأزمة الوطنية، واتسق سعيه مع تنسيقه الدقيق للعمل الإنتخابي ومساعيه الحثيثة للم الشمل الإتحادي، و ظل هو رهان الجماهير لأنه لا يعمل بحساسيات و مشاحنات وبغضاء و قد أعلن نبذه للعداء و رفع شعار العمل وفق المصلحة الوطنية، فالحزب يجد نفسه أمام مسؤولية تاريخية للحفاظ على وحدة السودان على استقلاله، فالحزب هو الإمتداد الطبيعي والمتصالح مع الجيل الأول للحركة الوطنية والوارث له، والمؤمن بالديمقراطية كحل للتعدد الثقافي الذي يُثري البلاد، فجاء نداء الإتحادي للوحدة و جاءت مبادرة الميرغني للوفاق الوطني، كأهم مراحل التحول الديمقراطي مخاطبةً تأمين الجو السياسي وتحقيق حد أدنى من الإجماع الوطني.

يتذكر أبناء الإتحادي اليوم وفي هذه اللحظات الحاسمة ذكريات عزيزة، ييستلهمون منها الرشد في ما يقابلون من أمر السياسة والإنتخاب، في هذه الأيام الكثير من الإتحادين يفتقد أعمدة الحزب الذين قضوا نحبهم ومضوا إلى ربهم راضين رضيين، تذكروا أقطاب النضال و خلاصة الرجال، من لدن مولانا السيد علي الميرغني ، والزعيم الأزهري و الشيخ علي عبدالرحمن، إلى الشهيد الهندي و حتى تاج السر منوفلي ومحمد عثمان أحمد عبدالله، وأخيراً مولانا السيد أحمد الميرغني و حاج مضوي و الدكتور أحمد السيد حمد، رحمهم الله و طيب ثراهم، إن الحزب يفتقد حكمتهم وحمة أجيالهم و بركتهم وبركة صالحيهم وطيبهم وطيب نفوسهم ولكنه يجد بريقهم في قادة الحزب اليوم، فإن هذا الجيل من القيادة الحزبية وفيٌ لذات المبادئ و ذات الراية التي رفعها الزعيم الأزهري و أقسم حادي الركب السيد محمد عثمان الميرغني في أقسى اللحظات و أصعبها أنها لن تسقط، فالتحية لهؤلاء الأشاوس، رجال النصر الذين يذودون عن مبادئ الحزب ويرفعون قيمه وراياته خفاقة، وهم كما أخبر عنهم شاعر الإتحادي الدكتور محمد بادي العكودابي مخاطباً لزعيمه:

الأرواح فداك شيل من خيارها اتنَقَّ

غير كَتَرت كلام من غير لجاجة ونِقَّة

ميثاقاً غليــظ في المُهلِكَات ما رَقَّ

ما هَمَّانا في اللِّتْوَالة والإنشَقَّ

نحن القوم ونحن مثقَّفين وأشِقَّاء

نحن الإتحادي البي دِمَانا مَسَقَّى

نحن اهَل البلد إن جات نشيل نتوَقَّى

نحن اولادَها والولد النجيض ما عَقَّ

، فهؤلاء يعرفون قدر التحدي الذي يقابله الوطن ويضعون القرار الحكيم في مكانه، ويعلمون تماماً مسؤوليتهم التاريخية في الحفاظ غلى كسب الإتحادي.

الحراك الذي يدب في دار أب جلابية في هذه اللحظات، هيج ذكريات قديمة فدمعت على ذكراها "طرباً" أعين الكثير من المحبين والمريدين و الثابتين على درب الديمقراطية والمعاني الرضية، كان من بين هؤلاء شيوخاً أفنوا عمرهم راسخين على مبادئ العدل والمساواة والديمقراطية متأدبين بأدب التصوف راعين لمصلحة الوطن، كانوا في ذات المكان قبل أكثر من خمسة عقود من الزمان، في أول انتخابات يقابلها الوطن، و يومها كان الأسد الرابض بحلة خوجلي مولانا السيد علي الميرغني يدير العملية الإنتخابية بدقةٍ متناهية وبذكاء فريد وبهمةٍ لا يفسرها إلا معنى السند الخفي و اللطف السخي، كان يومها ينفحهم – وقد كانوا شباباً- بنفحات تملأهم تفاؤلاً ونشاطاً فيضربوا في الأرض ساعين عاملين لا يكل لهم جهد ولا يتعب لهم ساعد، واليوم و لكأن التاريخ يعيد نفسه فدار أب جلابية بالأمس شهدت عودة التاريخ مرة أخرى وانتفض المارد العملاق رافعاً عصاه التي لا ينالها الخراب و لا (ينقرها السوس) كيف لا وهي المحصنة بالسر الغني وحب هذا الشعب الأبي، فالمعاني هي المعاني بل والمباني هي المباني و لكن الأسد الميرغني هذه المرة هو "ذو الدول" قطب الهاشمية ومركزها رجل الوطنية والمبادئ الأصيلة مولانا السيد محمد عثمان الميرغني وارث السيد علي وتلميذه و رافع راية الزعيم الأزهري ورفيق دربه و صائن عهده، كيف لا وهو الذي ظل ثابتاً كالجبال الراسيات وشامخاً كالطود لا ينال منه شئ ولا تزيده الخطوب إلا ثباتاً تجده هاشاً باشاً باسماً يتحدث بثبات و ثقة في الله تملأ الناس غبطة منه! ذات اللمحات والنفحات التي كان ينشرها السيد علي ينشرها اليوم السيد محمد عثمان بين أحبابه و إخوانه في النضال، الحزم والحسم والصبر والحكمة خصاله في القيادة، وقد اجتمع حوله أقطاب النضال وأرباب الفكر وأهل الله على بيعتهم القديمة بالوفاء لقيم الحزب والإلتزام بدعم الديمقراطية ورعاية الحرية وأن يكون أمرهم شورى بينهم، توافد أبناء الإتحادي الأصل من كل حدب وصوب وهم يحيون المجد التليد ويحركون قراطيس التاريخ لتسجل أن هذا الحزب عصيّ وأنه الحزب (العاتي) الذي يستمد قوته من عنفوان هذا الشعب و يستلهم برامجه من تجربة الأمة و شعاراته من احتياجات الوطن.

شاءت الأقدار أن يرفع الحزب الإتحادي الديمقراطي اليوم نفس شعار الوحدة الذي ظل يرفعه طوال عمره السياسي تأكيداً لرسوخ المبادئ وترسيماً لمعاني الثبات على الأصول، وهو شعار على أصالته يزداد أهميةً في ظل مهددات الوحدة السودانية التي تتكالب على واقعنا، ولكنه يقولها ولا يخشى لومة لائم (وحدة السودان خط أحمر) ويبنى منطقه على أُسس علمية فأنى يُعقل أن يتضعضع السودان ويتشرذم انفصالاً في زمان تتحد فيه الدول و تتآلف بالوصال! كيف يُخشى على السودان أن يبتعد جنوبه عن شماله و ينفصل لمشكلة يعاني منها كل السودان، إن العمل من أجل الوحدة ضرورة قصوى، وتأمينها واجب وطني والتهاون فيها لا يقبل أبداَ، إن الأخطار المحدقة بالسودان اليوم أكبر من ما ( يظن البعض)، و خطر الإنفصال يأتي في أول القائمة وهذا لا يرده إلا عمل منسق منظم يبتدره الحزب الإتحادي و الأحزاب الوطنية الأخرى في الحكومة و المعارضة.

إن إحتفائي بنشاط الإتحادي المتجدد و بتسارع الخطى نحو الإنتخابات، هو إحتفاء بهذا الوطن بكل مكوناته و حب له بكل ملامحه، فإنه لا سبيل إلى وطن معافى إلا بأحزاب قوية و معافاة، ولا يصلح أمرر هذه الأمة إلا بالإعتراف بكل مكوناتها واحترام أطيافها ومنحها مقامها المرتضى لتؤدي دورها الطبيعي في توجيه طاقات الأمة، و ليتفرغوا للمساهمة في علاج قضايا الوطن والمواطن الحقيقية، فإن وحدة الأمة يجب تتحقق و يجب أن تتوجه الجهود نحو علاج مشكلات الفقر و المرض و الممخدرات والعنف، وهذا عمل أكبر من يقوم به حزب واحد، والله المسؤول أن يوفق أهل السودان إلى سبل السلام و يؤيد سيرهم بالوفاق ويلقي عليهم محبة من عنده، به العون باديةً وختاماً.

alnahlan.new@hotmail.com

 

آراء